مزمور 102 - تفسير سفر المزامير
مسكين يعاني من العزلة
هذا المزمور وهو يُمَثِّل صلاة تخْرج من قلب إنسانٍ ما يئن من الشعور بالوحدة أو من ألم المرض [5، 23]، يناسب المؤمن في جهاده الروحي، طالبًا العون الإلهي. ويرى آخرون أنه مزمور مسياني يتنبأ عن السيد المسيح المتألم، وعن كنيسته الحاملة للصليب في هذا العالم. وقد اقتبس الرسول بولس في رسالته إلى العبرانيين (1: 10-12) ما ورد هنا في العبارات 25-27.
يحمل الكاتب غالبًا شعورًا شخصيًا بالألم، وإن كان ينتقل من الجانب الشخصي إلى الجانب الجماعي، كما ينتقل من النوح إلى النبوة بروح الرجاء.
يُنظَر إليه كمزمور غَنِي بالجانب التقليدي من جهة: الصلوات [1-6]، والتسابيح [12، 25-27]، والرجاء النبوي [13، 22، 28]، والحكمة [28].
مناسبته[1]
اختلفت آراء الدارسين في مناسبة تسجيل هذه الصلاة أو هذا المزمور:
1. يرى البعض أنه سُجِّل بعد عودة عزرا ومعه تفويض بإعادة بناء الهيكل (نح 1: 3-11). في هذه الحالة يكون الكاتب عزرا أو نحميا أو أحد المعاصرين لهما.
2. كُتبتْ هذه الصلاة في نهاية السبي البابلي. تُمَثِّل صرخات بعض المؤمنين بعد أن طالت فترة السبي. كادوا يفقدون الرجاء في العودة، فطلبوا من الله تحقيق وعده.
3. صلاة لداود النبي، لا تخص مناسبة معينة، وإنما قدَّمها بروح النبوة. تقليديًا يُنظَر إلي هذا المزمور أنه الخامس من بين مزامير التوبة السبعة، وإن كان لا يحتوي على أية إشارة عن خطية معينة بسببها حدث ضيق. إنه صرخة تخرج من قلب كل إنسان يعاني من مرارة في حياته، طالبًا أن يعلن الله ملكوته له ويخلصه.
1. نحيب شخصي
1-11.
2. نحيب جماعي
12-22.
3. نحيب شخصي
23-24.
4. تسبحة ختامية
25-28.
من وحي مز 102
العنوان
صَلاَةٌ لِمِسْكِينٍ إِذَا أَعْيَا وَسَكَبَ شَكْوَاهُ قُدَّامَ اللهِ
من هو هذا المسكين إلا الإنسان حين يسقط في ضيق، ويشعر كأن أقرب من له عاجز عن مساندته بل وعن مشاركته مشاعره.
إذ رأى كلمةُ الله ما بَلَغَه الإنسان من بؤسٍ وتعبٍ، قَبِلَ من أجل محبته للبشرية أن يتأنس ويحل في وسطنا كمسكينٍ، حتى بمسكنته يهبنا من فيض بركاته وتعزياته وغناه السماوي. إنه وحدَه قادر أن يحتضن كل نفسٍ ليرفعها إلى أمجاده عِوَض المذلة والضيق.
يرى القديس أغسطينوس أن هذه الصلاة يُقَدِّمها السيد المسيح مع كنيسته بكونه رأسها، يقول: [لذلك فلنسمعْ المسيح، المسكين داخلنا، ومعنا، ولأجلنا.]
* انظروا، فإن مسكينًا يصلي، ولا يصلي في صمت. لهذا فلنسمعه، وننظر من هو هذا. أليس ذاك الذي يقول عنه الرسول: "إنه من أجلكم افتقر وهو غني، لكي تستغنوا أنتم بفقره" (2 كو 8: 9).
إن كان هو، فكيف يكون مسكينًا...؟ من هو أغنى من ذاك الذي به صُنعت كل الثروات، حتى تلك التي هي ليست بالحقيقة ثروات؟ به صارت لنا تلك الثروات والقدرات، والذاكرة، والشخصية، وصحة الجسد، والحواس وكل بنية أعضائنا، فإنه حين تكون هذه سليمة يكون حتى الفقير غنيًا. به أيضًا تُصنع الثروات الأعظم من إيمانٍ وتقوى وعدالة وحب وطهارة وسلوك حسن، فإنه ليس أحد له هذه الأمور إلا به، ذلك الذي يبرر الفجَّار... انظروا كم يكون غناه...! لكن لتمتحنوا كيف أنه هو ذاك المسكين، إذ "الكلمة صار جسدًا، وحلّ بيننا" (يو 1: 14)... لقد أخذ شكل العبد، والتحف بفقرنا، فجعل نفسه مسكينًا، وجعلنا نحن أغنياء[2].
* يتحدث المزمور عن الإنسان المسكين، لا بخصوص المعوز إلى هذا العالم، بل ذاك الذي كُتِبَ عنه: "طوبى للمساكين بالروح" (مت 5: 3). عندما يشعر بالهزل؛ عندما يتذكر خطاياه السابقة والحاضرة، "يسكب" ألمه بكل قلبه، وليس بشفتيه. من هو هذا الذي بالحقيقة الإنسان القادر أن يسكب ألمه المبرح في حضرة الرب؟ من هو هذا الذي لا يشعر بنخس ضميره؟[3]
* الإنسان وإن كان ملكًا وأغنى الناس، يقال عنه إنه مسكين، لأنه مُفْتَقِر إلى الله، وليس لديه شيء، ما لم يكن ممنوحًا من قبل الله.
