مزمور 143 (142 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير
صرخة جندي روحي في المعركة
يُعتبر هذا المزمور الأخير في مزامير التوبة السبعة، ربما بسبب ما ورد في الآية 2. وهو يمثل صرخة تصدر من أعماق القلب إلى الله الأمين في وعوده والبار، حافظ العهد لشعبه. يكشف المرتل عن حزنه الداخلي والخارجي، مشتاقًا إلى معونة الله التي توهب لعبيده الأمناء.
غالبًا ما كتب داود النبي هذا المزمور حين كان أبشالوم ابنه متمردًا عليه، ويطلب قتله. إنه صرخة جندي متألم وسط معركة روحية.
1. أصغ إلى تضرعاتي
1-6.
2. أجبنا يا رب
7-9.
3. علِّمنا أن نعمل رضاك
10.
4. أحينا
11-12.
من وحي المزمور 143
العنوان
مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ
جاء عن الترجمة السبعينية: "لداود، إذ كان ابنه (أبشالوم) يطارده".
* عنوان المزمور هو: "لداود عندما كان ابنه يطارده". نحن نعلم من أسفار الملوك (2 صم 15) أن هذا قد حدث... لكن يلزمنا أن نعرف هنا داود الحقيقي، القوي في معونته... وهو ربنا يسوع المسيح. فإن كل هذه الأحداث التي تمت في الماضي كانت رموزًا لأمورٍ عتيدة.
ليتنا نبحث في هذا المزمور عن ربنا ومخلصنا يسوع المسيح، الذي يعلن عن نفسه مقدمًا في نبوته، ومخبرًا مسبقًا ما كان يجب أن يحدث خلال أحداث سابقة منذ زمن بعيد. فقد سبق فأعلن عن نفسه في الأنبياء، إذ هو كلمة الله... ليتكلم ربنا، وليكن المسيح معنا[1].
1. أصغ إلى تضرعاتي
يَا رَبُّ اسْمَعْ صَلاَتِي،
وَأَصْغِ إِلَى تَضَرُّعَاتِي.
بِأَمَانَتِكَ اسْتَجِبْ لِي بِعَدْلِكَ [1].
يبدأ المرتل مزموره طالبًا من الله أن ينصت إلى صلاته وتضرعاته، لا من أجل برٍّ ذاتي فيه، وإنما من أجل أمانة الله. فقد وعد أن ينصت إلى عبيده الذين ليس لهم من يدافع عنهم، وهو أمين في وعوده. يليق بنا أن نتحدث معه بكل صراحة، فليس من يعيننا غيره.
في تعليق القديس يوحنا الذهبي الفمعلى هذه العبارة يسألنا أن نهتم كيف نقدم صلواتنا وتضرعاتنا إلى الله، بالاقتراب إليه كما يليق به. فالأمر لا يحتاج إلى كفيل يضمننا أمام الله عندما نصلي، وإنما أن نتقدس ونتهيأ للقاء معه.
* ليس لكم كفيل يقدم طلبتكم.
عندما يقترب الملك تكلموا، وترقبوا اللحظة المناسبة.
متى يقترب الملك؟ على الدوام!
وما هي اللحظة المناسبة؟ عندما تريدون، عندما تتأهلون لذلك.
لقد أُمر اليهود أن يأخذوا موضعهم عند سفح الجبل ليظهروا أمام الله، ملتحفين بثياب بيض، وممتنعين عن الاقتراب من امرأة (خر 19: 10-19). فمن جانبكم أنتم اغسلوا نفوسكم عوض ثيابكم، واقتربوا بضبط نفس وتواضع وبغير تسرع، وتقرّبوا إلى الله إن كنتم تريدون نوال ما تسألونه.
هذا الاقتراب لا يكلفكم الكثير. خذوا الفضيلة معكم كمئونة لكم في رحلتكم إليه.
أين يعمل هذا الملك؟ بالقرب من القلب المنسحق. اسلكوا الطريق، فإن "الرب قريب لكل الذين يدعونه بالحق" (مز 145: 18) كما يقول الكتاب المقدس. إنكم تجدونه هناك، ستلتقون به هناك.
هو قريب من الذي يكسر خبزًا للفقير ويمارس الصدقة. إن سلكتم هذا الطريق تجدونه مستعدًا لسؤالكم[2].
* هذه كلمات إنسانٍ يثق. "في حقك"، أي في مسيحك بالطبعِ القائل: "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو 14: 6).
"استجب لي بعدلك" هنا أيضًا "بمسيحك"، فإنني لست أتكل على نفسي، بل أبحث عن الرحمة التي لحقك وعدلك[3].
وَلاَ تَدْخُلْ فِي الْمُحَاكَمَةِ مَعَ عَبْدِك،َ
فَإِنَّهُ لَنْ يَتَبَرَّرَ قُدَّامَكَ حَيٌّ [2].
ربما يظن البعض أن هذه العبارة تضاد العبارة السابقة، فقد سبق فطلب المرتل من الله أن يستجيب له ويحقق طلبته بناء على عدله الإلهي، بينما يقول هنا أنه لن يتبرر أو يتزكى أمامه حي، لذا يسأله ألا يدخل معه في المحاكمة. كيف بعدله الإلهي تتحقق طلبته، وفي نفس الوقت بعدله لن يتبرر؟
يجيب الأب أنسيمُس الأورشليمي قائلًا: إن عدل الله في هذا العالم مقترن بالرحمة، لذلك مرارًا يُقال عن العدل إنه رحمة.
ففي تأديب الله للإنسان في هذا العالم، وإن تم ذلك عن العدل الإلهي، غير أن الله في تأديبه يحثنا على التوبة، وهذا من قبيل رحمته.
ربما لذات السبب كثيرًا ما يُقال عن عدل الله "برّ الله"، لأن عدله في هذا العالم مقترن برحمته.
يطلب المرتل من الله ألا يحاسبه حسب عدله دون رحمته، وإلا سقط مع كل المؤمنين في كارثة. لأن الجميع خطاة، ولن يستطيع أحد أن يبلغ البرّ اللائق، لذا يلجأ المرتل إلى نعمة الله.
* "لا تدخل في المحاكمة مع عبدك". كيف يعلن النبي بوضوح ثقته في حنو المسيح المملوء حبًا عندما يقول: "لا تدخل في المحاكمة مع عبدك"! هنا يبدو كأن إنسانًا يعبر في محاكمة في حضرة الله والنبي، وذلك كما ورد في المزمور الخمسين (51) "لكي تتبرر في أقوالك، وتغلب إذا حوكمت" (مز 50: 6 LXX). فإنه ليس من سبب آخر لدخول الله في محاكمة سوى أنه يحكم بعدلٍ. هذا ما فعله كورش ملك مادي وفارس في حالة ملك أرمينيا عندما كسر شعبه رباطات الصداقة. حارب كورش الملك وهزمه وسجنه، وعند محاكمته كانت زوجته وأولاده وأقاربه حاضرين المحاكمة للتأكد من تحقيق العدالة سواء في معاقبته أو تبرئته[4].
