|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
التجربة على الجبل والصوم الأربعين لم يبدأ السيد المسيح خدمته مباشرة بعد أن تعمد في نهر الأردن، بل اقتيد "بالروح في البرية أربعين يومًا يجرب من إبليس" (لو4: 1، 2). بعد الإعلان السماوي العجيب حينما أتى صوت الآب من السماء المفتوحة "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (مت3: 17)، والروح القدس الذي ظهر بهيئة جسمية مثل حمامة آتيًا من السماء ومستقرًا على رأسه؛ كان من المتصور أن يبدأ السيد المسيح خدمة مجيدة قوية مؤيَّدة بالإعلان السماوي وروحه القدوس ولكن ما حدث هو العكس.. خرج يسوع بقوة الروح القدس إلى البرية أربعين يومًا في القفر، ولم يأكل أو يشرب طوال هذه المدة، بل كان مع الوحوش وحيدًا.. بعيدًا عن الناس.. بعيدًا عن إعجابهم ومديحهم وإطرائهم.. بلا مؤنس بلا تعزية من البشر.. لا أحد يخدمه أو يقدم له شيئًا من الراحة. إن العقل يقف حائرًا أمام هذا المشهد الغريب والعجيب: الابن الوحيد الأزلي للآب السماوي، كلمة الله الذي تخضع له كل الخليقة وهو الذي يحملها بقدرته الإلهية. حينما أخلى ذاته ووضع نفسه، واقتيد بالروح في البرية القفرة، إذ أنه تجسد فوجد في الهيئة كإنسان وأطاع إلى المنتهى.. وسمح للشيطان أن يُجرِّبه. كان اتضاع السيد المسيح هو سبب تجاسر الشيطان في أن يتقدم ليجربه، لأنه حينما صام في البرية صار في حالة من الإعياء والتعب الشديد، إذ جاع جوعًا شديدًا -من حيث إنه شابهنا في كل شيء ماخلا الخطية وحدها- فلم يمنع عن جسده التعب والجوع.. ولهذا اعتقد الشيطان إنه من الممكن أن يُجرّب السيد المسيح كإنسان. أمام هذا السر العجيب الذي لتجسد الكلمة، انحمق الشيطان وتقدم ليُجرِّب السيد المسيح في جسارة عجيبة، انتهت بهزيمته في البرية، تمهيدًا للهزيمة الكبرى عند صليب الجلجثة. كان السيد المسيح يريد أن يرسم لنا طريق الانتصار بالاتضاع ولهذا لم يبدأ خدمته بعد مجد الظهور الإلهي عند نهر الأردن وهو الظهور الذي أعلن سر الثالوث القدوس، ولكن بدأ خدمته في ساحة التجربة في البرية في القفر. حقًا "كل مجد ابنة الملك من داخل" (مز44: 13)، فالمجد الداخلى لازم وضروري لإثبات أصالة النفس البارة المقدسة. أما من يسعى وراء الأمجاد الخارجية ومديح الناس فإنه يكون عرضة للسقوط في الكبرياء والمعصية. البعض للأسف يبحثون في خدمتهم عن مظاهر خلابة تجذب الناس وراءهم.. ويهتمون ويفرحون بالأمور الخارقة للطبيعة التي تبدو في ظاهرها مؤيدة لإرساليتهم، ويسقطون في خداعات الشياطين، لأن الشيطان يستطيع أن يغير شكله إلى شبه ملاك نور. المسلك المتضع الهارب من المجد والمظاهر الخارجية، هو برهان صدق الإعلان السماوي وصدق المعجزات الخارقة. ينبغي أن تُختبَر أصالة الخدمة في ساحة الاتضاع وإنكار الذات أولًا، لأن الذهب النقي يختبر بالنار. المحبة الحقيقية تُختبر بالألم، والخدمة السماوية تُختبر بالاتضاع وإنكار الذات وبالطاعة والمسكنة والخضوع. هل هناك من هو أعظم مجدًا من الابن الوحيد الذي هو "بهاء مجده ورسم أقنومه" (عب1: 3).. ومع ذلك فإنه حينما تجسد وصار إنسانًا مثلنا، قدّم لنا مثالًا في خدمته الخلاصية بأن بدأها بالاتضاع. فما الذي يمكن أن يفعله الرب أكثر من ذلك ليحذرنا من غواية الشياطين في خدمتنا؟. إن الروح القدس هو الذي يستطيع أن يقود أفكارنا ونحن نفحص أصالة كل خدمة وبرهان تأييد السماء لها، لهذا يقول معلمنا يوحنا الرسول: "أيها الأحباء لا تصدقوا كل روح، بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله" (1يو4: 1). "وكما سمعتم أن ضد المسيح يأتي، قد صار الآن أضداد للمسيح كثيرون.. منا خرجوا لكنهم لم يكونوا منا لأنهم لو كانوا منا لبقوا معنا، لكن ليظهروا أنهم ليسوا جميعهم منا. وأما أنتم فلكم مسحة من القدوس وتعلمون كل شيء" (1يو2: 18-20). لماذا صام؟ من المعلوم طبعًا أن السيد المسيح لم يكن محتاجًا إلى الصوم لتدريب جسده أو تقويمه لأنه هو الوحيد الذي بلا خطية بين البشر جميعًا. ومن المعلوم أن الصوم بالنسبة لنا يساعدنا على التحرر من رغبات الجسد وتغليب رغبات الروح، وعلى تدريب الإرادة على ضبط النفس أي قمع الجسد، كما أنه يساعد في تذللنا أمام الله مثلما صام أهل نينوى من الكبير إلى الصغير ولبسوا مسوحًا وتضرعوا إلى الله بالتوبة فرحمهم الله ورفع غضبه عنهم. ولم يكن السيد المسيح شخصيًا محتاجًا إلى أي شيء من هذه الأمور جميعًا. نقول في ألحان التوزيع في الكنيسة في الصوم الكبير (يسوع المسيح صام عنا أربعين يومًا وأربعين ليلة)، إذن فإن السيد المسيح قد صام نيابة عنّا وليس عن نفسه. لم يكن السيد المسيح طبعًا محتاجًا للصوم ولا للتجربة على الجبل لأنه "قدوس القدوسين" (دا9: 24)..