1. نحيب شخصي
يَا رَبُّ اسْتَمِعْ صَلاَتِي،
وَلْيَدْخُلْ إِلَيْكَ صُرَاخِي [1].
دُعِي الله "سامع الصلوات"، يميل بإذنه إلى قلب الإنسان، لأن تنهداته وصرخاته عاجزة عن الصعود إليه. بحبه ينزل إلى الإنسان ليسمع همسات قلبه الخفية، ويستجيب لها إن كانت تُقدَّم بما يليق أن يمنحه الله للبشرية.
يستغيث المرتل بالله مخلصه ليسمع صلاته ويسمع لصرخاته أن تدخل إلى عرش نعمته. جاء التعبيران هنا "الصلاة"، و"الصراخ" كل منهما يُكَمِّل الآخر، ويكشفان معًا عن الجدية وحالة الاستعجال والخطورة التي لحقتْ بالمؤمن. هذه الحالة في الحقيقة ليست طارئة، لكنها هي نصيب المؤمن الحقيقي، الذي يُصلَب مع المسيح المصلوب. إنها لا تمس عصرًا معينًا دون غيره، ولا ظروف خاصة، ولا هي بالأمر الجديد في حياة القديسين.
* يسمع الله صلاة من يسأله ما يليق أن يمنحه الله للمُصَلِّين.أما الصراخ هنا فهو ليس إعلاء الصوت واجهاره، إنما الحرص والنشاط وشدة العزيمة.
لاَ تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنِّي فِي يَوْمِ ضِيقِي.
أَمِلْ إِلَيَّ أُذُنَكَ فِي يَوْمِ أَدْعُوكَ. اسْتَجِبْ لِي سَرِيعًا [2].
ما ورد في هذه العبارة من تعبيرات كثيرًا ما جاءت في مزامير أخرى مثل مز 17: 6؛ 31: 2؛ 45: 10؛ 71: 2؛ 86: 1؛ 88: 2، 69: 17؛ 79: 8.
* "لا تحجب وجهك عني". الإنسان الذي يصلي بقلبٍ طاهرٍ وضميرٍ بلا لوم، وحده قادر أن ينطق بهذه الصلاة. من الجانب الآخر، لا يجسر الخاطي أن يقول: "لا تحجب وجهك عني"، بل يقول بالصواب: "اصرف وجهك عن خطاياي" (مز 51: 11)[4].
* من كان ضميره طاهرًا ولا يبصر في ذاته فعلًا منكرًا، فذاك يقول عند صلاته: "لا تحجب وجهك عني". أما قوله: "أمل إليّ أذنك" فمعناه، إنه من حزني صار صوتي منخفضًا، وأما أنت يا رب فمرتفع جدًا. تنازل برحمتك إليّ، وأنصت إلى تضرعي.
وقوله "استجب لي سريعًا" فمعناه قبل أن يدركني الموت.
لأَنَّ أَيَّامِي قَدْ فَنِيَتْ فِي دُخَانٍ،
وَعِظَامِي مِثْلُ وَقِيدٍ قَدْ يَبِسَتْ [3].
كثيرًا ما يشعر الإنسان في وقت ضيقة أن أيامه عبرتْ سريعًا وبلا نفع، أشبه بالدخان الذي يفسد البصر، ويزول دون فائدة. في وسط الضيق يشعر الإنسان أن عظامه لا تسنده بل تزيد لهيب قلبه، فتشتعل النيران في داخله، لتقضي على حياته باطلًا. يشعر المرتل أن عظامه مثل وقود يُلقَى في موقد نار، سرعان ما ينتهي. إن كانت العظام هي الهيكل الذي يسند بقية الجسم فبدماره يتدمر الجسم، ولا يحمل قوة للعمل أو الحياة.
* ترمز العظام إلى القوة. فإن كان الجزء القوي فيَّ يصير يابسًا وواهنًا، كم بالأكثر يكون جسمي الوهن بطبعه يكون مضنيًا[5].
* إذ تتغذى عين النفس على مروج الأقوال الروحية، تصير نقية وحادة البصر، لكنها إذا رحلت إلى دخان أمور هذه الحياة، فإنها تبكي بلا حدود، وتبقى في عويل هنا وفيما بعد. لهذا قال أحدهم: "فنيت أيامي كالدخان"[6].
* هكذا هي قوة هذه الكارثة، أظهرت أن إنسانًا عظيمًا ومشهورًا كان أكثر الناس تفاهة. لذلك إن دخل غني في هذا الاجتماع ينتفع كثيرًا من هذا المنظر، إذ يرى (أتروبيوس) الإنسان الذي كان يهز العالم قد انسحب من علو تشامخ سلطته، راكضًا على ركبتيه في خوف، أكثر رعبًا من الأرنب البرّي أو الضفدعة، مسمرًا على عمود هناك بلا ربط، لأن خوفه يقوم بما تقوم به القيود، فيرتعب الغني، وينكسر تعاليه، ويتنازل عن كبريائه، طالبًا الحكمة الخاصة بالأعمال البشرية، مستخلصًا تعليمًا من مثلٍ عمليٍ، عن درس يعلمنا إياه الكتاب المقدس موصيًا: "كل جسد عشب، وكل جماله كزهر الحقل. يبس العشب ذبل الزهر" (إش ٤٠: ٦). أو "إنهم مثل الحشيش سريعًا يقطعون، ومثل العشب الأخضر يذبلون" (مز 37: ٢). أو "أيامي قد فنيت في دخان" (مز ١٠٢: 3)[7].
