عذراء من أنطاكية
وخوفًا من أن يقول البعض: ”كيف سُقتَ لنا مِثال القديسة العذراء مريم كما لو كان هناك مَنْ يقدِر أن يتشبَّه بأُم الله؟ ولماذا ذكرت مِثال القديسة تقلة التي علَّمها رسول الأُمم؟ أعطِنا مُعلِّمًا من نفس مُستوانا إن كُنت ترغب في تعليمنا وتلمذتنا“، قدَّم أمبروسيوس مِثالًا حديثًا حتّى يعلم الجميع أنَّ الرَّسول بولس ليس مُعلِّمًا لواحدة فقط بل لكثيرات أُخريات.
فقد كان في أنطاكية عذراء تحاشت أن تراها عُيون الناس في الأماكِن العامة، مُتجنِبة نظرات الرِجال الذين اشتاقوا كثيرًا وتطلَّعوا إلى الاقتران بها، وخِشية أن يتمادوا في الاشتعال بشهوتِهِمْ، كانت تعترِف علانية برغبتها في حِفْظ بتوليتها ومن ثمَّ تُطفِئ بأقوالِها لهيب الأشرار.
ولكن الإضطهاد ثار ضِدَّها، ولم تعرِف العذراء أين تذهب، وكان كلّ خوفِها أن تقع في أيدي الذين خطَّطوا ضِد عِفتها، ولذلك هيَّأت نفسها لفضيلة بُطولية، إذ كان لها إيمان بلغ حد الاستهتار بالموت، ورجاؤُها العظيم جعلها تنتظِره، حتّى أتى يوم إكليلها، وأحضروا البتول التي أعلنت أمام الجميع إيمانها وعِفِتها، وحينما تأكَّدوا من إصرارها على اعترافها وخشيتها على حِشمتها واستعدادها لتحمُّل العذابات، عقدوا العزم على إجبارها للتخلي عن إيمانها وذلك بالقضاء على بتوليتها، لذلك صدر الحُكم بإيداعها بيتًا سيِّئ السُمعة، إن هي رفضت السجود للأوثان.
لقد ساقوا العذراء إلى بيت الخِزي لكن البتول تظل في أي مكان عروس للمسيح وهيكل لله، فلم تقدِر بيوت الخِزي أن تُؤذيها أو تُؤذي عِفتها بل عصفت عِفتها بالبيت الرديء السُمعة.
اندفع إلى المكان جمع غفير من رِجال مُحترقين بالشهوة الرديئة، أمَّا هي فقد رفعت يديها نحو السماء، كأنها جاءت إلى بيت للصلاة وليس إلى مُستنقع شهوات، وصرخت قائلة:
”أيها الرب يسوع المسيح، يا مَنْ روَّضت الأُسود المُفترِسة من أجل البتول دانِيال (دا 6: 22) اسمح الآن أيضًا يا رب أن تُروِض أفكار هؤلاء الرِجال... لقد صارت النار كالندى حول أجساد الفِتية الثَّلاثة العِبرانيين (دا 3: 27) ووقف الماء يخدِم اليهود (خر 14: 22) وصار لهم سورًا عن يمينهم وعن يسارِهِمْ، كرحمتك لا كطبيعته، لقد ركعت سوسنَّة تنتظِر عِقابها لكنها انتصرت على الذين اتهموها بالزِنى، لقد يبست اليد التي امتدت نحو مذبحك لتعصِف به، وتُدنِس ذخائِر هيكلك المُقدس (1مل 13: 4) وها هو هيكلك الآن قد أوشكوا أن يُدنِسوه، فلا تسمح أن ينتهكه أحد، أنتَ الذي لا يسلِبك أحد، فليتمجَّد اسمك الآن حتّى أنني، وقد سلَّموني إلى الخِزي، أخرُج بتولًا“.
وما أن انتهت من صلواتها حتّى اقتحم المكان رجُل تبدو عليه سِمات مُحارِب جسور، فارتعد الحاضِرون، أمَّا هي فلم تنسى ما قرأته وقالت: ”ذهب دانِيال ليُشاهِد عِقاب سُوسنَّة لكنه وحده أثبت براءتها“ وتساءلت: ”قد يختفي خروف في هيئة هذا الذِئب، وللمسيح أيضًا جنوده، فهو قائِد الطغمات الملائِكية (مت 26: 53) أو ربما هو الجلاَّد الذي يُنفِذ حُكم الإعدام!! فلا تخافي يا نفسي لأنَّ مثل هذا يصنع الشُّهداء“.
