|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
بالقداسة لا بالعقل نحفظ العالم! الأرشمندريت توما (بيطار) رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي - دوما من هنا القول اليعقوبي، في العهد الجديد: "من أين الحروب والخصومات بينكم، أليست من هنا، من لذّاتكم المحارِبة في أعضائكم" (يع 4: 1)؟ هؤلاء الذين نلقاهم في موقع القيادة، هنا وثمّة، هم بشر لا آلات. الإنسان الكامل ليس هو الآلة الفكريّة التي تعمل بلا خلل بل الإنسان الذي يضبط أهواءه، أي مَن يكون في مسير اللاهوى، وهذه حالة روحيّة سامية يبلغها الإنسان بالتّعاون ونعمة الله. لذا وإن كانت الأسباب الموضوعيّة تؤثّر في المواقف التي يقفها النّاس من كلّ قضيّة على الأرض، فإنّ للأسباب الروحيّة التأثير الأكبر والكلمة الفصل في كلّ موقف. حبّ الرئاسة، شهوة الغنى، روح التسلّط، الحسد الخ... هذه، بامتياز، هي القوى التي تسيِّر العالم من جهة ما لمساهمة النّاس فيه. طبعاً الله هو سيّد التاريخ أوّلاً وأخيراً. ولكن مهما كان القائد، أيّ قائد، عقلانيّاً وموضوعيّاً فإنّه لا يقدر أن يتنزّه عن الاعتبارات الشخصيّة الخاصّة به. دوافع عمليّاته العقليّة قائمة في أهوائه شاء أم أبى. من هنا أنّ ما يقال في شأن أيّ مسألة سياسيّة أو اقتصاديّة أو اجتماعيّة، وكذا تاريخيّة وحتى علميّة، وما يصف به المحلِّلون أيّ وضعيّة، يتراوح بين الكذب المتعمَّد والجهل. مَن لا يعرف حقيقة النفس البشريّة يُسْقِط على القضايا المطروحة تفسيرات مختلقة، ولا يستطيع أن يعرف حقيقة ما يجري في العالم. شواش يستوضح شواشاً! العقل المتبجِّح، خِلواً من معرفةِ ما في عمق الذات، قوّة غباء مدمِّرة! ما هو غير منظور في قلب الإنسان، في كيانه، وأقصد أهواءه، أو الالتماعات الكهربيّة في عمق نفسه، هو ما يتحكّم في كلّ ما هو ماديّ ونفسيّ وفكريّ في حياة الإنسان وعالمه. إما أنّ تكون العين إلى داخل القلب أو يقيم الإنسان في العمى! الجسد ( بما فيه العقل ) لا ينفع شيئاً، الروح ( روح الرّبّ ) هو الذي يحيي (يو 6: 63). خذْ الحسد! مَن يقيم وزناً للحسد، بعدُ، اليوم؟ في زمن العقلنة، الحسد من بقايا وجدانات الشعوب البدائيّة في شأن المحظورات الدينيّة والاجتماعيّة (Taboos). إن تتكلّم على الحسد، اليوم، تكنْ متخلِّفاً! التفسير العقلانيّ النفسانيّ (Psychological) أحال الحسد، كقوّة مؤثّرة في حياة الشعوب، على التقاعد! رغم ذلك لا قوّة في العالم تؤثّر في مواقف النّاس، فراداً وجماعات، حيال بعضهم البعض وبيئتهم، أكثر من الحسد. كلّ ما يفعله الإنسان، كائناً ما كان، فيه مِسحة حسد! طالما الإنسان، في وجهٍ من وجوهه، كائن اجتماعيّ فإمّا أن يتعاطى الحبّ وإمّا أن يتعاطى الحسد. فأمّا الحبّ فرقيٌّ في النفس لا يقتنيه الإنسان إلاّ بشقّ النفس وبذل الدّم ونعمة الله. فيما عدا ذلك، كلّ إنسان حسود بمقدار! طالما المرء أسير حبّ الذات فلا يقدر إلاّ أن يكون حسوداً! طبعاً هناك درجات من الحسد، تتراوح بين الغيرة الملطّفة والحسد التآمري القاتل! لا يعي الإنسان، أحياناً، ما يفعل، لكنّه يتحرّك بقوّة الحسد. هذا ما يباشر به، طفلاً، حالما يعي ذاته بإزاء العالم. يريد كلّ شيء لنفسه. ثمّ تشتدّ أزمة الحسد لديه بعد وصول مولود جديد إلى العائلة. والنتيجة اضطراب يعتور إحساس الطفل وسلوكه، وقد ينعكس ارتداداً قاسياً في النمو النفسيّ والجسديّ إلى الوراء. هذا يظنّون أنّه من طبيعة الإنسان، لكنّه حالٌ ملتبسة يتداخل فيها وعي الإنسان لذاتِه بإزاء العالم، بعدما كان وعالمِه، وجدانيّاً، واحداً، وميل واضح جارف إلى امتلاك العالم. من هناك، من تلك البداية، ينطلق الإنسان في رحلة العمرِ ملتمساً لنفسه هوّيةً بناءً لما لديه. يصير الإنسان، بالممارسة، ما يملك. يماهي نفسه بما عنده. وما دام هذا