كيف يأمر الله يشوع بذبح الأطفال والنساء والشيوخ، وحرق المدن والديار، وقتل الحيوانات؟ أم أن تدمير المدن كان رغبةً من يشوع وهو جعلها رغبة يهوه؟
وذكر النُقَّاد أمثلة على هذه القسوة:
أ - في اقتحام أريحا " وحرَّموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة من طفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف.. وأحرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها" (يش 6: 21، 24).
ب- عند اقتحام عاي " ودخلوا المدينة وأخذوها وأسرعوا وأحرقوا المدينة بالنار.. فكان جميع الذين سقطوا في ذلك اليوم من رجال ونساء أثنى عشر ألفًا جميع أهل عاي. ويشوع لم يرَّد يده بالمزراق حتى حرَّم جميع سكان عاي.. وأحرق يشوع عاي وجعلها تلًا أبديًّا خرابًا إلى هذا اليوم" (يش 8: 19 - 28).
جـ- في سفر يشوع تتكرَّر عبارة (الضرب بحد السيف وتحريم كل نفس حتى لم يبقَ شارد) بمعنى أو بآخر وذلك في اقتحام مقيدة، ولبنة، ولخيش، وعجلون، وحبرون، ودبير، وكل أرض الجبل والجنوب والسهل والسفوح (راجع يش 10: 28، 30، 32، 35، 37، 38، 39، 40).
د - في اقتحام حاصور " ضربوا كل نفس بحد السيف. حرَّموهم ولم تبقَ نسمة. وأُحرق حاصور بالنار. فأخذ يشوع كل مدن أولئك الملوك وجميع ملوكها وضربهم بحد السيف. حرَّمهم كما أمر موسى عبد الرب" (يش 11: 11، 12)(1).
ويقول " دكتور مصطفى محمود": "وجعلوا من الرب طاغوتًا دمويًا يستبيح لهم جميع الأمم"(2).
ويقول " دكتور محمد عمارة: "وجدنا الأوامر الإلهيَّة أن تدعوهم إلى تدمير كل الأغيار من البشر إلى الشجر إلى الحجر، ومن الحيوان إلى الطبيعة، ومن الكبار إلى الأطفال، ومن الرجال إلى النساء"(3).
ويقول " علاء أبو بكر": "كيف تصف يانصراني الرب الخالق لأولادك؟ فإن قلت له أنه إله المحبة.. هل لم يكن إله للمحبة عندما أوحى إلى موسى والأنبياء أن يبيدوا الأمم؟ وأن يقتلوا الأطفال؟ وأن يقتلوا الرضع؟ وأن يبيدوا النساء؟ فكيف يكون إله للمحبة وهو يأمر بالقتل والحرب والإبادة؟! أم هل تغيرت صورته وتجمل وعمل (نيو لوك) ليعجب عبيده"(4).
ويقول " د. سيد القمني": "وفي رحلة الخروج أو الهروب.. يسجل اليهود في توراتهم أبشع صور الوحشية، فيأتون على كل ما يقابلهم في الطريق ذبحًا وتحريقًا، ولم يسلم من أذاهم لا الإنسان ولا الحيوان ولا حتى نبات الأرض، بعد أن قرَّرته الشريعة الربانية وأباحته إباحة مُطلقة، وأسفر الرب العبراني آنذاك عن هويته بوضوح فأعلن أنه من الآن {الرب رجل الحرب} (خر 15: 3).
{احرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار} (عد 31: 10)
{اقتلوا كل ذكر من الأطفال وكل امرأة} (عد 31: 17)
{احرقوا حتى بنيهم وبناتهم بالنار} (تث 12: 31)
{فضربًا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف وتحرّمها بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف. تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها وتحرق بالنار المدينة وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك} (تث 13: 15، 16)
أما شريعة الحرب، وفق الخطة المُثلى التي كتبها رب اليهود بأصبعه على الألواح، التي نفذها (يشوع) خليفة (موسى) على القيادة، بدقة وإخلاص، تحسده عليها الضواري من كواسر الوحش..
وأما مدن كنعان الفلسطينية، فلها في موعظة الرب الحسنة شرعة أخرى، فهو يأمر قائلًا {وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا فلا تستبق منها نسمة ما} (تث 20: 10 - 16)..
وقد أكد صدق هذه المفاخر التوراتية ذلك الحجر الذي أُكتشف أخيرًا في " نوميديا " ضمن آثار قرطاجنة القديمة، شمال أفريقيا، وعليه كتابة تقول {أننا خرجنا من ديارنا لننجو بأنفسنا من قاطع الطريق يشوع بن نون، بعد أن قتل منا في عشية واحدة عشرة آلاف إنسان}"(5).
كما يقول " د. سيد القمني": "عمد (ندرة اليازجي) إلى إبراز الفروق الجوهرية بين إله موسى التوراتي المُرعب الدراكولي، وبين إله المحبة والسلام مسيح الأناجيل"(6).
ويعلق" د. محمد بيومي " على قول الكتاب بأن الله يحارب عن شعبه إسرائيل فيقول عن الله " وهو مستعد أن يرتكب في سبيل انتصار شعبه من ضروب الوحشية وما تشمئز منه نفوسنا.. ويأمر شعبه بأن يرتكبوا هم هذه الوحشية، فهو يذبح أممًا بأكملها راضيًا مسرورًا عن عمله"(7).
ويقول " زينون كوسيدوفسكي": "فيهوه المُتحلي بمعالم وملامح إله الحرب القاسي الذي لا يرحم، يأمر أتباعه ألاَّ يرأفوا بالأطفال ولا بالنساء ولا حتى بالحيوانات. فحسب القَسَم الحربي الذي بين تعاليم وقوانين سفر التثنية، لم يترك الإسرائيليون حجرًا على حجر في المدن التي أحتلوها حتى الغنائم النفيسة كان مصيرها الحرق بالنار، وإذا ما سولت نفس أحد الإسرائيلين له بمخالفة القانون الإلهي وأخذ جزء من الغنيمة، فإن مصير ذلك الشخص الحرق أيضًا"(8).
ويعلق " ناجح المعموري " على إبادة يشوع لأهل عاي البالغ عددهم إثنى عشر ألفًا فيقول: "الصورة واضحة للبربرية اليشوعية، وهي تجسيد لقرار الرب يهوه، وحقق بها ومن خلالها يشوع إثارة الخوف والرعب في نفوس سكان المدينة الكنعانية، وكان لأفعال الإبادة والحرق التي أجراها يشوع في أريحا وعاي تأثيرها النفسي الهائل على السكان"(9).
ويقول " ناجح المعموري": "وفي كل الإجتياحات كان الرب يهوه، هو الذي يُسلّم الممالك إلى أيدي الإسرائيليين.. هذا الحجم من الإبادة الجماعية والذي تعترف به التوراة يقدم تعطش العبران اليهود إلى القتل الجماعي، حيث كان يعني تحقق الانتصار لهم على واحدة من الممالك قتل جميع سكانها رجالًا ونساء. والسؤال هل تناسى العبران هذه المجازر وظلوا يتذكرون الهولوكست"(10).
ويقول " أبكار السقاف": "أن بيشوع، وليس إلاَّ يشوع، وقد أمتد هذا المد الإسرائيلي سعيرًا فأحرق بالنار المدن الكنعانية الواحدة تلو الأخرى، وقتل أهلها برمتهم من رجال ونساء وأطفال بل وفي حُمى لا واعية أنطلق هذا المد مجنونًا فلم يسلم من التدمير من يده شيء حتى السائمة!.. لم يستبق يشوع من البهائم واحدة! البقر والغنم والحمير أحرقها يشوع أحياء! كل ما أستولى عليه يشوع دمره تدميرًا وقتله قتلًا وأحرقه حيًا! أباد يشوع كل شيء باستثناء المعادن وسبائك الفضة والذهب"(11).
ويقول " اللورد بولينغبروك هنري سانت جورج" (1678 - 1751م) الفيلسوف الإنجليزي الذي هاجم التوراة وأعتبرها أساطير، ولم يعترف بالسيد المسيح كشخصية تاريخية " هل يُعقل أن يكون إله أبًا للناس كلهم، وفي الوقت نفسه يقود ذلك البربري المتوحش (يشوع) ويرافقه؟ إن أكثر آكلي لحوم البشر دموية يخجل أن يكون شبيهًا لإبن نون! يا عظمة الله! لقد أتى من عمق الصحراء ليبيد مدينة غريبة ويقتل سكانها كلهم أو يذبح حيواناتها كلها ثم يحرق منازلها بما فيها، بينما هو لا يملك سقفًا يأوي تحته، ولم يرحم سوى قحبة نتنة خانت وطنها، وأستحقت أن تُسام مرَّ العذاب (يقصد راحاب).. وعلى أي حال، لا يستطيع كتابة مثل هذه الأشياء سوى سكير نذل، ولا يصدقها سوى سكير أحمق نهش الغباء ما في جمجمته"(12).
كما يرى " ناجح المعموري " أن هذه الحروب كانت تعبر عن رغبة يشوع ولكنه نسبها لله فيقول " هي رغبة الزعيم أو القائد، لكن المُحرّر يجعلها رغبة يهوه، فالرغبات البدائية التي كانت تغلي في صدورهم حوَّلوها إلى نبؤات.. وسخَّروا الخالق الذي جعلوه طوع إرادتهم ورهن إشارتهم إلى تحقيق هذه الرغبات.. فرغبتهم في قهر الأمم القوية وهم الضعفاء المستضعفون، والتغلب على الأمم الحضارية وهم البدائيون المتخلفون، وإستملاك يهوه لنصرتهم وشد أزرهم في الحروب، جعلتهم ينسبون إلى إلههم يهوه وعده المشهور بتمليكهم أرض كنعان. هذا الوعد الذي يتكرَّر بصورة مختلفة، وعلى أفواه أنبياء عديدين، لتأكيده وحفره في صدورهم، لا يزال مادامت في صدورهم أنفاس الحياة"(13).
