نبوات إرميا عن مصر
انهيار الذراع البشري وتقديسه
تمثل مصر في عصر الأنبياء الاتكال على الذراع البشري والحكمة البشرية عِوض الالتجاء إلى الله، وطلب الحكمة السماوية في كل عمل. لهذا جاءت نبوات الأنبياء تُعلن انهيار الذراع البشري الذي نتكئ عليه، لا ليبقى محطمًا، وإنما لكي يقدسه. هكذا تنبأ الأنبياء عن دمار مصر التي اعتمد عليها الشعب، ليعودوا فيعلنوا عن عمل الله مع مصر حيث تبرأ من أمراضها الروحية وتتقوى بذراع الرب وتتقدس لحسابه. فما يلي عرض سريع لهذه النبوات.
تبرز شجاعة إرميا الذي حُمل مع كاتبه باروخ قسرًا إلى مصر، في بلدٍ غريبٍ، ولم يكن معه أحد يقف بجواره سوى باروخ. ومع هذا نطق بنبواته بكل جرأة ضد فرعون مصر وضد اليهود الهاربين إليها، مؤكدًا سقوط مصر تحت سلطان بابل.
بالرغم من عصيانهم وذهابهم إلى مصر، لم يمنع الله عنهم النبوة، فتنبأ إرميا وهو في مصر. أنه يود أن يفتقد شعبه أينما وُجدوا. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم [8] أن الله سمح لإرميا أن يُحمل مع الشعب إلى مصر، لأنهم وإن كانوا قد عصوا صوت الرب بإصرار شديد، لكنه لم يتركهم في عنادهم. حملوا إرميا ليعلن الصوت الإلهي ولو بغير إرادتهم حتى لا يهلكوا تمامًا.
أولًا: سقوط مصر
"أصعدي إلى جلعاد وخذي بلسانًا يا عذراء بنت مصر. باطلًا تكثرين العقاقير. لا رفادة لكِ. قد سمعت الأمم بخزيكِ، وقد ملأ الأرض عويلكِ، لأن بطلًا يصدم بطلًا فيسقطان كلاهما معًا" (إر46: 11-12).
إذ سقط جيش فرعون لم يعد يرى النبي في الجيش أبطالًا، بل رآه كله أشبه بفتاة، أو ببنتٍ ضعيفة مجروحة، جراحاتها خطيرة لا يُرجى شفاؤها. لقد عُرفت مصر القديمة بنبوغها وتقدمها في الطب، خاصة الطب النباتي. حاليًا تقوم دراسات مكثفة حول هذا الطب. لكن يرى النبي أن عقاقير مصر وخبراتها الطبية عجزت عن تقديم الشفاء لجيشها الجريح. صاروا في خزي وامتلأت الأرض من صراخاهم حيث يتعثر بطل في بطلٍ ويسقط الكل معًا.
أين العلاج؟ في جلعاد حيث تجد البلسان! عليها أن تصعد إلى هناك فتنال الشفاء! إنها في حاجة إلى روح الله القدوس الذي وحده يمسك بيد البنت الأممية ليصعد بها من وحل هذا العالم وفساده إلى كنيسة المسيح، جلعاد الحقيقية، هناك تجد السيد المسيح، البلسان الروحي واهب الشفاء.
إنها دعوة موجهة إلى الأمم التي يُرمز لها بمصر لتترك عقاقيرها الكثيرة وتلجأ إلى كنيسة المسيح، هناك تتحد مع المخلص الذي يضمد جراحات النفس ويشفيها [9].
ارتفاع اسم بابل على حساب مصر
"حيّ أنا يقول الملك رب الجنود اسمه كتابور بين الجبال، وككرمل عند البحر يأتي" (إر 46: 18). لقد ظن فرعون انه سيحطم بابل، وينزل بملكها إلى الهاوية، فإذا بهزيمة مصر تجعل من بابل الإمبراطورية العظمى الوحيدة في العالم، فيصير اسمها مشهورًا جدًا كشهرة جبل تابور وسط جبال كنعان، وكشهرة الكرمل عند البحر. أكد الله الملك رب الجنود بقسمٍ أن هذا يتحقق فعلًا وليس تهديدًا.
يبدو أن إرميا النبي رأى في نبوخذنصر الذي غزا مصر بقوة جبلًا عاليًا يرتفع فوق السهل. إنه مثل جبل تابور الذي يرتفع حوالي 1800 قدمًا كجبلٍ منفردٍ في سهل يزرعيل في شمال إسرائيل، أو مثل جبل الكرمل عند البحر الذي تبلغ قمته حوالي 1700 قدمًا وينحدر سفحه الغربي بحدة نحو البحر المتوسط [10].
ثانيًا: صارت مصر بنتًا عاجزة عن التصرف
"اصنعي لنفسك أهبة جلاء أيتها البنت الساكنة مصر، لأن نوف تصير خربة وتحرق فلا ساكن" (إر19:46)،جاءت الضربة قاضية في هذه المرة، حيث حُطمت مصر كلها، خاصة المدن الكبرى. يصور مصر بفتاة مسبية لا تقدر على الدفاع عن نفسها أو الهروب من الذين أسروها، هذا عن جيشها العظيم وملكها فرعون المتشامخ، أما عن الأرض فصارت نوف وهى من المدن الكبرى خرابًا، أحرقتها النيران، لا يقطنها إنسان.
