|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
كيف نقرأ الأناجيل؟ كلّنا يقرأ الإنجيل في مناسبات عديدة وبأساليب مختلفة ولأسباب متعدّدة. فهذا يقرأ من باب العادة أو الواجب أو الدرس? وذاك يقرأ للبحث عن تعزية روحيَّة أو راحة نَفْسيَّة? وتلك تقرأ لتجد لحياتها هدياً ونُوراً? ولكن، هل نفهم ما نقرأ؟ كيف نستطيع أن نُدرك معنى الكتابِ المقدَّس الحقيقيَّ بعامّة، ومعنى الأناجيل بخاصّة؟ هذا هو السؤال الأهمّ لفهم أيّ نصّ من الكتاب المقدَّس، وقد اندمج فيه كلام الله بكلام البَشَر، وتفرُّد الحدث التاريخيّ بمصداقيَّة الكلمة الأزليَّة التي تتعدّى التاريخ. فكلمة الله هي من الماضي ولكنّها تواكب الحاضر وتقود نحو المستقبل. هذا الموضوع ليس حديثاً، فقد احتاج المؤمنون دوماً إلى تفسير الأسفار المقدَّسة وشرح ما جاء فيها. نُشير إلى الأمثلة التالية: - أعمال الرسل (8/26-40)، خازن ملكة الحبشة يقرأ سفر أشعيا (56/3-7)، ويسأل فيليبُّس: "مَن يعني النبيّ بهذا الكلام؟". - إنجيل لوقا (24/13) يسوع المسيح "يُفسِّر" لتلميذَي عِمّاوس في جميع الكُتُب وما يختصّ به. - لوقا (24/45) "حينئذٍ فَتحَ أذهانَهم ليفهموا الكُتُب". - رسالة بطرس الثانية (1/20) "واعلموا قبل كلّ شيء أنّه ما من نبوءة في الكتاب تقبل تفسيراً يأتي به أحد من عنده". - ويقول بطرس في رسائل بولس: "وقد ورد فيها أمور غامضة يحرّفها الذين لا علمَ عندهم ولا ثبات، كما يفعلون في سائر الكُتُب، وإنّما يفعلون ذلك لهلاكهم" (2بط 3/16). إنّ المشكلة قديمة، ولكنّها أصبحت أكثر تعقيداً مع مرور الزمن. فيجب وضع الكُتُب في الإطار الزمنيّ والبيئيّ القديم الذي دُوّنت فيه، ودراسة النصوص في ضوء معطيات العلوم الإنسانيَّة الحديثة. وأصبحت المشكلة أيضاً أكثر إلحاحاً، نظراً إلى عودة الكتاب المقدَّس إلى الصدارة في العلوم اللاهوتيَّة والحياة الليتُرجيَّة والروحيَّة. (راجع التفسير البيبليّ في الكنيسة، وثيقة اللجنة البيبليَّة الحَبريَّة - لبنان، 1995) نقسم دراستنا إلى ثلاثة أقسام: 1- تيّارات التفسير وأنواعها. 2- الكتاب المقدَّس ومعانيه المختلفة. 3- التأويل والتأوين. القسم الأوّل: تيّارات التفسير وأنواعها ثمّة أساليب ومدارس لتفسير الكتاب المقدَّس نذكر منها: أ- الطريقة التاريخيَّة النقديَّة - تعود بالنصوص إلى الأزمنة التي كُتبت فيها، وتفسّرها بمفهوم البيئة التي نشأت فيها. - تبحث عن مصادر النصوص وتُقارنها مع سائر الحضارات مستعينةً بعلوم الآثار. - تدرس النصوص بحسب مبادئ النقد الأدبيّ في شرح الكتابات القديمة، من حيث الشكل والمبنى. خطر هذه الطريقة أنّها قد تولي الكلام البَشَريّ الأولويَّة، فلا توحي كثيراً بكَون الكتاب المقدَّس هو كلام الله. ب- الطرائق الحديثة في تحليل النصوص - التحليل الخطابيّ البلاغيّ: يُشير إلى سُلطة الخطيب وفحوى الخطاب وردّة فعل المستمعين. يُبرز أهمّيَّة الإقناع والتأثير في الآخَرين. - التحليل الروائيّ الإخباريّ: