إن كانت الكنيسة قد عاشت أكثر من عشرين عامًا بعد حلول الروح القدس يوم البنطقستي بلا إنجيل مكتوب لكنها عاشت الإنجيل ومارسته كحياة فائقة في المسيح يسوع، فلماذا لم تبقَ الكنيسة عبر العصور تعيش إنجيلها المُسلّم شفاهًا؟! هل من ضرورة للإنجيل المكتوب؟
أ. يقول[8]D. Guthrie أن التقليد الشفوي كان له أهميته الخاصة في الكنيسة وبّخاصة في الشرّق، وقد جاء الإنجيل المكتوب لا ليحتل مكان التقليد، إنّما ليكمّله ويؤكّده. فالإنجيل يحفظ التقليد بلا انحراف، والتقليد يفرز الأناجيل القانونيّة ويحفظها بلا تحريف ويكشف عن مفاهيمها. فلا تعرف الكنيسة الثنائية، إنّما تعرف إنجيلًا واحدًا سواء سُلّم إليها بالتقليد الشفوي أولًا بالكتابة، تعيشه في أفكارها وعبادتها وسلوكها كحياة معاشة[9]. بهذا تلقفت الكنيسة الإنجيل ليؤكّد حياتها الإنجيليّة المسلّمة إليها والمعاشة.
ب. للأناجيل أهميتها، خاصة بين أسفار الكتاب المقدّس كله، لأنها قدّمت لنا حياة السيّد المسيح على الأرض، هذا الذي هو مشتهى الأمم، مخلّص الكنيسة وعريسها، وموضوع لهجها ليلًا ونهارًا. لكن ما نوَد تأكيده أن الأناجيل ليست سجّلًا تاريخيًا يعرض حياة biography السيّد المسيح، إنّما قدّم ما هو أعمق من التاريخ، قدّم لنا "شخص المسيح" لنقبله فينا ونحيا به ومعه، نشاركه آلامه وأمجاده؛ لهذا ركزت الأناجيل على فترة وجيزة من حياته واحتلت أحداث الأسبوع الأخير من دخوله إلى أورشليم حتى قيامته حوالي ثلث إنجيل مار مرقس وأقل من الثلث بقليل في بقيّة الأناجيل.
ج. إذ كان المسيحيّون في القرنين الأول والثاني يترقّبون المجيء الأخير للسيّد المسيح، تلقّفوا الأناجيل بشوق شديد بكونها الطريق الممهّد لباروسيّا الرب أو مجيئه الأخير.
د. من جهة الكرازة بين اليهود والأمم، كان الكارزون غالبًا ما يعتمدون على التعليم شفاهًا، لكن ما أن كان يُظهر الموعوظ رغبته في الإيمان ويبدأ يتساءل عن شخص السيّد المسيح، إلاّ وكانت الأناجيل (وهي وثائق رسوليّة أصليّة) تجيب على سؤالهم هذا. كأن الأناجيل جاءت كشهادة حق تستخدمها الكنيسة في الكرازة والتعليم خاصة بين الموعوظين. المرجع: موقع كنيسة الأنبا تكلاهيمانوت
يرى D. Guthrie أن الأناجيل لم تقف عند الدور الكرازي والتعليمي، وإنما جاءت لتقوم بدور رئيسي في حياة الكنيسة التعبّديّة[10]. إذ كانت الكنيسة تجتمع للعبادة استخدمت أجزاء من العهد القديم للقراءة والتسبيح، خاصة الفصول التي تتحدّث عن السيّد المسيح، لكن المؤمنين كانوا في حاجة إلى وثائق رسوليّة تتحدّث عن حياة السيّد المسيح وتعاليمه ومعجزاته وموته وقيامته، تُعلن تحقيق ما ورد في العهد القديم، تدخل في العبادة المسيحيّة كعنصر أساسي فيها.
بهذا تكون الأناجيل قد تلقفتها الكنيسة الأولى بفرحٍ شديدٍ، وتمسّكت بها، بكونها تؤكّد الإنجيل المسلّم إليها شفاهًا، وبكونها المصدر الرسولي للكشف عن حياة السيّد وأعماله الخلاصيّة، تهيئهم لمجيئه الأخير، تسندهم في الشهادة له بين الموعوظين وتقوم بدور رئيسي في عبادتهم الليتورجيّة.