"فإنه لن يتبرر قدامك حيّ". هو "إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب، ليس إله أموات، بل الأحياء" (لو 20: 37-38). فالآباء (البطاركة) لا يتبررون في عيني الله، والكواكب ليست طاهرة في عينيه (أيوب 25: 5)[5].
* يحزن جميع القديسين بتنهدات يومية من أجل ضعف طبيعتهم هذا. وبينما هم يستقصون أفكارهم ومكنونات ضمائرهم وخلواتهم العميقة، يصرخون متضرعين: "لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرر قدامك حيّ" (مز 143: 2)...
ها أنت ترى إذن كيف يعترف جميع القديسين بصدقٍ أن جميع الناس كما هم أيضًا خطاة، ومع ذلك لا ييأسون أبدًا من خلاصهم، بل يبحثون عن تطهيرٍ كاملٍ بنعمة الله ورحمته...
لا يوجد أحد، مهما كان مقدسًا، في هذه الحياة بلا خطية. وقد أخبرنا أيضًا تعليم المخلص الذي منح تلاميذه نموذج الصلاة الكاملة...، إذ يقول: "واغفر لنا ذنوبنا، كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا" (مت 6: 12).
إذن إذ قدم هذه كصلاةٍ حقيقيةٍ يمارسها قديسون، كما يجب أن نعتقد دون أدنى شك، من يمكنه أن يبقى عنيدًا ووقحًا ومنتفخًا بكبرياء الشيطان، فيظن أنه بلا خطية[6].
* من يتبرر في عيني الله، إن كان طفل ابن يومٍ واحدٍ لا يقدر أن يكون طاهرًا من الخطية (أي 14: 5 LXX)، ولا يقدر أحد أن يتمجد في استقامته ونقاوة قلبه؟[7]
* "أنت تحصي خطواتي، ليست خطيَّة واحدة من خطاياي تهرب منك" (أي 14: 16 LXX). يقول: أود أن أخلص، لأنِّي أنا عمل يديك، وليس لأنِّي بار بأيَّة كيفيَّة، ولا لأنِّي أطلب العدالة منك، ولا لكي تنسى آثامي، فإنه ليس من الممكن لأي ذنبٍ أن يهرب منك.
* إذ قد تعلمنا هذا كله، ليتنا لا نيأس، حتى إن كنا نرتكب خطايا... عالمين أنه بمثابرة الروح يمكننا نحن غير المستحقين أن نصير مستحقين للأخذ. حتى وإن لم يكن لنا وسيط يعيننا لا نخور، عالمين أن لنا مدافعًا عظيمًا هو الذهاب إلى الله نفسه بغيرة عظيمة.
* لا شيء يجعل أعمالنا الصالحة بلا فائدة وباطلة إلا إن تذكرناها حاسبين في أنفسنا أننا نصنع صلاحًا.
* اعترف أنك بالنعمة تخلص، حتى تشعر أن الله هو الدائن... فإن أسندنا لله (أعمالنا الصالحة) تكون مكافأتنا عن تواضعنا أعظم من المكافأة عن الأعمال نفسها.
* يقول الكارز الناطق باسم الحكمة الإلهية: "لأنه لا إنسان صديق في الأرض يعمل صلاحًا ولا يخطئ" (جا 7: 20). وأيضًا: "من يقول إني زكيت قلبي" (أم 20: 9)، وليس أحد طاهرًا من خطية، ولو كانت حياته يومًا واحدًا على الأرض.
يصر داود على نفس الأمر حين يقول: "بالآثام حبل بي، وبالخطية ولدتني أمي" (مز 51: 5). وفي مزمور آخر: "لن يتبرر قدامك حي" (مز 143: 2). هذه العبارة الأخيرة يحاولون شرحها بعيدًا عن قصدها، قائلين بأن معناها هو أنه ليس إنسان كاملًا بالمقارنة مع الله. لكن الكتاب المقدس لا يقول: "بالمقارنة معك لا يتبرر إنسان حي". وعندما يقول "قدامك"، يعني أن أولئك الذين يبدون قديسين للبشر، هم بالنسبة لله في كامل المعرفة التي له ليسوا قديسين. لأن الإنسان ينظر إلى المظهر الخارجي، وأما الرب فيتطلع إلى القلب (1 صم 16: 7). بالنسبة لنظر الله الذي يرى كل الأشياء والتي تنكشف له أسرار القلب لا يتبرر إنسان[8].
* دٌعي أيوب وزكريا وأليصابات أبرارًا، وذلك بالبرّ الذي يُمكن أن يتغير إلى عدم البرّ، وليس بالبرّ الذي لن يتغير، الذي قيل عنه: "أنا الله، لا أتغير" (مل 3: 6)[9].
* ربما يسأل أحد: أما يتعارض [ما ورد في أفسس: "لنكون قديسين وبلا لوم قدامه" (أف 4:1)] مع القول النبوي: "لن يتبرر قدامك أحد" (مز 143: 2)...؟ يجيب لنلجأ إلى المعنيين في النبوة، فإنه ليس أحد يتبرر أمام عيني الله في كل الأمور عبر كل حياته، لأنه حتمًا يخطئ أحيانًا. ولكن هذا لا يمنع من أن البعض في أوقات معينة يكونون قديسين وبلا لوم قدامه (أف 1: 4)، إن صاروا هكذا خلال إصلاحهم[10].
لأَنَّ الْعَدُوَّ قَدِ اضْطَهَدَ نَفْسِي.
سَحَقَ إِلَى الأَرْضِ حَيَاتِي.
أَجْلَسَنِي فِي الظُّلُمَاتِ،
مِثْلَ الْمَوْتَى مُنْذُ الدَّهْرِ [3].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "لأن العدو اضطهد نفسي، وأذل في الأرض حياتي".
ما أصعب على نفس داود أن يحتل ابنه المحبوب لديه أبشالوم مركز العداوة، فيستخدم كل وسيلة لا ليغتصب منه كرسي الحكم فحسب، بل ويطلب نفسه، أي يقتله ويذله أمام الشعب والجيش. لا ينكر النبي أنه اضطرب وصار كمن يجلس في الظلمات مثل الموتى.
صار المرتل في موقفٍ خطيرٍ. صار كمن في ظلمة القبر، كالميت ليس من يسنده أو يترجى إنقاذه.