لكنه صام وسمح للشيطان أن يجرّبه لكي يعلّمنا.. أراد أن يرسم لنا طريق الجهاد والنصرة على الشيطان. وقال لتلاميذه إن "هذا الجنس (أي جنس الشيطان) لا يمكن أن يخرج بشيء إلا بالصلاة والصوم" (مر9: 29، انظر مت17: 21). كما أنه أراد أن يعلّمنا أهمية الصلاة قبل البدء في الخدمة، لذلك أراد أن يختلي وقتًا طويلًا في مناجاة عميقة يعبّر فيها عن محبته للآب، ويطلب فيها من أجل نجاح مناداته بالتوبة والإيمان بالإنجيل في قلوب سامعيه، حينما تبدأ خدمته بعد عودته من البرية. صام ليسجل انتصارًا على الشيطان لحسابنا عندما سمح للشيطان أن يجربه. أي ليلقن الشيطان درسًا من خلال طبيعتنا التي تباركت فيه أي باتخاذه إياها ليعبر بنا فيها من الهزيمة إلى النصرة، ومن الموت إلى الحياة. فكما أنه مات عنا ولم يكن مستوجبًا الموت؛ ولهذا داس الموت بالموت؛ وقام منتصرًا من الأموات. وكما كانت القيامة من الأموات أمرًا حتميًا بانتصاره على الموت "إذ لم يكن ممكنًا أن يمسك منه" (أع2: 24) هكذا كان انتصار السيد المسيح على الشيطان في التجربة أمرًا حتميًا، إذ لم يكن ممكنًا أن ينهزم منه لأنه هو نفسه "قدوس القدوسين" (دا 9: 24). وبذلك علّمنا أن الصوم والصلاة هما اللذان يخرجان الشياطين ويقهران سلطانهم اللعين. وصام ليبارك الصوم وليبارك طبيعتنا بالصوم (باركت طبيعتي فيك، أكملت ناموسك عنى) (القداس الغريغوري). باركت طبيعتي فيك عندما تجسد ابن الله الكلمة ووجد في الهيئة كإنسان، فإنه قد بارك الطفولة في طفولته، وبارك سن الشباب في شبابه، وبارك سن الرجولة في رجولته. عندما أكل بارك الطعام، وعندما صام بارك الصوم. عندما نام بارك النوم، وعندما سهر الليل كله بارك السهر.. عندما حضر عرس قانا الجليل بارك الزواج، ولأنه ولد من عذراء فقد بارك البتولية.. عندما ولد في حظيرة للخراف واضطجع في المذود بارك الفقراء، وعندما تقبل هدايا المجوس بارك الأغنياء الأسخياء. عندما عمل كنجار بارك العمل، وعندما تفرغ للخدمة بارك التكريس. عندما مشى على الأرض، بارك الأرض. وعندما مشى على المياه بارك المياه.. عندما تكلّم بارك الكلام. وعندما صمت بارك الصمت.. قوة الصوم لهذا فقد أعطى السيد المسيح بركة وقوة للصوم حينما صام. وفي الأربعين يومًا التي صامها أدخر لنا قوة النصرة في حروب الشياطين بواسطة الصوم المقترن بالصلاة والتأمل والإيمان بالمسيح وأسرار الكنيسة. الصوم يسبق المعمودية المقدسة، ويسبق التناول من جسد الرب ودمه، ويسبق مسحة الميرون، ويسبق سيامة الكهنة وخدمة الكهنوت، ويسبق سر مسحة المرضى الذي تكثر الكنيسة من ممارسته في الصوم المقدس وفي يوم جمعة ختام الصوم. ما أجمل التناول من الأسرار المقدسة بعد الصوم، حيث يقدّم الإنسان جسده كذبيحة في الصوم على مثال ذبح إسحق. ثم يتناول من الحمل المذبوح عوضًا عن إسحق، ليعود إسحق حيًا بإيمان القيامة. الصوم الكبير في الصوم الكبير المقدس تُذكِّرنا الكنيسة بأهمية التوبة. ويقترن الصوم بالتوبة وممارسة سر الاعتراف،وتخصص الكنيسة أسابيعَ من الصوم المقدس تدور قراءاتها حول التوبة وأهميتها مثل أحد السامرية وأحد الابن الضال وأحد المخلّع. وفى مدائح الصوم الكبير نسمع كثيرًا في الكنيسة عن التوبة: تُب يا إنسان عن جهلك وارجع إلى الله وتقدّم عسى بالله تبلغ أملك واترك خطاياك وتندَّم ضيّعت زمانك وأفنيته كنزك في التراب أخفيته ومصباحك من عدم زيته طفى وبقيت في الظلمات وتتحدث هذه المدائح عن أهمية ممارسة الرحمة لينال الإنسان رحمة من عند الرب فيأتى القرار: طوبى للرحما على المساكين فإن الرحمة تحل عليهم والمسيح يرحمهم في يوم الدين ويحل بروح قدسه فيهم إن الصوم بالنسبة لنا يستمد قوته وفاعليته من صوم السيد المسيح، والنصرة الروحية في الصوم تأتى من رصيد النصرة الذي حققه لنا مخلصنا الصالح الذي صام عنا أربعين يومًا وأربعين ليلة. وبهذا الإيمان نبدأ رحلة الصوم والعبادة الروحية فيه بقوة الروح القدس. في البرية ربما يتساءل البعض عن ارتباط الرهبنة