إني أحتج صارخًا
ونحو الساعة التاسعة والنصف صباح يوم الجمعة، عاد الموكب الحزين إلى بيلاطس، وعندما سمع بيلاطس وهو بالداخل أصوات الغوغاء، أدرك لوقته أن هيرودس قد أعاده إليه، فبعد أن تنفس الصعداء، وظن أنه قد انتهى من تلك القضية بإرسال يسوع إلى هيرودس، فإذ بعقارب الساعة تعود للخلف، وعادت تظهر في الأفق الوجوه الكالحة لرؤساء الكهنة ومشايعيهم بسماجتهم ورذالاتهم..
عاد قائد المئة وجنوده بالأسير إلى داخل القلعة، حيث أبلغ القائد الوالي بما كان، بينما ظل الرؤساء والشعب خارج دار الولاية في قلق بالغ.. ماذا سيفعل بيلاطس بعد كل هذا العناء..؟! إنها الفرصة الأخيرة.. وإذ بدأوا يشعرون أن قتل الأسير بات أمرًا بعيدًا إلى حد ما جن جنونهم، وفقدوا وقارهم، وأخذوا يُحرّضون الشعب علانية، فلا بد من تكثيف الضغوط على بيلاطس بكل طريقة شرعية أو غير شرعية.. لقد غدت مسألة حياة أو موت.. وجود أو عدم.. حتى صار المشهد مشهدًا لم تشهده أورشليم من قبل.
وخرج بيلاطس متوعك المزاج إلى جباثا، وعاد للجلوس على كرسي الولاية، وهو يُجهِد تفكيره كيف يُخلّص الأسير البريء من أنياب الضباع، ولاسيما أن هيرودس يتفق معه تمامًا على براءة الرجل، فتفتق ذهنه عن فكرة شيطانية أضرت يسوع كثيرًا.. أشار بيلاطس إلى الجموع فسكتت الجلبة والضوضاء، وصار هدوء عظيم فدعا بيلاطس رؤساء الكهنة والعظماء والشعب وقال لهم قد قدمتم إليَّ هذا الإنسان كمن يفسد الشعب، وها أنا قد فحصت قدَّامكم ولم أجد في هذا الإنسان علة مما تشتكون به عليه، ولا هيرودس أيضًا لأني أرسلتكم إليه، وها لا شيء يستحق الموت صُنِعَ منه. فأنا أؤدبه وأطلقه..
هوذا الوالي الروماني يقول لليهود "فحصت قدامكم" أي أنني أجريت التحقيق العادل معه أمامكم، وها أنتم شاهدون على سلامة التحقيق، وأنه جرى طبقًا للعدالة الرومانية بلا تحيز ولا محاباة.. ثم يقول "لأني أرسلتكم إلى هيرودس" أي أنني لم آخذ رأي هيرودس سرًّا، إنما كان الأمر علانية أمامكم، فأنتم الذين ذهبتم وسمعتم شهادة هيرودس عنه..
وقال بيلاطس في نفسه لأحكم عليه بالجلد، ولو أن هذا الحكم ضد الحق لكن علَّه يُرضي جميع الأطراف، عندما يبصرون جسده مهلهلًا من أثر الجلدات الرومانية، لابد أن هذا سيريحهم ويرضيهم ويُسكّن غضبهم، وحينئذ تتحرك قلوبهم شفقة على ابن وطنهم، ويعفون عنه، فيفوز يسوع بالحياة.. وهكذا أصدر بيلاطس أمره: ليُجلَد يسوع.
وانتظرت الجماهير كلمة من رؤساء الكهنة الذي وثقوا فيهم، وإذ أظهر هؤلاء الرؤساء استيائهم ومصمصوا شفاههم، هاج الشعب وماج. وبينما انصرف بيلاطس إلى داخل دار الولاية، لم يكف الشعب عن الصياح والهياج، وجند الرومان مُقيَّدون بكلمة بيلاطس، وهم يتمنون من عمق قلبهم أي إشارة بسيطة من بيلاطس، ليؤدبوا هذا الشعب ويذبحوا رؤوس الأفاعي..