ويقول " ريتشارد دوكنز": "أن تصفية الشعوب التي بدأت في عهد موسى أثمرت دمويتها في كتاب يشوع، كتاب ملحوظ في مذابحه المتعطشة للدم والخوف من الغرباء الذين يتوجب ذبحهم.. وقصة يشوع وتدميره لأريحا، وإحتلال أرض الميعاد بشكل عام، لا يمكن تمييزها عن غزو هتلر لبولونيا، أو مذبحة صدام حسين بالأكراد والعرب"(14)(15).
ج: سبق الإجابة على الانتقادات اللاذعة التي وُجهت ضد حروب بني إسرائيل(16) ولكن نظرًا لأهمية هذا الموضوع من جهة الرد على النُقَّاد، ومن جهة أخرى ليفهم بعض المسيحيين الذين يُعثَرون من هذه الحروب، لذلك قرَّرنا أن نعيد طرح الموضوع على بساط البحث مرة أخرى بصورة أوسع، وذلك من خلال المحاور الثلاث الآتية:
أولًا: الرد السريع المُختصر على أهم الإفتراءات السابقة.
ثانيًا: الشر يأكل نفسه.
ثالثًا: الغزوات في الإسلام.
أولًا: الرد السريع المختصر على أهم الإفتراءات السابقة:
1- الصورة البربرية الوحشية التي تحدث عنها الدكتور القمني، وكأن اليهود فقط قد أنفردوا بها، وكأن المجتمعات الأخرى كانت أكثر إنسانية، هذه الصورة لا تمثل الحقيقة، لأن مثل هذه الحروب وتلك الممارسات البشعة كانت سمة العصر الذي عاش فيه موسى ويشوع، وحتى في الحروب التي نشبت بين اليهود وبعضهم البعض فقد برزت فيها تلك الصورة البشعة وسلك اليهود تجاه بعضهم البعض حروب الإبادة والحرق وقتل الحيوانات، وخير شاهد على ذلك إبادة بني إسرائيل لسبط بنيامين باستثناء 600 رجل (قض 20) وحرق مدنهم " ورجع رجال بني إسرائيل إلى بني بنيامين وضربوهم بحد السيف من المدينة بأسرها حتى البهائم حتى كل ما وُجد وأيضًا جميع المدن التي وُجدت أحرقوها بالنار" (قض 20: 48) وقتل يفتاح الجلعادي من سبط أفرايم 42 ألفًا وجميعهم من بني إسرائيل (قض 12: 6) وهكذا.. إذًا هذه الصورة البشعة كانت سمة حروب ذاك العصر، ولم ينفرد بها اليهود، وكل ما أنفرد به اليهود هو صدق كتابهم المقدَّس الذي سجل كل هذه الأمور بحلوها ومرها بكل صدق وأمانة، بدون مواربة ولا مجاملة.
2- لم تبح الشريعة الربانية القتل والإبادة إباحة مُطلقة، كما إدعى القمني، وجاءت الوصية واضحة وصريحة " لا تقتل" (خر 20: 13) إنما كانت هذه الحروب حالة استثنائية بهدف معاقبة الأشرار الذين توغلوا في الشرور والجرائم والآثام.
3- قال موسى عن الرب " الرب رجل الحرب" (خر 15: 3) لكيما يرفع من معنويات أولئك الذين خرجوا من توهم من تحت نير العبودية بعد أن تثقَّلوا بها لمئات السنين، وذلك بفضل القوة الإلهيَّة التي خلصتهم من العبودية، وشقت أمامهم البحر فعبروا للحرية وأغرقت فرعون وكل جنوده، وتلك القصة كاملة قد أقرها القرآن بالكامل. كما سبق الإجابة على تساؤل هل الرب رجل حروب (خر 15: 3) أم إله سلام (رو 15: 3)(17).
4- من الآيات التي ذكرها القمني يستشهد بها على قسوة اليهود وإلههم " أحرقوا حتى بنيهم وبناتهم بالنار" (تث 12: 31) وكأن اليهود هم الذين سيحرقون أبناء وبنات الكنعانيين، وهذا إفتراء وضد الحقيقة فهذه العبارة إستُقطِعت من سياقها لتوهم القارئ بقسوة إله اليهود، والحقيقة أن الله حذر شعبه من عبادة آلهة الأمم، فإن هؤلاء الأمم هم الذين قد أحرقوا أولادهم كذبائح بشرية لهذه الأصنام فجاء النص كالآتي " لا تعمل هكذا للرب إلهك لأنهم قد عملوا لآلهتهم كل رجس لدى الرب مما يكرهه إذ أحرقوا حتى بنيهم وبناتهم بالنار لآلهتهم" (تث 12: 31).
وأيضًا من الآيات التي أستشهد بها القمني على قسوة اليهود وإلههم، هي في الحقيقة لم تُكتب من أجل الأمم، إنما تخص اليهود أنفسهم، فمثلًا أوصى الله شعبه إن سُمِع أن سكان مدينة أرادوا أن يرتدوا عن عبادة الإله الحي إلى عبادة الأصنام، فعليهم تقديم النصح لسكان هذه المدينة، فإن قبلوا النصيحة نجوا من الإبادة، أما إن تمسكوا بشرورهم على سبيل أن هذه حرية شخصية، وبذلك صاروا عثرة لشعب الله، يحق عليهم الحكم الإلهي " فضربًا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف وتحرّمها بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف. تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها وتُحرق بالنار المدينة وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك فتكون تلًا إلى الأبد لا تُبنى بعد" (تث 13: 15، 16) ومن هنا يظهر الله القدوس الذي لا يحابي ولا يأخذ بالوجوه، إنما هو ضد الشر والدنس والنجاسة على طول الخط.
5- وصْف الدكتور القمني إله موسى التوراتي بأنه " إله مُرعب دراكولي " يختلف تمامًا عن إله المحبة والسلام ومسيح الأناجيل، وصف لا يصح ولا يليق. فلو قال عن إله التوراة أنه دراكولي فماذا يقول عن إله الغزوات في الإسلام؟!! وهل يوجد إله للتوراة وإله للمسيحية..؟! أليس من أبسط الأمور اللاهوتية هي الإقرار بوحدانية الله، فالله واحد لا شريك له سواء في العهد القديم أو العهد الجديد، منذ الأزل وإلى الأبد هو الله، ولا إله غيره، هو إله العهد القديم الذي أجرى سيف العدالة على الأمم التي تصاعد شرها إلى عنان السماء، وهو إله العهد الجديد الذي جاء بالنعمة والفداء والسلام، في العهد القديم لم يتخلَ قط عن رحمته ومحبته وحنانه، وفي العهد الجديد لم يتخلَ قط عن عدله ورفضه للشر، وقد أعلن ذلك مرارًا وتكرارًا، ولعل ما تخلفه الحروب والكوارث الطبيعية والأمراض والأوبئة خير شاهد على إعلان غضب الله على العالم الذي وُضع في الشرير. لقد خلَّفت الحرب العالمية الثانية وراءها ستون مليون قتيل(18).
6- الله القدوس يرفض رفضًا باتًا الخطية بجميع صورها، وبكل ما يتعلق ويرتبط بها، ولذلك أتخذ موقفًا حادًا أمام المدن التي تفاقم شرها مثل أريحا، فأمر بتحريم المدينة وكل ما فيها، أي قتل كل ذي جسد من إنسان وحيوان، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فتلك الحيوانات التي خدمت المعابد الوثنية وخدمت الأشرار أمر الله بإهلاكها تعبيرًا عن الصورة البشعة للخطية. ويقول " ف. ب. ماير " عن تحريم المدينة وكل ما فيها " لعل الله قصد بهذا الإجراء حفظ بني إسرائيل من التجربة التي كان لابد لهم من الوقوع فيها لو أنهم أطلقوا العنان لشهواتهم في غنائم المدينة. أما حرمانهم منها فكان القصد منه تقوية أخلاقهم وتهذيب إيمانهم"(19).
والحقيقة أن الصورة المؤلمة البشعة من قتل وحرب ودمار للإنسان والحيوان والبيئة لم يصنعها الله قط، إنما هي من ثمار الخطية، والله فقط أظهرها، وهو يقف هنا كقاضٍ عادل يوقع الجزاء بقدر الخطأ.
وجاء في معجم اللاهوت الكتابي " الحِرْم: حِرْم Anatheme أن الأصل السامي الذي يُشتق منه لفظ حِرْم، يعني " التنحية جانبًا" و"يحظر إستعماله الدنيوي".. إن إسرائيل.. يُوقع على الغنيمة حِرْمًا، أي أنه يزهد في أن يخص ذاته بالإنتفاع بها، ويتعهد بنذرٍ أن يكرّسها ليهوه (عد 21: 2 - 3، يش 6) ويترتب على هذا التكريس الإجهاز على الغنيمة إجهازًا تامًا، سواء كانت من الكائنات الحيَّة أو من الأشياء المادية على السواء، وعدم تنفيذ هذا التكريس يستوجب العقاب (1 صم 15) وكذلك إنتهاك حرمته يجلب الهزيمة (يش 7) ويبدو أن التطبيق في الحياة العملية، كان نادرًا للغاية. فمعظم المدن الكنعانية قد إحتلها إسرائيل إحتلالًا (يش 24: 13، قض 1: 27 - 35).. بل أن بعض تلك المدن قد أبرمت مع إسرائيل معاهدات، كجبعون (يش 9).."(20).