* يقول القديس أثناسيوس إن هذا القول نبوة عن ضياع المفاخر التي كانت للعبرانيين، ليقيموا بها عبادة الشريعة القديمة، وهي كهنوتهم وذبائحهم... هذه وما على شاكلتها قد فُقدتْ منهم وفنيت كالدخان. كانت تشددهم كما تشدد العظام الجسد، لكنها احترقت.
أيضًا العظام هي آراء النفس بالله ومعتقداتها به، وهي بيضاء ومخفية ومشددة للنفس مثل العظام. هذه تلتهب عند اضطرام القلب من التلهف.
مَلْفُوحٌ كَالْعُشْبِ، وَيَابِسٌ قَلْبِي،
حَتَّى سَهَوْتُ عَنْ أَكْلِ خُبْزِي [4].
يرى المرتل قلبه أشبه بعشب قد جُزَّ، تلفحه الشمس فسرعان ما يجف.إن كان الإنسان قد نسى أن يأكل خبزه، فقد جاء السيد المسيح، خبز الحياة، لكي نتناوله.
* هكذا هي حياة الإنسان، اليوم قوي ونشيط، غدًا يذبل "نسيت أن آكل خبزي" لم يقل المرتل: "ليست لي رغبة في الأكل، أو ازدريت بالطعام. لا، بل كانت ذكرى الخطية عظيمة اندفعت عليّ، فانكسرت في ندامة، حتى نسيت أن آكل. صار شوقي الوحيد هو في الله. لقد حُملت بالتمام في التأمل فيه[8].
* لقد نسيتم أن تأكلوا خبزكم، لكن بعد صلبه، فإن كل أقاصي الأرض تتذكر وتتحول إلى الرب (مز 22: 27). بعد النسيان يأتي التذكر. ليت الخبز يؤكل من السماء، حتى نحيا؛ لا نأكل المن مثل أولئك الذين أكلوا وماتوا (يو 6: 49)، إنما الخبز الذي قيل عنه: "طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ" (مت 5: 6)[9].
* كما أن الجسد يقوته الخبز الأرضي، كذلك النفس يقوتها الخبز الذي نزل من السماء، وهو ربنا يسوع المسيح الذي علَّمنا أن نطلب في صلواتنا الخبز المشدد لجوهرنا. لقد أمرنا، قائلًا: "أعطوا لا للطعام الفاني، بل للطعام الباقي، فهو يضمر ويسقط زهره ونوره، ويجف كالعشب. وكما تيبس الأرض من عدم المطر ولا تثمر كذلك يبس قلبه (قلب كل إسرائيلي) ولا يثمر ثمر الفضيلة لانقطاع مطر الكلام الإلهي عنه.
* إذا كان الجسد يأخذ كل يوم غذاءه ثم يسترخي، فهذا يأتي من الشياطين، إلاّ في حالة المرض، فيلزم الاعتدال، وهذا يكون بالقيام من على المائدة قبل الشبع بقليلٍ، وذلك حسبما عيّن الشيوخ للمبتدئين. وعندما يبلغ الإنسان إلى قياس قول الرسول: "إننا لا نجهل أفكاره" (2 كو 2: 11)، لا يمكنه أن يسهو عن الكمية التي يجب أن يأكلها، لأنه يكون قد تدرّب (أو اعتاد) على ذلك... ولعل إله آبائنا يقودك إلى هذه المسرة، لأن هذا نور يفوق الوصف ومتألِّقٌ وحلو. إنه لا يذكر الغذاء الجسدي، لأنه يسهو عن أكل خبزه (مز 102: 4). روحه تكون في مكانٍ آخر، فهو يبحث عن السماويات ويفكر فيها، ويتأمل فيها.
* سؤال من الأب نفسه إلى الشيخ نفسه: كيف يحدث أنه عندما أريد أن أسيطر على بطني، وأُنقص من الطعام إلى الحد الضروري، لا أستطيع ذلك؟ فإذا تناولتُ في أحد الأيام قليلًا من الطعام الأقل قيمة، فإنني أعود بعد ذلك بطريقة غير محسوسة إلى مقداري السابق، وهكذا أيضًا في الشرب.
جواب الأب يوحنا: إن محبتك لَتذكِّرني، يا أخي، أن كل ما تقوله لي قد جرّبته بنفسي، وعانيتُ منه أنا أيضًا. ولا يوجد مَنْ هو مستثنى إلاّ الذي بلغ إلى درجة المرتل الذي قال: "سهوتُ عن أكل خبزي، من صوت تنهُّدي، لصق عظمي بلحمي" (مز 102: 4-5). إنه وصل إلى نظام أقل في الطعام والشراب، لأن دموعه صارت خبزه، وبدأ منذ ذلك الوقت يتغذّى بالروح (القدس). صدقني يا أخي، إنني أعرف إنسانًا يعرفه الرب كانت له هذه الدرجة: أنه مرةً أو مرتين في الأسبوع وأكثر، كان يأسره الطعام الروحاني حتى أن حلاوته تُنسيه الطعام المحسوس، وعندما يحين ميعاد الأكل يشعر مثل هذا الإنسان بالشبع والاشمئزاز من الطعام ولا يريد أن يأكل.
مِنْ صَوْتِ تَنَهُّدِي،
لَصِقَ عَظْمِي بِلَحْمِي [5].
صار المرتل في حالة هزال شديد بسبب القلق أو الأرق، مُنهَك القوة تمامًا. فَقَدَ كل عضلات جسمه فصارت عظامه مغطاة بالجلد وحده.
