كارل ماركس (1818-1883م.)
س10: كيف تأثر كارل ماركس بجذوره اليهودية، والفيلسوف اليهودي "موسى هس"، و"فويرباخ"، و"داروين"، ففقد إيمانه، ولم يخفي إلحاده؟
ج: وُلِد " كارل ماركس " سنة 1818م من أبوين يهوديين في مقاطعة الراين ألمانيا، وعاش في أسرة فقيرة مُعدمة تعاني مثل غيرها من سخرة الأقطاعيين والرأسماليين. كما عانت الأسرة من الاضطهاد الواقع على اليهود والازدراء بهم وتحقيرهم من قِبل الشعب الألماني، وذلك بسبب الصراع بين السامية (اليهود أبناء سام) والآرية (الجنس الألماني) ولذلك اعتنقت هذه الأسرة المسيحية بينما كان كارل في السادسة من عمره، وطبعًا لم يكن هذا محبةً في المسيحية، إنما كان هروبًا من الاضطهاد الواقع على اليهود، وعاش ماركس في ظروف صعبة يعاني من شظف العيش، وظل هكذا حتى أنه في ديسمبر 1852م كتب إلى صديقه " كلوس " يقول له " أنني لست أفضل حالًا من سجين في بيته. ذلك لأنني لا أمتلك البنطلون الذي يستر ساقيَّ، ولا الحذاء الذي يكسو قدميَّ. وأسرتي على شفا الإفلاس والفاقة" (1).
والأمر العجيب أن ماركس كتب في فجر حياته كتابًا باسم " إتحاد المؤمن بالمسيح " قال فيه " أن الإتحاد بالمسيح يعطينا السمو في الباطن، والتعزية في الأحزان، والثقة الهادئة، وتفتح القلب نحو أخوتنا، وكل ما هو سامٍ ونبيل لأجل مطامعنا وأمجادنا، بل من أجل المسيح" (2) وكتب في أحد كتبه " أن الله قد أعطى لبني البشر هدفًا مجيدًا مباركًا: الرقي بالإنسانية والسمو بالنفس" (3) وقال أيضًا في كتابه "رأس المال": "بالنسبة لمجتمع نظيرنا، أعتقد أن المسيحية بعقيدتها عن الإنسان المجرد هي أنسب صورة للديانات جمعاء" (4) ولكن ماركس ظن أن الله يعيش في برج مشيَّد عالٍ لا يبالي بالفقراء المطحونين، وعندما التقى بالفيلسوف اليهودي "موسى هس" أفسد ذهنه، وسقاه السم في العسل، وأطعمه السم في الدسم، وزرع في قلبه كراهية الله والدين، حتى قال كارل ماركس " أن المبادئ المسيحية تبشر بضرورة وجود طبقة مسيطرة وطبقات مظلومة، وتكتفي بالتميُّز للقوي، بأن تكون الأولى محسنة للثانية. إن المبادئ الاجتماعية المسيحية تجعل من السماء التعويض من كل المخازي، وتبرر بذلك إستبقاؤهم على الأرض" (5).
التحق ماركس بجامعة برلين، وقرأ مؤلفات "جورج هيجل" صاحب الفلسفة المثالية الألمانية، الذي جعل الدول أولًا ثم الفرد ثانية، فقد أراد هيجل أن تكون الدولة متألّهة بينما الشعب هزيلًا بلا كرامة ولا سيادة، مما دعى ماركس لمهاجمة فلسفة هيجل، ويقول "بولس سلامة": "وكأن ماركس يقول لهيجل، أما إذا شئت الحرية فأعمد إلى الإنسان الواقعي المركَّب من لحم ودم، الذي يجوع ويعطش ويهوى ويتناسل ويخترع ويفكر وأفتح له باب الحرية قائلًا {تحرَّر أيها الإنسان، فليس الدين وحيًّا إلهيًّا، إنما أنت سيَّجت به على نفسك.. وليست الملكية الخاصة هدية منزَّلة من السماء، بل صنع يديك وسبب بلائك} بمثل هذه الضربات قوض ماركس الديالكتيكية المثالية" (6) وأيضًا تأثر كارل ماركس بأفكار " لودفيج فويرباخ" (1804-1872م) وهو من أتباع اليسار الهيجلي، وقال أن الله من صنع الإنسان، أي أن الإنسان هو الذي أبتدع فكرة الله، فالتقط ماركس هذه الفكرة وبنى عليها، وقال ما دام الإنسان هو الذي أبتدع فكرة وجود الله، إذًا جميع الأنظمة الدينية والاجتماعية هي من وضع الإنسان، وبالتالي فالإنسان يستطيع أن يُبدّلها ويزيد عليها أو ينتقص منها، وهكذا ألقى فويرباخ بذور الإلحاد، وجاء ماركس ليرويها ويقطف ثمارها المرة، وهكذا ارتبط كارل ماركس ارتباطا وثيقًا بهذا الفيلسوف المُلحد.