وجاء في دائرة المعارف الكتابية " حرَّم - محرَّم - حرام: وهي بنفس اللفظ في العبرية، وحرَّم الشيء جعله حرامًا، وهو نقيض الحلال. وهي في العبرية مشتقة من أصل يعني " الفرز " أو " الفصل " أو " القطع " وتستخدم في الكتاب المقدَّس أحيانًا بمعنى " قدَّس " أو " خصَّص " لغرض معين، فلا يجوز إستخدامه في غير ما خُصص له. {أما كل محرَّم يحرّمه إنسان للرب من كل ما له من الناس والبهائم ومن حقول ملكه فلا يُباع ولا يُفك. أن كل محرَّم هو قد أقداس للرب} (لا 27: 28).. وكان كل ما ينال من الطبيعة الفريدة للديانة اليهودية، ويغوي الشعب للانحراف عن طريق الرب يعتبر " مُحرَّمًا " مثل الأصنام (تث 7: 26) ومن يعبد الأصنام أو يذبح لها (خر 22: 20) وأهل المدن من الوثنيين (تث 13: 13 - 18) لذلك كانت مدن الكنعانيين الذين يعبدون البعل، مدنًا محرَّمة، فكان على إسرائيل القضاء عليها تمامًا بمن فيها وما فيها، حتى لا يتعلَّموا أن يعملوا جميع أرجاسهم ويخطئوا إلى الرب (تث 20: 16 - 18) وقد قدَّس يشوع ما أخذه من أريحا من الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد للرب. فجعلها في خزانة " بيت الرب" (يش 6: 24).
وكان من نصيب هارون {كل محرَّم في إسرائيل}(عد 18: 14، خر 44: 29) وقد أمر الرب شاول الملك: {الآن أذهب وأضرب عماليق وحرَّموا كل ما له ولا تعف عنهم بل أقتل رجلًا وامرأة. طفلًا ورضيعًا. بقرًا وغنمًا. حملًا وحمارًا} (1 صم 15: 13) ولكن {عفا شاول والشعب عن أجاج وعن خيار الغنم والبقر والثُّنيان والخراف..} (1 صم 15: 9) وبرَّر شاول هذا العصيان والتمرد على الرب بأن الشعب أخذ {من الغنيمة غنمًا وبقرًا أوائل الحرام لأجل الذبح للرب} (1 صم 15: 21) فكان جواب صموئيل الجازم: {هوذا الإستماع أفضل من الذبيحة. والإصغاء أفضل من شحم الكباش} (1 صم 15: 22) وقال الرب لآخاب ملك إسرائيل بعد أن عفا عن بنهدد ملك إبرام: {لأنك أفلتَّ من يدك رجلًا قد حرَّمته تكون نفسك بدل نفسه} (1 مل 20: 42)"(21).
ونذرْ الحرم عُرف منذ العصور القديمة، فالمدينة التي يصعب الإستيلاء عليها كان المقاتلون يقسمون بتحريمها، أي تدميرها بكل من فيها وما فيها، ويقول " الأب سهيل قاشا": "وهناك نذر " الحرم " أي: تقويض كل مدينة تسقط في يد العدو بدلًا من نهبها، فمن الغرابة كل الغرابة أن قبائل مُعدَمة تؤثر الحرمان مما غنمته على التلذذ والتنعم به. ولكن هذه الغرابة تزول متى عرفنا، بفضل الاكتشافات الحديثة أن " الحرم " تقليد طقسي دارج في كل مكان من عهدٍ لا يُعرَف بدؤه، وما وُجِد من آثار حريقة من أنقاض مدينة أريحا، ألاَّ يكون نتيجة تدمير المدينة على يد يشوع بن نون"(22)(23).
7- الذين كتبوا الأسفار المقدَّسة هم رجال الله القديسون مسوقين من الروح القدس، ولم يذكر أحد منهم غير الحقيقة، فالحكم بإبادة الأمم هو حكم إلهي، وقد إختار الله شعبه ليكون أداة لتنفيذ الحكم ليتعلَّم الدرس ولا يفعل الشر مثل هؤلاء فيتعرَّض لما تعرضوا له، ولذلك فقول ناجح المعموري بأن هذه الحروب كانت تعبير عن إرادة يشوع والكاتب جعلها رغبة لله، قول غير صحيح، ولا يجد له سندًا قط في الكتاب المقدَّس كله، فكل ما دُوّن في الكتاب هو صادق وأمين وصحيح، والكاتب لم يغير الحقيقة ولم يحد عنها قط، بل أن الأمر واضح وضوح الشمس، فإن الله يحذر ويحذر ويحذر ثم يُعاقب.
8- لماذا ينكر ناجح المعموري وغيره وعد الله لبني إسرائيل بأرض كنعان، مع أن القرآن قد أقرَّ هذه الحقيقة، ولكن هذه هي عادة النُقَّاد الأحادي النظرة فلا ينظرون إلاَّ في اتجاه واحد وهو الهجوم على الكتاب المقدَّس، حتى أنهم لا يدركون كثيرًا فيما هم يهاجمون الكتاب المقدَّس، فأنهم يهاجمون ما يدينون به بحكم عقيدتهم، فالله بسابق علمه كان يعلم ما ستؤول إليه شعوب كنعان من فساد، فوعد الله شعبه بامتلاك أراضيهم، وهذه حقيقة يعترف بها الجميع، يهود ومسيحيون ومسلمون:
- جاء في سورة إبراهيم " وقال الذين كفروا لرُسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن من ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين. ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعبد" (سورة إبراهيم 13، 14).
- وجاء في سورة الأعراف " قال موسى لقومه أستعينوا بالله واصبروا أن الأرض لله يوُرِثها من يشأ من عباده والعاقبة للمتقين. قالوا أُوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون" (سورة الأعراف 128، 129).
- وجاء في سورة المائدة " ياقوم أدخلوا الأرض المقدَّسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين. قالوا يا موسى فيها قومًا جبارين وإنَّا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإنَّا داخلون. قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما أدخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فأنكم غالبون فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قالوا يا موسى إنَّا لن ندخلها أبدًا ماداموا فيها فأذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا هنا قاعدون" (المائدة 21 - 24) فجاء الحكم الإلهي عليهم كما في التوراة " قال أنها محرَّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض" (سورة المائدة 26).
فهل تظن أيها الناقد أن بني إسرائيل سيمتلكون الأرض من أصحابها بطريقة وديَّة وحبيَّة دون صراع وحروب وقتال؟!!.. وهل تظن أيها الناقد أن أصحاب الأرض الكنعانيين سيتركون أرضهم لبني إسرائيل بنفس راضية وقلوب مطمئنة؟! وإن قلت أن هذا لا يدخل في نطاق المعقول. إذًا أنت لا تقر القرآن عندما أشار بطريقة غير مباشرة لهذا الصراع وتلك الحروب لكيما يمتلك بنو إسرائيل الأرض تنفيذًا للمشيئة الإلهيَّة.
ثانيًا: الشر يأكل نفسه:
1- الله كامل في ذاته متكامل في صفاته، كامل في رحمته وكامل في عدله، هو محب وحنون وشفوق وهو أيضًا قاضٍ عادل يجازي كل واحد بحسب أعماله ومخوف هو الوقوع في يديه. الله يطيل أناته جدًا جدًا ولكن لابد أن يقتصَّ من الأشرار، فذلك من مقتضيات عدله، فهو يُمهِل ولا يُهمِل، يطيل أناته ولكن لكل تصرف حسابه.. تصوَّر لو أن القضاة في مدينة كبيرة ميَّعوا الأمور وغلَّبوا الرحمة على العدل، فكفوا عن توقيع أية عقوبات على المخالفين واللصوص والمجرمين وتجار المخدرات، تُرى هل تَرى هذه المدينة أمنًا ولا أمانًا؟! هل يأمن سكانها على أنفسهم وعلى أسرهم وعلى ممتلكاتهم..؟! قطعًا لا، بل ستسود شريعة الغاب، حتى يعود القضاة إلى قاعدة العدل والإستقامة، وإما ستضمحل هذه المدينة العظيمة وتزول.
2- توغَّلت شعوب كنعان في الشر، حتى صعدت شرورها إلى عنان السماء، وأطال الله آناته عليها كثيرًا كثيرًا ولمئات السنين، وقد أخبر الله إبراهيم بأن نسله سيتغرب لمدة أربعمائة عام.. لماذا؟ " لأن ذنب الأموريين ليس إلى الآن كاملًا" (تك 15: 16) ومرت أربعمائة سنة وشر هذه الشعوب في تصاعد مستمر لا يقف عند حد، فقدموا أطفالهم ذبائح بشرية للإله مُولك والإلهة عشتاروت، ومارست كاهنات المعابد الزنا والعهارة كطقس من طقوس العبادة الدنسة، وتوغَّلوا في السحر والعرافة والاتصال بالأرواح الشريرة، فكان لابد أن يسري عليهم الحكم الإلهي " لا تدَع ساحرة تعيش" (خر 22: 18)..
وجاء يشوع يحمل سيف العدل الإلهي، جاء يحمل الأمر الإلهي " حرّموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة من طفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف.. وأحرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها" (يش 6: 21، 24) ونفذ يشوع وشعبه الأمر الإلهي " ضربوا كل نفس بها بحد السيف. حرّموهم. ولم تبقَ نسمة. وأحرق حاصور بالنار. فأخذ يشوع كل مدن أولئك الملوك وجميع ملوكها وضربهم بحد السيف. حرَّموهم كما أمر موسى عبد الرب" (يش 11: 11، 12).. حقًا ما أبشع هذه الصورة؟!