عجبًا.. الوالي الأممي يحكم ببراءة يسوع، ورؤساء وقضاة ورعاة إسرائيل يطلبون سفك الدم الذكي.. أنظروا إلى أي درجة انحط هؤلاء القوم بسب أحقادهم وضغائنهم على المُعلّم.
وأنت با بيلاطس مادمت تعترف ببراءة يسوع، وتدرك تمامًا أنهم أسلموه حسدًا، فلماذا تُسلّمه للجلدات القاتلة بحجة أنك تؤدبه؟!.. هل يسوع يحتاج تأديبك أيها الوالي..؟!
أتريد أن تُؤدّب المُؤّدب الشافي طبيب الأجساد الأرواح الذي بلا خطية وحده؟!..
أتريد أن تُؤدّب من نسمة حياتك في يده؟!
أتؤدبه من أجل حبه الفياض لك ولكل البشرية؟!
أتؤدب الحب الذي أسكت ملاك الله لئلا يشقك بسيفه الناري؟
يا بيلاطس.. كيف يرتضي قلبك وتوافق عدالتك على طرح إنسان برئ للجلدات التي قد تقضي عليه؟!
أين هيبتك يا رجل..؟! وكيف يتأتى هذا..؟! أتحكم ببراءته وتريد أن تؤدبه؟!
أتلتمس من الغوغاء أن يسمحوا لك بأن تؤدبه وتطلقه، وهم يرفضون هذا..؟!
أتتحول من حاكم إلى محكوم..؟!
وكيف تسير وراء هوى شعب فاسد عوضًا عن أن يخضع الشعب لسيف العدالة الذي تحمله..؟!
مالك تدخل السياسة في القضاء؟!..
ومالك تساوم على عدالة روما؟!..
ألم تسمع القول الروماني المأثور والذي يعتبر دستور القضاة " أقم العدل ولو تسقط السماء"..؟!
ألا ترى أن هذه هي الخطوة الأولى في طريق التنازلات، ولكنها لن تكون الأخيرة؟!.
وأخذ جند بيلاطس يسوع إلى القشلاق، وربطوه إلى عامود الجَلد القصير، فاتخذ جسده شكل القوس ووجهه متجه إلى أسفل.. ووقف جلادان أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره.. أحدهما يظهر كالعملاق، والآخر قصير القامة ولكن علامات التحدي تظهر عليه، وجلس قائد المئة أمام منضدة صغيرة يرقب الموقف، فهذه فرصة رائعة للرومان للانتقام من اليهود الملاعين الذين لا يكفون عن المشاغبات وأحيانًا ينجحون في اغتيال بعضهم، وقد سمعوا أن هذا الرجل يريد أن يكون ملكًا على اليهود ليطرد الرومان شر طردة.. إذًا الويل كل الويل لهذا الرجل، كان خير له لو لم يُولَد.
أما السوطان اللذان اُستخدما في الجلد فكل منهما له يد خشبية مخروطة بطريقة تمكن الجندي من القبض عليه جيدًا، وينبثق منه ثلاثة سيور، كل منها ينتهي بقطعتين من العظم أو الرصاص تحفران جروحًا غائرة في الجسم، وهذا النوع من السياط يعتبر أصعب أنواع الشيطان ويُدعى بـ"العقارب" وهو ما قصده الملك رحبعام بن سليمان في حديثه مع رؤساء بني إسرائيل عندما قال لهم "أبي أدبكم بالسياط وأنا أؤدبكم بالعقارب" (1مل 12: 11).
St-Takla.org Image: Flagellation of Christ Jesus صورة في موقع الأنبا تكلا: جلد المسيح
ارتفعت السياط لتهوي على ذاك الجسد الرقيق العاري، وكل جلدة تئز، وتُصفّر، وترتطم بالجسد، فتترك ثلاثة علامات دامية في الجسد المقدَّس بالإضافة إلى ستة جروح غائرة، تدفع الذي يُجلد أن يتلوى محاولًا جذب يديه من القيود. أما يسوع فلم يفعل هكذا.. لقد تحمل ضربات السياط القوية من الجلادين اللذين دخلا في منافسة غير شريفة على تمزيق جسده الطاهر.. نظر الجلاد الضخم إلى زميله قصير القامة نظرة استهانة، فأراد الأخير أن يثبت قدراته، وتحدى الاثنان بعضهما البعض أيهما تكون ضرباته أشد إيلامًا وأقدر على تمزيق الجسد المقدَّس.. الدماء تسيل من الجسد الجريح المتهرئ تصرخ وتحتج على قسوة الإنسان الذي أسلم نفسه للشيطان.. لقد نفث الشيطان سمومه في هذين الجنديين، فتصوَّر كل منهما أنه في معركة حامية الوطيس، فيشب ويهبط بسوطه على جسم الضحية، وكأنه بطل مغوار غازي يعبر البحار ويفتح القلاع، ولا يدرك أن ما يقوم به هو عمل وحشي يستهجنه العقل ويرفضه الوجدان.