يشرح البُنية الروائيَّة. ومن خلال الرواية يؤكِّد الشهادة. - التحليل اللغويّ السيمائيّ: يهتمّ بفقه اللغة، ويبحث عن المعطيات المنطقيَّة التي تربط بين الآيات والنصوص، ويسعى، من خلالها، لفهم فكرة الكاتب. إنّ حدود هذه الطرائق تكمن في الخطر الأدبيّ الذي يجعلنا أسيرين للنصوص.. نهتمّ بها أكثر من اهتمامنا بالرسالة التي تأتينا من خلالها. ج- طريقة الاستناد إلى التقليد تستند هذه الطريقة في تفسير النصوص: - إلى التقاليد اليهوديَّة المعاصرة لنشأة النصوص. - إلى وحدة الأسفار في الكتاب المقدَّس. فترفض قراءة النصّ بمعزل عن سائر النصوص السابقة واللاحقة. تقرأ هذه الطريقة الكتاب المقدَّس في ماضيه وتُهمل تأوينه في عالَم اليوم. د- طرائق تأخذ بمنحى العلوم الإنسانيَّة بما أنّ كلام الله تأصّل في البَشَريَّة، تسعى هذه المدرسة إلى تفسير هذا الكلام بحسب حدود النَفْس البَشَريَّة. وقد ظهرت تيّارات عديدة في هذا المجال نذكر منها: 1- تيّار النظرة الاجتماعيَّة: يشرح النصوص في ضوء العلاقات الإنسانيَّة في المجتمع، ويبحث في العادات الشعبيَّة والمؤسَّسات الاجتماعيَّة. 2- تيّار النظرة الثقافيَّة: يدرس النصّ من خلال النظرة إلى الواقع الحضاريّ الإنسانيّ الذي ظهرتْ فيه ( الفنّ - الأساطير - العائلة - الرقّ - الطقوس - التنجيم...). 3- تيّار النظرة النَفْسانيَّة: يُطبِّق مبادئ علم النَفْس على الشخصيّات والأحداث الواردة في الكتاب المقدَّس. يُوجِّه الانتباه إلى أطباع الناس وعقدهم النَفْسيَّة ومواقفهم البَشَريَّة? تُهمِل هذه الطرائق، أحياناً، النظرة الروحيَّة إلى الكتاب المقدَّس. ه?- طرائق التفسير وفق الأحداث المعاصرة لمّا كان تفسير الكتاب مرتبطاً بذهنيَّة القارئ ومشكلات عصره فقد نشأ تيّار يشرح الكتاب المقدَّس ويُحلِّل نصوصه انطلاقاً من معاناة الناس في عالَم اليوم. نذكر على سبيل المثال: 1- لاهوت التحرُّر: الإنجيل هو كتاب الفقراء. الله هو إله الفقراء ومنه الخلاص. ثورة على التملُّك. 2- تحرُّر المرأة: الإنجيل يرفع شأن المرأة ويعطيها دَوراً مميّزاً. الله أب وأُمّ في آنٍ واحد، أي يجب التحدّث عن أُمومة الله لا عن أُبوّته وحسب. ووصل التطرّف إلى وضع صلاة تبدأ: "يا أُمّنا التي في السماء..."! تخرج هذه النظريّات عن القراءة الموضوعيَّة للنصوص في معظم الأحايين. و- القراءة الأصوليَّة للكتاب المقدَّس عادت هذه الطريقة إلى الانتشار في بعض البدع والشيع. وتدعو إليها بعض الكنائس والجماعات المسيحيَّة المتطرّفة أو الرجعيَّة. يُنادي هذا التيّار بحرفيَّة الوحي والإلهام. فكلّ كلمة من الكتاب المقدَّس هي من فم الله حرفيّاً ولذلك، فهي معصومة من الخطأ. ويجب فهم النصوص كما هي من دون دراسة نقديَّة. وترفض هذه الطريقة دَور المؤلِّف البَشَريّ في تحرير الكتاب المقدَّس. هذه القراءة مقبولة من حيث تأكيد الإلهام وعصمة الله، ولكنّها تبتعد عن منطق التجسّد. لا بل تستغلّ أحياناً بعض المعطيات الكتابيَّة