* كثيرون يتنهدون، وأنا أيضًا أتنهد، فإنني أتنهد لأنهم يتنهدون بسبب خاطئ. هذا الإنسان فَقَدَ قطعة مال، إنه يتنهد... إنه يرتكب غشًا ويفرح... إننا نود إصلاحهم، وإذ لا نستطيع نتنهد، وعندما نتنهد لا ننفصل عنهم[10].
شْبَهْتُ قُوقَ الْبَرِّيَّةِ.
صِرْتُ مِثْلَ بُومَةِ الْخِرَبِ [6].
يرى البعض أن القوق هنا يعني به "الواق"، وهو طائر من فصيلة مالك الحزين، دائم الصراخ في البرية، خاصة وهو يطير في الغروب. صوته مزعج ومؤلم. ويرى البعض أنه يوجد نوعان من القوق (البجع) نوع يعيش في البراري، وآخر على المياه.
* يقولون إنه يوجد نوعان من هذا النوع من الطيور. واحد مائي طعامه السمك، والآخر يعيش في أماكن مهجورة يتغذى على المخلوقات السامة مثل الحيات والتماسيح والسحالي. هذه الطيور تدعى في اللاتينية onocrotali. حسنًا، لقد صرتُ مثل الطائر الذي في البرية، يتغذى على الكائنات الحية السامة، هكذا صار طعامي بالنسبة لي كالسم.
"صرت مثل غراب الليل بين الخرائب"... إن كان الغراب أسود في ضوء النهار، كم يكون سواده بالأكثر في الليل؟ لهذا صرت في عيني نفسي بسبب كثرة خطاياي[11].
أسَهِدْتُ وَصِرْتُ كَعُصْفُورٍ مُنْفَرِدٍ عَلَى السَّطْحِ [7].
في ضيقه صار كعصفورٍ لا حول له ولا قوة، يسهر بسبب الألم والحيرة، لا يستطيع أن ينام. وينفرد على سطح البيوت، لأنه يريد أن يكون في عزلة، لا يود الالتقاء بأحدٍ لشعوره بعدم مشاركتهم له وسط آلامه.
يرى القديس أغسطينوس في هذه الطيور الثلاثة: القوق والبومة والعصفور، تشير إلى اهتمام السيد المسيح بثلاث فئات من البشرية:
أ. فئة مثل القوق في البرية، وهم غير المؤمنين، يعيشون في عزلة عن بيت الرب.
ب. فئة البوم التي تعيش في الأماكن الخربة، وهم المرتدين، يعيشون في الظلمة.
ج. فئة الساكنين في بيت (المسيحيين بالاسم) دون التمتع بالحياة الإيمانية الصالحة. فيقف السيد المسيح كعصفورٍ على السطح يدعوهم للحياة المقدسة المرضية.
يليق بسفراء المسيح أن يتشبهوا به، فيبحثون عن كل إنسان أينما وُجِدَ، ومهما كان حاله: سواء كان غير مؤمنٍ أو مرتد أو مسيحي بالاسم.
* هكذا الله الخالق وشافي الكل، الذي يعرف أن الكبرياء هي السبب، والمصدر الرئيسي لكل الشرور، أعطى اهتمامًا أن يشفي الضد بالضد، هذه الأمور التي تتحطم بواسطة الكبرياء يجب أن تُشفَى بواسطة التواضع (إش 13:14)...
مقابل الذي قال: "جميع ممالك المسكونة ومجدهن هي لي، وأعطيها لمن أريد" (لو6:4)، قيل عن الآخر: "وهو غني افتقر، لكي نغتني نحن بفقره" (2 كو 9:8).
لأجل الذي قال: "وكما يُجمع بيض مهجور جمعت أنا كل الأرض، ولم يكن مرفرف جناح، ولا فاتح فم، ولا مصفصف" (إش 14:10)، قال الآخر: "صرت مثل بومة الخرب، سهدت، وصرت كعصفور منفرد على السطح" (مز 102: 6-7)[12].
* بالحقيقة الهدف من حياة المجمع أن يصلب الراهب جميع رغباته ويتمثل بالكمال... ولا يهتم بالغد. وواضح تمامًا أن هذا الكمال لا يبلغه الجميع، بل راهب الشركة... ولكن كمال المتوحدين هو أن يُخلي ذهنه عن كل الأشياء الأرضية، وأن يربطه بالمسيح قدر ما يسمح ضعف الإنسان. ويصف النبي إرميا مثل هذا الرجل قائلًا: "جيّد للرجل أن يحمل النير في صباهُ، يجلس وحدهُ ويسكت، لأنهُ قد وضعهُ عليهِ" (مرا 27:3-28). ويقول داود أيضًا: "سَهدتُ وصرتُ كعصفورٍ منفرد على السطح" (مز 7:102)[13].
الْيَوْمَ كُلَّهُ عَيَّرَنِي أَعْدَائِيَ.
الْحَانِقُونَ عَلَيَّ حَلَفُوا عَلَيَّ [8].
جاء عن الترجمة السبعينية وأيضًا القبطية: "النهار كله كان يعيرني أعدائي. والذين يمدحونني يتحالفون علي".
يجد الأعداء فرصتهم للسخرية بمن يعادونه، فيزيدون ضيقه ضيقًا.
* يمدحونني بأفواههم، وبقلوبهم ينصبون لي فخاخًا. اسمعوا مديحهم: "يا معلم، نعلم أنك صادق، وتعلم طريق الله بالحق، ولا تبالي بأحدٍ، لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس. فقل لنا ماذا تظن. أيجوز أن تُعطَي جزية لقيصر أم لا؟" (مت 22: 16-17)[14]
إِنِّي قَدْ أَكَلْتُ الرَّمَادَ مِثْلَ الْخُبْز،ِ
وَمَزَجْتُ شَرَابِي بِدُمُوع [9].