بالبرية.. وها نحن نرى السيد المسيح وهو يرسم طريقًا واضحًا للجهاد النسكي في ارتباطه بالبرية. فبعد عماده في نهر الأردن أُقتيد "بالروح في البرية أربعين يومًا يجرب من إبليس" (لو4: 1، 2). لم يأكل السيد المسيح، ولم يشرب شيئًا في تلك الأيام.. وارتبط الصوم بالبعد عن المشاغل الموجودة في العالم بما في ذلك الانشغال بخدمة الآخرين بصورة مباشرة. كان الوقت مخصصًا للتأمل والصلاة مع الصوم.. هكذا نرى الصوم في أبهى صوره حسب قول الكتاب "قدسوا صومًا. نادوا باعتكاف" (يؤ2: 15). الصوم مع الاعتكاف هو صوم لجميع الحواس الجسدية.. ليس فقط حاسة التذوق، بل أيضًا حاسة السمع، وحاسة النظر، وحاسة اللمس، وحاسة الشم. في البرية تتفرغ الحواس جميعًا للعمل الروحي.. بالنسبة لنا نحن نحتاج إلى صوم الحواس.. وكما قال أحد الآباء [إن مجرد نظر القفر، يبطل في النفس الحركات العالمية]. وقد أراد السيد المسيح أن يجتذبنا نحو القفر حينما نتبع مسيرته في البرية أربعين يومًا في جهاد من أجلنا. نحن نحتاج إلى القفر.. بل يجب أن يعيش القفر في قلوبنا خاصة أثناء الصوم. وفى القفر نردد على وزن منظومة قداسة البابا شنودة الثالث عن الوطن [إن القفر ليس قفرًا نعيش فيه، بل هو قفر يعيش فينا].. هذا هو حال القلب الزاهد في الأمور الدنيوية.. وبالقفر نعيش الفقر الاختياري.. أو بالفقر نعيش القفر متحررًا من محبة العالم وكل ما فيه. قضى السيد المسيح أربعين يومًا في القفر لكي يدخل القفر إلى قلوبنا.. ولكي نرى القفر فردوسًا روحيًا نحيا فيه مع الله. لأن الفردوس الأول الممتلئ بالخيرات (جنة عدن)، كان مكانًا سقط فيه آدم الأول.. والبرية مكان انتصر فيه آدم الثاني، ليجعل من البرية فردوسًا روحيًا لموكب المنتصرين. أيام في البرية بالرغم من أن السيد المسيح قد جاء لخلاص العالم، إلا أنه قد ذهب إلى البرية للاختلاء والصوم والمناجاة مع الآب قبل أن يبدأ خدمته بين الناس. وهو بهذا قد أرسى مبدأ أهمية الوجود في البرية بعيدًا عن الانشغال بالخدمة ومتطلباتها وذلك من أجل خدمة قوية ناجحة ينهزم فيها الشيطان أمام إنسان البرية. لهذا قيل عن الكنيسة المقدسة "من هذه الطالعة من البرية كأعمدة من دخان معطّرة بالمُر واللبان وبكل أذرة التاجر" (نش3: 6). معطّرة بالمُر واللبان: أي بالصوم والصلاة، وهى طالعة من البرية متشبهة بالسيد المسيح في صومه في البرية وفي مناجاته للآب السماوي من أجل الكنيسة ونصرتها على الشيطان. لقد هزم السيد المسيح الشيطان في البرية ليسجل انتصارًا لحساب الكنيسة.. لحساب البشرية التي انهزمت قبل ذلك طويلًا أمام الشيطان، وبعدها صار الشيطان يرتعب من رؤية السيد المسيح ويصرخ ويقول "آه ما لنا ولك يا يسوع الناصري أتيت لتهلكنا، أنا أعرفك من أنت؛ قدوس الله" (مر1: 24). وكان السيد المسيح ينتهرهم ولا يدعهم ينطقون لأنه لا يقبل الشهادة من الشيطان كما أنه كان يريد أن يخفى لاهوته عن الشيطان، وقد حقق ذلك بالفعل فيما بعد بحكمة عجيبة. ولكن ما يستوقفنا هنا؛ هو أن السيد المسيح في البرية قد واجه تساؤلًا مكررًا من الشيطان "إن كنت ابن الله..؟!" (مت4: 3، 6، لو4: 3، 9). وبعد المواجهة التي حدثت في البرية صار يواجه عبارة مختلفة "يا يسوع الناصري.. أنا أعرفك من أنت قدوس الله" (مر1: 24، لو4: 34). لقد صنعت البرية الكثير في نظرة الشيطان للسيد المسيح كخادم. بل صارت البرية بذكريات صوم السيد المسيح وصلاته فيها مكانًا للنصرة على الشيطان بعد أن كانت مكانًا مهجورًا تهيم فيه الشياطين التي لا تجد لها مكانًا يتسع لأعدادها الكبيرة في البشر. وقد علّق السيد المسيح على ذلك بقوله: "متى خرج الروح النجس من الإنسان؛ يجتاز في أماكن ليس فيها ماء يطلب راحة. وإذ لا يجد؛ يقول أرجع إلى بيتي الذي خرجت منه. فيأتي ويجده مكنوسًا مزيناً. ثم يذهب ويأخذ سبعة أرواح أُخر أشر منه، فتدخل وتسكن هناك. فتصير أواخر ذلك الإنسان أشر من أوائله" (لو11: 24-26). لقد تقدّست البرية بحلول السيد المسيح فيها وبصومه وبصلاته وبنصرته على الشيطان عن الإنسان. وصار القديسون يجدون مجالًا للنمو في حياة القداسة في البرية.. وصارت مسكنًا للملائكة الذين رافقوا صلوات وتسابيح هؤلاء القديسين الذين سكنوا في الجبال والمغاير وشقوق الأرض من أجل عظم محبتهم في الملك المسيح. الجسد والنفس والروح في البرية قدّم السيد المسيح مثالًا لنا للزهد في