كما استهوت ماركس " نظرية التطور " التي تُنكر الله الخالق، ووجد ضالته المنشودة في كتاب " أصل الأنواع " لداروين حيث الصراع على الحياة والبقاء للأفضل، فأنكر ماركس الوحي الإلهي والأمور الميتافيزيقية من خلود وحياة أبدية، وأعتقد أن العقائد الدينية هي وليدة العقل وليس الوحي، وشيئًا فشيئًا لم يخفِ ماركس إلحاده وازدرائه بالدين، واعتقاده أن الدين يُغيّب الشعوب عن الواقع، وقال مقولته الشهيرة أن " الدين هو أفيون الشعوب " وعندما أصدر كتابه الشهير " رأس المال " أهداه إلى " داروين " قائلًا " من محب مخلص لداروين " وأعتبر " بليخانوف " مؤسس الشيوعية الروسية أن الماركسية تعد التطبيق العملي للدروانية، التي تنادي بالبقاء للأصلح، ويقول "الدكتور كمال شرقاوي": "لقد عرف ماركس ولينين ما في افتراضات داروين من اتجاه نحو المادية والإلحاد، ولم يكن ثمة حد لإعجابهما بداروين وأفكاره، فشيَّدوا متحفًا في قلب موسكو للداروينية وتمجيد داروين، ولكي تكون الخطة مُحكمة لانطلاق الماركسية على أساس نظرية داروين.، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. فقد خطط ماركس ولينين لاستخدام هكسلي في ترويج أفكار نظرية داورين، وكان (هكسلي) في ذلك مستميتًا.. من هنا كانت أفكار داروين عونًا ومددًا لترسيخ المادية والإلحاد في المواجهة التي كانت دائرة بين العلم والدين" (7).
س11: كيف تأثر ماركس بالحلم اليهودي في فردوس أرضي؟ وكيف قاده هذا إلى صراع الطبقات، وفقدان السعادة؟
ج: عاش ماركس مهمومًا جدًا برغيف العيش ومشكلات المجتمع، والحلم الذي عاشه اليهود أجداده بمجيء المسيا صاحب الفردوس الأرضي والسيطرة على العالم، هذا الحلم عاش في قلب ماركس، فصار يحلم بفردوس أرضي يتحقق على أيدي العمال المطحونين المقهورين، وعندما أنشأ جريدة ثورية في مدينة كولوني تعرضت للمصادرة، وعندما لم يسمح لماركس بالإقامة في ألمانيا هجرها، ففي عام 1843م سافر إلى فرنسا لدراسة المذهب الاشتراكي، وفي عام 1848م شارك ماركس في أحداث الثورة التي اندلعت في فرنسا وألمانيا، وعندما لجأ إلى إنجلترا، عاش حياة البؤس والفقر والمرض، ومع ذلك لم يكف عن الكتابة بمكتبة المتحف البريطاني، وهو يعيش على حلم اندلاع الثورة الاجتماعية التي كرس لها حياته. وعندما التقى ماركس بصديق عمره " فريدريك إنجلز " الذي كان يشغل مديرًا لبعض مصانع مانشستر مدَّ له إنجلز يد العون وأنقذه من الفاقة وتعاطف معه، ولاسيما أن " إنجلز " كان قد زار المناطق الصناعية في مانشستر، وتطلع إلى مئات الألوف من العمال الذين يعيشون في أسوأ حالاتهم، فيسكنون في منازل ضيقة ومهدَّمة وقذرة، لا يحصلون حتى على الهواء النقي، فالهواء مشبَّع بالرطوبة وذرات الفحم، وحتى النساء يعملنَ وهن نصف عرايا ويُعاملنَ كمعاملة الدواب، والأطفال يكدون في العمل فيدخلون إلى المناجم لفتح وإغلاق فتحات التهوية البدائية، ويقومون بأعمال شاقة لا تتناسب مع عمرهم على الإطلاق مما يؤدي لارتفاع نسبة الوفيات فيهم إلى درجة كبيرة، والعمال لا يتقاضون إلاَّ أجرًا زهيدًا لا يكفيهم قوتهم اليومي مما ترك أثرًا سيئًا للغاية في نفس إنجلز، وزاد تعاطفه مع كارل ماركس (راجع فريدريك إنجلز - ترجمة ماهر نسيم - الماركسية ص 105).