من العادات القديمة أن يكف الإنسان في حزنه عن الطعام، خاصة في حالة وفاة أحد أقربائه أو أصدقائه، ويلبس مسوحًا. هنا يُعَّبر المرتل عن أقسى حالات الحزن، فلا يكف عن الطعام والشراب فحسب، إنما يكون كمن يأكل رمادًا يُحَطِّم جسمه، ويزيده عطشًا، وتنسكب دموعه بغزارة، وتتسلل إلى فمه كأنها شراب له.
كان الحزانى يضعون رمادًا على رؤوسهم وثيابهم، فإن اضطروا حتى إلى الأكل بسبب شدة الجوع، يتلوث طعامهم بالرماد المتطاير من جسمهم وثيابهم. أما المرتل فيأكل الرماد نفسه!
يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أن المصائب لتي وردت في هذا المزمور تشير إلى ما أصاب اليهود بعد صلبهم المسيح الإله. صارت معيشتهم كالرماد الذي يفضُل عن الذبائح التي كانوا يحرقونها، وامتزج شراب سرورهم بدموعهم. وصارت أيامهم كالظل، لأنهم يخدمون الشريعة التي هي ظل ورسم للشريعة الإنجيلية. ويبسوا مثل الحشيش، وصاروا مأكلًا للبهائم ووقودًا للنار.
* كلوا الرماد كخبزٍ، واخرجوا شرابكم بالبكاء، بهذه الوليمة تبلغون إلى مائدة الله[15].
* لقد غمست خبزي في الرماد وأكلته هكذا. إن كان هذا ما يقوله النبي، فماذا يكون حالنا نحن؟ "ومزجت شرابي بدموع" لم يعد شيء ما حلو في مذاقي، لا الخبز ولا الشراب، إنما صرت مشتاقًا إلى الخبز السماوي وحده، أي المسيح[16].
* بعد تواضع القلب دون حاجة إلى صلوات قوية، وإلى دموعٍ كثيرة، دموعٍ في النهار، ودموع في الليل، إذ يقول: "تعبت في تنهدي. أعوم في كل ليلة سريري بدموعي. أبلل فراشي ببكائي" (مز 6: 6 LXX). مرة أخرى يقول: "إني قد أكلت الرماد مثل الخبز، ومزجت شرابي بدموعٍ" (مز 102: 9)[17].
* عندما كان داود في خطر بعد سقوطه في الزنا اعترف في رماد مع صوم. يخبرنا بأنه أكل الرماد كالخبز، ومزج شرابه ببكائه (مز 102: 9). وأن ركبتيه صارتا ضعيفتين من الصوم (مز 109: 24). مع أنه سمع بالتأكيد من ناثان الكلمات: "الرب قد نقل عنك خطيتك" (2 صم 12: 13)[18].
* هكذا إذن أراحه النبي (ناثان)، لكن الطوباوي داود إذ سمعه يقول: "الرب قد نقل عنك خطيتك"، لم يكف عن التوبة. ومع أنه كان ملكًا، لبس المسموح عوض الأرجوان، وجلس في الرماد عوض التاج الملكي... لا بل جعل الرماد طعامه، قائلًا: "إني قد أكلت الرماد مثل الخبز" (مز 102: 9). لقد غسل عينيه الشهوانيتين بالدموع قائلًا: "أعوِّم كل ليلة سريري، وبدموعي أبل فراشي" (مز 6: 6).
وعندما سأله موظفوه أن يأكل خبزًا لم يسمع لهم، بل بقي صائمًا سبعة أيام كاملة.
إن كان الملك قد اعترف هكذا، أفما يليق بك أيها الشخص العادي أن تعترف؟[19]
القديس كيرلس الأورشليمي
* ليست كل الدموع تنبع من مشاعر متشابهة، أو عن فضيلة واحدة.
ا. البكاء المتسبب عن وخزات خطايانا التي تنخس قلوبنا كما قيل: "تعبت في تنهُّدي. أعوّم في كل ليلة سريري، وبدموعي أذوّب فراشي" (مز 6:6)، وأيضًا: "اسكبي الدموع كنهر نهارًا وليلًا. لا تعطي ذاتكِ راحةً. لا تكفَّ حدقةُ عينكِ" (مرا 18:2)، هذه الدموع تصدر بطريقة معينة.
ب. بطريقة أخرى تأتي الدموع الصادرة عن التأمل في الأمور الصالحة، والاشتياق إلى المجد المُقْبِل، إذ تتدفق دموع غزيرة نابعة عن فرح لا يُمكن كتمانه وتهليل بلا حدود. فإذ تتعطش أنفسنا إلى الله الحي القدير تقول: "متى أجيء وأتراءَى قدام الله. صارت لي دموعي خبزًا نهارًا وليلًا" (مز 2:42-3)، معلنة ذلك ببكاء يومي ونحيب قائلة: "ويل لي، فإن غربتي قد طالت" (مز 5:120).
ج. بطريق ثالث تتدفق الدموع، لا عن إحساس بالخطية المهلكة، إنما بسبب الخوف من الجحيم، وتذكر يوم الدينونة المرهب، وذلك مثل رعب النبي القائل: "لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرر قدامك حي" (مز 2:143).
