|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الهوس الديني يقول الآباء أن الطريق الوسطى خلصت كثيرين ولذلك فإن الجنوح ذات اليمين أو ذات اليسار يشكل خطورة كبيرة وينبئ بكارثة (يجب أن يحتفظ الإنسان بهامش في حياته، من جهة اليمين ومن جهة اليسار، فإن تعرض لأية طفرة فإن هذا الهامش يستوعبها، وإلا فإنه يسقط كما سقط قطار عن القضبان فتحدث الكارثة ويحطم كل ما في طريقه، ويحتاج إرجاعه إلى القضبان جهدا يفوق الوصف وبالطبع فإنه لا يعود طبعا كما كان.) فإن كثيرا من الشباب يهيم حبا بالرهبنة فيما قد نسميه بـ(المراهقة الروحية) أو عدم النضج الروحي، حيث ينكب هؤلاء على الكتب النسكية ويجمعون الكثير من سير القديسين ويولعون بزيارة الأديرة وإقامة علاقات متعددة بالرهبان في مختلف الأديرة، وفي مخادعهم يحتفظون بالقناديل والبخور وعشرات من صور القديسين، يضربون مئات الميطانيات ويسلكون كما يسلك الرهبان. مثل هؤلاء يحتاجون إلى مرشد مختبر، يتاجر لهم حسنا في الوزنات، وينصحهم بأن يرتدوا إلى التعقل – فإني أقول بالنعمة المعطاة لي لكل من هو بينكم أن لا يرتئي فوق ما ينبغي أن يرتئي، بل يرتئي إلى التَعَقُّل كما قسم الله لكل واحد مقدارا من الإيمان (رومية 12: 3)، فقد تهدأ مثل هذه المشاعر بعد رهبنتهم إن استطاعوا الالتحاق بأحد الأديرة ولم ينتبه المسئولون إلى ذلك، ومن ثم يعودون أدراجهم إلى العالم مثقلين بعبء الشعور بالفشل، تتجاذبهم تيارات في الداخل من القلق والحيرة وتساؤلات من الخارج تحاصرهم! من أمثال أولئك شاب جاء إلى الدير ولم يكن مناسبا بحال من الأحوال ليس للالتحاق بالدير فحسب، بل ولا للتقدم إليه أصلا، فاعتذر له الأب المسئول في الدير عن قبول الأخوة ومن ثم نصحه بالعودة إلى عمله وممارسة حياته بشكل طبيعي، غير أنه اعتبر ذلك نوعا من الاختبار، ولم يرجع بل غافل الآباء ودار حول الدير حتى وصل إلى مغارة البابا كيرلس وبالقرب منها جلس يصلى ويضرب الميطانيات، ولمحه عن بعد بعض من الشبان الذين خرجوا إلى خلوة بالبرية بعد الغروب، وتقابلوا معه واستفسروا منه عن حاله ولكنه لم يجبهم على أي من أسئلتهم بل طلب من أحدهم أن يحضر له بعض الخبز والماء وأبلغ الشاب الدير بدوره فالزمه الآباء بترك المكان والسفر إلى مدينته. ومرة ثانية حضر إلى الدير شخص ذو هيئة غريبة، كان الرجل يقارب الخمسين من عمره، رأسه خال من الشعر، وكانت ملابسه عجيبة فقد كان يرتدى جوالا من الخيش فتح فيه من أعلى فتحة نفذت منها رأسه وصنع فتحتين أخريتين للزراعيين، وكان حافي القدمين وقد ترك لحيته تنمو قليلا، وفي يده يحمل كيسا من البلاستيك وضع فيه بعض أوراق انتزعها من مجلة الكرازة وجريدة وطني، بطريقة غير مرتبة. وعندما تقابل معه أحد الآباء في الدير سأله عن هويته فلم يفصح عنها في البداية بل تحدث طويلا عن يوحنا المعمدان وقال أنه يحمل معه بعض المقالات عنه في ذلك الكيس، وبعد قليل من النقاش أتضح أنه متزوج ومقيم بإحدى ضواحي شرق القاهرة وأن أحد أبنائه مجند في القوات المسلحة، وقد ألحت عليه فكرة ترك العالم وما فيها فجعلها موضع التنفيذ. كان منظر الرجل ملفتا بحيث يتوقف عنده كل من يمر به فيتأمله كثيرا قبل أن ينصرف، أما الآباء في الدير فقد قدموا له طعاما ولاطفوه حتى خرج من الدير وعندما أحضروا له بعض الملابس المناسبة اللائقة بدلًا من تلك التي تثير فضول الناس وسخريتهم وقد يعرضه ذلك للأذى، فلم يرد بل فاجأ الكل بأنه كان يخفى حقيبة خلف سور الدير من الخارج وفي الحقيبة كان هناك بنطلون وقميص وحذاء من الجلد الأسود، وتحول مظهره في دقائق إلى شخص عادى، وعندما ظن أن الآباء يختبرونه أسرع هؤلاء فأفهموه بأنهم لا يمتحنوه بل يصدقوه القول. وغيره كثيرون مما لا يسع المجال لذكرهم هنا (جاء شخص إلى الدير منذ 4 سنوات للرهبنة ولم يكن تناسبه تلك الحياة مطلقا بل كان في الواقع يحتاج إلى علاج نفسي وحاول معه أحد الآباء كثيرا حتى يعدل عن فكرته ولكنه أصر، وفي النهاية قال له الآباء لنختبرك إن كنت تصلح فوافق فاصطحبوه إلى بوابة الدير الخارجية وهناك قالوا له لا تفكر ثانية في الرهبنة وعليك الطاعة فأطاع وغادر الدير ولم يحضر ثانية!!.) ويجب القول هنا أن هناك فرقا بين التدقيق والوسوسة، فالأول هو الالتزام والجدية في مختلف نواحي الحياة، بينما الوسوسة هي المبالغة في البديهيات!. جدير بالملاحظة والتسجيل أن الأديرة الآن لا تتبع أسلوب الاختبار التقليدي الوارد في الكتابات النسكية، والسبب في ذلك أن الآباء قديما كانوا يحيون كل منهم في مغارة على حدة ولا يجتمعون معا إلا ليلة الأحد وبالتالي فمن الضروري والحال هكذا اختبار القادم إلى الرهبنة بشكل مفتعل ومنظم ومقصود حتى يتأكد الآباء من أنه على درجة تسمح له باحتمال آلام البرية وقتالات الشياطين وإلا فإنهم يبقونه مع الأب الكبير لفترة يقتنى فيها أساليب التعامل مع الأفكار والحروب، وأما الآن فإن الراهب يحيا في المجمع ويتعامل مع إخوته بشكل دائم طوال اليوم أو أغلبه مما يسهل ظهور الضعفات وبالتالي يتسنى علاجها، وهكذا تبدأ الحياة الرهبانية من خلال الجماعة في الدير أولا. |
|