ويمضي أمبروسيوس في حديثه الشيِّق فيروي أنَّ الجُندي قال لها ”لا تخافي يا أُختي، أرجوكِ، فأنا كأخ لكِ أتيتُ لأُنقِذ حياتِك، لا لأُهلِكها... فلنستبدِل ثِيابنا لأنَّ الذي لي يُناسِبك والذي لكِ يُناسبني وكِلانا للمسيح، ثوبِك سيجعلني جُنديًا حقيقيًا، أمَّا ثوبي فسيجعلِك عذراء حقيقية للمسيح، ارتدي ملابسي حتّى لا يتعرَّف عليكِ أحد أمَّا أنا فلن أرتدي شيئًا حتّى يعرفني المُضطهِدون، خُذي الثوب الذي يُخفي مظهرِك كعذراء وأعطني الثوب الذي يُقدسني كشهيد، خُذي والبسي العباءة التي تُخفي أطراف البتول وتحفظ عِفتها وحِشمتها، خُذي غِطاء الرأس الذي يُغطي شعرِك ويستُر طُهرِك، وعندما تخرُجين احرصي ألاَّ تنظُري إلى الوراء، وتذكَّري امرأة لوط (تك 19: 26) التي فقدت طبيعتها نفسها حينما نظرت للوراء إلى ما هو دَنِسْ ونَجِسْ حتّى بعيون طاهرة عفيفة!! لقد خدمتِ الخدمة الصَّالِحة التي للعِفة التي جعالتها الحياة الأبدية، لقد لبستِ دِرع البِّر الذي يحمي الجسد بالسلاح الروحاني، وأخذت تُرس الإيمان الذي به تدفعين عنكِ الجِراح، ولبستِ خُوذة الخلاص (أف 6: 14-17) لأنه حيث يوجد المسيح، يوجد دِفاع عن خلاصنا، إذ كما أنَّ الرجُل رأس المرأة، هكذا المسيح رأس العذراء البتول“.
ثم خلع الفارِس عباءته -وكان هذا الرِداء يلبِسه الزُّناة والمُضطهِدون- وقدَّمهُ للعذراء...
ويُعلِّق أمبروسيوس بتأمُلاته العميقة قائِلًا : ”يا له من مشهد! يا له من إعلان عن النِعمة أنَّ شابًا وشابَّة استعدَّا للاستشهاد داخل بيت سيِّئ السُمعة!! تأمَّلنَ تلك الصِفات: جُندي وعذراء هل بينهُما اتفاق في طبيعتهِما؟ لكنهُما صارا مُتفقين برحمة الله، كي يتحقَّق المكتوب أنَّ الحَمَلْ والذِئب يرعيان معًا (إش: 65: 25) وها هُوذا الحَمَلْ والذِئب لا يرعيان فقط معًا بل يُقدِّمان ذبيحة معًا!! وبعد أن استبدلت (العذراء) رِداءها هربت من الإثم لا بجناحين من عِندها، بل قد أُعطيت جناحين روحانيين، وفي مشهد لم يرهُ أحد من قبل تركت بيت الخِزي عذراء، عذراء للمسيح“.
أمَّا الذينَ كانوا يحدِقون بأعيُنهم الشِّرِّيرة فلم يروها وهي تخرُج، إذ كانوا كلُصوص حول الفريسة، أو كذِئاب حول حَمَلْ!! أمَّا التي بلا خِزي فقد خرجت من وسطِهِمْ، لكن سُرعان ما عرف الحاضِرون بأمر الجُندي الذي ساعد العذراء على الهرب، فصدر الحُكم بموته بدلًا من العذراء التي سهَّل هروبها، ولكن ما إن علمت العذراء بذلك حتّى ذهبت لِتنال إكليل الشهادة، ولمَّا عاتبها الجُندي قالت: ”لم أقبل أن تُنقِذني من الموت لِتموت أنتَ بل لأُحافِظ على عِفتي، ولستُ أسألك أن تُسدِّد عني الدِين فأنا مُستعدة أن أوفيه بحياتي، ولن أقبل أن تموت عني، فلأمُت بريئة بدلًا من موتي مُذنِبة، فلا تسمح أن أُدان بموتك بل أن أتبرَّر باستشهادي... فالعذراء تقبل أن تُقطع أوصالِها عن أن تُؤذي عِفتها، تقبل أن تُجرح في جسدها عن أن تُجرح في كرامتها بالمهانة والخِزي، أنا لا أتحاشى الاستشهاد بل أهرب من الخِزي، إن أنتَ قبلت الموت عني فلستُ تُنقذني بل تخدعني، لا تُحاوِل إعاقتي عن تنفيذ هذا الحُكم فيَّ، لأنَّكَ إن أعتقتني ستكون قد حكمت عليَّ بميتة أشر وأمَرْ على نفسي بين الأشرار الذين يُريدون التهامي، فلا تسمح لِعِفتي أن تتهدَّد بالخطر، وسوف تُكرَّم أكثر إن أنتَ جعلتني شهيدة أفضل من أن أموت زانية“.
ويختَتِمْ أمبروسيوس هذه البطولة الروحية:
”ماذا تعتقِدون كانت النِهاية؟ لقد حُكِمَ على الاثنين بالموت! الاثنان أُدِينا! وكِلاهُما نال النُّصرة، لم يُقسم الإكليل بل صار الإكليل إكليلين... هكذا الشُّهداء يحِثُّون بعضهم على الاستشهاد من أجل إكليل الحياة الأبدية“.