|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
ثنائية التوبة إن التوبة ذاتها هي إحدَى ثنائيات الحياة. فهي تعبير عن الميل والصراع في آنٍ واحد. إنها ميلٌ لمشورة الروح بالعودة إلى الله، كما أنها في ذات الوقت صراعٌ ضدّ خيوط الشيطان التي تريد أن تُعرْقِل تلك الحركة نحو الله. إنها تُمثل ثنائيَّة داخليَّة في قلب الإنسان؛ فالاقتراب من مدار النور الإلهي هو في نفس الوقت إظهار مُؤلم لحالة النفس المُتدنِّسة بالخطايا والتعدّيات، تلك التي لَحِقَت بها من جرّاء الخضوع للعالم وقانونه المادي. فالنور وحده هو المُخبِّر عن الظلمة. وهذا ما يجعلنا في حالة نِزاع دائم بين رجاء الاقتراب ورهبة الاقتراب، شوق اللقاء وخَشيْة اللقاء!! وعن ذلك النزاع الذي تجوزه النفس حينما يَبرُق نور الله في أُفقِ الروح، يُحدِّثنا صفروني سخاروف (الراهب الروسي) Софроний Сахаров في كتابه (معاينة الله كما هو)، قائلًا:
كما يكتب كاليستوس وير Kallistos Ware في كتابه (الملكوت الداخلي)، قائلًا:
إنَّ تلك الثنائيَّة الضروريَّة التي تُشكِّل توبتنا هي بالفعل توتُّر خلاَّق، لأنه من بين ألم رؤية النفس على حقيقتها، يَبْرُق النور الإلهي عليها، فتذوب في نشوة التلاقي مع الله، مُتناسيَّةً ذاتها وحالتها وحقيقتها. تلك هي أولى خطوات مغادرة الذات باتجاه الله، وهو ما يضمن النجاة من فِخاخ اليأس المُتربِّصة بالخاطِئ حينما يُعْلِن عودته لأحضان الله الأبويَّة من جديد. إن مشاعر التوبة تتأرجح دائمًا ما بين قطبيْن، وهما: * قُطب النور (الحاضر): وهو يُمثل فرح النفس بعودتها إلى الله. * قُطب ظلمة الماضي: وهو يُمثل ألم النفس لما سببته لقلب الله من جراح حينما أخطأَت. وإن كان قُطب النور في التوبة هو الذي يسبي النفس في نشوة اللقاء فتنسَى حقيقتها في غمار دفء وحنو الله، إلاّ إنَّ قُطب ظلمة النفس الماضيَّة هو ضمانها حتّى لا تستعلي حينما يراودها هاجس التفوُّق الروحي والتميُّز الحياتي عن الآخرين. فالنور الإلهي الحاضر يُحصِّن النفس ضدّ اليأس، كما أن ظلمة الماضي الذاتيَّة تحمي النفس من الاستعلاء الروحي والكبرياء الذهني. إنه نفس مفهوم الحبّ/ الخوف (الرهبة) الذي به نلتقي الله. إنْ تلاشَى الخوف، ارتخت إرادتنا في تطبيق الإنجيل وفي الصمود أمام الخطيئة، وإن تقلَّص الحبّ تحوَّلت مسيحيتنا إلى وثنيَّة جديدة ولكن بمفهوم سلوكي أكثر رُقيًّا. وذلك لأن جوهر الله هو المحبّة، وإن اختفت المحبّة تحوَّلنا إلى عبادة إله آخر أبعد ما يكون عن الثالوث الحبّ. ويرى القديس أغسطينوس أن ثنائيَّة التوبة الداخليَّة ما هي إلاّ حبّ الله وبُغض الذات بآنٍ واحد، لذا يقول مُصَليا (الاعترافات/ الجزء الثاني):