القديمة لمآرب خاصّة. نخلص إلى القول: إنّ الطرائق في تفسير الكتاب المقدَّس كثيرة. ولكنّ المهمّ أن تقودنا هذه الأساليب الدراسيَّة إلى المعنى الصحيح. ثمّة بُعد روحيّ يجب أن نصل إليه. فلكلّ الأساليب فائدتها وحدودها، والمهمّ أن تُسخَّر جميعها للكشف عن المعنى الحقيقيّ للنصّ الكتابيّ. القسم الثاني: الكتاب المقدَّس ومعانيه المختلفة نكتشف من خلال تفسيرنا للكتاب المقدَّس بعامّة، وللأناجيل بخاصّة، أنّه قد يحمل معانيَ كثيرة، ولكنّها، علىكثرتها، تُشير إلى حقيقة واحدة: أ- المعنى الحرفيّ هو أساس النصّ ومنطلق الكلام. لا نستطيع أن نفهم كلام الله إن لم نفهم المعنى الحرفيّ - والمعنى الحرفيّ يختلف عن القراءة الأصوليَّة، أي الفهم الحرفيّ الجامد المُنـزل شكلاً ومضموناً - بل نستعين بكلّ الأساليب العِلميَّة المتداولة للوصول إلى ما يريد النصّ أن يقوله لنا في شكله. ب- المعنى الروحيّ نصل إلى هذا المعنى من خلال مطالعتنا للكتاب المقدَّس في ضوء قيامة المسيح وفي غمار الروح القُدُس. وهكذا شأن قراءة الكُتُب التي تمّت في شخص يسوع المسيح. وفي هذا المضمار تدخل أوجه التشابه والمقارنة والمحاكاة التي نجدها في الكتاب المقدَّس، مثل: آدم والمسيح (روم 5/14)، الطوفان والمعموديَّة (1بط3/20)، مريم وحوّاء... ج- المعنى الكامل نفهم بذلك معنى النصّ العميق الذي يريده الله وقد جاءت فيه الحقيقة من دون أن يفهمها كاتبها. ونكتشف هذا المعنى في وقت لاحق في ضوء الوحي الذي تمّ بيسوع المسيح. نذكر، على سبيل المثال، ما جاء في كلام النبيّ أشعيا (7/14): "ها إنّ الصبيَّة تحبل وتلد?". ربّما، لم يكن النبيّ يُدرك بعد هذا الكلام! فجاء متّى البشير ليعطيه معناه الكامل. فالفتاة التي تحدّث عنها أشعيا على نحو مبهم، هي، في الحقيقة، مريم العذراء أُمّ المسيح المنتظَر (متّى 1/23). القسم الثالث: التأويل والتأوين إنّ فهم الكتاب المقدَّس ليس عِلماً مغلقاً على ذاته. إنّما يجب أن يتحوّل فينا إلى حياة، وأن يقول لنا شيئاً في عالَمنا الحاليّ وأن يدعونا إلى فِعل إيمان. فالتأويل يساعدنا في الكشف عن المعنى. ولكي لا يكون فهمنا للكتاب المقدَّس فهماً شخصيّاً مغلقاً مزاجيّاً يجب أن تكون مطالعتنا له في حضرة الروح القُدُس، ولكن ضمن الإطار التالي: 1- في إطار تعاليم الكتاب نَفْسه في عهدَيه: القديم والجديد. 2- في إطار التقاليد الكنسيَّة وتعاليم الآباء. 3- في إطار سُلطة الكنيسة المحافظة على الأمانة. "إنّ مهمّة التفسير تفسيراً صحيحاً لكلمة الله المكتوبة والمتناقَلة في التقليد، قد أُسندت في الكنيسة إلى سُلطتها التعليميَّة الحيَّة وحدها، وهي تمارس سُلطانها باسم يسوع المسيح. غير أنّ هذه السُلطة التعليميَّة لا تعلو كلمة الله، بل تخدمها ولا تعلّم إلاّ ما تسلّمته من التعاليم. فإنّها بتكليف من الله، وبعون من الروح القُدُس، تُصغي بخشوع إلى هذه الكلمة، وترعاها باحترام، وتُفسّرها بأمانة. ومن هذه الوديعة الواحدة لحقائق