وكلما انتفض ذاك الجسد الطاهر وآنَّ وتأوه، كلما ارتفعت ضحكات وسخرية الجنود.. آه.. يا ملك اليهود.. رفقًا بمن سيحرر البلاد..
وكلما أوشك يسوع أن يفقد قوته وينهار راكعًا على قدميه، فإنه يجاهد ويتشدد..
ولم يكن للضربات وجهة محدَّدة، بل أباحوا الجسد كله للسياط، وعندما تهبط إحدى الضربات بالقرب من الرأس تلف الرأس وتدور، بالإضافة إلى الدم المندفع في الرأس يجعلها تكاد تنفجر..
إنها آلام فوق الوصف.. كل جرح ينبض بالألم..
إن الجلد يتهرأ، والشرايين تتعرى، وطبقات داخلية من الجسد الطاهر تنكشف..
إنها لسعات الحيَّة القديمة تنهش ذاك الجسد الطاهر.. ألم يقل الكتاب أنها تسحق عقبه؟!
وإن كان الإنسان عندما يتعرض لألم فوق الطاقة يدخل في مرحلة الغيبوبة واللاوعي، ويفرز الجسم المواد المخدرة التي تسكن الألم، فإنه في حالة الجَلد يظل الإنسان يقظًا مهما اشتعلت آلامه، ولا يغيب الإنسان عن وعيه إلاَّ إذا انطلقت روحه من جوفه.
وأيضًا لم يلتزم هؤلاء الجنود بعدد معين من الضربات، افترش جسد يسوع بالجروح التي تعدت السبعمائة جرحًا " على ظهري حرث الحُرَّاث. طوَّلوا أتلامهم" (مز 129: 3) وكأن هذا الجسد أرضًا يشقها المحراث بسلاحه القوي فيتركها أخاديد، وهكذا خطت الجلدات على ظهر يسوع خطوطًا كالتي يخطها المحراث " بذلت ظهري للضاربين" (أش 50: 6) وصنعت الدماء مع الجسد الذي تهرأ ثيابًا قرمزية ليسوع، مما دعى إشعياء النبي للتساؤل " من ذا الآتي من آدوم بثياب حُمر من بصره.. ما بال لباسك مُحمرُ وثيابك كدائس المعصرة " فأجابته أنَّات يسوع " قد دستُ المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد. فدستهم بغضبي ووطئتهم بغيظي فرُش عصيرهم على ثيابي فلطخت كل ملابسي" (أش 63: 1 - 3).
لمن هذه الجلدات يا يسوع؟!
إنها لكل إنسان قاتل سفاح.. لكل زانٍ مستبيح.. لكل لصٍ سالب.. لكل مجدف جاحد.. لكل ظالم مستبد.. لكل خاطئ أثيم..
إنها لا تخصك أيها الطاهر القدوس.. فلِمَ تحتملها؟!
إنني أصرخ بأعلى صوتي.. إنني أحتج أحتج.. أحتج يا يسوع..
وأسمع همسات قلبك: علآم تحتج يا حبيبي.. أتحتج على قسوة الإنسان؟!
وأصرخ ويعلو صوتي: كلاَّ.. إن احتجاجي على هؤلاء الوحوش لا يفيد.. فمن يسمع ومن يصغي؟! لا أحد..
لكنني أحتج وسأظل أحتج وأصرخ بأعلى صوتي..
وأسمع همسات حبك: علآم تحتج يا ابني؟!