د. يوجد أيضًا نوع آخر من الدموع، لا ينسكب بسبب معرفة الإنسان لنفسه، إنما بسبب قسوة الآخرين وخطاياهم، فصموئيل كان يبكي لأجل شاول. وجاء في الإنجيل عن الرب أنه بكى من أجل مدينة أورشليم، كما فعل إرميا في الأيام السابقة. إذ يقول الأخير: "يا ليت رأسي ماء، وعينيَّ ينبوع دموع، فأبكي نهارًا وليلًا قَتلَى بنت شعبي" (إر 1:9).
هـ. بالتأكيد الدموع المذكورة في المزمور المائة واثنين "إني قد أكلتُ الرماد مثل الخبز، ومزجتُ شرابي بدموعٍ" (مز 9:102)، صادرة عن مشاعر تختلف عن تلك التي وردت في المزمور السادس الخاصة بالإنسان التائب، فهي ناشئة عن متاعب هذه الحياة وضيقتها وخسائرها، التي تضغط على الأبرار العائشين في العالم[20].
بِسَبَبِ غَضَبِكَ وَسَخَطِكَ،
لأَنَّكَ حَمَلْتَنِي وَطَرَحْتَنِي [10].
تصوير خطير لمشاعر المتألم! كأن الله يرفعه، لا ليعينه ويسمو به فوق التجربة، إنما ليلقي به من العلو إلى الأرض فيحطمه.
* وُضع الإنسان في كرامة، إذ خُلق على صورة الله. ارتفع إلى هذه الكرامة، ارتفع من التراب، من الأرض، وتقبَّل نفسًا عاقلة، صار له سلطان على الحيوانات والقطيع والطيور والسمك (تك 1: 26). مَنْ مِنْ هؤلاء له عقل لكي يفهم؟ ليس أحد منهم خُلِقَ على صورة الله... لذلك إذ ترفعني تطرحني، إذ تبع ذلك العقوبة، إذ وهبتني حرية الاختيار... وبالحكم عليّ طرحتني[21].
* لتكن هذه هي صرخة الذين كانوا مرة قديسين وسقطوا من القداسة. فبعدما ارتفعوا في الفضائل سقطوا من الإيمان. أما صلاة النفس المُتعبة فهي: إذ ترفعني ثبتني![22]
أَيَّامِي كَظِلٍّ مَائِلٍ،
وَأَنَا مِثْلُ الْعُشْبِ يَبِسْتُ [11].
كلما بدأت الشمس تغيب يصير الظل أكثر طولًا، لكن ما أن تغيب حتى ينتهي الظل تمامًا ويتلاشى. هكذا يشعر المرتل كأن الشمس قد مالت عنه، فانتهت حياته كالظل الذي يصير بلا وجود.
* إن كانت الأيام (النهار) مثل ظلِ، كم بالأكثر تكون الليالي؟ إن كان هذا هو أمر النور، فماذا عن الظلمة؟[23]
* كل الحقائق الحاضرة هي ظلال (حك 5: 9)، تستمد أصولها من الصالحات التي للسماوات، لكنها تبقى مثل الظلال، فقط تماثل الحق للأمور العلوية. لكن ما أن يعبر الليل، ويشرق الفجر، حتى تُرَى طبيعة الأمور العلوية بوضوح، كما لو كانت في نور الشمس. عندئذ يتحقق الشعب: "حياتنا على الأرض ظل" (أي 8: 9). عندئذ يقولون: "أيامي كظلٍ مائلٍ" (مز 102: 11)، مشيرين إلى مدى وهن النجاح الزمني وسرعة بطلانه[24].
2. نحيب جماعي
أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ، فَإِلَى الدَّهْرِ جَالِسٌ،
وَذِكْرُكَ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ [12].
مع شعور المرتل أن حياته صارت كظلٍ سريع الزوال، يعترف بسرمدية الله، وأنه قائم إلى الأبد، يستحق أن يذكره السمائيون والأرضيون على الدوام.
* أنت يا رب ولو أنك صرت إنسانًا، لكنك إلى الأبد ثابت، لتنزهك عن الخطية الجالبة للفساد. وبما أنك إله أيضًا وذكرك لم يزل مؤيدًا إلى جيلٍ وجيلٍ.
أَنْتَ تَقُومُ وَتَرْحَمُ صِهْيَوْنَ،
لأَنَّهُ وَقْتُ الرَّأْفَةِ،
لأَنَّهُ جَاءَ الْمِيعَادُ [13].
يرى البعض أنه إذ طال وقت السبي واشتدت الظلمة جدًا، فقد حان وقت تحقيق الوعد الإلهي بالعودة. لقد اعتاد الله أن يظهر في الهزيع الأخير حين تفشل كل الأذرع البشرية، ليعلن عن حبه ورحمته ورأفته بخليقته. قال دانيال النبي وهو في أرض السبي: "أنا دانيال، فهمت من الكتب عدد السنين التي كانت عنها كلمة الرب إلى إرميا النبي لكمالة سبعين سنة على خراب أورشليم" (دا 9: 2).
يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أنه وإن كان قد تجسد كلمة الله وتألم وصُلب، لكنه إذ قام من الأموات صنع رأفة على صهيون التي هي جماعة المؤمنين.
* "لأنه وقت الرأفة، لأنه جاء الميعاد". وذلك إما بسبب التوبة فهو وقت الرحمة، أو لأن هذه العبارة تشير إلى المجيء الثاني للمخلص. ليت ذاك الذي يتوب يكون له الثقة، لأن وقت الخلاص قد حلّ، الرب رحوم وحنان[25].
لأَنَّ عَبِيدَكَ قَدْ سُرُّوا بِحِجَارَتِهَا،
وَحَنُّوا إِلَى تُرَابِهَا [14].