ما هو هدف عدو الخير من مقاومته للمؤمن؟ إن يسحقه إلى الأرض، وأن يجلسه في الظلمات مثل الموتى! إن كان السيد المسيح يود أن يحملنا إلى سماواته، فإن عمل عدو الخير أن ينزل بنا إلى الأرض، ويربط أذهاننا وقلوبنا بالأرضيات لا السماويات. وإن كان السيد المسيح هو شمس البرّ الذي يشرق على الجالسين في الظلمة، فإن عدو الخير يود أن يعزلنا عنه، فننحدر كما إلى القبور حيث ظلمات الشر والخطية.
يرى القديس أغسطينوس أن عدو الخير اضطهد السيد المسيح ليجلسه في الظلمات، ويجعله مع موتى العالم الذين يموتون بسبب خطاياهم. لقد قبل السيد هذا الاضطهاد لكي بإرادته وليس بسبب خطية ما ارتكبها، يموت عنا، فيحررنا نحن الذين صرنا موتى العالم بسبب خطايانا.
لا يزال عدو الخير يضطهد الكنيسة جسد المسيح، لكي يجلس الكل في ظلمات الجحيم بكونهم موتى العالم، لكن من يلتصق بالسيد المسيح، يموت بالجسد، ويتمتع بالقيامة خلال صلب المسيح وموته وقيامته!
* "لأن العدو قد اضطهد نفسي، سحق إلى الأرض حياتي". هنا نحن نتكلم؛ هنا يتكلم الرأس عنا. واضح أن الشيطان اضطهد كل من نفس المسيح ونفس يهوذا، والآن أيضًا لا يزال الشيطان يضطهد جسد المسيح، ومن يخلف يهوذا أيضًا...
ماذا يطلب من كل من يضطهدنا إلا أنه يسعى ليجعلنا نفقد رجاءنا السماوي... ونخضع لمضطهدنا ونحب الأرضيات؟
"أجلسني في الظلمات، مثل الموتى منذ الدهر". هذا تسمعونه بالأكثر من الرأس، تدركونه بالأكثر بالنسبة للرأس. فإنه بالحقيقة مات لأجلنا، ومع هذا فهو ليس بأحد الذين ماتوا من العالم. لأنه هم موتى العالم؟ وكيف لم يكن أحد موتى العالم؟ موتى العالم هم أولئك الذين ماتوا عن استحقاقهم، فقبلوا جزاء إثمهم، نالوا الموت كثمرة الخطية التي انتقلت إليهم، كما قيل: "بالآثام حبل بي" (مز 51: 5)...
أما هو فبموته قال: إني اتمم مشيئة أبي، لكنني لست أستحق الموت. لم أفعل شيئًا لأموت. إنما هذا من عملي أن أموت لكي بموت البار يتحرر أولئك الذين يلزم أن يموتوا[11].
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن من يسقط في فخاخ عدو الخير، يحرم نفسه من شمس برّ، ويجلس في الظلمات كالميت، وتصير روحه في حالة إعياء ويتحير قلبه في داخله، فلا يجد راحة، لا يستطيع أن يتحدث معه أحد كي يعزيه. عمل عدو الخير أن يُفسد البصيرة، فلا نستطيع التطلع إلى شمس البرّ.
يقول أيضًا القديس يوحنا الذهبي الفم عن هؤلاء الساقطين في يأس الخطية [لن يكون لهم سلام، ولا روح متحررة من القلق، بل بالحري يصير لهم الوقت عصيبًا أكثر من أي محيط. لا يجدون نهارًا وليلًا يعفيهم من العاصفة. إنها تضربهم من كل جانب، حتى وإن لم توجد أي قلاقل من الخارج، وكأن العدو مقيم في داخلهم. فإنهم لا يتمتعون بما نالوه فعلًا، ويهلكهم القلق مما لم يحدث لهم بعد، معذبون وقلقون في كل الأمور، محبون للاستطلاع نحو ما يتمتع به كل أحدٍ من خير، تتألم أذهانهم لنجاح كل إنسانٍ، يفزعون عندما يمدح إنسان آخر، يُكرهون الغير على عمل معين الخ.]
* "لأن العدو قد اضطهد نفسي". بينما يمكن أن يُفهم ذلك بخصوص شاول، إذ كان عدوًا وكان يتعقبه، يُمكن أيضًا أن تُفهم بمعنى روحي عن العدو الذي هو الشيطان.
إنه لا يكف عن تعقبه للذين ينتمون لله.
كيف يمكننا التخلص من هذا التعقب؟ إن كنا نجد موضعًا لا يقدر أن يدخله.
قد تسأل: وما هو هذا الموضع؟ أي نوع من المكان سوى السماء؟
وكيف يمكننا الصعود إلى السماء؟ أنصت إلى كلمات بولس مظهرًا ذلك، فإننا وإن كنا مرتبطين بالجسد، غير أننا نستطيع أن نعيش هناك: "اطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله" (كو 3: 1)، وأيضًا: "سيرتنا نحن هي في السماوات" (في 3: 20)[12].
* "لأن العدو قد اضطهدني" لا حاجة لتوضيح هذا، فإن الكل يعرف أن العدو هو الشيطان.
"سحق في الأرض حياتي". قبلًا كان لي جناحان واستطعت أن أطير. أما الآن فإن العدو يضطهدني ويأسرني، وقد قيَّد قدمي ويدي.
إنني مثل طائر اصطاده إنسان، إنه أشبه بميت لا حرية لجناحيه. هكذا يقول المرتل، فإن الشعور بخطاياي قد أسرني.
"أجلسني في الظلمات مثل الموتى منذ الدهر". مثل أولئك الذين ماتوا منذ زمن بعيد، وإن كانوا ليس بالحقيقة هم أموات.
كيف هذا؟ لأنه منسحق القلب، إن أخطأ أحد ولم يتب فهو ميت منذ زمن طويل. إنه لا يشبه هؤلاء الموتى، بل بالحقيقة هو ميت. هذا ما أراد العدو أن يضمنه في حالتي، ألا أندم على خطاياي التي حثني على ارتكابها[13].
* للمذلة أنواع كثيرة، منها مذلة صالحة وهي التي يذل بها الإنسان ذاته متواضعًا. ومنها التي يُذل بها الإنسان بسبب كبريائه، وكما قال ربنا: إن ارتفع يتذلل ويتواضع. ومنها المذلة بسبب مصائب الدهر، فيُذل الإنسان ويُهان. وأيضًا يُذل ويتواضع من فعل الخطية.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
أَعْيَتْ فِيَّ رُوحِي.
تَحَيَّرَ فِي دَاخِلِي قَلْبِي [4].
شعر المرتل أنه قد بلغ إلى أقصى درجات المرارة، فقد صارت نفسه في حالة إعياء، في عجزٍ تامٍ؛ وفقد قلبه حيويته، وصار كمن في حالة لاشعور.
بإرادته قبل السيد المسيح الموت، واجتازه حقًا، لكي يقيمنا معه. لقد صرخ: "نفسي حزينة جدًا حتى الموت".