إني أحتج وأصرخ وأملأ الدنيا صياحًا ودموعًا وضجيجًا: إنني أحتج عليك.. أحتج عليك يا يسوع.. يا إلهي..
وإذ أصغى لنبضات حبك: علآم تحتج عليَّ؟!
إنني أصيح بأعلى صوتي وأقول: لماذا يا ربي.. لماذا يا إلهي تترك نفسك فريسة هكذا..؟! من يتصوَّر هذا المنظر ولا يذوب قلبه؟!.. من ينظر إليك ولا يحترق فؤاده؟!
وأسمع صوتك الحاني المتهدج: كل هذا من أجلك يا ابني..
وأكاد أصرخ: لا.. لا.. لا أستحق.. لتكف هذه الجلدات اللعينة.. وليكن ما يكون، حتى لو ذهبتُ أنا للجحيم.
وإذ بيدك الحانية تبكم فمي، وإذ بنبضات قلبك تأسرني..
فأصرخ: إن كنت يا رب لا أقدر أن أرفع عنك هذه الجلدات، فلتجعلني مستحقًا أن أُجلد معك، وعندما تقع الجلدة على ظهري.. هل سأكون راضيًا شاكرًا أم إنني سأطلق من جوفي حممًا من الآهات والأنات والنرفذة والزربنة والانفعالات المرة..؟! إذًا إن كنت تسمح لي يا سيدي بأن أُجلد معك، فقط أعطيني القوة للاحتمال والرضى والشكر.
ونهض قائد المئة من جلسته أكثر من مرة، يقترب من يسوع ويرمقه بنظرات فاحصة ويتركه لجلاديه. وفي المرة الأخيرة لاحظ قائد المئة يسوع وهو يلهث، وصدره يعلو ويهبط بسرعة، وصارت أنفاسه متقطعة، فعلم أن يسوع وصل إلى نهاية مداه، وبضع جلدات أخرى ستقضي عليه حتمًا، فرفع يده، ورفع الجلادان أيديهما عنه، وإن كان الجلادان قد أُنهكا إلى هذه الدرجة فما بالك بيسوع نفسه؟!. وما أن قطع أحدهم الحبل الذي يربط يسوع بعمود الجلد حتى سقط شبه مغشيًا عليه مرتطمًا بالأرض الحجرية، وتقدم جنديان يقيمانه ويجلسانه، وجسمه يلتهب نارًا، إذ هو مسخَّن بمئات الجروح.
وكل ما حدث لم يشبع نهم الشيطان ولم يقنع الجنود الرومان.. لقد تناثرت الأقوال وانتشرت الإشاعات في القشلاق: هل رأيتموه؟.. أرأيتم ملك اليهود..؟! هيا لنقدم له الإكرام والسجود، وصدق الجنود الرومان الإشاعات اليهودية أكثر من سيدهم بيلاطس الذي حكم ببراءته أكثر من مرة، فوجدوا فرصتهم لّلهو والتسلية، فطرح عليه أحدهم رداءًا قرمزيًا موشحًا إياه بوشاح الملوك: عش أيها الملك إلى الأبد.. فهذا رداء الملوك.
وقال آخر: وأين تاج الملوك.. يعوزه تاجًا أيها الأبطال..
أسرع ثالث بقص بعض فروع من الأشواك الحادة، وضفَّرها على شكل طاقية ووضعها على رأسه: مادمت أنت الملك فلابد لك من تاج الملوك..
ووقف سليمان الملك منذهلًا لما يجري لملك السلام " اخرجن يا بنات صهيون وانظرن الملك سليمان بالتاج الذي توجته به أمه في يوم عرسه وفي يوم فرح قلبه" (نش 3: 11).. إنه جاء ليقتلع من الأرض أشواك اللعنة ومن النفس أشواك الخطية.. إن كبش إسحق الذي وُجِد مُمسكًا بقرنيه في الغابة (تك 22: 13) كان رمزًا للمسيح المُكلَّل بالأشواك الآن.. إنها الأمة اليهودية، أمه بحسب الجسد، هي التي أسلمته للرومان، فكلَّلوه بالأشواك، وصار يسوع هو الشخص الوحيد على مدار التاريخ كله الذي كُلل بالأشواك قبل صلبه..