وفي سنة 1849م قام " كارل ماركس" و"فريدريك إنجلز " بإصدار النداء المعروف باسم "المانيفتسو الشيوعي" وذيلاه بعبارة " يا عمال العالم أتحدوا " وانتقدا في هذا النداء النظام السائد بشدة، وعرضا لحالة الفقر والقهر التي يعيشها العمال في كل مكان، ومن هنا بدأت الأفكار الشيوعية تنتشر على أنها نصيرة العمال المطحونين، وقسم ماركس المجتمعات إلى طبقة العمال الكادحة (البروليتاربا) وطبقة أصحاب العمل والإنتاج (البورجوازية) وأتهم البورجوازية بالطغيان، وحفز طبقة البروليتاريا على السعي نحو المجتمع المثالي الذي يتساوى فيه الجميع، وتصير وسائل الإنتاج ملكًا للجميع، وتنتهي الملكية الفردية والنظام الملكي، وصوَّر ماركس المجتمع المثالي الذي يسعى إليه، بأنه مجتمع يرتفع فيه مستوى المعيشة، ويعيش الكل متحررين من البطالة والفقر والجهل، وتختفي الرغبات الأنانية وتتحول إلى مشاعر جماعية، ونادى ماركس بالاشتراكية، وفي سنة 1867 م. أصدر أهم كتبه وهو "رأس المال" حيث تعرض للنظام الرأسمالي الذي يجبر العمال وخاصة النساء والأطفال على العمل لمدة 12 ساعة يومًا، وهكذا استطاع ماركس أن يحرك العمال هنا وهناك ليستردوا حقوقهم الضائعة ويلتمسوا مستقبلًا أفضل، وظل ماركس يكيل اللطمات للنظام الرأسمالي الذي شاخ وهرم، وبذلك أرسى مبدأ صراع الطبقات.
وكان "ماركس" قد تزوج، وظل وفيًا لزوجته، ولكن في ظل الصراع الذي عاش فيه، بعيدًا عن الله، لم يذق طعم السعادة، وهذا ما نراه في قصيدته " نافخ المزمار " حيث يقول "أن أبخرة الجحيم تتصاعد وتلف رأسي حتى أُجن ويقسى قلبي.. أنظر إلى هذا السيف.. إنه لرئيس سلطان الظلمة وقد باعه لي" (8) وفي قصيدته " أولانيم " يقول "لقد إنتهيتُ.. خربتُ.. ضعفتُ.. وموعدي إلى الانتهاء. ها ساعتي وقت نهايتها.. ومسكني قد تهاوى إلى حطام سريع.. سوف أحتضن الأبدية إلى صدري. وأزمجر باللعنات الرهيبة: أيتها الأبدية أنت مصدر رعبنا الأبدي، أنت الموت الذي لا يوصف.. الهلاك الذي لا يُقاس.. ونحن إلاَّ ساعات آلية عمياء.. لا هدف لنا إلاَّ الانتماء للأحداث ثم الهلاك" (9).
وإن كانت مثالية النظام الأرستقراطي قد أهملت رغيف العيش وقهرت العمال، فإن الماركسية اهتمت برغيف العيش، ولكنها دمرت علاقة الإنسان مع الله، ويقول "بولس سلامة": "لقد أخطأت المثالية فجاوزت حدها وأهملت الرغيف، وكذلك الماركسية فأخذت الرغيف وتركت الله نكاية بالمثالية، وأذابت الإنسان في الاشتراكية. لقد زعم هيجل أن الفكرة أو المثال هي القمة، وحسبت الماركسية أن الاشتراكية هي القمة.. الحقيقة هي الوسط، فلو كان الإنسان ملاكًا لاستغنى عن الرغيف، ولو كان حيوانًا لاكتفى بالرغيف، ولكنه إنسان رجله في التراب ورأسه في السحاب"