سيف ودماء.. حريق ونار.. خراب ودمار.. سيف لا يفرق بين رجل وامرأة، شيخ وطفل.. سيف تسلط على الناس والحيوان.. أريحا تحترق بكل من فيها وبكل ما فيها، حتى الثوب الشنعاري الذي أراد أن يفلت من الحريق، إجتذب معه من أمسك به مع أولاده ومواشيه واحترق الجميع.. عاي تحترق بكل ما فيها.. حاصور رأس ممالك الشمال تحترق.. ألسنة اللهب ترتفع هنا وهناك، وليس من يخمدها، لأن الموت ساد وتسلط، وأصبح سيد الموقف وماتت الحياة.. ما أرعب هذا المنظر..؟! وهنا لابد أن نشير لأمرين؟
أ - هذه جزئية من الصورة وليست كل الصورة: فأريد أن أضع بجوار أريحا وعاي وحاصور المدن الثلاث التي أحرقها يشوع، مياه الطوفان التي فاضت، لا لتطفئ تلك الحرائق المشتعلة، إنما لتقضي على الحياة في العالم، كل العالم، حتى أنه لم يعد هناك كائن حي على وجه البسيطة (باستثناء نوح وأسرته) لا إنسان ولا حيوان ولا حتى طير في السماء، فقد أكتسح الطوفان كل شيء.. حروب يشوع كانت قاصرة على منطقة صغيرة من العالم، ومن قُتل وأُبيد عدد قليل، فكان التركيز على الجيوش والملوك، أما الشعوب فظلت قائمة تنمو وتمتد، وتعود فتسيطر على الأرض وتحكم قبضتها على شعب الله. أما الطوفان فقد نجح في إعادة الأرض إلى حالتها الأولى مغمورة بالمياه، كجنين في بطن أمه، وكأن الله لم يفصل بعد اليابسة عن الماء.. أليس ما خلَّفه الطوفان لهو أقسى مئات المرات من حروب يشوع؟!
ولا أحد يقدر أن ينكر هذا الحدث، لا اليهودي لأن جاء ذكره بالتفصيل في التوراة، ولا المسيحي لأن جاء ذكره في الكتاب بعهديه، ولا المسلم لأن القرآن أقرّه في سوُّر القمر 11، 12، والأعراف 64، ويونس 63، والعنكبوت 140. إلخ وليست أديان التوحيد فقط التي ذكرت ذاك الحدث المآسوي، إنما العلم أيضًا يحكي لنا قصة الطوفان الشامل، ولم يحتج ولم يعترض أحد من النُقَّاد.. فلماذا يعترضون على حروب يشوع؟!
وأريد أيضًا أن أضع بجوار أريحا وعاي وحاصور، تلك النيران التي إنحدرت من السماء، ربما كانت حجارة ملتهبة لبركان ثائر، فقلبت سدوم وعمورة بكل من فيهما، وبكل ما فيهما، ولا أحد يقدر أن يُنكر حقيقة الحدث، فقد جاء ذكره في الكتاب المقدَّس بعهديه، وذكره القرآن في سوُّر هود 182، والعنكبوت 34، والأعراف 840. ولا يحتج على العدل الإلهي، ولا يدافع عن هؤلاء الأشرار الذين أرادوا إغتصاب الملاكين، إلاَّ محبو الرذيلة.
ب- من الذي صنع هذه الصورة؟.. لم يصنع هذه الصورة الله ولا الملائكة، إنما هي من صنع الإنسان الذي توَّغل في الشر.. إنها صورة بشاعة الخطية.. صورة الشر يأكل نفسه.. الشر صورة مياه الطوفان.. صورة نار سدوم.. صورة سيف يشوع.. الحروب والأوبئة والكوارث.
عجبًا.. ما بال النُقَّاد يصرفون الكاميرات عن مسرح الجريمة ويركزونها على لحظات القصاص؟!
ما بالهم يصرفون الأنظار عن الظلم والقسوة، الشر والفساد، الانحطاط الخُلقي، الاتصال بالأرواح الشريرة، عبادات الأصنام والأوثان وخلف كل وثن شيطان، تقديم الأطفال ذبائح للأصنام، تلك الظلمة التي صنعها الإنسان فلفَّته وطوته وغشَت حياته.. يصرفون الأنظار عن كل هذا ويركزونها على لحظات القصاص ووفاء العدل الإلهي؟!
تصوَّروا يا أصدقائي مجموعة من الأشقياء المتشردين المجرمين هجموا على بيوت المسالمين، فأصابوا من أصابوا، وأغتصبوا من أغتصبوا، وذبحوا من ذبحوا، وأحرقوا ما أحرقوا، وعندما عُلقوا على المشانق جاء من يلطم الخدود ويزرف الدموع السخينة، ويتهم القضاء بالقسوة وعدم الرحمة، وهل كان في قلوب هؤلاء المجرمين رحمة ..؟! إن هؤلاء النُقَّاد يركزون الكاميرات والمشاعر والأحاسيس على لحظات الإعدام، ويغضون الأبصار عن مسرح الجريمة تمامًا.. تُرى هل هؤلاء النُقَّاد على حق، أم يجب أن نحذرهم ولا نُسوّق لبضائعهم الفاسدة؟.. إننا نتمسك بالعهد القديم ونحب إله العهد القديم لأنه هو الله العادل الرحيم، ولن نرفض يشوع رجل الله الذي كان رمزًا ليسوع حتى في إسمه.
3- وصلت شعوب كنعان إلى مرحلة اللاعودة، ولم يكن هناك أي رجاء لتوبة هذه الشعوب، ولو كان لديها أدنى استعداد للتوبة لأرسل الله إليها يونانًا (أي يونان) لينقذها من الهلاك والدمار، ولو في إحدى هذه المدن عشرة أبرار لنجت من الهلاك والدمار.. أه لو كان لأريحا قلب راحاب ما كانت أحترقت بالكامل، إنما وصلت هذه الشعوب إلى مرحلة اللاعودة، وأستنفذت المراحم الإلهيَّة، وكان لابد أن يجوز فيها سيف العدل الإلهي وتُحرَّم، وإن كانت نغمة التحريم (الإبادة الشاملة) ذات وقع ثقيل على الأذن المسيحية التي تعودت على الصفح والمغفرة (مت 5: 43 - 48)، لكننا لا نستطيع قط أن نبطل القانون الخالد أن ما يزرعه الإنسان لابد أن يحصده.
ويقول " ف. ب. ماير": "هنالك عدة أسباب تبين لماذا كان يجب أن يطرد الله الشعوب السبعة التي سكنت كنعان. وأهم هذه الأسباب ذلك الذي نتبينه من الحديث الرائع الذي دار بين الرب وإبراهيم، أب الجنس المختار، قبل ذلك بأربعة أجيال، ألاَّ وهو أن ذنب الأموريين الآن قد كمل (تك 15: 16).
أما أولًا فإن شعوب كنعان قد سلَّموا أنفسهم لأحط أنواع الرذيلة. بعد أن ذكر موسى بعض الرجاسات التي لا يليق ذكرها بين شعب الله المُختار، تحدث إليه، نيابة عن الله قائلًا {بكل هذه لا تتنجسوا لأنه بكل هذه قد تنجَّس الشعوب الذين أنا طاردهم من أمامكم. فتنجست الأرض فاجتزى ذنبها منها فتقذف الأرض سكانها} (لا 18: 24، 25). فهلاك الشعب بسيف إسرائيل لم يكن إلاَّ تعجيل النتائج الطبيعية لرذائلهم القبيحة، والأسباب التي أستلزمت طوفان المياه أستلزمت هذا الطوفان من الدماء. وإذ كانت كنعان بؤرة فساد لم يكن ممكنًا إلاَّ أن تنفث سمومها في كل العالم لو لم تجز وسطها النيران المتأججة.
أما ثانيًا فإن الكنعانيين أنحدروا إلى هوة الاعتقاد بمخاطبة الأرواح Spiritualism وأتصلوا بشياطين الهواء، الأمر الذي كان مُحرَّمًا تحريمًا باتًا. قبيل دخول إسرائيل أرض كنعان قال لهم موسى {لا يوجد فيك من يعرف عرافة ولا عائف ولا متفائل ولا ساحر ولا من يرقى رقية ولا من يسأل جانًا أو تابعه ولا من يستشير الموتى. لأن كل من يفعل ذلك مكروه عند الرب. وبسبب هذه الأرجاس الرب إلهك طاردهم من أمامك} (تث 18: 10 - 13).. قال " بمبر " Pember: {كل هذه الأمور تعتبر تعديًّا لحدود الإنسانية التي وضعها الخالق. وهذه الفوضى غير الشرعية تجر في أثرها قصاصها المباشر، علاوة على الدينونة العتيدة. لأن جسدنا قصد به أن يكون حصنًا ليقينا شر الشياطين} إذًا فعندما يحطم الإنسان هذا السياج المنيع فأنه يفتح ثغرة للاتصال بالأرواح الساقطة المحيطة، ويعرض نفسه لغضب الله الشديد"(24).