أحضر أحدهم قصبة ووضعها في يمينه قائلًا: هوذا صولجان المُلك أيها الملك السعيد..
وأخذوا يسخرون منه ويجثون أمامه مقدمين له التحية: السلام يا ملك اليهود..
وهم يجهلون أنه هو الوحيد الذي تجثوا باسمه كل ركبةٍ ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض.
ولمعت فكرة جهنمية في ذهن أحد أبناء إبليس، إذ أمسك بقصبة وضربه ضربات قوية ومتلاحقة على رأسه.. انغرست الأشواك في فروة الرأس والجبين فأحدثت اثني عشر ثقبًا سالت منها الدماء في خطوط متشابكة على الوجه المُتورّم والعينين الشبه مغلقتين وخصلات الشعر، ونتج عن هذه الأشواك آلام نارية بالرأس جعلته يحرك رأسه يمينًا ويسارًا..
وتركتُ دموعي تنساب تسأله: كيف وخز الأشواك يا يسوع..؟!
أقطرَ جبينك دمًا وعرقًا؟!
أسالتْ دموعك من شدة الألم؟!
هل اختلطت دموعك بدمائك بعرقك لتصنه دواءًا لكل من دوخته أفكار الشر؟!
ووقف ميخا النبي مشدوهًا يشهد " يضربون قاضي إسرائيل بقضيب على خده" (مي 5: 1)
وصار يسوع كحمل قائم وكأنه مذبوح..
ولم يكتفوا بهذا، بل إذ تزاحمت عليه كل الكتيبة نحو ستمائة جندي، ورقصت الشياطين رقصتها بقيادة لوسيفر حول ابن الإنسان الذي طالما قهرها وأذلها، راح البعض يبصق عليه.. والبعض يركله، وهو لم يحاول أن يرد وجهه عن خزي البصاق.. لم يحاول أن يدفع الأذى عنه..
لقد إمتزجت الأخلاق الوضيعة مع الشراسة الشيطانية في تلك النفوس التي تَوحَّشت، فوقف أرميا يرنم حزينًا باكيًا " يعطي خده لضاربه. يُشبع عارًا" (مرا 3: 30).
وإذ أحاطت به كل الكتيبة كأسود ضارية تنشب أظافرها في الفريسة وهي تلهو بها قبل أن تفترسها، رنم داود بلسان يسوع " أحاطت بي ثيران كثيرة أقوياء باشان اكتنفتني. فغروا عليَّ أفواههم كأسدٍ مفترس مزمجر" (مز 22: 12، 13).
وتنهد أشعياء ناطقًا بلسان يسوع " بذلت ظهري للضاربين وخدَّيَّ للناتفين. وجهي لم أستر عن العار والبصق" (أش 50: 6).
ووقف أيوب يصف وضع العبد المتألم " أما الآن فصرت أغنيتهم وأصبحت لهم مثلًا. يكرهونني. يبتعدون عني وأمام وجهي لم يمسكوا عن البصق" (أي 30: 9، 10).
حقًا لقد نجح الشيطان في تمزيق جسد يسوع، ولكنه لم يفلح قط في تمزيق حبه الخالد..
نجح في كسر القارورة، ولكنه فشل في منع أريج الحب من الانتشار..
نجح في تحطيم القشرة الخارجية، فترأى للجميع بريق وروعة الحب الإلهي..
وهمس يسوع: الكأس التي أعطاني الآب ألاَّ أشربها..
عجيب أنت أيها الابن في طاعتك لأبيك..
ووقفت الملائكة في ذهول مما يجري لسيدها منذ دخوله للبستان وحتى هذه اللحظات الرهيبة، التي سيقف التاريخ أمامها طويلًا طويلًا، ولن يسبر أغوارها ولن يصل إلى أعماقها قط..
كم كانت الملائكة تلتمس إشارة من سيدها لتدمر الأرض وكل ما عليها، ولكن الله المتألم يضبطها بكلمته، فالملاك خاضع ملتزم وليس كبطرس الذي لم يقدر أن يضبط نفسه، فبمجرد أن رأى ملخس يقبض بقسوة على سيده قبض على سيفه وحدث ما حدث.. من لي ببطرس الآن..!! ليأتِ وينظر وينفطر قلبه وليس له إلاَّ أن يقول: لتكن مشيئتك يا رب لا مشيئتي.. لك القوة والمجد والبركة والعزة يا عمانوئيل إلهنا وملكنا..