* تذكروا: "نفسي حزينة جدًا حتى الموت" (مت 26: 38). هنا نسمع صوتًا واحدًا. ألا نرى بوضوح الانتقال من الرأس إلى الأعضاء، ومن الأعضاء إلى الرأس؟[14]
تَذَكَّرْتُ أَيَّامَ الْقِدَمِ.
لَهَجْتُ بِكُلِّ أَعْمَالِكَ.
بِصَنَائِعِ يَدَيْكَ أَتَأَمَّلُ [5].
يقصد بأيام القدم معاملات الله معه ورعايته له في الماضي، وأيضًا معاملاته مع المؤمنين. مثل كل رجال الله في العهد القديم يجد المرتل رجاءه في الرب خلال وعوده مع آبائه. "تصنع الأمانة ليعقوب، والرأفة لإبراهيم، اللتين حلفت لآبائنا منذ أيام القدم" (مي 7: 22). أما مؤمنو العهد الجديد، فمع تذكرهم لمعاملات الله ووعوده مع رجال الله، يمتلئون رجاءً في المسيح يسوع، الذي فيه تحققت الوعود الإلهية مع الآباء، وتحققت غاية الناموس، كقول الرسول: "لأن غاية الناموس هي المسيح للبرَّ لكل من يؤمن" (رو 10: 4).
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن المرتل يتأمل في أيام القدم من خلال الكتاب المقدس، حيث يقدم لنا معاملات الله مع المؤمنين الأولين، فيمتلئ رجاءً. لذلك يقول الرسول بولس أيضًا: "كل الكتاب هو موحى به من الله، ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب. الذي في البرّ" (2 تي 3: 16).
ويرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح قد قبل الآلام حتى أعيت فيه روحه لكي بآلامه الحقيقية النابعة لا عن خطية ارتكبها، بل عن خلاصه وحبه لنا، فإننا نحن بدورنا نشاركه آلامه بكل حب، ونلهج بأعماله، ونتأمل بصنائع يديه في إبداعه بخلقتنا وخلاصنا.
* "تذكرت أيام القدم" إنني أتذكر الأيام التي عبرت، وكيف كنت في ثقة، أما الآن فأنا في ليل كلي السواد[15].
بَسَطْتُ إِلَيْكَ يَدَيَّ.
نَفْسِي نَحْوَكَ كَأَرْضٍ يَابِسَةٍ. سِلاَهْ [6].
في المزمور السابق يتحدث المرتل عن بسط يديه كذبيحة مسائية. هنا يبسط يديه ليعلن عطش نفسه إلى الله، إنها كأرضٍ يابسة تترقب مطر الروح القدس يرويها ويحولها إلى فردوس إلهي.
إذ نلتصق بالمصلوب نبسط أيادينا معه، لكننا لا نحمل مطرًا، إنما نعلن عن عطشنا إليه فيروينا بنعمته، ونحمل ثمر الروح.
* يقول: "بسطت إليك يديَّ. نفسي نحوك كأرض يابسة". أمطر عليها، لكي تجلب ثمرًا صالحًا. "الرب يعطي عذوبة، وأرضنا تعطي غلتها" (راجع مز 85: 12). إني ابسط يديَّ إليك، نفسي أرض بلا ماء نحوك وليس نحوي أنا. أستطيع أن أعطش إليك، لكنني لا أستطيع أن أروي نفسي[16].
* "بسطت إليك يدي" مظهرًا المشاعر العميقة التي في قلبه، فإنه كمن يثب من جسده ويجري إليه. فإذ يُوحي إليه يجمع أعمال الله العظيمة، ويتأمل في كل حنوه والتعاليم التي ينتفع بها من ضيقاته...، فيجد ملجأ فيه[17].
* "بسطت إليك يديَّ". إذ أنا مقيد بواسطة العدو لم أستطع أن أفعل شيئًا سوى التوبة عن خطاياي ورفع يديّ إليك متوسلًا.
"تعطش نفسي إليك مثل أرض جافة". كم تصير الأرض ظمآنة وفي حالة جفاف، فتتلمس المطر، هكذا نفسي تتوق وتعطش إليك أنت إلهها[18].
* تذكر أعمال الله في الأيام السابقة، ومعونته للمظلومين، يعزي الحزانى، ويحثهم على بسط أياديهم للتضرع لله، ويبعث الرجاء في نفوسهم، ويحثهم على الاتكال عليه.
* فإذا شئتم أن تعود إليكم الحرارة التي فارقتكم، فهذا هو ما ينبغي أن تفعلوه: ليقطع الإنسان عهدًا بينه وبين الله، وليقُل في حضرته: "اغفر لي ما صنعتُه في تهاوني"، وأيضًا: "لن أعود أعصاك بعد."
ولكي يحفظ نفسه في المستقبل من كل تهاونٍ يجب عليه ألاّ يتعلّق أبدًا بأدنى راحةٍ جسديةٍ أو نفسيةٍ، بل ليكشف أفكاره أمام الرب نهارًا وليلًا، وليبكِ بلا انقطاعٍ أمام الرب، وليُبكِّت نفسه بكل حزنٍ قائلًا: ”كيف صرتِِ متهاونةً حتى الآن؟ كيف بقيتِِ مُقفِرةً كل هذه الأيام؟"
ولكي يتذكر دائمًا الدينونة والملكوت الأبدي، عليه أن يُبكِّت نفسه باستمرار قائلًا لها: ”كيف؟! لقد أجزل الله لكِِ كل هذه الكرامات وأنتِِ تعيشين في التهاون؟
لقد أخضع لكِ الخليقة كلها وأنتِ لا تكونين مطيعة"؟!
فمتى قال لنفسه ذلك، مبكِّتًا إياها نهارًا وليلًا وفي كل ساعةٍ، تعود إليه الحرارة الإلهية سريعًا، ولكنها حرارة أفضل من كل وجهٍ من الأولى.
لما شعر الطوباوي داود بالضجر ينهال عليه قال: "تفكّرتُ في أيام، القدم في السنين الدهرية، وكنتُ أتأمل" (راجع مز 77: 5-6). وأيضًا: "تذكّرتُ الأيام الأولى ولهجتُ في كل أعمالك، وفي صنائع يديك كنتُ أتأمل، بسطتُ إليك يديَّ، صارت نفسي لك مثل أرضٍ بلا ماءٍ" (مز 143: 5-6).
فمتى استعَدْتَ الحرارة داخلك، تفرّغ للهذيذ بعظائم الله، وحينئذٍ ستخلص بنعمة الآب والابن والروح القدس إلى أبد الدهور آمين[19].
[FONT=""]2. أجبنا يا رب [/FONT]
أَسْرِعْ، أَجِبْنِي يَا رَبُّ.