4- إستشرى شر هذه الشعوب مثل السرطان، وصاروا مصدر خطر على العالم كله، فكان لابد من إستئصالهم، كما يُستأصل العضو المُصاب بالسرطان لكيما ينجو الجسد كله، وهل الطبيب الذي يستأصل عضوًا يُهدّد الجسم يصير مُجرمًا؟!!.. لقد أراد الله أن يقتني له شعبًا مقدَّسًا، ومن خلال هذا الشعب يصير الخلاص للعالم كله ولذلك أوصاهم قائلًا " وتماثيل آلهتهم تحرقون بالنار. لا تشته فضة ولا ذهبًا مما عليها لتأخذ لك لئلاَّ تُصاد به لأنه رجس عند الرب إلهك. ولا تدخل رجسًا إلى بيتك لئلا تكون محرَّمًا مثله. تستقبحه وتكرهه لأنه محرَّم" (تث 7: 25، 26).. ولذلك كان من الضروري القضاء على هذه الشعوب، حتى لا تكون مصدر عدوى لشعب الله، ولكيما يهيئ الله البيئة الصالحة النقية لذلك الشعب فلا يسلك في الخطية وشرور الأمم، ولا يحل عليه الغضب الإلهي " لكي لا يعلموكم أن تعملوا جميع أرجاسهم التي عملوا لآلهتهم فتخطئوا إلى الرب إلهكم" (تث 20: 18) فأنه " بسبب هذه الأرجاس الرب إلهك طاردهم من أمامك" (تث 18: 12).
وجاء في " التفسير التطبيقي": "لماذا طلب الله من بني إسرائيل أن يُدمّروا كل شخص وكل شيء في أريحا؟ لقد كان الله يوقع دينونة صارمة على شر الكنعانيين0 وهذه هي الدينونة، أو هذا التحريم، كانت تستلزم عادة تدمير كل شيء (تث 12: 2، 3، 13: 12 - 18) فبسبب ممارساتهم الشريرة ووثنيتهم كان الكنعانيون حصنًا للتمرد على الله، فكان لابد من إزالة هذا التهديد للحياة القويمة، لأنه إذا لم يستبعد، فلابد أن يسري في بني إسرائيل كما يسري السرطان"(25).
ويقول " القمص مكسيموس وصفي": "ووسط هذه المعبودات الوثنية وذلك الانحلال الخُلقي الذي ساد على شعوب الأرض أمر الله يشوع بضرورة تطهير الأرض وأن يُبيد هذه الشعوب وأن يحرق مدنها بالنار بسبب ما وصلت إليه من الفساد حيث إنتهت إلى نقطة اللاعودة ولا يمكن إصلاحها وقد صارت خطرًا على الشعب الإسرائيلي بسبب صنوف التوحش والرذيلة التي سادت عبادتها، وبعد أن قضى الشعب أربعين سنة في البرية يتدرب على القداسة والسير مع الله، كان لابد أن يقضي الله أولًا على هذه الشعوب حتى يسكن شعبه النقي أرضًا نقية بعيدًا عن الاختلاط بسكان الأرض المنحلين والأشرار"(26).
بل أن الخلاص من هذه الشعوب التي إستشرت في الشر كان خير للبشرية ككل.. لماذا؟.. لأن هذه الشعوب عاشت في منطقة إستراتيجية، ونقلت شرورها للعالم كله من خلال التجار والمسافرين، حتى صارت الأرض كلها مُهددة بالهلاك، ويقول " القمص تادرس يعقوب": "ما حدث لم يكن لصالح شعب إسرائيل وحده، وإنما في الحقيقة هو لصالح البشرية عامة، فإن هذه المنطقة كانت مركزًا هامًا للتجارة، وكان التجار يحملون في أسفارهم مع معاملاتهم التجارية الفساد وكأنه " الموت الأسود " ليتحرك في كل اتجاه العالم المعروف حينذاك. لقد أراد الرب أن يعطي البشرية درسًا، وأن يحمي العالم من هذا الوباء. هذا ومن جانب آخر إذ كان الله يعد الشعب اليهودي ليكون خميرة للعالم في الشهادة له، أمر بإبادة كل فساد حولهم حتى ينشأوا في جو نقي"(27).
5- يقول البعض: أن الله حر في خلائقه، فهو الذي وهب الحياة وهو الذي يستردها، سواء بطريقة عادية أو بكارثة طبيعية، ولكن ما يزعجنا ويقضُّ مضاجعنا أن يقود يشوع حملات الإبادة؟.. ويتجاهل مثل هؤلاء النُقَّاد أن يشوع لم يتصرف من ذاته، إنما كان ينفذ الأوامر الإلهيَّة، وقد كان من الممكن أن يقضي الله على هذه الشعوب بواسطة كارثة عالمية سواء زلزال أو بركان أو وباء.. ولكن شاءت حكمته الإلهيَّة أن يختار شعبه ليكون الأداة لتنفيذ العدل الإلهي، وذلك لكي يتعلَّم الدرس، ويوقن أن نهاية الشر الهلاك والخراب والموت والدمار والنار والحريق، وشدَّد الله على شعبه وحذرهم حتى لا يخالطوا هؤلاء الأمم ولا يصاهروهم لئلا يشتركوا في خطاياهم ويلاقوا نفس المصير وتلفظهم الأرض " مثل عمل أرض مصر.. لا تعملوا.. ومثل عمل أرض كنعان.. لا تعملوا.. وحسب فرائضهم لا تسلكوا.. بكل هذه لا تتنجسوا. لأنه بكل هذه قد تنجَّس الشعوب التي أنا طاردهم من أمامكم. فتنجست الأرض. فاجُتزئ ذنبها منها. فتقذف الأرض سكانها.. فلا تقذفكم الأرض بتنجيسكم إياها كما قذفت الشعوب من قبلكم" (لا 18: 1 - 18) (راجع خر 23: 32، 33، لا 20: 22 - 26، تث 9: 1 - 5، 18: 9 - 13، 29: 23 - 28، 31: 16، 17، يش 23: 15، 16، حك 12: 1 - 23).
ويقول " ف. ب. ماير": "لنذكر بأن الإسرائيلين كانوا منفذي العدل الإلهي أُرسلوا لينفذوا الحكم الذي تستحقه رجاسات كنعان، هنالك كرسي لدينونة الأمم كما لدينونة الأفراد. هذا الكرسي ينتصب في هذه الحياة، وعلى وجه هذه الأرض، وهذه الدينونة تقوم والديان القدير يحرص على أن أحكامه ينبغي أن تُنفذ. وله وكلاء كثيرون جيوش الفرس لتنفيذ حكمه على بابل، الوندال التوتوتيون على روما، القوقاز الروسيون على نابليون، كما كان إسرائيل منفذي الحكم على الأموريين الذين كان أثمهم قد كمل وقتئذاك، ويهدد بأن ينفث سموم عدواه في كل العالم"(28).
وللأسف الشديد فإن الشعب القاسي الرقبة لم يتعلم الدرس، فتعرَّض للعقوبات الشديدة، فمثلًا عقب عبادة العجل الذهبي قُتل منهم ثلاثة آلاف رجل (خر 32: 27، 28)، وعندما قدم ناداب وأبيهو ابني هارون نار غريبة خرجت نار وأكلتهما (لا 10: 1، 2) وقورح وداثان وأبيرام الطامعون في الكهنوت خرجت نار الرب وأحرقت بعضهم، وخسفت الأرض بالباقين (عد 26: 32، 33)، وعندما زنى الشعب مع بنات موآب فتق الوباء بأربعة وعشرين ألفًا منهم (عد 27: 9)، وكاد الله أكثر من مرة أن يفني الشعب كله في صحراء سيناء بسبب كثرة شروره (خر 32: 9، 10، عد 14: 11، 12، 26 - 29، 16: 20، 41 - 45)، وحكم الله بالموت على جميع الرجال الخارجين من أرض مصر الذين يزيد عمرهم عن عشرين عامًا (باستثناء يشوع وكالب بسبب تذمرهم (عد 32: 13) وحكم الله على أية مدينة إسرائيلية تعبد آلهة أخرى " ضربًا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف. وتحرَّمها بكل ما فيها مع بهائهما بحد السيف.. وتحرق بالنار المدينة وكل أمتعتها كاملة.. لا تُبنى بعد" (تث 13: 15، 16) وسفر القضاه خير شاهد على تأديبات الله لشعبه، وأخيرًا سلبت الأرض منهم وهدمت ديارهم وأُغتصبت ممتلكاتهم وعمل فيهم سيف التنكيل وسيقوا إلى أرض السبي (2 مل 17: 5 - 23، 2 مل 25).
ويقول " القس صموئيل يوسف": "ويتساءل المرء في حيرة عند قراءته للحروب بين إسرائيل والشعوب الوثنية المجاورة لها في ذلك الوقت. هل يأمر الله الإسرائيليين بقتل الشعوب الوثنية المجاورة لها؟ وكيف يتعقل المرء ذلك؟ ويجيب بعض العلماء: من قراءة الأسفار المقدَّسة بنعم. أن الله أمر بذلك للتطهير والتنقية. فقد استخدم الله إسرائيل كأداة عقاب لهذه الأمم الوثنية0 كما أن الرب عاقب سدوم وعمورة أيام إبراهيم بالكبريت والنار الذي أمطره على الشعب من السماء دون أن يستخدم الوسائل البشرية (تك 19: 24) وبالمثل عاقب الرب الإله شعب إسرائيل لعناده وقساوة قلبه وإفتكاره أنه سيد الشعوب، وهو الشعب الذي إختاره الرب لذاته دون سائر الشعوب، فعاقبهم الرب بواسطة الشعوب الوثنية، التي كانت أداة غضب الله على إسرائيل، وذلك بواسطة آشور وبابل، وبقاء إسرائيل هناك في السبي سبعين عامًا (أر 25: 12)"(29).