آه.. لقد قاسيتَ يا يسوع كل هذه الآلام القاسية والعذابات الوحشية التي تفوق الوصف والخيال.. إنها تساوي كل الآلام والعذابات التي يستحقها الخطاة.. كل الخطاة.
حدثت هذه المهزلة في دار الولاية التي هي ملجأ لكل إنسان مظلوم، وكم قاسيت يا يسوع سواء من الجهات الدينية في بيت رئيس الكهنة، أو من الجهات الدنيوية في دار الولاية..؟! ورأيتُ الجور في مكان العدل، والظلم في مكان الحق، والعذابات الوحشية في مكان القضاء، وتحوَّل مسرح العدالة إلى مسرح للشياطين.. ولا أدري كيف صمتَّ أيها الوالي على هذه الممارسات غير الآدمية..؟!
وبعدما استهزأوا به نزعوا عنه الرداء وألبسوه ثيابه.. لقد لصق الرداء بالجسد الذي تلطخ بالدماء، فلم يخلعوا عنه الرداء بهدوء، إنما نزعوه نزعًا فعادت الجروح تنزف من جديد، وكأنها هي المراحم الإلهية، فهي جديدة كل صباح..
وأخيرًا أبلغ قائد المئة بيلاطس بانتهاء المهمة، فخرج إلى "جبَّاثا" وجلس على كرسي القضاء و" جبَّاثا " عبارة عن منصة مستديرة مرتفعة يصعد إليها القاضي بواسطة درجات رخامية تُدعى البلاط، وتسمح للشعب أن يرى القاضي ويتابع الحوار. وعندما رأى المتظاهرون بيلاطس ازدادوا صياحًا وصراخًا.. لقد نجح رؤساء الكهنة ومشايعيهم في تضليل هذا الشعب الغفير، وأصبح القلق والتوتر سيدا الموقف.. الشمس تسرع في طريقها، والعيد يدق الأبواب، ولو ظلت الأمور مُعلَّقة حتى مغيب الشمس فيسوع لن يُصلب إلاَّ بعد انتهاء فترة الأعياد، ومن يدري ما يمكن أن يحدث خلال هذه الفترة (وكأنك يابو زيد ماغزيت).
وأشار بيلاطس بيده فصمت الجميع وقال: ها أنا أخرجه إليكم لتعلموا إني لست أجد فيه علة واحدة.
وأشار بيلاطس البنطي إلى أحد ضباطه، فأحضر يسوع أمام الشعب، وأقبل يسوع.. مُكلَّلًا بالأشواك، وقد تسخَّن ظهره بالجراحات العديدة، وتورم جلده المتهرئ، وأثر الكدمات واللطمات على وجهه، وقد نسجت الدماء حول جسده الممزق ثوبًا قرمزيًا، ووقف يسوع تجتاحه آلام مرعبة بلا توقف، فأخذ يترنح ويهتز اهتزازات خفيفة، وهو يبذل قصارى جهده لكيما يحفظ توازنه بعد أن تهلهل جسده وجاز في عقوبة " نصف الموت " ومن جاز في هذه العقوبة كان ينبغي أن لا توقع عليه عقوبة أخرى.. أنه منظر يفتت القلب ويذيب الفؤاد، حتى لو كان هذا القلب قد كدَّ من صوان. أما قلب هذا الشعب فكان أقسى كثيرًا من حجر الصوان.
وأشار بيلاطس بيده فصار هدوء وكف الصياح، وقال لهم بصوت جهوري:
هوذا الإنسان.. إني لا أجد فيه علَّة..
فصرخوا بصوت ارتجت له أورشليم: خذه.. خذه اصلبه.. وكأنهم يتبرأون منه إذ صار عار عليهم.. الذي لم يعرف خطية صار خطية لأجلي.
ولو كان لدى بيلاطس دليلًا واحدًا يدين يسوع لحكم عليه على الفور، ولكن ما العمل وجميع الأدلة الدامغة تصرخ وتصيح وتُصرّح ببراءته؟!!