رغبات الجسد، ورغبات النفس، لكي نحيا في الروح. فبالنسبة للجسد أعطانا فكرة أنه "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (مت4: 4). وبالنسبة للنفس أعطانا فكرة عن الزهد في أمجاد العالم الزائلة، وأن نخدم الله لا المال أو الجاه أو السلطان. وقد رفض كل ممالك العالم التي رآها من فوق الجبل حتى لا يتعطل الصليب. كما أن الجسد يحتاج إلى الطعام المادي ليعيش وينمو، هكذا أيضًا الروح تحتاج إلى الغذاء الروحي لكي تعيش ولكي تنمو. لهذا قال السيد المسيح: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (مت4:4). وبقوله: "ليس بالخبز وحده" كان يقصد أنه إلى جوار الخبز المادي اللازم لحياة الإنسان من ناحية جسده، فإن هناك كلمة الله لحياة الإنسان من جهة روحه. وقال أيضًا السيد المسيح: "الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة" (يو6: 63). وقال: "أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء، إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أنا أعطى هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم" (يو6: 51). عمومًا الروح تحتاج إلى الغذاء الروحي لتحيا وتنمو تمامًا مثلما يحتاج الجسد إلى الطعام الجسدي ليحيا وينمو. فبالنسبة للروح أعطانا السيد المسيح فكرة عن الزهد، حينما رفض أن يطير من فوق جناح الهيكل لينظره الناس سابحًا في الفضاء محمولًا على أيدي الملائكة. إن الصعود بالنسبة للسيد المسيح هو من خلال الصليب. وقد قال: "أنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلىّ الجميع" (يو12: 32). ورآه كثيرون معلقًا فوق الإقرانيون، محتملًا الاحتقار والذل والعار.. وكان الارتفاع فوق الصليب هو الطريق الحقيقي نحو المجد غير المنظور. وبعد القيامة صعد السيد المسيح أمام أعين تلاميذه. ولكن لم يكن الصعود بالنسبة للسيد المسيح نوعًا من التباهي. ولكنه كان صعودًا باعتباره الذبيحة المقدسة المقبولة إلى المقدس السماوي، حيث دخل السيد المسيح كسابق لنا، ليكون هو رئيس الكهنة الذي يشفع في جنس البشر أمام الله الآب كل حين "دخل.. فوجد فداءً أبديًا" (عب9: 12). قبل أن يصعد السيد المسيح بيمين الآب إلى السماء، كان قد أصعد ذاته على الصليب ذبيحة مقبولة عن خلاص جنسنا.. لهذا كان لابد للصعيدة أن تصعد. وقد صعد السيد المسيح في البرية.. إلى جبل التجربة.. أربعين يومًا يجرب من إبليس. وكانت حياة السيد المسيح صعودًا متتاليًا.. صعد إلى جبل التجربة، وصعد إلى جبل التجلي، وصعد إلى جبل الجلجثة، وصعد إلى جبل الصعود، ثم صعد إلى عرش الله. ولكننا نراه صاعدًا وهو يحمل الصليب، مكللًا بالأشواك.. كما بجهاد الصوم والصلاة. ونرى عروسه الكنيسة وهى تحمل صورته، كما رسمها في سفر النشيد وتغنى بها، "من هذه الطالعة من البرية كأعمدة من دخان معطّرة بالمُر واللبان وبكل أذرة التاجر" (نش3: 6). هكذا تصير الكنيسة مثل صعيدة من البخور (أعمدة من دخان) معطرة بالصوم والصلاة (المر واللبان).. نراها طالعة من البرية مستندة على ذراع حبيبها (انظر نش8: 5) الذي صام عنها ويعطيها نعمة الصوم لتتحلى به كعروس "جميلة كالقمر، طاهرة كالشمس، مرهبة كجيش بألوية" (نش6: 10). ما أحلاك أيتها الكنيسة العروس، وأنت مشرقة بحب عريسك الحبيب..!! ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان كانت الوصية الأولى للإنسان تحمل في مضمونها وصية صوم "لا تأكل من شجرة معرفة الخير والشر" (انظر تك2: 16، 17، تك3) فالإنسان مكوّن من روح وجسد وليس هو جسدًا فقط.. وكما أن الجسد يحتاج إلى طعام لكي يحيا ويعيش، هكذا الروح أيضًا لها غذاء تحتاج إليه وتحيا به وهو كلام الله. لهذا قال السيد المسيح للشيطان حينما طالبه قرب نهاية صومه بأن يحوّل الحجارة إلى خبز: "مكتوب أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة من الله" (لو4: 4). لم يقل السيد المسيح "ليس بالخبز يحيا الإنسان" لأن هذا هو الواقع الطبيعي للإنسان.. بل قال: "ليس بالخبز وحده" أي أن هناك مصدرًا آخر لحياة الإنسان وهو الله. الله الذي "به نحيا ونتحرك ونوجد" (أع17: 28). الله الذي تغتذي به وبالعشرة معه أرواحنا، وترتقي حتى تأكل طعام الملائكة الروحانيين. الله الذي يحيينا بكلامه، وينير عقولنا "الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة" (يو6: 63). لهذا يقول المرنم "من كل قلبي طلبتك، فلا تبعدني عن وصاياك. أخفيت أقوالك في قلبي لكي لا أخطئ إليك".. وقال أيضًا: "اذكر لعبدك كلامك الذي جعلتني عليه أتكل. هذا الذي عزاني في مذلتي. لأن قولك أحياني".. "خيرًا صنعت مع عبدك يا رب بحسب قولك، صلاحًا وأدبًا ومعرفة. علّمني فإني قد صدّقت وصاياك".. "ناموس فمك خير لي من ألوف ذهب وفضة".. "الذين يخافونك يبصرونني ويفرحون، لأني بكلامك وثقت".. "تاقت نفسي إلى خلاصك، وعلى كلامك توكلت".. "يا رب كلمتك دائمة في السماوات إلى الأبد".. "لو لم تكن شريعتك تلاوتي لهلكت حينئذ في مذلتي. وإلى الدهر لا أنسى وصاياك، لأنك بها أحييتني، يا رب. لك أنا فخلصني. يا رب لأني لوصاياك طلبت".. "إن كلماتك حلوة في حلقي. أفضل من العسل والشهد في فمي".. "مصباح لرجلي كلامك، ونور لسبلي".. "يا رب أحيني كقولك".. "ورثت شهاداتك إلى الأبد، لأنها بهجة قلبي".. "أعضدني حسب قولك فأحيا".. "لأجل هذا أحببت وصاياك أفضل من الذهب والجوهر".. "فتحت فمي واجتذبت لي روحًا، لأني لوصاياك اشتقت".. "أضئ بوجهك على عبدك وعلّمني حقوقك".. "عادلة هي شهاداتك إلى الأبد، فهمني فأحيا".. "بحسب أحكامك أحيني".. "من أجل كلامك أحيني".. "أبتهج أنا بكلامك كمن وجد غنائم كثيرة".. "توقعت خلاصك يا رب، ووصاياك حفظتها. حفظت نفسي شهاداتك وأحببتها جدًا".. "ككلمتك أحيني.. تفيض شفتاي السبح إذا ما علمتني حقوقك".. "لتكن يدك لخلاصي، لأنني اشتهيت وصاياك".. "تحيا نفسي وتسبحك، وأحكامك تعينني".. (المزمور118). هذه بعض أجزاء من المزمور الكبير الذي يؤكد ويوضح بمعاني جلية أن كلام الله فيه حياة لنفس الإنسان مثل قوله "لأن قولك أحياني".. في هذا المزمور يتأكد للمصلى أهمية كلام الله بالنسبة له كمصدر لحياته، وكمصدر للمعونة والإنقاذ، وكمصدر للبهجة والرجاء والنصرة، وكمصدر لتذوق حلاوة العشرة مع الله، وكمصدر للثقة والاتكال على الله، وكمصدر للفهم والمعرفة، وكمصدر للنور الذي يضئ الطريق، وكمصدر للتسبيح الذي تنطق به النفس نحو الله بقوة كلمته العاملة فيها. ليتنا ننتفع من كلمات هذا المزمور الذي رتبته الكنيسة في صلاة نصف الليل مع إنجيل العذارى المستعدات للقاء العريس. مواجهة مع إبليس في التجربة على الجبل استخدم إبليس وسيلتين لمحاولة معرفة حقيقة السيد المسيح من جهة ألوهيته.. ولكنه فشل إلى جوار هزيمته الواضحة أمام الرب المتجسد. لم يكن من السهل على إبليس أن يفهم معنى إخلاء الذات بالنسبة للإله الكلمة الذي هو ابن الله الوحيد الجنس. ولم يكن مفهومًا بالنسبة له أن يخفى الابن الوحيد مجده الإلهي، ولا أن يقدم طاعة للآب وهو المساوي للآب في المجد والكرامة والقدرة والعظمة والسلطان بسبب وحدانية الجوهر من حيث لاهوت السيد المسيح. كانت مسألة التجسد محيّرة للشيطان.. لذلك قال معلمنا بولس الرسول: "وبالإجماع عظيم هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد، تبرر في الروح، تراءى لملائكة، كرز به بين الأمم، أومن به في العالم، رُفع في المجد" (1تى3: 16). وقال أيضًا عن تدبير الخلاص بعد أن تم: "وأنير الجميع في ما هو شركة السر المكتوم منذ الدهور في الله خالق الجميع بيسوع المسيح. لكي يُعرف الآن عند الرؤساء والسلاطين في السماويات بواسطة الكنيسة بحكمة الله المتنوعة حسب قصد الدهور الذي صنعه في المسيح يسوع ربنا" (أف 3: 9-11). ولكن ينبغي أن نلاحظ أن الإنارة دائمًا تكون للمستقيمي القلوب والأفهام. فالمعرفة السليمة للأمور الإلهية ترتبط بالمحبة لأن "الله محبة ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه" (1يو4: 16). هناك من يدرك قدرة الله ويخشاها ويرتعب منها ولكنه لا يفهم أعماق الله وأعماق محبته إلا بالروح القدس "لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله. لأن مَن مِن الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه. هكذا أيضًا أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله" (1كو2: 10، 11). الوسيلة الأولى كانت الوسيلة الأولى التي استخدمها إبليس لمحاولة معرفة حقيقة السيد المسيح هي أنه قال له عندما رآه جائعًا بعد صوم طويل لمدة أربعين نهارًا وأربعين ليلة "إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزًا" (مت4: 3). والواضح من العبارة التي قالها إبليس أنه كان يتساءل عن بنوة السيد المسيح لله من خلال الاستدلال