الروح القدس والأمجاد السمائية
في ليلة آلامه قدم السيد المسيح لنا روحه القدوس كمعلم فريد، "روح الحق" الذي يرشدنا إلى جميع الحق (يو 16: 13)، يعلمنا كل شيء، ويذكرنا بكل ما قاله السيد لنا (يو 14: 26). هذا المعلم الإلهي يقدم لنا ما هو للمسيح، ويعلنه لنا وفينا، إذ يقول السيد المسيح: “لأنهُ لا يتكلم من نفسهِ بل كلّ ما يسمع يتكلَّم بهِ ويخبركم بأمورٍ آتية. ذاك يمجدني، لأنهُ يأخذ ممَّا لي ويخبركم. كلُّ ما للآب هو لي. لهذا قلت أنه يأخذ مما لي ويخبركم". (يو 16: 13-15)
إنه ليس معلمًا بشريًا يستعرض أفكارًا ومعرفة تعطي لذة لعقولنا، بل المعلم الإلهي الذي يسكن أعماق النفس في الداخل، ليعلن فيها أمجاد المسيح كخبرة حياة نعيشها ونمارسها، فيتمجد المسيح فينا، ونحن أيضًا نحمل أمجاده في داخلنا، فنتغير داخليًا من مجدٍ إلى مجدٍ، لعلنا بالروح القدس نبلغ إلى ملء قامة المسيح. هذا ما لمسه الرسول بولس حين قارن بين عمل الناموس في أيام موسى النبي وعمل الروح القدس في ظل العهد الجديد، إذ يقول: "ثم إن كانت خدمة الموت المنقوشة بأحرفٍ في حجارةٍ قد حصلت في مجدٍ حتى لم يقدر بنو إسرائيل أن ينظروا إلى وجه موسى لسبب مجد وجههِ الزائل. فكيف لا تكون بالأَولى خدمة الروح في مجدٍ؟! ولكن حتى اليوم حين يُقرأُ موسى البرقع موضوع على قلبهم،ولكن عندما يرجع إلى الرب يُرفَع البرقع. وأما الربُّ فهو الروح، وحيث روح الرب هناك حرّيَّة. ونحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجهٍ مكشوف كما في مِرآةٍ نتغيَّر إلى تلك الصورة عينها من مجدٍ إلى مجدٍ كما من الرب الروح" (2 كو 3: 7-8، 15-18).
في القديم إذ ارتفع موسى على جبل حوريب بقي أربعين نهارُا وأربعين ليلة لا يأكل خبزًا ولا يشرب ماء، وإذ نزل حاملًا لوحيْ الشريعة: "فنظر هارون وجميع بني إسرائيل موسى وإذا جلد وجههِ يلمع. فخافوا أن يقتربوا إليهِ". (خر 34: 28-30) أما في العهد الجديد فإن الروح القدس الذي ينزع الحرف عن موسى (الناموس)، فإنه يرتفع بنا إلى الاتحاد مع السيد المسيح نفسه، فندخل إلى حالة تغير مستمر، نتغير بقوة الروح من مجدٍ إلى مجدٍ كقول الرسول. هذا التغير غير المنقطع يبدأ بميلادنا الجديد في مياه المعمودية، ثم نوالنا الروح القدس ساكنًا فينا يعمل بغير انقطاع كل أيام غربتنا مادمنا في جهادنا نتقبل عمله فينا. إنه يدخل بنا إلى مخازن الملك العظيم يسوع المسيح، يأخذ مما له ويخبرنا، أي يهبنا قدر ما نقبل من العطية. يقدم لنا إمكانيات السيد المسيح نفسه وأمجاده فينا، فتصير نفوسنا في مجدٍ خفيٍ يُظهره يوم الرب العظيم.
عرضت لنا العظة الخامسة للقديس مقاريوس هذا العمل الإلهي للروح القدس بصورة رائعة وبأمثلة قوية. جاء فيها أن المسيحي الحقيقي إذ صارت له شركة الروح القدس، لأنه مولود من الله من فوق، قد صارت مدينته في السماوات (في 3: 20) يكشف له الروح [الخيرات الأبدية كما في مرآة". إنه يهبه سلام المسيح ومحبة الرب وشهوة السماء، وذلك خلال الآلام والعرق والتجارب والحروب الروحية الكثيرة، لكنه ينعم بهذه الأمور بنعمة الله [264].] [المسيحي الحقيقي يدخل إلى خبرة مجدٍ سماويٍ خارج عن الجسد، إذ يُجرح بجمالٍ آخر (غير جسدي) لا ينطق به [265].] [أولئك الذين تساقط عليهم ندى روح الحياة، أي ندى اللاهوت، فجرح قلوبهم بحب إلهي للمسيح الملك السماوي، وارتبطوا بذلك الجمال والمجد الفائق الوصف والحُسن عديم الفساد وغنى المسيح الملك الحقيقي الأبدي، الغنى الذي يفوق الوصف [266].]