ويكفي أن نذكر جانب مما حلَّ باليهود بعد صلبهم للسيد المسيح، فقد أحاطت القوات الرومانية بأورشليم وحاصرتها سنة 70م، وعندما عاند اليهود وقاوموا ورفضوا تسليم المدينة أقتحمتها القوات الرومانية وأرتكبوا مذابح رهيبة وهدموا الهيكل مفخرة اليهود حتى أنهم لم يتركوا حجر على حجر، وعملوا في اليهود قتلًا وتنكيلًا وصلبًا، فهلك منهم مئات الألوف، وأنتشرت الصلبان فوق التلال المحيطة بأورشليم كغابة كثيفة من الصلبان التي حملت الأجساد العارية يومًا بعد يوم، حتى أنه لم يعد هناك خشبًا في أورشليم لصنع المزيد من الصلبان، وقال يوسيفوس المؤرخ اليهودي أن عقوبة الصلب أُوقفت بسبب ندرة الأخشاب التي أستخدمت في صنع الصلبان والمتاريس والسلالم للصعود للتلال، فقد وصل عدد المصلوبين يوميًا إلى خمسمائة شخص (راجع دكتور جورج حبيب - الصلب والصليب حقيقة أم خرافة ص 32) وتحقَّقت حرفيًا نبؤة السيد المسيح " لأنه يكون حينئذ ضيق عظيم لم يكن مثله منذ إبتداء العالم إلى الآن ولن يكون" (مت 24: 21).
6- الله هو الذي منح الحياة للبشر والحيوانات، وهو الوحيد الذي له حق إستردادها متى شاء، وقد شاءت حكمته أن يكشف عن بشاعة الخطية بتكثيف لحظات الموت من خلال الكوارث أو الحروب لكيما يتعظ الإنسان ويتوب عن شره. حكم على أريحا بالدمار الشامل لكيما تكون عبرة لكل مدينة عاصية، وأيضًا حدث هذا مع بابل التي صارت عبرة لكل مدينة شريرة، ومن جانب آخر جعل نينوى عبرة لكل مدينة تائبة.
وأيضًا أمر الله بإبادة الحيوانات وحرق الممتلكات لأنها أرتبطت بالخطية والشر، وقصد الله أن يوضح للإنسان أن نتائج الشر لا تتوقف عند الإنسان الشرير فقط، بل تنسحب على الكائنات الحيَّة التي تعيش معه، بل تؤثر على البيئة، فالأرض تضج من شر الإنسان، وتلفظه من على ظهرها.. تأمل في وضع آدم في الفردوس قبل الخطية ووضعه على الأرض بعد المعصية، فالحيوانات التي كانت تخضع له صارت تود إلتهامه، والطبيعة ثارت عليه من خلال العواصف والبراكين والزلازل والرياح، والأرض صارت تنبت له شوكًا وحسكًا.. إلخ.
ويقول " القس أمونيوس ميخائيل": "الله لم يكن ظالمًا في معاقبة هذه الشعوب المعاندة، لأنه منحها الفرصة للتوبة مئات السنين ولم تتب.. كما أن وجودهم كان يشكل خطرًا روحيًا واجتماعيًا على العالم كله. هذه إلى جانب أنهم كانوا في موقف عداء مع الله ذاته {للرب حرب مع عماليق} (خر 17: 16) والله يختار الوسيلة التي ينفذ بها أحكامه:
1- إما ينفذها بنفسه كما حدث في الطوفان، وسدوم وعمورة.
2- أو يستخدم الطبيعة (الزلازل والأوبئة والمجاعات).
3- أو يستخدم الناس (بأن يقتل بعضهم بعضًا في الحروب).
4- أن يكون العقاب جزئيًا أو مؤقتًا (بالسبي أو الضربات).
ولا ننسى أن الله عاقب شعبه عندما تمرد عليه بالوباء (عد 16: 47) وبإشعال النار في محلتهم (عد 11: 3) وبالحيات (عد 21: 6) وحتى المؤمنين والقديسين يعاقبهم عندما يخطئون، فضرب مريم أخت موسى بالبرص (عد 12: 19) وأمات أبيهو وأبيناداب ابني هارون (لا 10: 2) وحرم موسى وهرون من دخول أرض الموعد (عد 20: 12)"(30).
7- الله هو المالك وضابط الكون يسيّره حسبما تشاء حكمته، ولم يكن بنو إسرائيل وحدهم الذين ميَّزهم بامتلاك أرض كنعان، فقد سبق وأعطى العمونيين والموآبيين الأرض التي ورثوها، وحذر موسى من أخذ هذه الأرض منهم قائلًا " لأني لبني لوط قد أعطيت عار ميراثًا" (تث 2: 9).. " لأني لبني لوط قد أعطيتها ميراثًا" (تث 2: 18، 19) والله هو الذي يُقيم الممالك وينهيها (دا ص 2، 8)، فقد قامت من قبل أمبراطوريات عظيمة وأنتهت مثل الأمبراطورية البابلية الأولى والأشورية والبابلية الثانية والفارسية واليونانية والرومانية..
لينظر الناقد إلى نبؤة أشعياء النبي عن مملكة بابل (الثانية) والشر الذي سيأتي عليها من قِبل إمبراطورية مادي وفارس، ويصف أشعياء بأن هذا اليوم الذي يُجرَى فيه العدل الإلهي بسبب شرور بابل العظيمة هو " يوم الرب " فيقول لأهل بابل " ولولوا لأن يوم الرب قريب كخراب من القادر على كل شيء.. هوذا يوم الرب قادم قاسيًا بسخط وحمو غضب ليجعل الأرض خرابًا ويبيد منها خطاتها.. أزلزل السموات وتتزعزع الأرض من مكانها في سخط رب الجنود وفي يوم حمو غضبه. ويكونون كظبي طريد وكغنم بلا من يجمعها.. كل من وُجِد يُطعن.. وتُحطَّم أطفالهم أمام عيونهم وتنهب بيوتهم وتُفضح نساؤهم. هآنذا أهيج عليهم الماديين.. فتُحطّم القسيُّ الفتيان ولا يرحمون ثمرة البطن. لا تشفق عيونهم على الأولاد. وتصير بابل بهاء الممالك وزينة الكلدانيين كتقليب الله سدوم وعمورة. لا تُعمَر إلى الأبد ولا تُسكَن إلى دور فدور.." (أش 13).
8- لا يمكن إتهام الله بالمحاباة والعنصرية، فقد قضت الشريعة بقتل الزاني والزانية، وقتل الله الذين زنوا مع بنات موآب بالوباء وكان عددهم أربعة وعشرين ألفًا، وهذا فعله الله مع الأمم بالتمام والكمال، فالله القدوس من رابع المستحيلات أن يقبل الشر، فقد حكم على الملائكة ذو الجمال والبهاء لأنهم سقطوا في الكبرياء، وقد حكم الله على آدم وهو الذي جبله على صورته ومثاله، لأنه لم يحفظ الوصية، فالله ليس لديه محاباة ولا تغيير ولا ظل دوران.
أليست النيران التي ألتهمت أريحا وعاي وحاصور هي ذات النيران التي أكلت عخان بن كرمى وأولاده ومواشيه وجسم الجريمة من ذهب وفضة وثوب شنعاري؟!
أليست هي ذات النار التي ألتهمت مدينة جبعة التابعة لسبط بنيامين بكل من فيها وكل ما فيها؟!
أليست هي ذات النار التي قتلت ابني رئيس الكهنة هارون؟!
أليست هي ذات النيران التي أكلت رجال قورح المائتين والخمسين؟!
أليست هي ذات النار التي أكلت أورشليم بيد نبوخذ نصر؟!
أليست هي ذات النار التي أحرقت الهيكل مفخرة اليهود سنة 70م؟!
أليست هي ذات النار التي مازالت تحرق وتدمر الخطاة؟!
أليست هي ذات الجحيم الذي سيحتفظ بالأشرار في أحضانه؟!
أليست هي جهنم النار الأبدية وبحيرة النار والكبريت المعدة لأبليس وملائكته؟!
فعلآم الإعتراض على العدل الإلهي؟!
9- قضية ذبح الأطفال الأبرياء هي قضية حساسة، ومع هذا فإننا نقول أن هؤلاء الأطفال ربما كانت نهايتهم الحرق بتقديمهم ذبائح بشرية للآلهة الوثنية، وإن نجوا من هذا وكبروا واستشروا في الشر مثل آبائهم فستكون نهايتهم العذاب الأبدي في جهنم النار، ولهذا فإن إنهاء حياتهم في مرحلة الطفولة رغم صعوبته جدًا فإنه ينقذهم من هذا وذاك، فهم كأطفال إرادتهم قاصرة لا يُعاقبون بالنار الأبدية ولا يتنعمون بنور الملكوت، فهم لا يُعذبون ولا يكافئون، وهذه الحالة بلا شك هي أفضل من الإحتمالين السابق طرحهما(31).
10- سادت شريعة الحرب لوقت محدد، وبهدف إقرار العدل الإلهي وامتلاك بني إسرائيل الأرض. ولا ننسى أن ملوك كنعان هم الذين أخذوا المبادرة بالقتال " ولما سمع جميع الملوك الذين في عبر الأردن في الجبل وفي السهل وفي كل ساحل البحر الكبير إلى جهة لبنان الحثيون والأموريون والكنعانيون والفرزّيون والحوّيون واليبوسيون. أجتمعوا معًا لمحاربة يشوع وإسرائيل بصوت واحد" (يش 9: 1، 2).. " فخرجوا هم وكل جيوشهم معهم شعبًا غفيرًا كالرمل على شاطئ البحر.. بخيل ومركبات كثيرة جدًا" (يش 11: 4) (راجع أيضًا عد 21: 21 - 35، يش 10: 1 - 6، 24: 11).
