|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
اللاّوعي والإدانة الإدانة هي الحكم على الآخرين من خلال سلوكياتهم وغضّ البصر عن دوافعهم والغفران هو التماس العذر للدوافع وغضّ البصر عن السلوكيات إن الإنسان يحيا في الوجود من خلال وعيه بما حوله، ويتشكّل سلوكه وتصرفاته بقدر تفتُّح ونُضج وعيه في فهم الأشخاص والأشياء من حوله، إلاّ أنّ هناك عامل آخر شديد الأهمية يؤثِّر على سلوكك ويتحكَّم في تصرفاتك بشكلٍ غير ظاهر؛ إنّه اللاّوعي.. اللاّوعي هو المخزن الذي يتلقَّى كلّ خبرة يمرّ بها الإنسان، وكلّ موقف يجتازه، وكلّ معاملة يلقاها، بل إنّه يتأثّر بطريقة التربية التي يشبُّ عليها الشخص من أيام طفولته المُبكِّرة. وبعد أن يتلقَّى اللاّوعي هذا الكمّ الهائل المتراكم والمستمر من الأحداث والمفاهيم، يبدأ في إعادة تشكيلها ليصل من خلالها إلى رؤيا للحياة، وتتحوّل تلك الرؤيا إلى قوّة دفع غير منظورة تبدأ في ممارسة سلطانها على الإنسان وتصبغه بطابعها الخاص. يقول أحدهم: لا تقتصر المعرفة على ما نفكّر به في عقولنا فليست الأحداث الخارجيّة هي التي تحثّنا على التحرُّك فقط بل ذلك العالم المُظلِم والسرّي في لاوعينا فقد تجد إنسانًا ما عدائيًّا، وتكتفي بأن تحكم عليه وتضعه في قائمة العدائيّين في حياتك، دون أن تُدْرِك أنّ عدائَه هذا قد يكون نتيجة خبرات متراكمة في اللاوعي، خبرات ترسّبت في وجدانه تحمل ذكريات الإهانة والسخرية. قد تكون عدوانيّته نتيجة تربية أبٍ قاسٍ استبدادي الرأي. قد تكون نتيجة عيب خِلقي دفعه إلى الهجوم المسبق والاستباقي خشيةً من تهكُّم الآخرين. كلُّ تلك العوامل والدوافع قد لا يعيها الشخص نفسه، ولا يُدركها، إلاّ أنها تظهر كرد فعل تلقائي أثناء علاقته مع الآخرين. لذا فمن الضروري أن نلتمس العذر دائمًا للآخرين في تصرّفاتهم التي تبدو لنا غريبة وغير منطقيّة في بعض الأحيان، فخلف كلّ تصرُّف هناك تاريخ في اللاّوعي، وخلف كلّ موقف هناك عُقدة ما تدفعه لانتهاج هذا السلوك. من هنا كان تعليم المسيح لنا بعدم الإدانة، لأننا لا يمكننا أن نخترق حواجز النفس البشريّة لنرى دوافعها في العمل، فأي سلوكٍ لا يجب أنْ يُدان دون النظر إلى دوافعه. انطلاقًا من تلك الحقيقة، نقدر أن نعي تبرير المسيح للخطاة الذين دفعتهم ظروفهم القاسية للخطيئة بالرغم من استعدادهم الداخلي للحياة النقيّة. في المقابل كان كثيرًا ما يُلقي بالويلات على الكتبة والفريسيّين وقادة اليهود، الذين يبدون للناس وكأنّهم أبرارٌ، بيد أنْ خطاياهم كانت خفيّة، ودوافعهم كانت شريرة. الله ينظر إلى القلب، بينما لا يرى البشر سوى السلوكيات الخارجيّة التي لا تُعبِّر عن شيء، ولا نستطيع من خلالها الحُكم الصادق الموضوعي على أحدٍ. ولعلّه إن قُدِّر لأحدٍ أن يعاصر القديس موسى الأسود قبل توبته، فهل كان يمكن أن يرصد في حياته بصيصًا من نورٍ؟! لا أعتقد!! فالجميع سيتعامل معه كمجرمٍ يستحق العقوبة، وليس كإنسانٍ يحتاج لمناخ جيّد ليُظْهِر الاستعداد المُختبِئ خلف مظهر الشرّ. لذا فإنّ أحد القدّيسين أثناء سيره مع تلاميذه، بكَى حينما رأى مجرمًا مساقًا إلى السجن، وحينما سُئل عن السبب، أجاب: “لولا نعمة الله لكنت مكان ذلك المجرم!!” إنّ ليو تولستوي، الروائي الروسي الشهير، يقول في روايته “البعث”، على لسان بطل الرواية نكليودوف: إنّ المساجين أحياناً ما يكونون مساكينَ، وفي الأغلب تكون جناية المجتمع عليهم أفدح من جنايتهم على المجتمع. فهم في الغالب قومٌ حُرموا من العطف والرعاية في صغرهم. وكثر عليهم ضغط الظروف، حتى امتلأت قلوبهم بالحقد، فلماذا يكون هؤلاء في غياهب السجون؟؟ ويكون سواهم طُلقاء، بل يكونون في موضع القضاة لهؤلاء؟! إنّه الحُكم حسب المظاهر الخادعة، دون محاولة البحث في الدوافع لالتماس العذر للآخرين، ومن ثمّ محاولة تحريرهم من القيود التي يرصفون فيها والمقيدة كيانهم الداخلي. لذا فإنّ المسيحية تؤمن بـ“خلقة الإنسان علي غير فسادٍ” كما نُصلّي في ليتورجيّة القديس باسيليوس تؤمن بالخير الدفين في أعماقه، تؤمن أن مسلكه الخارجي المحكوم بدفع خبرات اللاّوعي يختلف عن كينونته الحقّة النقيّة التي تشكّلت على الصورة والمثال الإلهي. لذا فإنّ دور الروح القدس هو تحرير الإنسان من سطوة اللاّوعي، ليرى ويبصر نفسه البهيّة المخلوقة على صورة الله. ليُعاين الأصل في الإنسانيّة كحالة من البرّ، وليتيقّن أنّ الدخيل هو الشرّ، الذي “دخل بحسد إبليس”. ولنتذكّر معًا كيف كان يرى يسوع، الإنسان، حينما نسترجع حادثة المرأة التي أُمسكت في الفعل المُشين، فقد رآها الجميع مدانة وتستحق الموت، بينما كان ينظر المسيح إلى أعماقها، كان يطالع النور الخافت الذي كان يومض بين جدران قلبها، وحينما رأى المسيح هذا النور، قال لها: “ولا أنا أدينك”. لذا دعنا منذ الآن، ألاّ نحكم على الآخرين بحسب سلوكيّاتهم، فقد يكونون مرضَى بسطوّة اللاّوعي المثقَّل بخبراتٍ سلبيّةٍ. دعنا نرى الإنسان بعيني المسيح التي لا ترى سوى الشوق المُختبئ خلف السلوك الظاهر، وحينما نستطيع أنْ نرتدي منظار المسيح لنرى به الآخرين، نقول حينئذٍ لمن دانهم المجتمع: “أن لا أدينك”. وحينئذ سنسمع صوت المسيح الفَرِح يتردّد صداه في أعماقنا، ويقول: “ولا أنا أدينَك” |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
اللاّوعي والإدانة (أبونا الراهب سارافيم البرموسي) |
سمعان والإدانة |
اللاّوعي والإدانة |
ما الفرق بين النقـد والإدانة؟ |
ما الفرق بين النقـد والإدانة ؟ |