حالَه لا يقدر إلاّ أن يتعاطى الحسد ما لم يحظَ، من خلال التنشئة، ومن ثمَّ الجهد الشخصي، بالتنقية، ويحقّق، بنعمة الله، فكاكاً بين الهوّية الذاتيّة وحبّ القنية، فيصير، بالإيمان بالله، قادراً على اكتشاف هوّية له جديدة مقتَرِنة لا بحبّ القنية بل بحبّ الآخرين. إذاً الحسدُ واقعُ البشريّة، كلِّ البشريّة. فلا عَجَب إن قال كاتب سفر الجامعة: "رأيت كلّ التعب وكلّ فلاحِ عملٍ أنّه حسد الإنسان من قريبه" (4: 4). أمّا بشأن مفاعيل الحسد فحدّث ولا حرج. كلّ العالم مُعطى للحسود في عين نفسه. ليس شيء ذو قيمة بمنأى عن شهوة الحسود! أحدهم قيل عنه، مرّة، إنّه عاتِبٌ على ربّه لأنّه خَلَقَ غيره! كم هذا معبِّر، بعامة، عن واقع البشريّة! الحسود واجد متعة له في إصابة الآخرين بالأذى، ويشعر بالضيق إذا ما أصاب أحدُهم نجاحاً! الحسود خبير، بالوضع، بتبرير الذات وحُسْن تعليل ما يصيب الآخرين من أسواء! الحسد اضطراب دائم لا شِبَع فيه! الحسد قاتل! السيّد أسلموه حسداً! إن لم يتآمر الحسود على سواه بصورة محسوسة طعنه في نفسه حتى الإلغاء! اخترع عليه الإساءات! شكّك به في نفسه! لا خير في الدنيا في عين الحاسد! كلٌّ، في نظره، يطلب ما لنفسه! وحده الحاسد يحسب نفسه في موقع المُحِقّ. يُخيَّل إليه أنّه صاحب حقّ ومحبّ للحقّ! ليس مجرمٌ كالحسود لأنّه يجد لذّة في قتل الآخرين في نفسه! الحسود كذّاب! إن تكلّم بالحقّ كان ذلك في معرض الكذب وإن تكلّم بالكذب كان ذلك مصحوباً بالظنّ أنّه في الحقّ! بعدما قيل عن إبليس إنّه الكذّاب والقتّال، فإنّ كلّ حسود مرشّح لأن يكون ابن إبليس! والحسد قوّة سالبة رهيبة تتخطّى مجرّد مواقف النّاس حيال بعضهم البعض. الحسد قوّة تؤذي عن بعد! تتخطّى الحواجز الماديّة! تفتك بالكبار والصغار والخَلْق والمزروعات! بالحسد تُحدث شجاراً بين الناس وتتسبَّب بأمراض وحوادث لا عدّ لها ولا حصر! لا العامة فقط تقول الحسد بل القدّيسون والكنيسة أيضاً. أخبَروا عن إنسان مُجِدّ في الكنيسة قتله أقرانُه بالحسد! وأخبر الشيخ بورفيريوس الرائي عن إناء جميل حطّمته امرأة بالحسد، وعن قطعة قماش مميّزة مزّقتها حماة لكنّتها وكان مقفلاً عليها في الخزانة! والكنيسة تصلّي لتحفظ المؤمن من عين الحاسد! لا شيء يقف في وجه الحسد إلاّ ذِكر اسم الرّبّ يسوع والصلاة والسلوك في الوصايا الإلهيّة. والحسد يتكثّف فيتسبّب بكوارث، وكذا كلّ هوى شرّير آخر. هذه طاقة سالبة تفتك بكلّ شيء! والأهواء تنطلق من مصدر واحد وتجتمع إلى منبع واحد: "حبّ الذات"! بحبّ الذات ويا للمفارقة يدمّر الإنسان نفسَه وسواه والأرض! ولولا نعمة الله والقدّيسين الذين يبثّون طاقة خيِّرة موجبة في العالم لما بقي العالم إلى الآن! أكثر ما يحدث من ويلات، في العالم، اليوم، مردّه الطاقة السالبة المنبعثة من قلوب النّاس، ومن خلالها من حسد الشيطان! الأهواء عوامل الروح الغريب في النّفس، بها يبثّ الإنسان الموت ويضرب خليقة الله: البشرَ والطبيعةَ والحجر! والعقل، في ذاته، في ذلك كلّه، أعجز من أن يوقف انحدار البشريّة إلى الهاوية. بالعكس، كلّما ازداد النشاط العقليّ للإنسان كلّما ساعد ذلك، في إطار الواقع الأهوائيّ للإنسان، في تنظيم خراب البشريّة وخليقة الله وسرّع حركتها. "إن كانت عينك [أي قلبك] شرّيرة فجسدك كلّه [بما فيه عقلك] يكون مظلماً" (مت 6: 23). لا شيء بعد ذلك ينفع! الإنسان قلب لذا العمل الأوّل للإنسان، كلّ يوم، هو هذا: تنقية القلب! لا يستقيم عقل الإنسان إلاّ إذا حكمه قلب نقيّ ونيّةٌ صالحة! حيث لا مسعى لتنقية القلب يقيم الإنسان في الشقاء ويموت في الشقاء. مهما فعل، بعد ذلك، لا يستطيع شيئاً! لا تحيا الأرض ولا تتجدّد إلاّ بالقدّيسين! وحدهم هؤلاء يبثّون فيها البَرَكة والحياة والازدهار! ومن دونهم يستهلك النّاس الأرض حتّى الفناء! |
|