لقد ضخم النُقَّاد من حروب يشوع وكأنها الكارثة الأولى والأعظم في تاريخ البشرية، والأمر بلا شك ليس كذلك، فالأرض التي دارت في ساحتها المعارك غرب الأردن مساحتها 80 × 240 كم (ربما مثل دلتا النيل) والمدة التي أستغرقتها هذه الحروب هي السبع سنين الأولى لقيادة يشوع، والأسلحة التي أُستخدمت هي أسلحة بدائية، والملوك الواحد والثلاثون الذين تعرضوا ليشوع لم يكونوا ملوكًا لدول، إنما كانوا أمراء لمدن أُطلق عليهم لقب ملوك، وكل ما حدث يتضائل جدًا بجوار أحداث الحرب العالمية الثانية التي خلَّفت وراءها 60 مليون قتيل والتي دارت رحاها في عدة قارات، وأستخدمت فيها أسلحة حديثة وخُتمت باستخدام الأسلحة النووية، وأيضًا حروب يشوع لا تُقاس بزلزال شرق آسيا الذي ضرب ثمانية دول في الأحد الأخير من عام 2004م بقوة 9 ريختر وهو ما يساوي قوة مليون قنبلة ذرية، وما تبعه من موجات المد العاتية (تسونامي). فقد تحركت بعض الجزر عن موقعها نحو ثلاثين كيلومترًا، وأختفت قرى ومدن من الوجود، والسفن العملاقة من عابرات المحيط صارت مثل علب الكبريت فطوحت بها الرياح على اليابس، ووصلت سرعة الأمواج الطاغية إلى مئات الكيلومترات في الساعة، وبارتفاع نحو أربعين مترًا، حتى أن الخيال السينمائي يتضاءل أمام هول هذه الكارثة التي أرتجت لها الأرض وأثرت على دورانها حول محورها، وكأن هذه الكارثة هي (بروفا) للمجئ الثاني.. إذًا حروب يشوع ليست قمة المآسي البشرية، ولكن عدو الخير يوظفها جيدًا بهدف كراهية الله.
11- لم يكن الهدف من حروب يشوع هو قتل كل إنسان غير يهودي، ولذلك جاء الحكم خاص بشعوب كنعان فقط، وحتى لا يكونوا مصدر عدوى لشعب الله، فالجسد المسرطن يحتاج إلى تدخل جراحي عميق، ولذلك أوصاهم الله " هكذا تفعلون بهم تهدمون مذابحهم وتكسرون أنصابهم وتقطعون سواريهم وتحرقون تماثيلهم بالنار. لأنك أنت شعب مقدَّس للرب إلهك. إياك قد إختار الرب إلهك لتكون له شعبًا أخصَّ من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض" (تث 7: 5، 6) ويقول " المطران يوسف الدبس": "وقد أباحهم الله هذا القتل والتدمير ليشتد رعبهم على سكان الأرض التي جعلها لهم ميراثًا فيتيسر لهم امتلاكها عنوة كما فعلوا. وقد أشار الكتاب إلى ذلك بقوله (يش 6: 27) {وكان الرب مع يشوع وذاع خبره في كل الأرض} ففر كثير من الكنعانيين من وجه بأسه"(32).
والأمر العجيب أنه بعد أن صدر الأمر الإلهي بالقضاء على شعوب كنعان، وضرب يشوع ضربته الأولى والمؤثرة، والتي كان يجب أن يتبعها امتلاك الأسباط للأرض، كلٍ فيما يخصه، فإن الأسباط تقاعست وتركت هذه الشعوب، وتخالطت معها، وعبدت آلهتها، ولذلك قال لهم الرب " فأنا أيضًا لا أعود أطرد إنسانًا من أمامهم من الأمم الذين تركهم يشوع عند موته.. فترك الرب أولئك الأمم ولم يطردهم سريعًا ولم يدفعهم بيد يشوع" (قض 2: 21، 23).. " فسكن بنو إسرائيل في وسط الكنعانيين والحثيين والأموريين والفرزييين والحويين واليبوسيين. وأتخذوا بناتهم لأنفسهم نساءً وأعطوا بناتهم لبنيهم وعبدوا آلهتهم" (قض 3: 5، 6) فواضح أن الحكم بالقضاء على هذه الشعوب لم يتحقق إلاَّ جزئيًا، ومن قُتل من هذه الشعوب هو نسبة بسيطة من إجمالي السكان.
ويجب الإشارة إلى أن حروب يشوع كانت أشبه بقانون إستثنائي0 أما القانون السائد في العهد القديم كله فهو قانون السلام ونبذ الحروب، فالله إله رؤوف " الرب رحيم ورؤوف طويل الروح وكثير الرحمة.. كما يترأف الأب على البنين يترأف الرب على خائفيه" (مز 103: 8، 13). ولذلك جاءت الوصية واضحة وصريحة " لا تقتل" (خر 20: 13) وأوصى شعبه " لا تكره أدوميًا لأنه أخوك. لا تكره مصريًا لأنك كنت نزيلًا في أرضه" (تث 23: 7) و" لا تضطهد الغريب ولا تضايقه. لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر" (خر 22: 21).. " ولا تضايق الغريب فأنكم عارفون نفس الغريب. لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر" (خر 23: 9).. " وإذا نزل عندك غريب في أرضكم فلا تظلموه. كالوطني منكم يكون لكم الغريب النازل عندكم. وتحبه كنفسك" (لا 19: 33، 34) و" إذا صادفت ثور عدوك أو حماره شاردًا ترده إليه" (خر 23: 4) و" إن جاع عدوك فاطعمه خبزًا وإن عطش فاسقه ماء. فأنك تجمع جمرًا على رأسه والرب يجازيك" (أم 25: 21، 22) وقد سبق وناقشنا هذا الموضوع بالتفصيل(33).
12- ليس من المنطق أن نحكم على أحداث حدثت منذ 35 قرنًا أي منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام بمقاييس اليوم ومبادئ حقوق الإنسان، فما كان سائدًا حينذاك هو الغزو والنهب وتقسيم الغنائم، ومصادرة الحق في الحياة عند إستشعار الخطر، فهكذا فعل فرعون عندما أصدر قراره بقتل كل أطفال العبرانيين من الذكور، بل أن بني إسرائيل فيما بينهم في عصر القضاه وما بعده طالما نشبت بينهم الحروب وراح ضحيتها عشرات الألوف (قض 12: 6، قض 20).
وجاء في كتاب " غوامض العهد القديم": "يكفي أن نلاحظ بأن قتل كل الرجال بل وكل السكان القاطنين في مدينة مغلوبة كانت عادة عامة في الحرب في العصور الأولى. مثال ذلك أنه وُجِد على الحجر الموآبي الأثري القديم كلام للملك حيث يقول {حاربت مدينة " عتاروث " من سبط جاد وأخذتها وذبحت كل الرجال إكرامًا للإله كموش إله موآب. وأخذت مدين " نبو " من إسرائيل وذبحت كل سكانها حتى رؤساء القبائل والنساء والأطفال لأن كموش لعنها}"(34).
ويكفي أن نسجل هنا ما فعله الهكسوس بالبلاد المصرية، وقد وصف أحد شهود العيان ما حلَّ ببلادنا المصرية جراء هذا الغزو من حرق المدن، وهدم المعابد، والمذابح الجماعية، وبيع البشر كالسوام في أسواق العبودية، فقال " ولسبب ما لا أعرف عنه شيئًا، حلَّت بنا صاعقة إلهيَّة، فعلى حين غرة زحف غزاة من جهة الشرق ينحدرون من أصول عرقية يكتنفها الغموض، وكلهم ثقة في إحراز النصر ضد بلادنا. واستطاعوا اعتمادا على أعمال أقصى درجات الجبروت، التفوق بسهولة كبيرة على حكام البلاد، فاضرموا النيران دون رحمة في مدننا، وسهدموا معابد الآلهة، وعاملوا كافة الأهالي، أبناء مصر، بعدوانية وقسوة، حيث ساقوا بعضهم إلى المذابح، وقادوا زوجات وأطفال البعض إلى أسواق العبودية، وفي نهاية المطاف نصَّبوا أحد عناصرهم في منصب ملك مصر باسم " ساليتيس " Salitis وقد أتخذ هذا الملك الأجنبي مقر عرشه في " منف " حيث شرع في جباية الجزية من الوجهين القبلي والبحري، وفي إقامة الحاميات العسكرية وراءه حيثما حلَّ.. وقد أسَّس.. " أباريس" (= أورايس) Avaris ونصب هناك حامية قوامها أكثر من 240 ألف جندي مدججين بالسلاح كي يحموا حدوده"(35).
وعندما أراد فرعون مصر أن يقدم هدية لسليمان الملك الحكيم " صعد فرعون ملك مصر وأخذ جازر وأحرقها بالنار وقتل الكنعانيين الساكنين في المدينة وأعطاها مهرًا لإبنته امرأة سليمان" (1 مل 9: 16).
وكان نفس الأسلوب متبعًا بين أسباط بني إسرائيل:
أ - ماذا فعل جدعون بأهل سكوت الذين رفضوا أن يسعفونه بالطعام وهو يطارد ملكي مديان..؟! " أخذ شيوخ المدينة وأشواك البرية والنوارج وعلَّم بها أهل سكوت" (قض 8: 16) أي أنه خلطهم بالأشواك ودرسهم بالنوارج.. هل هناك ميتة أصعب من هذه؟!!
ب - ماذا فعل أبيمالك بن جدعون بأخوته السبعين ..؟! " جاء إلى بيت أبيه في عفرة وقتل أخوته بني يربعل سبعين رجلًا على حجر واحد" (قض 9: 5).. فمن رأى مذبحة مثل هذه راح ضحيتها سبعون أخًا بيد شقيقهم؟!!