بقدرته على استخدام قدرته الإلهية للخلاص من الجوع ومتاعب الجسد المنهك من الصيام الطويل. ولكن السيد المسيح اتجه في إجابته إلى ما يخص إنسانيته وليس ما يخص لاهوته مستخدمًا آيات الكتاب المقدس إذ رد وقال: "مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (مت4: 4). كان الهدف من تساؤل إبليس هو أن يعلن السيد المسيح عن ألوهيته وبنوته لله. ولكن السيد المسيح أكّد إنسانيته وكيف أن الطبيعة الإنسانية يلزمها الغذاء الروحي للروح بكلام الله، كما يلزمها الغذاء الجسدي للجسد بتناول الخبز. وبهذا فشل إبليس في الوصول إلى هدفه الخبيث. الوسيلة الثانية وكانت الوسيلة الثانية التي استخدمها إبليس هي الاستفزاز بأسلوب غير لائق. ولكن السيد المسيح أضاع عليه الفرصة باتضاعه العجيب. في الوسيلة الأولى كان هناك نوع من التساؤل باحترام أما في الوسيلة الثانية فكانت هناك جسارة بالغة تكشف عن الكم الهائل من الوقاحة التي يتصف بها إبليس إذ أُتيحت له الفرصة بسماح من الله. قال إبليس للسيد المسيح بعد ما أصعده على جبل عال وأراه جميع ممالك العالم ومجدها "أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي" (مت4: 9). هل هناك جسارة واستفزاز يفوق ذلك القول؟ ولكن السيد المسيح استمر في إخفاء حقيقة لاهوته عن الشيطان متوشحًا بالاتضاع الذي التحف به في مجيئه إلى العالم من أجل خلاص البشرية. أجاب السيد المسيح: "اذهب يا شيطان. لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد" (مت4: 10) لقد وضع السيد المسيح الوصية الإلهية المعطاة لبنى البشر في مواجهة استفزازات إبليس. ومع كون السيد المسيح هو ملك الملوك ورب الأرباب المسجود له من الملائكة والبشر ولكنه إذ وُجِدَ في الهيئة كإنسان تكلّم عن واجب البشر في السجود لله وحده، ولم يتكلم عن السجود اللائق له هو شخصيًا. وهكذا استمر في إخفاء لاهوته عن الشيطان. المسيح أقوى من الشيطان قال السيد المسيح: "لا يستطيع أحد أن يدخل بيت قوى وينهب أمتعته إن لم يكن يربط القوى أولًا وحينئذ ينهب بيته" (مر3: 27). وقد دل السيد المسيح بهذا الكلام أنه أقوى من الشيطان بما لا يقاس، وهذا أحد أسباب التجسد الإلهي، إذ لم يكن ممكنًا لطبيعتنا البشرية أن تحقق الانتصار الساحق على الشيطان، إلا بتجسد الله الكلمة نفسه "الذي أبطل الموت وأنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل" (2تى1: 10). ما أجمل رد قداسة البابا شنودة الثالث على السبتيين الأدفنتست الذين يدعون أن السيد المسيح قد ورث الميل إلى الخطية بوراثته للخطية الأصلية في ولادته من العذراء مريم، إذ قال قداسته (إن الميل للخطية لا يتفق مع لاهوت هذا المولود، فكيف يتحد اللاهوت مع جسد فيه ميل إلى الخطية؟! مستحيل) (مجلة الكرازة السنة الثلاثون العددان 13، 14 بتاريخ 29/3/2002). إن الأدفنتست قد فاقوا في ضلالهم الكثير من الهراطقة لأن نسطور حينما نادى بنفس تعليم وراثة المسيح للخطية الأصلية والميل الطبيعي للخطية لم يكن يؤمن بأن الإنسان المولود من العذراء مريم هو هو نفسه الله الكلمة بالحقيقة مثلما يؤمن السبتيون الذين يجدّفون بذلك على الله. لذلك ينبغي أن نحذر الشعب المسيحي في كل مكان من بدعة السبتيين الذين يقدسون يوم السبت مثل اليهود، وليس يوم الأحد الذي قام الرب فيه منتصرًا من الأموات. إن نصرة قيامة السيد المسيح وأهميتها غائبة عن أذهانهم تمامًا مثلما غابت عن أذهانهم حتمية الانتصار في التجربة على الجبل. دعاوى الأدفنتست السبتيين يدعى الأدفنتست أن السيد المسيح قد حمل طبيعة بشرية فيها إمكانية الخضوع للخطية (The possibility of yielding to sin) ويستدلون على ذلك بواقعة التجربة على الجبل ويقولون إن التجربة على الجبل تصبح في حكم التمثيلية لو لم يكن احتمال سقوط المسيح واردًا فيها. وهم في عقيدتهم الخاطئة هذه يرددون تعليم نسطور الذي قال إن يسوع المسيح قد قدّم على الصليب ذبيحة وكفارة عن نفسه وعن الآخرين لأن الله الكلمة قد اتخذ إنسانًا محتاجًا للخلاص مثل سائر البشر. ونرد على هرطقة السبتيين فنقول لو كان السيد المسيح هو نفسه الله الكلمة الذي تجسد لأجل خلاصنا. فإن القول بإمكانية خضوعه للخطية بحسب طبيعته البشرية يكون تجديفًا خطيرًا ضد الله نفسه. لأن الله الكلمة حينما أخلى ذاته آخذًا صورة عبد صائرًا في شبه الناس قد قَبِل الموت والآلام