فَنِيَتْ رُوحِي.
لاَ تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنِّي
فَأُشْبِهَ الْهَابِطِينَ فِي الْجُبِّ [7].
كثيرًا ما يردد المرتل كلمة "أسرع"، فهو في حالة طوارئ مستمرة، يطلب النجدة السريعة، فقد صار كمن على أبواب الموت. ومن جانب آخر، ففي دالة يطلب من الله سرعة التصرف.
إذ يتأنى الله في الاستجابة، نظن أنه حجب وجهه عنا. لذلك يسأله المرتل ألا يحجب وجهه عنه مهما كانت خطاياه، فإن في هذا موت له! كثيرًا ما نشعر كأن الله قد حجب وجهه عنا، لكن كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إن السبب الحقيقي في هذا هو خطايانا، كما قيل بإشعياء النبي: "ها إن يد الرب لم تقصر عن أن تخلص، ولم تثقل أذنه عن أن تسمع، بل آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم، وخطاياكم سترت وجهه عنكم حتى لا يسمع" (إش 59: 1-2). يسقط الخاطئ كما في جبٍ، فيحتاج إلى حبال الكتاب المقدس كي تربط إرادته، وترفعه من الجب.
يدعونا الذهبي الفم إلى تحقيق ذلك قائلًا: [إن كنا بعد السقوط لا يخور قلبنا ولا نيأس، بل نغني لأنفسنا بهذه الكلمات الموحى بها: "هل يسقطون ولا يقومون" (إر 8: 4). وأيضًا: "اليوم إن سمعتم صوته، فلا تقسوا قلوبكم، كما في مريبة" (مز 95: 7-8). لنربط أنفسنا بهذه الأفكار ونسحب أنفسنا (من الجب)[20]].
* "أسرع، اسمعني يا رب". فإنه ما الحاجة بعد إلى التأجيل لإلهاب عطشي، إن كنت أنا بالفعل هكذا بغيرة أعطش (إليك)؟
لقد أرجأتَ المطر، لكي ما أشرب، وأشرب من فيضك الذي كنت أرفضه. إن كنت أرجأته لهذا السبب، فالآن لتهبني المطر، فإن روحي قد فنيت. دع روحك يملأني.
هذا هو السبب أن تسرع وتسمعني. الآن أنا مسكين بالروح، هب لي أن أُطوّب في ملكوت السماوات (مت 5: 3)...
"لا تحجب وجهك عني"، فإنك تنزعه عني عندما أتكبر.
مرة كنت في حالة شبعٍ، وفي شبعي انتفخت. في شبعي قلت لن أتزعزع، ولم أدرك برَّك، ومساندتك لي.
لكنك يا رب بمشيئتك وهبت قوة لجمالي. قلت في شبعي لن أتزعزع، مع أن من عندك ما هو لدي من شبعٍ، ولكي تؤكد لي أن ما لدي هو من عندك حجبت وجهك عني فارتعبت (مز 30: 6، 7). بعد هذا الرُعب طُرحت، لأنك حجبت وجهك عني.
بعد ضجر روحي، اضطرب فيَّ قلبي في داخلي، لأنك حجبت وجهك عني، وصرت مثل أرض يابسة نحوك. لا تحجب وجهك عني!
حجبته عني حين كنت متكبرًا، رده لي فإني الآن في مذلة.
إن حجبته عني، أصير مثل من يهبط في الجب...
لا تسمح للجب أن يغلق فمه عليَّ[21].
* "أسرع، اجبني يا رب. فنيت روحي". ماذا يقول؟ هل تحث الطبيب نحو تقديم علاجه؟ لا! بل هذه هي عادة الأرواح التي تئن من التجربة، فالذين يتألمون يستعجلون الأطباء، حتى وإن كانت الوقت لم يحن بعد، حتى يقدموا لهم الراحة سريعًا. يقدم المرتل السبب للاستعجال "فنيت روحي". الله الذي بالطبع قادر أن يقيم حتى الأموات يستطيع بالأكثر أن يفعل هذا قبل الموعد[22].
* "أسرع، اجبني يا رب، فقد فنيت روحي". نفسي فقد وعيها في داخلي، جسدي فني فيَّ، بقيت روحي وحدها... يا رب تعطف عليّ[23].
أَسْمِعْنِي رَحْمَتَكَ فِي الْغَدَاةِ،
لأَنِّي عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ.
عَرِّفْنِي الطَّرِيقَ الَّتِي أَسْلُكُ فِيهَا،
لأَنِّي إِلَيْكَ رَفَعْتُ نَفْسِي [8].
يريد أن يسمع صوت الرب، فإن كلماته حلوة ومُشبعة، لأنها تعلن عن حب الله وحنوه ورحمته.
القيادة الإلهية لا غنى عنها، فإننا بحق لا نعرف الطريق، ما لم يقدم الطريق نفسه لنا. نلتصق به، ونتحد معه، فنستعذب صليبه، ونتمم رسالتنا التي وضعها لنا المخلص.
* فلأسمع بالغداة (في الصباح) رحمتك، فإني فيك أترجى".
انظر، إنني في ليلٍ، لكنك فيك رجائي، حتى يعبر إثم الليل. وكما يقول بطرس: "وعندنا الكلمة النبوية، وهي أثبت، التي تفعلون حسنًا إن انتبهتم إليها كما إلى سراجٍ منير في موضع مظلمٍ إلى أن ينفجر النهار، ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم" (2 بط 1: 19). "الصباح" إذن هكذا يدعو الوقت بعد نهاية العالم، عندما نرى ما نحن نؤمن به هنا في هذا العالم.
ولكن ماذا هنا حتى يحل الصباح؟ إنه لا يكفي أن نترجى الصباح، يلزمنا أن نفعل شيئًا.
لماذا نفعل شيئًا؟ لكي نطلب الله بأيادينا في الليل. ماذا تعني نطلب بأيادينا؟ نطلب بالأعمال الصالحة.
يلزمنا هكذا أن نرجو الصباح ونحتمل هذا الليل، ونثابر بالصبر حتى الفجر، لماذا يلزمنا أن نفعل هنا؟ لئلا تظنوا أنكم تفعلون شيئًا بذواتكم به تتأهلون أن تأتوا إلى الصباح، يقول: "عرفني يا رب الطريق التي أسلك فيها[24].
* لم يقل فقط: "عرفني الطريق التي أسلك فيها"، ولكن ماذا؟ "لأني إليك رفعت نفسي"، أي اشتقت إليك، إني أتفرَّس فيك[25].
* "عرفني الطريق التي أسلك فيها"... عرفني مسيحك الذي يقول :"أنا هو الطريق" (يو 14: 6)[26].