جـ- ماذا فعل أبيمالك بأخواله في شكيم ..؟! " أخذ المدينة وقتل الشعب الذي بها وهدم المدينة وزرعها ملحًا" (قض 9: 45).. فمن رأى أضرارًا بالأرض الصماء مثل هذا الضرر؟!!
د - ماذا فعل أبيمالك ببرج شكيم الذي إحتمى فيه ألف رجل وامرأة..؟! " أخذ أبيمالك الفؤوس بيده وقطع غصن شجر ورفعه ووضعه على كتفه وقال للشعب الذي معه مارأيتموني أفعله فاسرعوا أفعلوا مثلي.. وأحرقوا عليهم الصرح بالنار. فمات جميع أهل برج شكيم نحو ألف رجل وامرأة" (قض 9: 48، 49) وجميعهم مثل من سبقهم من بني إسرائيل.
هـ- ماذا فعل يفتاح بسبط أفرايم الذي عاتبه بشدة لأنه لم يأخذهم لحرب بني عمون..؟! لم يصرف غضبهم كما صرف غضبهم من قبل جدعون بتواضعه، إنما ذبح منهم 42 ألفًا، فكل من كان يقول " سِبُّولت " بدلًا من " شِبُّولت " كانوا يذبحونه على مخاوض الأردن، حتى فاض النهر دمًا.. فمن رأى وحشية مثل هذه؟!
و - ماذا حدث لسبط بنيامين الذي دافع عن أهل جبعة الذين أغتصبوا سرية اللاوي..؟! نشبت الحرب بينهم وبين بقية الأسباط، فقتلوا من الأسباط في يومين أربعين ألفًا، وفي اليوم الثالث أبادت الأسباط السبط بالكامل 25 ألفًا، لم يتبقى من السبط رجال ونساء وأطفال وشيوخ غير ستمائة رجلًا " حتى البهائم حتى كل ما وُجِد وأيضًا جميع المدن الذي وُجِدت أحرقوها بالنار" (قض 20: 28).
لقد كان قلب الإنسان غليظًا يعيش بروح العبودية فكان يلزمه التأديب الصارم، أما نحن الآن في عصر النعمة، وقد إستنار ذهن الإنسان بمعرفة الروح القدس، وأيقن أن نهاية الشر هي الهلاك والدمار والموت الأبدي، ولك يا صديقي أن تتأمل وتقارن بين نزول الله على جبل سيناء في العهد القديم وكيف كان الجبل يدخن ويضطرم بالنار وصوت بوق شديد.. إلخ وبين تجسد الله كطفل وديع بسيط في مزود في العهد الجديد.
ويقول " زينون كوسيدوفسكي " الذي طالما إنتقد الكتاب المقدَّس " يجب أن نتنبه هنا إلى أنه لا يمكن تقديم الحوادث التوراتية من منطلق المفاهيم الأخلاقية الحالية، فالحقبة التي يدور الحديث عنها كانت حقبة بربرية، والعادة الحربية التي أنتشرت آنذاك سمحت بقتل الأسرى وسكان القلاع المحتلة وتشويه أو قتل الملوك، وبأتباع أساليب المكر والخداع والخيانة. من هذا المنطق كان الإسرائيليون أبناء بررة أوفياء لحقبتهم الزمنية، ولم يختلفوا عن بقية شعوب العالم القديم، فقد عرف الحروب الشاملة كل من البابليين والمصريين والأشوريين والأغريق كما يتضح من هوميروس"(36).
ثالثًا: الغزوات في الإسلام:
1- لماذا يقبل النُقَّاد المسلمون الغزوات الإسلامية بصدر رحب بينما يهاجمون حروب يشوع بضراوة؟.. قاد الرسول وأصحابه 82 غزوة، قُتل فيها الكثير من الأسرى، فمثلًا عندما حاصر الرسول بني قريظة، وأبدوا استعدادهم للإستسلام على أن يحكمهم أسعد بن معاذ " فحكم أسعد بن معاز فيهم بحكم رسول الله، وهو أن تُقتل الرجال، وتقسَّم الأموال، وتسبى الذراري والنساء، فأمر بهم الرسول فسيقوا جماعات إلى موضع سوق المدينة حيث حُفرت لهم خنادق، ثم أمر الرسول فضربت أعناقهم في تلك الخنادق، وبلغ عدد القتلى منهم ما بين 600 و700 يهودي"(37).
وجاء في صحيح البخاري " باب قطع الشجر والنخيل. وقال أنس أمر النبي (صلعم) بالنخل فقُطع. حدثنا موسى بين إسماعيل حدثنا جويرية عن نافع عن عبد الله رضي الله عن النبي (صلعم) أنه حرق نخل بني النضير وقطع وهي البؤيرة، ولها يقول حسان:
وَهَانَ على سَرَاةِ بِني لُؤَيٍ حريقُ باليُويرة مستطير"(38)
فعجبًا لهؤلاء النُقَّاد الذين يكيلون بمكيالين!!
ويطول الحديث جدًا حول قسوة تلك الغزوات، ويكفيك يا صديقي أن تطلع على بعض الكتب التي تتناول هذا الموضوع بصدق مثل كتاب الحقيقة الغائبة للكاتب الكبير فرج فودة، فقد ذكر ثروات خمسة من كبار الصحابة المُبشَرين بالجنة، فقال " كان لعثمان بن عفان عند خازنهُ يوم قُتل ثلاثون ألف درهم وخمسمائة ألف درهم وخمسون ومائة ألف دينار فانتهبت وذهبت.. كانت قيمة ما ترك الزبير واحد وخمسين أو أثنين وخمسين ألف ألف.. وسعد بن أبي وقاص.. ترك يوم مات ألف وخمسين ألف درهم.. قيمة ما ترك طلخة بن عبيد الله.. ثلاثين ألف ألف درهم.. ترك عبد الرحمن بن عوف.. وكان فيما ترك ذهب قُطع بالفؤوس حتى مَجُلت أيدي الرجال منه"(39).. فأنظر يا صديقي إلى تواضع حالتهم في الجاهلية وثرواتهم هذه!!.. كم من النفوس قُتلت في سبيل جمع هذه الثروات؟! ويكفي أن نشير إلى ضحايا حروب الردة، فقد قتل خالد بن الوليد من بني حنيفة المرتدين فقط واحد وعشرين ألف رجل(40) وفي موقعة اليرموك قتل خالد بن الوليد مائة وعشرين ألفًا من الجيش البيزنطي (راجع الصبري جـ 4 ص 23400 إلخ.
2- هل كانت حروب يشوع بقصد نشر العقيدة اليهودية؟.. قال " دكتور أحمد حجازي السقا " أن بني إسرائيل نظموا الجيوش وأرسلوها لفتح البلاد ونشر الدعوى، وكان أمير الجيش يعرض على أهل البلاد دين موسى، ويطلب منهم أن يُسلّموا، فإن أبو ورفضوا قاتلهم(41).. لم تكن حروب يشوع بقصد نشر العقيدة اليهودية.. كلاَّ، فلم يحارب يشوع تلك الشعوب بقصد نشر الدين اليهودي قط. إنما كان مُكلَّف بتنفيذ الحكم الإلهي على تلك الشعوب التي وصلت شرورها إلى أقصى مداها، فحمل سيف العدل الإلهي. أما الغزوات الإسلامية فكان هدفها الأول أن تؤمن هذه القبائل بالإسلام، ولو حتى بالسيف، ولو بدون إقتناع، وكل من نطق الشهادتين فقد عصم نفسه من الموت وممتلكاته من الإغتصاب.
وهذه نقطة خلاف جوهرية بين حروب يشوع وغيرها، وعلينا أن ندرك جيدًا أن يشوع كان مجرد أداة لتنفيذ المشيئة الإلهيَّة، ولذلك فمن يريد أن يعترض فليعترض على الله العادل الذي كلَّف يشوع بتنفيذ الحكم.
ويقول " الخوري بولس الفغالي": "الحرب المقدَّسة في سفري يشوع والقضاة ليست حربًا دينيًا، هدفها أن تفرض بالسلاح الإيمان بالرب. نحن أمام حرب تسعى إلى المحافظة على وجود شعب وامتلاك أرض. والحرب ككل واقع الحياة في ذلك الزمان، ذا طابع مقدَّس وهي تتبع شعائر دينية محدَّدة. الله هو الذي يحارب عن شعبه (يش 10: 14، 42) ويمشي في مقدمة الجيش (قض 4: 14) والعلامة المنظورة لحضوره هو تابوت العهد.. أما المقاتلون فهم متطوعون يُؤخذون من بين القادرين على حمل السلاح. فعليهم قبل كل شيء أن يؤمنوا بتدخل الرب، عليهم أن لا يخافوا (يش 8: 1) قال الرب ليشوع لا تخف ولا تفزع (يش 10: 8) وأخيرًا، يُجند الرب لهذه الحروب قوى الطبيعة (البرَد في يش 10: 11، والبحر في يش 24: 8، والكواكب في قض 5: 20 - 21) ويجعل البلبلة في صفوف الأعداء (قض 7: 22، 1 صم 7: 10، 14: 15 - 20).. ولكن سيأتي وقت نعرف فيه أن الحرب الحقيقية ليست حرب السلاح، بل الحرب على الشر في قلوبنا وفي مجتمعنا. وسيعرف العبرانيون أيضًا أن الله ليس إلههم وحدهم، بل هو إله الكون، الذي سيرسل أنبياءه حتى إلى العالم الوثني، كما فعل يونان"(42).
_____