بحسب الجسد لأجل خلاصنا، ولسبب أن يسوع المسيح هو نفسه الله الكلمة بالحقيقة، صار يُنسب إلى الله الكلمة الميلاد من العذراء والآلام والموت بحسب إنسانيته، دون أن ينُسب ذلك إليه بحسب ألوهيته. لكن الآلام والموت من الممكن قبولها كعمل من أعمال المحبة من قِبل أقنوم الله الكلمة المتجسد. أما أن ينسب إليه إمكانية الخضوع أو الميل للخطية فهو أمر مستحيل لأنه لا يحمل أي مجد بل يعتبر إهانة صريحة لأقنوم الله الكلمة المتجسد وتجديف على الله غير مقبول. وهذا يعنى أن السبتيين لا يؤمنون إيمانًا حقيقيًا أن يسوع الناصري هو الله الكلمة وليس آخر. هناك فرق بين أن يخفى الله الكلمة مجده في التجسد، أو أن يحتمل الآلام إنسانيًا من أجل من أحبهم إلى المنتهى، وبين أن يصير معرَّضًا للخطية أو السقوط وهذا ليس في إطار أمجاد المحبة الباذلة. لقد حمل السيد المسيح -وهو برئ- خطايا الآخرين وأوفى الدين عنها. ولكنه هو نفسه قد حمل طبيعة خالية تمامًا من أي نوع من نوازع الخطية. لهذا قال الملاك للعذراء عن ميلاد السيد المسيح منها: "فلذلك أيضًا القدوس المولود منك يدعى ابن الله" (لو1: 35). لا يمكن أن يفدى العالم إلا من كان خاليًا تمامًا من كل عيب، وخاليًا تمامًا من أي ميل نحو الخطية. ولا يمكن أن تتبارك طبيعتنا فيه إلا إذا كانت هذه الطبيعة التي اتحدت باللاهوت في التجسد هي طبيعة خالية تمامًا من كل نوازع الشر والخطية. ولا يمكن أن يحدث اتحاد حقيقي، طبيعي وأقنومي بين اللاهوت والناسوت في المسيح إلا إذا كان الناسوت خاليًا تمامًا من كل ما يتعارض مع قداسة اللاهوت وصلاحه. إذ كيف يجتمع النور مع الظلمة؟! لقد خاطب السيد المسيح أباه السماوي في ليلة آلامه قائلًا: "أنا مجدتك على الأرض.. والآن مجدّني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم" (يو17: 4، 5). لقد تمجّد الناسوت عند صعود السيد المسيح إلى السماء ودخوله إلى مجده بأمجاد اللاهوت وذلك لسبب الاتحاد التام والطبيعي بين اللاهوت والناسوت. لم يعد الناسوت يخفى مجد اللاهوت حينما تمجّد يسوع وجلس عن يمين الآب في السماوات. أسباب التجربة إن التجربة على الجبل لم تكن تمثيلية كما يدّعى السبتيون. ولكن السيد المسيح قد لقّن الشيطان درسًا لن ينساه حينما سمح له أن يجربه وهو في صورة الإنسان. أي أن السيد المسيح قد أعاد للإنسان هيبته وكرامته بانتصاره على الشيطان في التجربة على الجبل أولًا ثم بعد ذلك بصورة حاسمة في الصليب كما هو مكتوب "إذ جرّد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه (أي في الصليب)" (كو2: 15). لقد قدّس السيد المسيح الصوم بصومه مانحًا إياه قوة فائقة للطبيعة لهزيمة الشياطين. ولقد رسم السيد المسيح لنا مثالًا لنقتفى أثر خطواته ولنتشبه به في الصوم وفي الانتصار على الأرواح الشريرة. كذلك أعطانا السيد المسيح دروسًا في الحرب الروحية وكيفية مجابهتها. فمثلًا حينما استخدم الشيطان آية من الكتاب المقدس، رد عليه السيد المسيح بآية من الكتاب المقدس أيضًا بقوله: "مكتوب أيضًا لا تجرب الرب إلهك" (مت4: 7). ونحن نرى اليوم كثير من النقاد وبعض الدارسين (Scholars) يستخدمون آيات الكتاب المقدس بطريقة خاطئة ضد العقائد السليمة والتسليم الرسولي. وينبغي علينا أن نرد عليهم بآيات من الكتاب. كذلك أعطانا السيد المسيح فكرة عن عدم استخدامه لسلطانه الإلهي من أجل إراحة جسده، وكذلك فكرة عن عدم استخدام أمجاد وسلطان الأرض من أجل نشر الكرازة بالإنجيل وعدم التنازل عن المبادئ في الخدمة مهما كان المقابل المادي. لماذا التجربة؟ كان السيد المسيح "يقتاد بالروح في البرية، أربعين يومًا يجرب من إبليس" (لو4: 1، 2) هل كان السيد المسيح يحتاج أن يختبر. أو أن يجرب؟! وإذا كان يسوع المسيح هو الله الكلمة المتجسد فما فائدة التجربة؟! أليس هو نفسه الرب الذي هو "غير مُجرَّب بالشرور، وهو لا يجرِّب أحدًا" (يع1: 13)؟ أليس هو الله الظاهر في الجسد، والذي هو بلا خطية وحده؟ كل هذه الأسئلة وكثير غيرها، قد يذكرها البعض متسائلًا: ما فائدة التجربة بالنسبة للسيد المسيح؟ لأنه من المعلوم مقدمًا أنه لابد أن ينجح في الاختبار حتميًا وبغير نقاش. وقد يتساءل البعض عن ما هو مفهوم التجربة في الكتاب المقدس لأنها تَرِدْ أحيانًا بمعنى الآلام، وأحيانًا بمعنى محاربات الشيطان. وقد تأخذ محاربات الشيطان الآلام وسيلة لها في بعض الأحيان. وللإجابة على ذلك نقول: أولًا: إن السيد المسيح قد جاء في الجسد، لينوب عن البشرية في أمرين أساسيين: الأمر الأول: أن يغلب الشيطان في جسم بشريتنا لحساب الجنس البشرى، مقدمًا الصورة المثالية للإنسان في طاعته الكاملة لله الآب. والأمر الثاني: أن يموت على الصليب نيابة عن الكل، ليوفى العدل الإلهي حقه بالكامل، ويكفّر بذلك عن خطايا جميع البشر الذين يقبلوه كفادٍ ومخلص. لهذا كان ينبغي أن ينوب عنا في محاربة إبليس، وينتصر عليه لأجلنا. ثانيًا: أن السيد المسيح أراد أن يخفى لاهوته عن الشيطان، ولهذا فقد سمح للشيطان أن يجربه مثل سائر البشر؛ في المجال المناسب وبدون أن يخطئ وبعد ذلك "لما أكمل إبليس كل تجربة فارقه إلى حين" (لو4: 13). وعبارة "إلى حين"تعنى أن الشيطان بعد هذه المعركة، قد ذهب ليستعد للمعركة الكبرى عند الجلجثة.. كان صوم السيد المسيح وتجربته على الجبل، هي المعركة التي أثارت إبليس، لكي يعلن الحرب القصوى ضد السيد المسيح. فهناك فرق بين معركة تقديم المغريات، وبين معركة توجيه الضربات. على الجبل كان الشيطان يقدّم عروضًا اختيارية بدون ضغط.. أما في معركة الجلجثة الكبرى، فقد استعمل السوط، والمسمار، والأشواك، والآلام الرهيبة الجسدية والنفسية، والتعييرات. وجاء إبليس وهو يحمل معه سيف الموت مشهرًا بجسارة تتعجب أمامها الألباب!! ولكن هوشع النبي قد تغنى مُلهَمًا بالروح القدس في القديم، وهو يرى بعين النبوة نتائج هذه المعركة "أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية؟" (انظر هو13: 14، 1كو15: 55). حينما. خرج مسيح الرب داود وهو شاب صغير لملاقاة جليات الجبار، أخذ السيف الذي كان بيد جليات وقطع رأسه بنفس هذا السيف. وكان هذا رمزًا وإشارة إلى ما فعله السيد المسيح الذي أباد سلطان الموت بسيف الموت الذي كان إبليس يستخدمه ضد جميع البشر. وقد شرح معلمنا بولس الرسول ذلك بقوله: "لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس، ويعتق أولئك الذين خوفًا من الموت كانوا جميعًا كل حياتهم تحت العبودية" (عب2: 14، 15). وهكذا أيضًا تتغنى الكنيسة في لحن القيامة (بالموت داس الموت). بعد التجربة على الجبل ذهب إبليس ليحشد كل قواه، وليتآمر بأقصى ما يستطيع على السيد المسيح. وكان الهدف هو موت المسيح، أو أن يهرب من الموت منهزمًا. ولكن لم يكن ممكنًا للمعركة أن تبدأ على هذا المستوى الخطير، لولا أن السيد المسيح قد أخفى لاهوته عن الشيطان. الصوم الأربعيني وحتى على جبل التجربة، كان الصوم هو الوسيلة التي اجتذب السيد المسيح بها الشيطان لمحاربته. اختار هو بنفسه ساحة المعركة؛ في البرية؛ ومع الصوم الكبير. الأمر الذي جذب انتباه الشيطان ليتساءل: هل هذا موسى جديد يصوم أربعين يومًا على الجبل؟! أم إيليا آخر يصوم مثله؟! أم لعل هذا هو المسيح الذي تنبأ عنه موسى والأنبياء؟!! وما العمل أمام من ترنمت الملائكة في يوم مولده بتسابيح لم يسبق لها مثيل؟! ما سر أفراح الملائكة بهذه الصورة غير المسبوقة منذ سقوط الإنسان الأول؟! وما سر هذا الميلاد العذراوي العجيب؟.. وكيف تحققت كثير من أقوال الأنبياء القديسين الذين هم منذ الدهر..؟! وإن كان يسوع هو الله الظاهر في الجسد، فكيف ولد في المذود المتواضع بين الحيوانات..؟! وكيف هرب من بطش هيرودس الملك..؟! وكيف ذهب مع يوسف وأمه العذراء ليسكن في الناصرة، تفاديًا لغضب الملك الجديد ابن هيرودس..؟! وكيف عاش هذه السنوات حتى سن الثلاثين مثل إنسان عادى يعمل نجارًا بسيطًا..؟! ولماذا تقبل العماد في وسط التائبين من يوحنا في نهر الأردن؟! كثير من الأسئلة أدخلت الشيطان في الحيرة.. ولم يفهم في كبريائه معنى أن السيد المسيح كلمة الله "إذ كان في صورة الله، لم يحسب مساواته لله اختلاسًا. لكنه أخلى نفسه، آخذًا صورة عبد صائرًا في شبه الناس. وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت - موت الصليب" (فى2: 6-8). لذلك صدق القديس بولس الرسول حينما قال: "وبالإجماع عظيم هو سر التقوى؛ الله ظهر في الجسد" (1تى3: 16). حقًا عظيم هو سر التقوى.. إنه سر عجيب، لم يفهمه الشيطان لسبب كبريائه.. ولن يفهمه..!! |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
التجربة على الجبل والصوم الأربعين |
التجربة علي الجبل |
التجربة على الجبل |
التجربة على الجبل |
التجربة على الجبل |