* إنه يقول: باكرًا (في الغداة) وسريعًا بشرني يا رب برحمتك، وعرفني الطريق التي توصلني إليك. هذا هو العمل الذي يرضيك، وهذه الطريق يسلكها من يرفع نفسه من محبة العالم إلى محبة الله.
أَنْقِذْنِي مِنْ أَعْدَائِي يَا رَبُّ.
إِلَيْكَ الْتَجَأْتُ [9].
تهديدات الأعداء المستمرة ومقاومتهم له الظاهرة والخفية دفعته أن يلجأ إلى الله ليخلصه.
* "أنقذني من أعدائي يا رب إليك التجأت".
أنا الذي هربت مرة منك، الآن أهرب إليك.
فإن آدم هرب من وجه الله، واختفى بين أشجار الفردوس، فقيل عنه في سفر أيوب: "مثل عبد هارب من وجه سيده، ووجد ظلًا" (أي 7: 2 LXX).
ويل لي، إن بقيت تحت الظل، لئلا يُقال فيما بعد: "كل الأشياء تعبر مثل ظلٍ" (حك 5: 9).
لتحاربوا رؤساء هذا العالم، هذه الظلمة، رؤساء الأشرار (إبليس وجنوده).
عظيم هو جهادكم، فإنكم لا ترون أعداءكم ومع ذلك تغلبوهم![27]
* من لا يلتجئ إلى بني البشر يلتجئ إلى الله، وكل من يلتجئ إلى الله ينقذه من أعدائه المنظورين وغير المنظورين.
[FONT=""]3. علِّمنا أن نعمل رضاك [/FONT]
عَلِّمْنِي أَنْ أَعْمَلَ رِضَاكَ،
لأَنَّكَ أَنْتَ إِلَهِي.
رُوحُكَ الصَّالِحُ يَهْدِينِي فِي أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ [10].
مع كل تمتع بالنصرة، ندرك بالأكثر حاجتنا إلى روح الله القدوس ليعلمنا الحق الإلهي.
يليق بالمؤمن في وسط شدته أن يصرخ إلى الله، فيهبه أن يعمل فيه روحه القدوس الذي يقودنا ويهدينا إلى العمل حسب مرضاته أو مشيئته الإلهية، فنسلك الأرض المستقيمة، أي نبلغ أرض الأحياء.
نحتاج ليس فقط أن نتعلم، وإنما أيضًا إلى التدرب العملي على حياة الطاعة لله وتنفيذ مشيئته الإلهية. هذا والروح القدس وحده قادر أن يقودنا في أرض مستوية خالية من المخاطر المخفية.
يستخدمها القديس جيروم للرد على الأريوسيين بأن الآب أعظم من الابن، وأنه هو وحده الصالح. إن كان الروح القدس الذي يحسبه الأريوسيون أقل من الابن، يدعوه المرتل "الصالح" فكيف لا يكون الابن هو أيضًا الصالح؟!
* "علمني أن أعمل مشيئتك، لأنك أنت هو إلهي". يا له من اعتراف مجيد! يا له من نظام مجيد! يقول: "لأنك أنت هو إلهي". لو أن آخر قد خلقني لكنت أسرع إليه ليعيد خلقتي. هل أبحث عن أبِ لكي أنال ميراثًا؟ أنت هو إلهي، ليس فقط تهبني ميراثي، بل أنت هو ميراثي نفسه! هل أبحث عن نصير يحييني، فأنال فداءً؟ أنت هو إلهي...
لا يمكن أن تكون أنت إلهي، ومع هذا أجعل من نفسي سيدًا لها...
لتقولوا: "روحك الصالح يهديني في الأرض المستقيمة"، لأن روحي تقودني إلى أرض ملتوية.
وماذا أستحق؟ وما قيمة أعمالي الصالحة بدون عونك، الذي به أنال وأتأهل أن يقودني روحك إلى الأرض المستقيمة[28].
* يُدعى الروح القدس صالحًا، لأنه الله، وبموهبته يهدي المؤمنين إلى أرضٍ مستقيمةٍ، التي هي أرض الأحياء ومقر الصديقين.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* لم يقل فقط: "علمني إرادتك"، إنما "إن أعمل إرادتك (رضاك)، بمعنى لتقودني إلى تنفيذ إرادتك عمليًا. فإنه توجد حاجة إلى النعمة من فوق، وإلى تعلمها من هناك لكي أسلك الطريق إلى الفضيلة. ليس بأن أبقى عاطلًا، وإنما أن أساهم أيضًا فيما تُساهم فيه أنت.
"لأنك أنت إلهي". ألا تلاحظون طلباته الروحية؟ فقد قدم سؤاله لا ليقتني شيئًا أو ليحقق مجدًا، وإنما لكي يتمم إرادة الله، وهذا كنز كل الصالحات، وثروة لا تنقص، وبداية الرضا وجذره وطريقه وغايته.
"روحك الصالح يهديني في أرض مستوية". ألا تلاحظون كيف نتعلم ونتدرب أن ننهي رحلتنا بالروح القدس؟ لهذا يقول أيضًا بولس: "فأعلنه الله لنا نحن بروحه القدوس" (1 كو 2 : 10). "في أرض مستوية". بالمعنى السطحي يقصد "وطنه"، وبالمعنى الروحي يعني الطريق المؤدي إلى الفضيلة... ليس شيء ممهدًا وسلسًا مثل الفضيلة، ليس فيها مخاوف ولا اضطربات[29].
* ماذا تظنون؟ هل يناقض الرسول نفسه فإنه وهو يقول إن البشر يصيرون متعلمين بعمل الروح القدس، يقدم توجيهات كيف وما يجب أن يعلموا؟ أم يلزمنا أن نفهم أنه وإن كان من واجب البشر أن يعلموا ولا يتوقف المعلمون (عن التعليم) عندما يعطي الروح القدس، فإنه ليس الغارس شيئًا ولا الساقي، بل الله الذي ينمي (1 كو 3: 7). لهذا وإن كان القديسون معينين لنا والملائكة القديسون يساعدوننا، لكن لا يتعلم أحد الأمور الخاصة بالحياة مع الله باستقامة ما لم يكن الله نفسه مستعدًا أن يُعلم. هذا الإله الذي يوجه إليه في المزمور القول: "علمني إرادتك، فأنت هو إلهي" (مز 143: 10)[30].
* يليق بنا أن نسرع بالأكثر لنرى عمل الله أكثر من عملنا نحن. فإننا إن خدمنا بأية صورة نكون مدينين له (بهذا العمل) لا للبشر. لهذا يقول الرسول: "ليس الغارس شيئًا ولا الساقي، بل الله الذي ينمي"[31].
* إذ لا يمكن للرسل أن يحققوا شيئًا إن لم يقدم الله النمو، فكم يكون الأمر بالنسبة لكم ولي أو لأي شخصٍ في أيامنا الذي يتباهى بأنه معلم[32].