الإيمان تستقي كلّ ما تعتبره موجباً للإيمان لأنّه من وحي الله. فمن الواضح، إذاً، أنّ التقليد المقدَّس والسُلطة التعليميَّة في الكنيسة بتدبير من الله عظيمِ الحكمة، هي وثيقة الارتباط والتلازم في ما بينها، حتّى إنّ واحداً من هذه الثلاثة لا يستقرّ بدون الباقي، بل تعمل كلّها، وكلّ واحد على طريقته، وبدفع من الروح القُدُس الواحد وتُسهم إسهاماً فعّالاً في خلاص النفوس?" (المجمع الفاتيكانيّ الثاني، دستور عقائديّ في الوحي الإلهيّ،10) أمّا التأوين فهو التطبيق العمليّ والواقعيّ والحياتيّ لكلمة الله في عالَم اليوم. ولذلك يجب أن نقرأ أحداث حياتنا في ضوء الأناجيل ونقرأ الإنجيل في ضوء حياتنا اليوميَّة. وهذا لا يعني أن نُلبِس الكتاب المقدَّس نظريّاتنا ومبادئنا ونُشوِّه فيه المعنى لمآرب خاصّة. فقد ظهرت بدع وشيع وتيّارات عبر تاريخ الكنيسة "تاجرت بكلام الله" (2قور 2/17، 2قور 11/13). الخـاتمة كلّ قراءة في الأناجيل هي لقاء مع الربّ يسوع. كما قال: "الكلام الذي كلّمتكم به روحٌ وحياة" (يو 6/63). لا يزال كلام يسوع بُشرى خلاص، تدعونا للتحرّر من الخطيئة والتعلّق بالمسيح الحيّ لنتحوّل إلى شهود للمحبّة. مع صاحب المزامير نُرتّل ونحن نستمع إلى الإنجيل: "كلمتك مصباح لخُطاي ونُور لسبيلي". لا يكفي أن نقرأ الأناجيل وسائر الكُتُب المقدَّسة، وأن نُدرك معناها ونفهم فحواها، وأن نكتشف ما يطلبه منّا السيّد المسيح الآن.. وإنّما الأهمّ من ذلك أن نعيش بحسب هذه المتطلّبات. فكلّ قراءة لا تنتهي بتغيير داخليّ ولا تُقرِّبنا من المسيح على نحو أشدّ تبقى ناقصة. هذا ما نسمّيه: القراءة الروحيَّة أو القراءة الربّيَّة. ولها قواعدها التي تختلف بين مدرسة ومدرسة. ويمكن تلخيصها في هذا الجدول المبسَّط: 1 القراءة (LECTIO) الذهن الإصغاء 2 التأمّل (MEDITATIO) القلب التذوّق 3 العمل (ACTIO) الإرادة الاهتداء يتمّ ذلك كلّه في جوّ من الصلاة (ORATIO) : "تكلّمْ يا ربّ فإنّ عبدك يسمع". أختم حديثي بتأمّلات نشرها إنزو بيانكي Enzo Bianchi في مقال عنوانه "أقرأُ البيبليا مصغياً إلى الكلمة" يُحاكي ما كتبه بولس الرسول في نشيد المحبّة (1قور 13/1-13): "لو تعلّمتُ آيات الكتاب المقدَّس غيباً وذكرتُها في كلّ مناسبة ولم تكن لي المحبّة فما أنا إلاّ نحاس يطنّ وصنج يرنّ. ولو تعلّمتُ قراءة الكتاب المقدَّس بحسب الفنون الأدبيَّة والتقاليد التاريخيَّة والأساليب الإنشائيَّة ولم يكن لي الإيمان، فما أنا بشيء. ولو استطعتُ أن أستخدم جميع الوسائل الحديثة في تفسير الكُتُب المقدَّسة بحسب البيئة والثقافة والظروف التي نشأتْ فيها ولم يكن فيّ الروح القُدُس، فما يُجديني ذلك نفعاً. الحرف يقتل وأمّا الروح فيُحيي. العِلم والألفاظ تزول وأمّا الكلمة فهي التي تبقى إلى الأبد. عندما نقرأ الكتاب المقدَّس قراءة روحيَّة علينا أن نُصغي إلى الكلمة بإيمان، وأن نفهمها بالروح القُدُس، وأن نسعى بالمحبّة لملاقاةٍ شخصيَّةٍ مع الربّ يسوع |
|