من هنا كانت الثنائيَّة المُكوِّنة لرداء التوبة هي ضرورة بما تحمله من بهجةٍ وما تحمله من ألمٍ لذا فهي توبة مُفعَمة ألمًا وفرحًا بحسب توصيف كاليستوس. ولكن هل هذا يعني أنه يجب علينا قبول حقيقة وجود الخطيئة في حياتنا؟! بالطبع لا. ولكن يجب أن نُدْرِك مدار الصراع الذي نجتازه بشكلٍ لحظيٍّ، وأيضًا طبيعة الأعداء المُتَربِّصين بنا، وكذلك طبيعة الصراع نفسه، بل وطبيعة ذواتنا نحن أيضًا، حتّى يمكننا القيام بعد الانطراح والصمود بعد السقوط والانتصار بعد الانكسار. يجب أن نُدْرِك أن الخطيئة تُحاصِر وجودنا الترابي بجُملته، تتسلَّق جدران القلب لتجد منفذًا للدخول والإنبات، تتلمَّس لحظات فتورٍ أو مللٍ أو تراخٍ أو حيرةٍ أو ضعفٍ لتَدْخُل وتُقيِّد النفس والروح معًا بقيود بها رائحة الجحيم والموت. والإنسان مائل للشَرِّ منذ حداثته كما أعلن الكتاب، لذا فإن الخطيئة لم ينج منها شخصًا على مرِّ العصور!! يبقى أن نُؤكِّد مُجَدَّدًا أن ما يطلبه الله منَّا هو العمل وليس النتيجة، الجهاد وليس الخلاص. لقد تحدَّث القديس بولس أيضًا عن نزاع ثنائي داخلي؛ إنه النزاع بين الإرادة والفعل، بين الاشتياق القلبي والجمود الحياتي. وهو ما نجده حينما نُطالع رسالته إلى أهل رومية، التي يُدوِّن فيها أنينه بلسان كلّ البشريَّة المرتديَّة لِباسًا من لحمٍ ودمٍ، قائلًا: «لأن الإرادة حاضرة عندي، وأما أن أفعل الحُسنَى، فلستُ أجد» (رو7: 18). إن هذا الصراع بين الإرادة المُترجيَّة أبديَّة النور ولِباس الفضيلة، من جهةٍ، وبين العمل المُلوَّث بالتعدي والخطيئة، من جهةٍ أخرى، هو بالفعل مِحْوَر الجهاد الإنساني. إن النُصرة تَكْمُنُ في الجهادوالنعمة دورها أن تُتوِّج هذا الجهاد بالنقاوة والتحرُّر من الخطيئة. لذا فإن الانفلات من حبائل الهاوية هو نتيجة شراكة بين جهادك المُستمِر، وبين النعمة التي تُعِين وتُكافِئ. لذا لا تجعل من الضعف والسقوط مُثبِّطًا لعزيمتك، يجب ألاّ تتوقَّف عن الصراخ إلى الله من أجل الحصول على نعمة التحرُّر، وطالما قلبك يصرخ طالما أنت مُنتصِر. فقط الهزيمة في توقُّفك عن الصُراخ والجهاد، والرجاء في النُصرة. ولعلّ هذا المفهوم نجده بوضوح في الصلاة التي يتلوها الكاهن قبل التقدُّم للخدمة الليتورجيَّة الخاصة بالإفخارستيا، إذ يقول (صلاة الاستعداد / قُدَّاس القديس باسيليوس):
إن تلك الصلاة الممتلئة بالانسحاق الشديد أمام المجد الأقدس، هي بالفعل لسان حال كلّ التائبين الذين لم يَصِلوا إلى التحرُّر الكامل من الخطيئة، ولكن صرختهم الدائمة والمُسْتَمِرة هي: [ككثرة رأفاتك اغفر لي أنا الخاطِئ]. وتلك الصرخة وحدها تحمل على جناحيها سِرّ نُصرة الخاطِئ، على الذات، التي تريد أن تتبرَّر، وعلى الشيطان، الذي يريد أن يَخْدَع النفس ببرِّها تارةً، وبعدم جدوى الوقوف أمام الله تارةً أخرى. إنها الصلاة التي تُهيِّئ الإنسان للوقوف أمام الله، إذ أنها تكسوه بثوبٍ منسوج برقة وعذوبة الاتضاع. وعلى الجانب الآخر، نجد أن الثنائيات التي تُلاحقنا كلّ يومٍ وكلّ ساعةٍ بل وكلّ لحظةٍ في حياتنا، هي السبب الرئيسي والمُباشر لنمونا ونضوجنا. فلولا الأسود لما كان الأبيض رمزًا للطُهر والنقاء، ولولا الظلمة لما كان ابتهاج الطبيعة بيقظة النور، ولولا القتال والصراع لما احتفل البشر بالانتصار. فالتتويج لن يأتي إلاّ عقب القتال. كما أن الطَعْم الحقيقي للنُصرة يَكْمُن في لذَّة الجَهد المبذول أثناء الصراع. إنه التعليم الذي كان يحرص القديس موسَى الأسود أن يُلَقِّنه لكلّ مَنْ كان يأتي إليه شاكيًا ضراوة القتال، إذ اعتاد أن يقول:
فالفضيلة إذًا هي نِتاج الصراع المُحْتَدِم بين قطبي المادة والروح، حينما يميل الإنسان بالروح، ليسمو عن جذب المادة المُستمر والدائم. كما أن الإكليل الختامي لن يستقر على رؤوسٍ لم تكتسِ بالعرق والجهد في سعيها اليومي. وكذلك الغلبة لن تكون إلاّ لمن استطاعوا أن يقولوا [لا] للعالم الحاضر الموضوع في الشرير. إن هذا الصراع بين المادة والروح هو في حقيقته صراع تجري أحداثه في العالم الإنساني الصغير microcosmos، داخل الكيان البشري، بين خواطر إبليسيَّة تتسلَّل، في ظلمة الضمير، لتجذِب الإنسان تجاه الهاوية، ولتتجسَّد في شكل خطيئة، وبين نفحات الروح القدس التي تبغي إشعال القلب الذي قاربت فتيلته على الانطفاء، ليُبْصِر من جديد نور الحياة. وهذا الصراع في عقل وقلب الإنسان يجعله في حالة نزاع دائم، بين قوَّة هائلة تجتذبه لمن هو غير منظور، بحواس الجسد، ولكنه مرئي ببصيرة الروح النقيَّة، وبين قوى أخرى تستخدم الحواس لتستميله نحوها. وهذا النزاع الإنساني لا يتوقَّف، ولكن الإنسان، بمضي الزمن، يصبح أكثر تبصُّرًا بالحقيقة، وأكثر إدراكًا للخدعة التي تقبع خلف الغريزة المُتسربِلة بثوب اللذَّة، وذلك حينما ينمو وعيه الإيماني من خلال خبرات يوميَّة متلاحقة. وبقدر ما يميل الإنسان صوب النور بقدر ما تضعف همسات الظلمة التي تجتذبه. وبقدر ما يرتضي في المقابل بوجود قشور الخديعة الشيطانيَّة على ناظريه، تشتدّ حبائل الظلمة حول عنقه، فيختنق، ويصبح أسير حالةً من انعدام المعنَى والقيمة والغاية، ويصبح أقرب للهاوية منه للملكوت. يكتب لنا باولو كويلهو Paulo Coelho (الروائي البرازيلي) في روايته (محارب النور) Guerreiro da Luz عن تلك القوتيْن اللتيْن تجتذبان النفس، قائلًا:
إن نصرتنا مَرْهونة أولًا وقبل كلّ شيءٍ بوعينا بالصراع وبأطرافه وبوسائل النُصرة وأسباب الهزيمة. فلقد استخدم الشيطان كلمات الروح لخداع المسيح، ولكن وعي المسيح بقصد الروح من تلك الكلمات صار هو سِرّ انكسار الشيطان في تلك الحرب التي اتَّخذت من الجبل مكانًا شاهدًا عليها. والوعي يعني تدريب الحواس وشحذ المهارات الروحيَّة القتاليَّة، بالصلاة وكلمة الله والافخارستيا... ولكن قبل كلّ شيء؛ التسربُل بالتواضع كما بالجسد. |
26 - 06 - 2014, 06:09 AM | رقم المشاركة : ( 2 ) | ||||
..::| مشرفة |::..
|
رد: ثنائية التوبة
شكرا مارى
ربنا يعوض تعب خدمتك |
||||
26 - 06 - 2014, 10:52 AM | رقم المشاركة : ( 3 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: ثنائية التوبة
شكرا على المرور
|
||||
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
“ابنة صهيون” و“أمومة ثنائية” |
نداءات ثنائية |
البرمائيات ثنائية الجنس |
ثنائية الحياة |
ثنائية الخطية |