* لا نستطيع أن ننكر هذا، فإن الرب قال عنه: "إن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق" (يو 16: 12-13). ويقول عنه داود: "روحك الصالح يهديني في أرض مستوية" (مز 143: 10).
انظروا ماذا نطق صوت الرب عن الروح القدس. جاء ابن الله، وإذ لم يكن قد أرسل الروح أعلن أننا كنا نعيش مثل أطفالٍ صغارٍ بدون الروح. قال إن الروح القدس يأتي، هذا الذي يجعل هؤلاء الأطفال الصغار رجالًا أكثر قوة، وذلك بنموهم أي في العمر الروحي. وقد أوضح ذلك لا ليجعل قوة الروح في المركز الأول، وإنما ليظهر أن كمال القوة يتحقق بمعرفة الثالوث القدوس[33].
* ما هو الروح القدس إلا كمال الصلاح؟ هذا الذي وإن كان لا يمكن نوال طبيعته، وإنما يمكننا نوال صلاحه، يملأ كل شيءٍ بسلطانه، إنما فقط يتمتع الأبرار بالشركة فيه، وهو بسيط في جوهره، غني في فضائله، حاضر بالنسبة لكل أحدٍ، يقسم مما له لكل واحدٍ، وهو بكامله في كل موضع[34].
* حتى في السعي للوصول إلى معرفة الناموس ذاته، لا يتأتى من مجرد النشاط في القراءة، بل بإرشاد الله لنا واستنارتنا به، إذ يقول المرتل: "طرقك يا ربُّ عرّفني. سُبُلك علمني" (مز 4:25). و"اكشف عن عينَّي، فأرى عجائب من شريعتك" (مز 18:119). و"علمني أن أعمل رضاك، لأنك أنت إلهي" (مز 10:143). وأيضًا "المعلم الإنسان معرفًة" (مز 10:94). وأكثر من هذا يسأل داود الله طالبًا الفهم، حتى يدرك وصايا الله، بالرغم من معرفته معرفة تامة أنها مكتوبة في كتاب الشريعة، فيقول: "عبدك أنا. فهّمني، فأعرف شهاداتك" (مز 125:119).
بالتأكيد كان لدى داود الفهم الموهوب له بالطبيعة، كما كان لديه إلمام تام بمعرفة وصايا الله المحفوظة في كتاب الشريعة، ومع هذا نجده يظل مصليًا إلى الله لكي يعلمه الشريعة بإتقان... فما حصل عليه من فهم حسب الطبيعة لا يكفيه، ما لم ينر الله علي فهمه يوميًا، لكي يفهم الشريعة روحيًا، ويعرف وصاياه بوضوح.
كذلك أعلن الإناء المختار هذا الأمر "لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا، وأن تعملوا من أجل المسرَّة" (في 13:2). أي وضوح أكثر من هذا أن مسرتنا وكمال عملنا يتم فينا بالكمال عن طريق الله؟! وأيضًا: "لأنه قد وهب لكم لأجل المسيح، لا أن تؤمنوا به فقط، بل أيضًا أن تتألموا لأجله"، وهنا يعلن بأن توبتنا وإيماننا واحتمالنا للآلام هذا كله عطية من الله.
يعلم داود أيضًا بذلك فيصلي مثله لكي يوهب له هذا من قبل رحمة الله، قائلًا: "أيّد يَا الله هذا الذي فعلتهُ لنا" (مز 28:68)، مظهرًا أنه لا يكفي فقط أن يوهب لنا بداية الخلاص كهبة ونعمة من قبل الله، بل ويلزم أن يكمل ويتمم بنفس تحننه وعونه المستمر.
لأن ليس بإرادتنا الحرة، إنما "الرب يطلق الأسرى"،
ليس بقوتنا، لكن "الرب يُقوّم المُنحنين"،
ليس بالنشاط في القراءة، بل "الرب يفتح أعين العُمْي"،
ليس نحن الذين نعتني بل "الرب يحفظ الغرباءَ"،
ليس نحن الذين نُعضد، إنما الله "يُعضد اليتيم والأرملة" (مز 7:146-9)[35].
* يقودني روحك المحب في أرض الأبرار (مز 143: 10)، عندئذ نمارس أعمالنا. قد يكون بعض الإخوة غائبين عنا بسبب العمل، أو لبُعد مسافة السكن، ومع ذلك يلزمنا أن نتمم التزامات الجماعة معًا بدون تردد. "فإنه حيث اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي أكون في وسطهم" (مت 18: 20).
[FONT=""]4. أحينا [/FONT]
مِنْ أَجْلِ اسْمِكَ يَا رَبُّ تُحْيِينِي.
بِعَدْلِكَ تُخْرِجُ مِنَ الضِّيقِ نَفْسِي [11].
إن كنا نشعر مع المرتل أننا قد انسحقت حياتنا إلى الأرض [3]، فصرنا كالأموات، فإنه ليس من يقدر أن يقيمنا من القبر سوى مخلصنا نفسه. لذلك يحتمي المرتل في اسم الرب يسوع المسيح ليتمتع بالحياة الأبدية، ويطلب برَّه (عدله)، فهو الطريق الذي به ينجو من الضيق.
* أنصتوا إذن بكل طاقتكم إلى امتداح النعمة التي بها نخلص بلا ثمن. "من أجل اسمك يا رب تحييني ببرِّك". ليس ببرِّي، وليس لأني مستحق. أما عن استحقاقي، فأنا لا أستحق منك سوى العقوبة! إنك تنقيني (تقَّلمني) من استحقاقاتي، وتطَّعمني بعطاياك. "تخرج من الضيق نفسي"[36].
* "من أجل اسمك يا رب تهبني الحياة". ألا ترونه مرة أخرى يلجأ إلى الله، غير واضع اتكاله على هذه الحياة؟ "ببرِّك تخرج من الضيق نفسي"... ألا ترون كيف يحق - كما قلت سابقًا، غالبًا ما يدعو الحنو برَّا؟
"تخرج من الضيق نفسي": "صلوا لئلا تدخلوا في تجربة" (مر 14: 38)[37].
* ليس نظرًا إلى صلاحي وفضيلتي، بل عملًا برحمتك، وتمجيدًا لاسمك، أحييني بعدلك، وتخرج نفسي من الحزن والشدائد.
وَبِرَحْمَتِكَ تَسْتَأْصِلُ أَعْدَائِي،
وَتُبِيدُ كُلَّ مُضَايِقِي نَفْسِي،
لأَنِّي أَنَا عَبْدُكَ [12].
استئصال عدو الخير هو من قبيل رحمة الله وعدله في نفس الوقت.
* "وبرحمتك تستأصل أعدائي"، ليس لأني مستحق ذلك، وإنما من أجل رحمتك تحررني من الذين يحاربونني، أنقذني من الذين يدبرون المكائد، هب لي أن تحررني من الضيق.
