2- الفصل الأول: الموسيون
انطلقت أشعّة الشمس تمرح على أقبية المدينة العظيمة، تقفز كطفلٍ صغيرٍ يلهو على أسطح المعابد الشاهقة والبنايات المُمتدة، أُطفِئَت سُرج المساء ليحلّ محلّها نور النهار العابث عبث المدينة المصريّة الإغريقيّة العريقة.
خرج إليوس من بيته الواقع على شاطئ البحر مُتّجهًا إلى الموسيون. كان مُعتادًا أن يسلك الطريق على شاطئ البحر لينعم بهواء الصباح البِكر لعلّه يوقظ فيه أحلامًا جديدة عوضًا عن شعوره بالحزن لفقدان والدته منذ أيامٍ خلت. فالبحر يداوى الجراح، وكأنّ أملاحه تُطهِّر ما رسب في النفس من حزّ الزمان بمبضع الفراق والغياب..
كان إليوس شابًا يافعًا سكندري المولد، رشيق القوام كآلهة الإغريق. ذو ملامح هادئة، عيناه العسليّتان تلتمعان في ضوء الشمس وكأنّ رعشة المعرفة التي تملك قلبه تتحوّل إلى رعشة ضياء في عينيه. حليق اللّحية تشبُّهًا باليونان، شعره جَعُدٌ بلون عينيه. يرتدي التونيك (اللفاعة) الروماني، مُنتعلاً حذاءً جلديًّا مشدودًا في لفّةٍ أفعوانيّةٍ على قصبة ساقه العارية.
والده كان يعمل في القوات المُساعدة والتي تُعاون الفيالق الرومانيّة في تأمين البلاد، وقد نال الجنسيّة الرومانيّة كتكريمٍ له بعد أن قضَى في الخدمة العسكريّة ثلاثون عامًا.
خالط إليوس اليونانيين كثيرًا في المدينة وكان كثير التردُّد على الموسيون، حيث كان الشغف يستبدّ به لفرط حُبّه للعلمِ ولفرط اندهاشه من هذا المجتمع الذي تكرّس تمامًا للتجارب العلميّة، وخاصّة في الفلك الذي كان له سحرٌ خاصٌ، فهو أشبه بجعبة مليئة بالأسرار والغموض تنادي على إليوس ليفكّ بعضًا من ختومها.
من بين الأساتذة الذين كان يُرافقهم على الدوام، بسكينوس، وهو عالمٌ من علماء الفَلك، إلاّ أنّ حُبّه للفلسفة لا يقلّ عن شغفه بالفَلك، عمله الأساسي. لقد كان يرى أنّ البحث العلمي يجب أنْ ينبُع من منظورٍ ورؤيةٍ فلسفيّةٍ، فالفَلك، مخزنُ الأسرار والأساطير، يُؤكِّد على حقيقة غير التي نحياها ههنا على الأرض. فما هو مرئي ليس سوى غلاف للحقيقة، وكلّما تكرّس الشخص للمعرفة الحقّة، ملتزمًا طريقًا أخلاقيًّا مُنضبطًا سيحظَى بمعرفةِ الحقيقة.. وقتها سينعم بسعادة غامرة وتتحقّق إنسانيّته في ملئِها.
كان بسكينوس أحد تلاميذ العالِم الشهير بطليموس الذي وضع كتاب الأطروحة الرياضيّة (المجسطي) في الفَلك، وقد نال هذا الكتاب شهرةً كبيرةً.
لم يكن إليوس قادرًا على فهم نظريّة بسكينوس تمامًا ولكن كلمات الأخير كانت مُحمّلة بنغمة تُريح النفس وتعلو بها فوق المحسوسات وتأخذها في رحلةٍ من النشوة وكأنّها لحظات من الحقيقة المُجرّدة. كان ما يجتذب إليوس طعم الكلمات وسرائريتها.