اشتهى بعض المسبيين يوم رجوعهم إلى أورشليم لبناء مدينة الله والهيكل المقدس. إنها صرخة كل قلبٍ ملتهب بحب الله وهو يرى قلوب البشر قد تحطمتْ، مشتهيًا قيام ملكوت الله في كل إنسانٍ بالإيمان الحي العملي.
يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أن صهيون هي كنيسة المسيح، أي جماعة المؤمنين. أما حجارتها فهي الرسل الأطهار والمعلمون الذين شيدوا بنيانها، وترابها هم الذين سيرتهم سفلية ترابية. وأما عبيد الله الذي سُروا بحجارتها فهم الأنبياء الذين يسرون بالرسل الذين جاءوا يحملون ذات آرائهم، وينحنون نحو الترابيين لأجل خلاصهم، كما تنحني الأم نحو أبنائها.
* أفهم بحجارة صهيون كل الأنبياء، فقد كان هناك صوت الكرازة قد بُعث قبله وبعد ذلك خدمة الإنجيل، الذي بكرازتهم عُرِفَ المسيح[26].
* الحجارة هي القديسون، والتراب من جانب آخر هم الخطاة الذين يحتاجون إلى مراحم الرب المتحنن[27].
فَتَخْشَى الأُمَمُ اسْمَ الرَّبِّ،
وَكُلُّ مُلُوكِ الأَرْضِ مَجْدَكَ [15].
إن كانت قوات الظلمة تظن أنها قادرة لا أن تُحَطِّم كنيسة الله، بل وتبتلعها كنهرٍ جارفٍ يبتلع الكثيرين، فإن النبي إشعياء يصرخ: "حسب الأعمال هكذا يجازي مبغضيه سخطًا، وأعداءه عقابًا، جزاءً يجازي الجزائر. فيخافون من المغرب اسم الرب، ومن مشرق الشمس مجده، عندما يأتي العدو كنهرٍ فنفخة الرب تدفعه" (إش 59: 18-19).
إنه بالحق يحطم عداوتهم، ويعلن مخافته فيهم، فيؤمنون به، ويصيرون أعضاء في كنيسته المقدسة. يريد الله أن جميع الناس يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون (1 تي 2: 4).
لقد حلّ موعد الرأفة بمجيء السيد المسيح مخلص العالم، فانكشفت النبوات بتحقيقها بمجيئه وعمله الخلاصي. بهذا فرح عبيد الرب بالحجارة الحية، التي هي جماعة الأنبياء.
كما خُلق آدم من التراب، تجددتْ الخليقة أيضًا لمجيء المخلص، وإقامة كنيسة العهد الجديد كما من التراب "حنوا إلى ترابها" [14]، وأقيم حائط في بيت الرب، إذ صار التراب حجارة حيَّة مبنية في بيت الرب. الآن انجذب الأمم إلى الإيمان وصار فيها مخافة الرب، وصار حائطًا جديدًا يرتبط بالحائط الأول خلال حجر الزاوية (أف 2: 5).
* الأمم التي لم تكن أولًا تخشى الله الحقيقي، ولا تعرف قدرته، بعد أن تلمذها الرسل، وعرَّفوها به، وعمدوها، صارت تخاف الرب خوفًا خلاصيًا، الذي هو بدء الحكمة.
عرف ملوك الأرض كلهم مجد الله، هؤلاء الذين كانوا يسودون على الممالك. وأيضًا الذين صار لهم سلطان على شهوات الجسد وانفعالات النفس، وضبطوها (عرفوا مجد الله). لكن أن يبقى منهم من لم يعرف حتى الآن مجد إلهنا، ففي حضوره العتيد، لن يكون من لا يعاين مجده.
إِذَا بَنَى الرَّبُّ صِهْيَوْنَ،
يُرَى بِمَجْدِهِ [16].
جاء الحديث هنا كأمرٍ قد حدث فعلًا. ففي وسط الآلام يعلن المؤمنون أن الخلاص قد تحقق، والعداوة قد زالت، والأشرار يَقْبَلون الإيمان ويصيرون قديسين!
* كما أن العبرانيين الذين أخذهم أهل بابل أسرى، وصاروا يشتاقون إلى أوطانهم، ويشتهون أن يروا الحجارة التي بقيت بعد خراب أورشليم، وكانوا يتضرعون إلى الله، لكي يرجعوا إليها ويبنوها ويرفعوا مجده فيها، هكذا الطبيعة البشرية عندما أسرها المحتال، وخرَّب ما كان يسيجها (كأسوار)، ويحوط بها من نواميس الله وشرائعه وحمايته لها، صارت بواسطة أنبيائه وأتقيائه تتضرع باشتياق زائد وتلتمس الرجوع إلى ما كان عليه بنيانها... فربنا بحضوره إلى العالم بالجسد أعاد قيامتها ورفع بنيانها، وشيّد أركانها، وزيَّنها وأظهر فيها مجده، وحقق كل ما طلب منه أصدقاؤه لأجلها، وما سبق فوعدهم به عنها.
* "سيبني الرب صهيون" (راجع مز 102: 16). هذا العمل يتحقق الآن.