"وتبيد كل مضايقي نفسي، لأني أنا عبدك". لاحظوا مرة أخرى كيف تتحقق الطلبة. إنه ليس بسهوله ننال طلبتنا، إنما يلزمنا أن نجعل أنفسنا أهلًا لذلك، وأن نساهم من جانبنا ما يلزم أن نساهم به. وبهذا نقدم طلبتنا. طبيعيًا الصلاة (المجردة) غير كافية في ذاتها. فاليهود صلوا، وكانت الإجابة: "وإن أكثرتم الصلاة لا أسمع" (إش 1: 15). لماذا تندهشون لهذا إن كان (حزقيال) نفسه لم يُسمع له. فقد قيل: "إن جاء نوح وأيوب ودانيال لا يخلصون أبناءهم وبناتهم" (راجع حز 14: 14).
لتدركوا هذا، فلا نصلي فقط، وإنما مع الصلاة نجعل أنفسنا أهلًا لنوال البركات الحاضرة والمستقبلة[38].
من وحي المزمور 143
إليك وحدك أصرخ!
* إلى من أصرخ إلا إليك،
فأنت أمين على الدوام في وعودك!
وعدت أن تنصت إلى عبيدك!
أنت قريب منهم، مستعد دومًا لتسمع لهم.
لأتهيأ للاقتراب إليك،
أنت هو الطريق، والحق،
أسلك فيها، فالتقي بك.
ألتحف بك، فتسترني بحقك وبرِّك.
تستجيب لي بنعمتك،
وتفيض عليّ بسخائك!
وليس لي ما أقدمه من ذاتي،
إنما أبحث عن رحمتك وحقك وبرِّك!
* إليك وحدك ألجأ،
لأنك إله رحوم وطول الأناة.
لن يتبرر أحد أمامك، حتى إبراهيم وإسحق ويعقوب،
لكن وأنت بعدلٍ تؤدب،
إنما لكي برحمتك تدفعنا للرجوع إليك،
فننعم علينا بغنى رحمتك.
لن يتبرر أمامك طفل ابن يومٍٍ واحدٍٍ،
لكنك تريد أن الكل يخلصون، وإلي معرفة الحق يقبلون.
ليس من يدافع عنا أمامك سوى الالتجاء إليك!
* احتلَّ أبشالوم الابن المحبوب مركز العداوة،
لم يكن يقبل أقل من رأس أبيه داود بجانب عرشه.
أراد أن يدخل بأبيه إلى ظلمات القبر،
دون جريمة ارتكبها أبوه في حقه!
انسحق داود في داخله،
واختبر الجلوس مع الموتى في الظلمات!
من يقدر أن يحرره من ظلمات القبر سواك؟
* إلهي هوذا العدو يحدرني إلى ظلمات الجحيم.
يجد لذَّته في هلاكي،
وسعادته في شقائي الأبدي!
هب لي جناحي الروح فأطير!
أسمع صوتك، يا أيها القيامة، فأنطلق إليك!
تحملني إلى سماواتك، وتدخل بي إلى أحضان أبيك السماوي!
لا تقدر أبواب الهاوية أن تحبس نفسي،
ولا متاريس الجحيم أن تقف أمامك!
أنت محرر نفسي القدير!
* من يشعر بمرارة نفسي سواك،
يا من بإرادتك اجتزت موت الصليب،
وإذ تطلَّعت إلى ما بلغت أنا إليه،
صرخت قائلًا: نفسي حزينة جدَا حتى الموت"!
إنك لم تخف الموت الذي بإرادتك اقتحمته،
لكنك حزين على النفوس الساقطة،
التي ترفض أن تقبل القيامة بك من موتها!
* أتطلع إلى أيام القدم، فتمتلئ نفسي من بهاء حبك.
أعمالك تشهد لقدرة خطة خلاصك!
أنت هو مخلص العالم العجيب:
أنت هو معين من ليس له معين،
ورجاء الذين يلتصقون بك.
وحدك قادر أن تقيم من موت الخطية،
وتدخل بي إلى شركة الأمجاد السماوية!
أسجد عند قدميك، وأبسط إليك يديّ.
ماذا أطلب سوى أن ترتوي نفسي من مياه حبك؟!
نفسي أرض يابسة ظمآنة إليك!
صليبك يحوِّلها إلى فردوس مثمر ومفرح!
تمطر عليها بمياه روحك القدوس،
فتحمل أعماقي ثمر الروح السماوي،
وتجدد على الدوام أعمالي،
فأسترد الصورة الإلهية المفقودة، وأنعم بغنى نعمتك الفائقة!
* أعترف لك أنني في غباوتي سقطت في الكبرياء.
ظننت أنني قادر أن أشبع بذاتي.
حجبت وجهك عني لأدرك حماقتي.
الآن نفسي كأرض يابسة،
تحتاج أعماقي أن ترتوي منك.
أسرع إليّ وليروي روحك القدوس نفسي!
أسرع إليّ، فإني في خطر الموت،
فإنه لا حياة لي إلا بالالتصاق بك!
* أصرخ إليك لكي تعلم ذاتك لي.
أنت هو الطريق، تحملني فيك، فأسير إليك.
ترفعني إليك، وتدخل بي إلى أحضانك.
لقد هربت منك، فحُرمت من وجهك.
الآن أهرب إليك، فأتمتع بالحياة!
التجئ إليك، فأنت ناصري من إبليس وكل قواته!
* أصرخ إلي، فيقودني روحك القدوس،
يهديني إلى العمل بإرادتك المقدسة،
وأسلك في طريق مستوية بعيدة عن المخاطر.
يسكن في أعماقي، ويطير بي كما إلى السماء.
لا تتعثر قدمي في فخاخ العالم،
ولا تنحرف نفسي يمينَا أو يسارًا عن الشركة معك!
يفتح بصيرتي، فأنمو في معرفة وصاياك.
وأعمل حسب مسرَّتك الإلهية.
يجدد مثل النسر شبابي،
يسير بنا ومعنا في الطريق الإلهي.
يحفظنا ويعيننا ويحررنا ويحكِّمنا!
* أصرخ إليك، وليس لي ما أقدمه لك.
اسمك القدوس يشفع فيَّ،
من أجله تقيمني كما من الموت يا أيها القيامة!
ببِّرك تخرج نفوسنا من الضيق،
برحمتك تبدد مؤامرات إبليس وكل أعماله.
تحررني من العبودية له،
فأمارس البنوة لأبيك السماوي،
وأتمتع بمجد البنين,
بك تؤهلنا للبنوة،
وبك ننعم بعربون السماء، ونحن بعد في الجسد.
وبك نرث الأمجاد التي تعدَّها لنا.