بهذا الغنى يتدرب الإنسان على الحياة الملوكية، حتى متى جاء يوم الرب العظيم يدخل الملكوت فلا يراه غريبًا عنه، إنما عاش في عربونه، وتمتع بغناه بالروح القدس وهو على الأرض.
إنه يشبِّه المسيحي بأشجار الشتاء التي تبدو في مظهرها بلا أوراق ولا ثمار، بلا جمال، تحمل علامات الجفاف والموت من خارج، لكن الداخل يحمل حياة، متى جاء الربيع أي "القيامة" انكشفت حياتها الداخلية وأمجادها وظهرت ثمارها! هكذا يقدم لنا الروح القدس أمجاد المسيح في داخلنا ولا تظهر على أجسادنا هنا، لكن في يوم الرب العظيم تنعم هذه الأجساد مع النفوس بالمجد الذي كان مخفيًا فيها، ولا يكون غريبًا عنها: [كل النفوس التي تحب الله، أعني المسيحيين الحقيقيين أول شهورهم شهر نيسان الذي هو يوم القيامة، فبفاعلية شمس البرّ (ملا 4: 3) يخرج مجد الروح القدس من الداخل فيكسو أجساد القديسين ويسترها، ذلك المجد الذي كان لهم قبلًا مخفيًا داخل نفوسهم، لأن كل ما للنفس الآن سوف يظهر بعينه في الجسد في ذلك اليوم [267].]
يقول الرسول: "وإن كنا لابسين لا نوجد عراةً". (2 كو 5: 3) فإذ نلبس الروح، ونكون هيكلًا مقدسًا له لا يترك حتى جسدنا عاريًا، بل يسكب فيه مجد المسيح يسوع القائم من الأموات، كقول الرسول: "فالذي أقام المسيح من الأموات سيُحيي أجسادكم المائتة أيضًا بروحهِ الساكن فيكم" (رو 8: 11)، "لكي تُظهَر حياة يسوع أيضًا في جسدنا المائت" (2 كو 4: 11)، "لكي يُبتلَع المائت من الحياة" (2 كو 5: 4)...
بهذا إذ يُهدم بيت خيمتنا الأرضي أي جسدنا، لا نظهر عُراة بل يكون "لنا في السماوات بناء من الله بيت غير مصنوع بيدٍ أبديّ" (2 كو 5: 1)، أي يظهر مجد السيد المسيح السماوي الذي كان مخفيًا في جسدنا الضعيف: [لنسعَ إذًا أن نقتني ذلك اللباس هنا بالإيمان والحياة الفاضلة، حتى حينما نخلع الجسد لا نوجد عراة ولا يحتاج جسدنا في ذلك اليوم إلى شيء يمجده، لأن كل واحد بقدر ما يُحسب أهلًا لشركة الروح القدس بالإيمان والاجتهاد يتمجد جسده في ذلك اليوم، لأن كل ما خزَّنته النفس في داخلها في هذه الحياة الحاضرة سوف يُعلن يومئذ، ويُكشف ظاهرًا في الجسد [268].]
[هذا المجد الذي للسيد المسيح، الذي يُلبسه الروح القدس لنفوسنا في الداخل، يصير مجدنا نحن وليس مستعارًا، لهذا نحيا في هذا العالم بالحق أغنياء في الروح، نكون كملك غني حينما يدعو الآخرين للوليمة يقدم بسخاء وبلا خوف من نفاذ كنوزه الداخلية التي له، أما الفقير الذي لا يملك شيئًا فإنه عندما يدعو الآخرين يستعير أدوات الوليمة إلى حين ثم يعود بعد الوليمة إلى فقره من جديد [269].] [لهذا يليق بنا أولًا أن نطلب من الله باجتهاد قلب وإيمان أن يهبنا أن نجد هذا الغنى في قلوبنا، أي نجد كنز المسيح الحقيقي بقوة الروح القدس وفاعليته [270].]
_____
الحواشي والمراجع:
[264] عظات القديس مقاريوس 3:5-5.
[265] المرجع السابق 5:5.
[266] عظة 6:5.
[267] عظة 8:5.
[268] عظة 8:5.
[269] عظة 5:18.
[270] عظة 6:18.