هوذا ملكك يأتيك وديعًا
تعوَّد الملوك أن يمتطوا الجياد المطهمة، أي أن يعتزوا بركوب الخيل عند دخولهم إلى مدينة ملكهم. خاصة حينما يدخل الملك دخولًا انتصاريًا، ويحتفل الشعب بدخوله المنتصر..
هكذا دخل الملك المسيح إلى مدينة ملكه أورشليم في يوم أحد الشعانين، وهو يستعد للفصح الحقيقي بتقديم نفسه ذبيحة عن حياة العالم، ليعبر المفديون من الموت إلى الحياة.
ولكنه لم يدخل راكبًا على فرس أو على حصان، بل دخل راكبًا على أتان وعلى جحش ابن أتان، كما هو مكتوب "ابتهجي جدًا يا ابنة صهيون، اهتفى يا بنت أورشليم، هوذا ملكك يأتي إليك، هو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان. وأقطع المركبة من أفرايم والفرس من أورشليم، وتُقطع قوس الحرب. ويتكلم بالسلام للأمم وسلطانه من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض" (زك9: 9، 10).
دخل السيد المسيح راكبًا على الأتان وليس الفرس، لأنه رئيس السلام لا الحرب. ولأنه ملك وديع ومتواضع القلب، فلا يهتم بمظاهر العظمة الخارجية، بل بالانتصار على العدو الحقيقي للإنسان الذي هو الموت، الذي جاء السيد المسيح ليحررنا من سلطانه.
كان الفرس يرمز إلى الحرب، مثلما قيل في سفر الأمثال "الفرس معد ليوم الحرب. أما النصرة فمن الرب" (أم21: 31). ولهذا شبه الرب النفس المجاهدة بقوة الفرس "لقد شبهتك يا حبيبتي بفرس في مركبات فرعون" (نش1: 9).
والسيد المسيح قد حارب الشيطان روحيًا بقوة، وانتصر عليه حينما تجسد لأجل خلاصنا. ولكنه حاربه وهو متشح بالاتضاع. فلم تكن عظمة السيد المسيح هي العظمة الظاهرة بل الخفية "ثم رأيت السماء مفتوحة وإذا فرس أبيض، والجالس عليه يدعى أمينًا وصادقًا وبالعدل يحكم ويحارب. وعيناه كلهيب نار، وعلى رأسه تيجان كثيرة، وله اسم مكتوب ليس أحد يعرفه إلا هو. وهو متسربل بثوب مغموس بدم ويدعى اسمه كلمة الله" (رؤ19: 11-13).
وأيضًا جنود السيد المسيح الذين يتبعونه، رآهم يوحنا الإنجيلي في رؤياه وقال عنهم "والأجناد الذين في السماء كانوا يتبعونه على خيل بيض، لابسين بزًا أبيض ونقيًا" (رؤ19: 14).
هكذا فمن الناحية المنظورة دخل السيد المسيح أورشليم راكبًا على أتان وجحش ابن أتان، ولكنه من الناحية الروحية فقد كان يمتطى فرس الغلبة والانتصار على إبليس، في أعظم معركة سجلتها البشرية، وخرجت منها منتصرة غالبة بدم الحمل كلمة الله المتجسد.
أوصنّا في الأعالي
قال داود النبي في المزمور: "من أفواه الأطفال والرضعان هيأت سُبحًا، من أجل أعدائك لتُسكت عدوًا ومنتقمًا" (مز8: 2).
وقد ردد الأطفال في الهيكل تسبيحًا للرب يسوع المسيح في يوم دخوله إلى أورشليم كملك مثلما سبحه التلاميذ والجموع "أوصنا لابن داود. مبارك الآتي باسم الرب أوصنا في الأعالي" (مت21: 9). "فلما رأى رؤساء الكهنة والكتبة العجائب التي صنع والأولاد يصرخون في الهيكل ويقولون أوصنا لابن داود غضبوا. وقالوا له: أتسمع ما يقول هؤلاء؟ فقال لهم يسوع: نعم، أما قرأتم قط من أفواه الأطفال والرضع هيأت تسبيحًا" (مت21: 15، 16).
فما معنى هذا التسبيح الذي تنبأ عنه داود النبي في المزمور والذي رددته الجموع مع التلاميذ والأطفال في يوم دخول السيد المسيح إلى مدينة أورشليم؟
إن كلمة "أوصنا"هي في اللغة العبرية "هوشعنا" ومعناها "خلّصنا" وقد وردت أيضًا في المزمور "يا رب خلصنا يا رب سهل طرقنا. مبارك الآتي باسم الرب. باركناكم من بيت الرب. الله الرب أضاء علينا. رتّبوا عيدًا في الواصلين إلى قرون المذبح" (مز117: 25-27).
ومن كلمة "هوشعنا" הושענות جاءت تسمية أحد الشعانين. ويلاحظ أيضًا أن اسم الرب يسوع في اللغة العبرية هو يهوشع أي "يهوه خلّص"كما قال الملاك: "تدعو اسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم" (مت1: 21).
خلّصنا في الأعالي
ولكن العجيب في التسبيح الذي أودعه الروح القدس في أفواه الأطفال في ذلك اليوم حسب النبوة "من أفواه الأطفال والرضعان هيأت سُبحًا" (مز8: 2)، هو أنهم تكلموا عن خلاص في الأعالي وليس على الأرض. والمقصود أنهم اعترفوا بالملك الآتي باسم الرب ملكًا سمائيًا وليس أرضيًا مثلما قال السيد المسيح لبيلاطس: "مملكتي ليست من هذا العالم" (يو18: 36). فحينما هتف الجميع "مباركة مملكة أبينا داود الآتية باسم الرب" (مر11: 10)، كانوا يقصدون أن هذه المملكة هي مملكة سمائية. وهذا يختلف عما أراده ذوى النظرة المادية من اليهود أن يقيموا السيد المسيح ملكًا أرضيًا.