ثالثًا: صارت مصر كعجلة مسمنة لا تصلح إلا للذبح
"مصر عجلة حسنة جدًا. الهلاك من الشمال جاء جاء" (إر20:46). لماذا يشبه مصر بالعجلة الحسنة جدًا؟ لقد ظن فرعون بجيشه -الذي من بين معبوداته الرئيسية عجل أبيس- أنه قادر أن يخلص شعب يهوذا الذي في نظره يعجز الله رب الجنود عن إنقاذه. لم يدرك فرعون أنه قد حول بهذا الفكر مصر إلى عِجلة تحمل الصورة الحسنة جدًا، وذلك بسبب شهرتها في العالم كله، وقوة جيشها، وإمكانياتها من جهة الخيول والمركبات وكل العدة الحربية. لكنها عجلة سمينة عاجزة عن أي عمل، لا تصلح إلا للذبح، يأتي الذين من الشمال (بابل) ليذبحوها. لقد حوَّل العجل أبيس عابديه إلى عجلة حسنة جدًا تؤكل وتستهلك فلا يكون لها حياة!
رابعًا: حوَّلت حلفاءها والجنود المرتزقة إلى عجول سمينة
"أيضا مستأجروها في وسطها كعجول صيرة، لأنهم هم أيضا يرتدون يهربون معًا. لم يقفوا لأن يوم هلاكهم أتى عليهم وقت عقابهم" (إر21:46). لم تصر مصر الوثنية وحدها عجلة كمعبودها عجل أبيس، وإنما حولت مستأجريها أي القوات المرتزقة الأجيرة والتي حلت في وسطها وشاركتها عبادة العجل إلى عجول صيرة أي سمينة. جاءوا للدفاع عنها مع جيشها فصارت ذبائح سمينة للقتل.
خامسًا: صارت حركتها كحفيف الحية
"صوتها يمشي كحية لأنهم يسيرون بجيش وقد جاءوا إليها بالفؤوس كمحتطبي حطب" (إر22:46). استخدم إرميا النبي تشبيه الحية الخارجة من الغابة لتُضرب بالفؤوس. كان للحية مكانة عالية بين الآلهة عند المصريين. إنها عاجزة ليس فقط عن حماية العابدين لها، بل وحتى عن حماية نفسها.
إذ تحرك الجيش، المشاة مع الفرسان والمركبات وكانت الأصوات رهيبة ومرعبة... نظر إليه النبي فرآه أشبه بحية خارجة من وسط الغابة تزحف بصوت ضعيف للغاية يصعب سماعه، تسقط تحت ضربات لا فأس محتطبٍ واحدٍ بل عدة فؤوس لقاطعي الأخشاب! إنه يسخر بهذا الجيش العظيم الذي بكل إمكانياته لا يزيد عن صوت تحرك حية عاجزة أمام فؤوس كثيرة.
سادسًا: صارت كشجرة تسقط تحت ضربات فؤوس كثيرة
"يقطعون وعرها يقول الرب وإن يكن لا يحصى لأنهم قد كثروا أكثر من الجراد ولا عدد لهم" (إر46: 23). إنها تعجز عن أن تقاوم أو حتى تشتكي المعتدين عليها. تنهار عليها الفؤوس غير المحصية لتسقط وتتحطم إلى قطع خشبية صغيرة لا تصلح إلا للنيران. إن كانت الشجرة تستطيع أن تصرخ أمام ضاربيها بالفؤوس، يمكن لفرعون أن يرفع صوته مشتكيًا نبوخذنصر.
سابعًا: صارت كفتاة بيعت لشعبٍ معادٍ لها.
"قد أخزيت بنت مصر ودفعت ليد شعب الشمال" (إر46: 24).
"قال رب الجنود إله إسرائيل: هأنذا أعاقب أمون نو وفرعون ومصر وآلهتها وملوكها فرعون والمتوكلين عليه. وأدفعهم ليد طالبي نفوسهم وليد نبوخذراصر ملك بابل وليد عبيده" (إر25:46-26).
* متى أراك في كل ذراع بشري!
أراك فأمجدك،
ولا أتكل على الأذرع البشرية بل على خالقها.
* ليسقط كل ذراع بشري أتكل عليه.
أراه جريحًا ليس من طبيب يشفيه غيرك،
ولا من دواء يصلح له إلا دمك!
* ليصر سندي البشري كفتاة مسبية،
إن لازمتها ينتابني معها الضعف والمذلة.
* ليصر كعِجْلة مسمنة عاجزة عن العمل،
لا تصلح إلا للذبح.
إن التصقْتُ بها أهلك معها.
* لأهرب من كل اتكال على ذراع بشري،
كمن يهرب من الحيّة الخارجة من الغابة،
لئلا تضرب رأسي مع رأسها بفؤوس محتطبي الحطب!
* هب لي ألا أتكئ على ذراع بشري.
فإنها كشجرة تسقط بضربات فؤوس كثيرة.
* لتكن أنت متكلي،
طبيبي ودواء نفسي واهب الشفاء.
قوتي ومحرري من كل ذلٍ.
سندي، بك أعمل عملك بقوة فلا أهلك.
عوض الحية أقتنيك يا من قتلت الحية بصليبك.
أتمتع بك يا من علِّقت على شجرة الصليب،
فلا يقدر عدو أن يقترب إليّ!