مدرسة الإسكندريّة
1
إنَّ المشهد الذي يتبادر إلى أذهاننا حينما نتحدث عن المدارس والمعاهد اللاهوتية هو المنشآت الضخمة والأبنية المتعدِّدة، بينما لم تكن مدرسة الإسكندرية القديمة سوى مجموعة من الأساتذة العلماء، المختبرين الحياة التي في المسيح، ينتقلون من مكانٍ لآخر، يجتمعون في بيوتهم أو في بيوت تتسع لطلبتهم. لهذا لم تكن المدرسة مؤسسة تعليمية بقدر ما كانت حركة إنارة في المجتمع المسيحي القديم وهذا ما جعلها مضيئة وهَّاجة، بل ومشتعلة بالروح لخدمة ملكوت الله.
ولم تقتصر المدرسة على تلقين العلوم اللاهوتية فقط، بل كانت مدرسة موسوعية encyclopedic؛ أي أنها كانت تُقدِّم مختلف أنواع العلوم. ولكن هذا الانفتاح الفكري على العلوم المختلفة لم يكن ليذيب نبتة المسيحية الوليدة ولكنه كان بمثابة تربة خصبة لصياغة إيمان راسخ وغير متزعزع أمام لُجَج التيارات الفلسفية التي كانت تَلِفُّ العالم القديم آنذاك.
إن منهجية التعليم في المدرسة القديمة لهي شيءٌ مدهشٌ حقًا. فلقد كانت هناك ثلاث مراحل تعليمية في المنهج الذي اتفق عليه عمداء وأساتذة المدرسة وهي؛ دراسة العلوم الطبيعية ثم دراسة الفلسفات الدينية والأخلاقية ثم دراسة التعليم اللاهوتي المسيحي. وكأننا هنا أمام منهج تعليمي تصاعُدي يسمو بالإنسان من المحسوسات (العلوم الطبيعية) إلى المُدرَكات العقلية والذهنية (الفلسفة) حتى يصل بالإنسان إلى المدار الروحي (التعليم اللاهوتي المسيحي). إن تلك المنهجية تحمل إيمانًا بالطبيعة والفكر كأدوات تصل بالإنسان إلى أعتاب معرفة الله. هو ما أكده القديس كليمندس في كتابه المتفرقات، إذ يقول: [إنَّ الفلسفة هي مرحلة إعداد؛ فهي تهيئ الطريق للشخص الذي يجتذبه المسيح نحو الدعوة العليا]. فالمعارف لا تصبح عائقًا أمام معرفة الله إلا حينما تتوقف عند ذاتها وتدور في دائرتها الخاصة وتتقوقع في الزمن الحاضر وتتجاهل التساؤلات الوجودية والأبدية!! إلا أن التعليم السكندري القديم رأى أن الخليقة تشهد لله وتُخبِّر بمجد الله، وأن العقل لا يهدأ إلا حينما يستلقي على أجنحة الروح، فتُحلِّق به في أجواء روحية غير خاضعة للتحليل والمنطق والتجربة والمشاهدة.
فالمدرسة القديمة آمنت بالإنسان الكامل الذي يجب أن يخوض مغامرة المعرفة والتي لن تزيده إلا جوعًا إلى ثمرة الحياة، المسيح يسوع، الذي أمامه تركع الطبيعة وتنحسر أمواج الفكر الجامحة، فيصير هدوءًا وسكينة، يعاين فيها الإنسان، الله، صارخًا: جيد يا رب أن نكون ههنا.
فهل يمكننا في القرن الحادي والعشرين أن نخوض مغامرة المعرفة متمسكين بهُدب ثوب الرب؟ لتصير مغامرتنا شهادة للعالم أن المسيح هو ربُ الحياة وفيه تتلاشَى تساؤلات وحيرة الإنسان؟!..
إنها صلاتنا التي لن تتوقف..
2
مدرسة الإسكندرية هو المصطلح الذي يألفه كل قارئ لتاريخ الكنيسة شرقًا وغربًا؛ فهي بحسب وصف Groves كانت:]مركزًا للدراسات المسيحية، دون منافس، في العالم المسيحي[. فالمسيحية التي وجدت لها أرضًا خصبة في الأسكندية لم تجد مدينة تحتضن الفكر المسيحي وترويه من عرق العلماء والباحثين والكارزين الممزوج بالصلاة والعبادة الحارة أفضل من الإسكندريّة. فهي ملتقى الجنسيات والعرقيات والثقافات في العالم القديم مما جعلها مركزًا للفكر الإنساني، تُبدع فكرًا لتلقي بضيائها على العالم المتلهِّف لنتاج الحركة والديناميكية المتفجرة بين معاهدها وأروقتها. ولم تكن المسيحية بأي حال من الأحوال بمنأى عن هذا الحِراك الفكري الجامح؛ فالفلسفات والتيارات الفكرية التي كانت تتوالد آنذاك كانت مصطبغة بلون الهللينية الوثنية تارةً والغنوسية التصوفية تارةً أخرى، لذا كان على مسيحيي الإسكندريّة أن يُقَوُلِبوُا حقيقة الخلاص في تعبيرات وصيغ تتناسب مع العقل الفلسفي النقدي المنتشر حينذاك. لذا لم يكتف المسيحيون بالعبادة ولكنهم كانوا مثقَّلين بِهَمّ الكرازة للمجتمع الذي يحيون فيه، فكل نفس لا تصل إليها حقيقة الخلاص تمثل جرحًا في مسيرة الكرازة والامتداد بالفداء لكل العالم، كوصية الرب بل ورجاؤه من الكنيسة.
من هنا كانت ضرورة الوعي بالإيمان وعيش الإنجيل لإعلانه لكل فئات الشعب من البسطاء إلى الفلاسفة. لذا فقد صارت الإسكندرية، بحسب تعبير الكسندر روبرت:] عقل المسيحية The Brain of Christendom [لأنها لم تحتقر العقل الإنساني ولم تتعال عليه بدعوى الروحانية -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- بل خاطبته من خلال عمق الكلمة وحملته ليركع أمام الكلمة الإلهية ليدرك سر الحكمة الحقيقية المختبأة منذ الدهور والتي أُعلنت للخليقة في المسيح يسوع.
وإن أردنا أن نتوغل في روح مدرسة الإسكندرية القديمة فلنقرأ التعبير الذي وصف به أكليمندس السكندري، معلمه بنتينوس، النحلة الصقلية، إذ يقول عنه:]لقد كانت روحه ممتلئة من العنصر غير المائت الذي للمعرفة الإلهية[.
فالروح الممتلئة من المعرفة الإلهية بالاختبار والحياة والتي انعكست في قوة كلمة التعليم كانت سر مدرسة الإسكندرية القديمة، لذا كانت فعَّالة وفاعلة في المجتمع بل واستطاعت أن تجابه الفلسفات المختلفة وتُخضِعها للروح وتطوِّعها لتفسير الخلاص الذي أبرق في سماء البشرية بميلاد الله الكلمة، اللُّوغوس الحي والحقيقي. فتغيرت خريطة الإيمان في المدينة العريقة وخضعت الفلسفة للحياة وتوقف حكماء هذا الدهر أمام حكمة الله، وقبلوا جهالة الصليب حينما تذوقوا عربون الملكوت.
فالسلام لأرواح أبائنا الغيورين، معلمي المسكونة، وأبواق الإنجيل الذي وصل أصداؤه إلى أقاصي الأرض، الذين أحبوا المسيح بل وأعلنوه حبًا لكل الخليقة.