|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الجسد لا شك أنّ نظرة الإنسان إلى جسده والأجساد وطريقة تعامله معه (ومعها) قد تغيَّرتا. الإنسان صار أكثر فردية من ذي قبل. تأثير أخلاق الجماعة التقليدية ضعف. أقصد في قرارة نفس الإنسان. إلى حدّ ما لا زال المرء يحافظ على واجهة اجتماعية لائقة. غير أنّ ثمّة تيّاراً جوفياً جديداً بات يتحكّم بحركة مواقف الناس. هذا يستمددونه من النماذج الفكرية والسلوكية التي غزت وتغزو العالم لا سيما عبر وسائل الإعلام والتواصل الحضاري. هذا شاع ويشيع كالنار في الهشيم باسم الحداثة. التراث، أحياناً كثيرة، بات يُنظر إليه كتقليد بالٍ يعطِّل التقدّم، وهو عنوان التخلّف. الإنسان يتخلّى، بصورة متنامية، عن جذوره. يُمَتْحِفُها. يغويه بريق طحالب الاستهلاك الحضاري. على هذا صار الإنسان يعتبر جسده أنّه له هو. يتصرّف به كيفما يشاء. كيفية تصرّفه بجسده على هواه بات له معنى التحرّر مما يُزعَم أنّه قيود وعقد أخلاقية واجتماعية. الجسد، بالأحرى، يستحيل مادة استهلاكية. لهذا طغت على نظرة الإنسان إلى جسده صفة الجسدانية. الجسد صار لحماً في عيون الناس. مظهر بلاستيكي قابل لكل أنواع التعديل والتزيين والتشويه. أحياناً كثيرة يصير الغريب في الشكل هو المرغوب فيه. الإنسان يتخطّى مقاييس الجمال المعيارية، في الإطار الذي يجد نفسه فيه، ليعتمد التغيير المطّرد أسلوباً يوهم نفسه به أنّه حرّ من كل قيد. طبعاً هوس التغيير له، من جهة صنّاع التغيير، وجه تجاري، ومن جهة مَن يقع عليهم ويقتبلونه، وجه السأم والمغالاة في الطحلبية. هذا يُحدث تغييراً كبيراً في النفوس. ثمّة معادلة بين الثابت والمتغيِّر في الوجدان. هذه معرّضة اليوم للانكسار. المتغيِّر يطغى على الثابت بحيث يفقد الإنسان ركائز إنسانيته. السلالم القيميّة كلها تتخلخل. الإنسان قلب شئنا أم أبينا. فإن دخل دوّامة التغيير الدائم فإنّ الإنسان معرّض لدوار كياني يعتم معه قلبه. يستحيل آلة يحرّكها، بالأحرى، من الخارج، صنّاع الإعلام والموضة. طبعاً لقلب الإنسان أسراره، يقبل ما يقبله ويرفض ما يرفضه. لا نعرف إن كان ولا كيف ولا متى يتمرّد القلب. في هذه الأثناء يبقى ثمّة سعي إلى طمس ما هو إنساني في الإنسان. وكما قلت التركيز على الجسد يرافقه جنوح لدى الإنسان إلى الفردية. الجسدانية، بصورة متزايدة، تباعد ما بين الناس. همّ الإنسان أن يتمتّع بجسده من خلال الآخرين ومن دونهم. النرجسية تطغى. ثمّة عالم من الأوهام والأهواء في رؤوس الناس في شأن أجسادهم. الإنسان، بالأحرى، في موقع مَن يهتمّ ببيع جسده، لا بالمال بالضرورة، بل بالسطوة أولاً تحقيقاً لكل رغبة مشينة في نفسه. من هنا أنّ شغف الإنسان بالتجميل والموضة لا يصبّ في خانة التواصل بين الناس بل في خانة العزلة عنهم. الاستهلاك المتبادل واقع. لا يساعد هذا الوضع على بثّ روح الاتفاق بل الافتراق. لا يعين على الزواج المتماسك بل على تيسير الطلاق. الإنسان سائر في اتجاه تخطّي الزوجية إلى العلاقات الحرّة. يتماشى الناس إلى حدّ، والحدّ هو افتراق أميالهم ومصالحهم الخاصة. إذ ذاك يذهب كل في سبيله. الجسد، في مثل هذا المسار، أفيون الإنيّة. يَعد بشبه فردوس ليترك الإنسان حطاماً. هذا واقع الاستهلاك في المجتمع. الإنسان يلتهم نفسه والواحد الآخر حتى التلاشي. هذه النظرة إلى الجسد، في نهاية المطاف، عدميّة. إذا ما تركّز الهمّ في الجسد ولمّا يعد أداة تقارب وتلاق ما بين الناس، في مستوى القلوب، فإنّه يصبح مجرّد ثرثرة. في مقابل ذلك أنّ الإنسان كائن إجتماعي وإلهي. لا هو مِلكٌ لنفسه ولا مِلكٌ لغيره. ثمّة في حياته مشروعان: مشروع في شأن علاقته بالله ومشروع في شأن علاقته بالناس. في شأن المشروع الأول الهمّ هو القداسة. أن يعرف الله. أن يحببه. أن يعيش في كنفه. الجسد، في ذلك، موضع قداسة. إناء، بيت، هيكل، يقيم فيه روح الله، روح القداسة، فكر المسيح. والإناء ينضح بما فيه. أما المشروع الثاني فالهمّ فيه هو المحبّة، هو التآخي، هو الرفقة. والجسد، في ذلك، لغة مودّة وعطف ولطف ورحمة وخدمة وبذل. جسد الإنسان غَيريّ بطبيعته. فلأنّه لغة، وإن كان الإنسان هو المتكلّم فيه، فالغرض هو التواصل، التواصل الكياني، التلاقي في مستوى القلوب. هذا يحتّم أن يخضع الجسد للضوابط خدمة للقداسة من ناحية وللقربى مع الناس من ناحية أخرى. الجسد خطِر. بسهولة يستمرئ الإنسان ما هو من الجسد. يستحليه. يدمن عليه. أن يستلذ المرء نفسه أيسر في مستوى الجسد. عشق الذات على كل صعيد هو ما يميل إليه كل أحد بصورة تلقائية. محبّة الله أو محبّة الآخرين بحاجة إلى جهد كبير. وعشق الذات يعبّر عن ذاته، بخاصة، جسدياً. من هنا كون الجسدانية، أي المبالغة في طلب ما للجسد، قرينة الفردانية. وبالعكس كلّما مال المرء إلى الغيرية، إلى محبّة يسوع والإخوة، كلّما مال إلى الاكتفاء من أمور الجسد بما هو ضروري. الجسد، إذ ذاك، يشفّ، يرقّ. يزداد صمتاً وهدوءاً وسكوناً. لكنّه يصير أكثر بلاغة. يوم يتخطّى الإنسان عزلته إلى الله والإخوة يمسي مسكناً لروح الله. الجسد، إذ ذاك، يصير مشعّاً. لا ليس الجسد للاستهلاك بل لأن يصير هيكلاً للنور |
|