"أؤمن بأنّ مريم اشتركت مع المسيح ابنها، إلى حدٍّ بعيد، في سر الفداء". جاء في الإنجيل بحسب القديس لوقا: "ولمّا تمّت الأيام لتطهيرهما، بحسب ناموس موسى، صعدا به إلى أورشليم ليقدّماه للرب، على حسب ما هو مكتوب أنّ كلَّ ذكَرٍ بِكْرٍ يكون مقدَّساً للرب... "وكان في أورشليم رجلٌ اسمه سمعان، وكان هذا الرجل صدّيقاً تقيّاً، قد أوحى إليه الروح القدس أنّه لن يرى الموت ما لم يُعاين مسيح الرب. فأقبل إلى هيكل بقوّة الروح. وأخذ الطفل على ذراعيه وبارك الله، وقال:" الآن، أيُّها السيد، تطلق سبيل عبدك...، لأنّ عينيّ قد شاهدتا خلاصك، الذي أعددته أمام وجوه الشعوب كلِّها، نوراً يضيء الأمم، ومجداً لشعبك" (لو 2/22-32). ثم تنبّأ وقال لمريم، كاشفاً لها عن مصير ابنها ومصيرها هي المأسويّ: "ها إنّ هذا الولد، قد جُعل لسقوط ونهوض كثيرين في إسرائيل، وهدفاً للمخالفة، وأنت أيضاًسيجوز سيفٌ في نفسك، لكي تنكشف الأفكار من قلوب كثيرة" (لو 2/34-35). يتّضح من هذه النبوءة أنّ مأساةً تآمرية سوف تُدبَّر ليسوع، فيختلف البشر عليه حتى الرفض، ومريم ستكون مشتركة في تلك المأساة حتى العذاب المرير. ما يلفت النظر في هذه النبوءة هو أنّ النص مثقَّل لغويّاً بكلامٍ يقطع ويعطّل سياق الجملة. كان منتظراً ومنطقيّاً واصحَّ لغويّاً، بعد التنبُّؤ عن مصير الولد ("جُعل هدفاً للمخالفة") أن يتابع سمعان قائلاً: "... لكي تنكشف الأفكار من قلوب كثيرة." لكنّه يُدخل، بطريقةٍ غير منتظرة، التنبؤ عن السيف، بين هذا الكلام الأخير وما سبقه (قد جُعل هدفاً للمخالفة، وأنت أيضاً سيجوز سيفٌ في نفسك، لكي تنكشف الأفكار، الخ...) هذا يعني أنّه كان في نيّته إبراز التنبُّؤ عن السيف وإعطاؤه أهميةً كبرى في المأساة. وما عدا ذلك، فإنّ هذه الأهمية تظهر في كون سمعان المتحدِّث إلى مريم، بدلاً من أن يكتفي بالقول: "ويجوز سيف في نفسك"، يقول: "وأنت أيضاً سيجوز سيف في نفسك"، كما أنّه أراد أن يشدِّد على كون الولد لن يكون وحده معنيّاً بتلك المأساة، بل هي أيضاً ستكون منغمسة شخصياً في المأساة المِشْيحيّة. هذا الانغماس سيكون لها اجتيازاً لنفسها، لكيانها الصميم، بسيفٍ حادٍّ ورهيب. فالكلمة اليونانية ( romphaia) تعني سيفاً كبيراً جدّاً ورهيباً. الأمر الذي يوحى بأنّ ألماً كبيراً سوف يجتاز نفس مريم من جانب إلى جانب. الصورة هذه قاسيةٌ جدّاً وعنيفة: فالأمر ليس مسألة مشقةٍ عاطفية عابرة أو سطحية، بل مسألة ألم حادٍّ للغاية يخترق حتى أعماق الكيان، وينفذ "حتى مفرق النفس والروح، والأوصالِ والمخاخ"، كما يقول بولس الرسول في مجالٍ آخر (عب 4/12). كان ينبغي ل"عبد الله" أن "يُشدَخ" في جسمه (أشعيا 53/5). كذلك ينبغي ل"أمة الله" أن "يُشدخ" في نفسها. يقول ماكس توريان: "مريم هي، في ذلك، مثال الكنيسة، مثال جماعة المؤمنين الذين يُمتحنون، في قضايا إيمانهم ووعود رجائهم، بالعذاب والشدائد وحقد البشر... يعيش المسيحي هذا الصراع، بين المسيح الذي يحبّه في الإيمان وبين الشدائد الدينونة التي تنال منه في جسده. أمّا مريم فإنّها تعيش هذا الصراع، بين المسيح الذي تحبّه- في الإيمان بصفتها مؤمنةً، وفي الجسد بصفتها أُمَّاً بشرية- وبين الشدائد العالمية التي ستنال من ابنها حتى عذاب الصليب. فهي، بذلك، الصورة الحقيقية للكنيسة. ولكنها سوف تتعذب أكثر من كلّ مسيحيّ، طالما أنّ موضوع إيمانها المستهدف باضطهاد العالم، هو نفسه الابن الذي ولدت والذي تحبّه كأُمّ بشريّة. سيف مريم هو صليب المسيح المغروز في قلبها الوالديّ، هي التي كان لها من الرب أروع الوعود... "وهي لن تجوز، منتصرة، تلك المحنة الأليمة، محنة السيف...، إلاّ بارتضائها الصليب في حياة ابنها- وإن يكن ابن الله- وفي حياتها هي، حياة المؤمنة وحياة الأمّ."