بالإضافة إلى ذلك فإن عبارة "خلّصنا في الأعالي" تعنى أن الخلاص المقصود ليس هو خلاصًا أرضيًا من الاستعمار الروماني في ذلك الحين بل خلاصًا سمائيًا.
"خلصنا في الأعالي" تعنى أعطنا قبولًا أمام أبيك السماوي. وتعنى أعطنا مجدًا وتسبيحًا في وسط ملائكتك القديسين. أي خلّصنا من العار الذي لحق بنا بين السمائيين لسبب سقوط الجنس البشرى.
"خلّصنا في الأعالي" تعنى أن يكون لنا غفرانٌ لخطايانا عند الآب السماوي، وأن يكون لنا ميراثٌ في ملكوته الأبدي.
عن هذا الغفران قال معلمنا يوحنا الرسول: "إن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار. وهو كفارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضًا" (1يو2: 1، 2).
"خلّصنا في الأعالي" تعنى أن نولد من فوق وأن تُكتَب أسماؤنا في سفر الحياة الأبدية.
"خلّصنا في الأعالي"تعنى أن تأتى ربوات من القوات السمائية لتساعدنا وتحارب معنا "فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم، بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماويات" (أف6: 12).
إن القوات الجوية والمظليين هم الذين يحسمون معارك الجيوش المتحاربة. والقوات الجوية والدفاع الجوى هم الذين يقومون بحماية سماء المعركة.
وبنفس الأسلوب نحتاج نحن إلى خلاص الله الروحي في الأعالي في معركتنا مع أجناد الشر الروحية في السماويات. لذلك نهتف من أعماق قلوبنا "خلصنا في الأعالي".
"خلصنا في الأعالي"تحمل ضمنًا نبوءة عن موت السيد المسيح معلقًا على خشبة الصليب أعلى الجلجثة. فهو بالفعل قد خلّصنا على قمة جبل أورشليم مدينة الله. وقال بفمه الإلهي: "أنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلىّ الجميع" (يو12: 32). وقال أيضًا لليهود: "متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون أنى أنا هو" (يو8: 28).
"خلّصنا في الأعالي"تحمل أيضًا نبوءة عن صعود السيد المسيح إلى السماء بعد قيامته المجيدة كما هو مكتوب في المزمور "صعد الله بالتهليل، والرب بصوت البوق" (مز46: 5). ونبوءة عن دخوله الانتصاري كسابق لنا إلى المقادس العلوية في السماء "ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم وارتفعي أيتها الأبواب الدهرية فيدخل ملك المجد. من هو هذا ملك المجد؟ الرب العزيز القدير، الرب القوى في الحروب.. هذا هو ملك المجد" (مز23: 7-10) لقد صعد الرب وجلس عن يمين أبيه،وبهذا دخل إلى مجده. ويتغنى بذلك الكاهن في القداس الغريغوري (أصعدت باكورتي إلى السماء).
بالطبع لم يكن ممكنًا للأطفال والتلاميذ والجموع أن ينطقوا بهذا التسبيح الفائق في معانيه إن لم يكن هذا بوحي من الروح القدس الذي نطق على أفواههم بهذه العبارة العجيبة.
" نريد أن نرى يسوع" (يو12: 21)
دخل يسوع إلى أورشليم في يوم أحد الشعانين "وكان الجمع الذي معه يشهد أنه دعا لعازر من القبر وأقامه منالأموات. لهذا أيضًا لاقاه الجمع لأنهم سمعوا أنه كان قد صنع هذه الآية" (يو12: 17، 18).
بعد ذلك جاء أناس يونانيون من الذين صعدوا ليسجدوا في العيد "فتقدم هؤلاء إلى فيلبس الذي من بيت صيدا الجليل، وسألوه قائلين يا سيد نريد أن نرى يسوع. فأتى فيلبس وقال لأندراوس، ثم قال أندراوس وفيلبس ليسوع" (يو12: 21، 22).
ربما فرح التلاميذ في ذلك الحين بأن شهرة معلمهم سوف تنتشر في العالم كله، وأنه سوف يلتقي بالحجاج الذين جاءوا من بلاد اليونان.. وكان السيد المسيح قد دخل إلى أورشليم ليقدّم نفسه ذبيحة عن حياة العالم.
لهذا أجاب السيد المسيح تلاميذه وقال لهم: "قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان، الحق الحق أقول لكم إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت، فهي تبقى وحدها. ولكن إن ماتت، تأتى بثمر كثير" (يو12: 23، 24).
لم يكن السيد المسيح يسعى نحو الشهرة، بل ثبت وجهه نحو الصليب.. هناك حيث يكون الفداء والخلاص للبشر.
لو انشغل السيد بنفسه، لما وُجدت الفرصة لينشغل بغيره، لهذا أعطى مثل حبة الحنطة التي إن ماتت فهي تأتى بثمر كثير..
لم يقبل السيد المسيح أن يبقى وحده.. لهذا مات فداءً عن كثيرين.. وأعطى جسده للتلاميذ قائلًا: "هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم" (لو22: 19).
أعطاهم جسده المقدس الذي تألّم لأجلهم وهو حياة لهم، إذ قال: "من يأكلني فهو يحيا بي" (يو6: 57).
بهذا أعطت حبة الحنطة نفسها للموت، فأثمرت للحياة قديسين كثيرين.