يا أيها الحجارة الحية، اجروا إلى عمل البناء لا الهدم. صهيون تُبنَى، احذروا الأسوار المتهدمة. البرج يُبنَى في صهيون، ماذا يحدث؟ "يُرَى (الرب) بمجده" (مز 102: 16). لكي يبني صهيون، ويضع أساسات صهيون، نُظر في صهيون، ولكن ليس في مجده. "نظر إليه، لا صورة له ولا جمال" (إش 53: 2). ولكن بالحق عندما يأتي مع ملائكته ليدين (مت 25: 31)، ألا يتطلع إليه الذين طعنوه؟ ولكن الوقت متأخر، إذ يكونون في ارتباك، هؤلاء الذين رفضوا الارتباك مبكرًا والتوبة السليمة[28].
الْتَفَتَ إِلَى صَلاَةِ الْمُضْطَرِّ،
وَلَمْ يَرْذُلْ دُعَاءَهُمْ [17].
يكتب المرتل بلغة اليقين أن الله قد التفت فعلًا إلى الأعزل، الذي يعاني من الحرمان، واستجاب إلى طلبته وصلاته.
شتان ما بين مشاعر المرتل في بداية صلاته، ومشاعره وهو في وسط الصلاة. في البداية كان يشعر كأن الله قد حجب وجهه عنه، فيصرخ ليميل أذنيه إليه ويستمع إلى صرخات قلبه. أما الآن فيشعر أنه متكئ على صدر الله الذي استجاب له.
* أعني أنه صنع الخلاص للعالم بطلبة أتقيائه القائلين: أسرع وأفتقد الأمم.
يُكْتَبُ هَذَا لِلدَّوْرِ الآخِرِ،
وَشَعْبٌ سَوْفَ يُخْلَقُ يُسَبِّحُ الرَّبَّ [18].
عوض الصراخ إلى الله، الآن يعلن أن ما يشتهيه، ليس تمتعه بالخلاص من الضيق، وإنما أن تسبحه الأجيال المقابلة، وهي تذكر معاملات الله مع كنيسته عبر العصور.
* أعني أن هذا المزمور وسائر نبوات الأنبياء تُحرَّر وتُصان مذخورة ليُخبَر بها الجيل المُقْبِل، ويدل بهذا القول على الجيل الذي آمن بالمسيح، وقد حرَّر بطرس الرسول في رسالته الأولى: "الخلاص الذي فتَّش وبحث عنه أنبياء، الذين تنبأوا عن النعمة التي لأجلكم، باحثين أي وقت أو ما الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح الذي فيهم، إذ سبق فشهد بالآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها. الذين ُأعلن لهم أنهم ليس لأنفسهم (الأنبياء) بل لنا كانوا يخدمون بهذه الأمور" (1 بط 1: 10-12)... وهو جيل المؤمنين من ذوي الختان ومن الأمم الذين قد تجددت خلقتهم بالمسيح.
بقوله: الشعب الذي يُخلَق، يدل على إعادة خلقتنا بالمعمودية المقدسة، وانتقالنا من الخلقة الخاصة بالأرضيين إلى الخلقة الروحية العلوية.
لأَنَّهُ أَشْرَفَ مِنْ عُلْوِ قُدْسِهِ.
الرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ نَظَرَ [19].
ما يشغل فكر الله في سماواته هو الإنسان المتألم والمتواضع: "وإلى هذا أنظر، إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي" (إش 66: 2).
لِيَسْمَعَ أَنِينَ الأَسِيرِ،
لِيُطْلِقَ بَنِي الْمَوْت [20].
خلق الله الإنسان بإرادة حرة مقدسة، ويود أن يهبه دائمًا الحرية، حتى بعد أن أفسدها الإنسان بإرادته. إنه ينصت إلى أنَّات كل أسير مُكَبَّل بالقلق أو الخطية أو بأسر إبليس أو الموت الأبدي. جاء في إشعياء النبي: "أنا الرب، قد دعوتك بالبرّ، فأمسك بيدك وأحفظك، وأجعلك عهدًا للشعب ونورًا للأمم، لتفتح عيون العمي، لتُخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن، الجالسين في الظلمة" (إش 42: 6-7). "هكذا قال الرب: في وقت القبول استجبتك، وفي يوم الخلاص أعنتك. فأحفظك، وأجعلك عهدًا للشعب لإقامة الأرض، لتمليك أملاك البراري، قائلًا للأسرى اخرجوا. للذين في الظلام اظهروا" (إش 49: 8-9).
* سمع، أي استجاب تنهد وتضرع المقيدين بسلاسل رق الشيطان.
وقوله "ليطلق بني الموت"، أي بني البشر الذين ساد عليهم الموت، لأن الذين آمنوا بالمسيح وانحلوا من أسرهم، كانوا بني الذين ماتوا في عدم إيمانهم.
لِكَيْ يُحَدَّثَ فِي صِهْيَوْنَ بِاسْمِ الرَّبِّ،
وَبِتَسْبِيحِهِ فِي أُورُشَلِيمَ [21].
إذ يُكرَز باسم الرب، فإن هذه الكرازة هي لحساب البشرية كي تتهلل وتفرح به "بتسبيحه في أورشليم".
عِنْدَ اجْتِمَاعِ الشُّعُوبِ مَعًا،
وَالْمَمَالِكِ لِعِبَادَةِ الرَّبِّ [22].
بدأ المرتل بالصراخ إلى الرب لكي ينقذه من الضيق الذي حلّ به، لكن إذ سمع الرب صلاته قدَّم له شهوة قلبه، أن تَقْبَل الأمم والشعوب الإيمان بالمخلص. لم يقف الأمر عند تحرير الشعب من السبي البابلي، بل امتد إلى تحرير البشرية من سبي إبليس.
3. نحيب شخصي
ضَعَّفَ فِي الطَّرِيقِ قُوَّتِي.
قَصَّرَ أَيَّامِي [23].
كان رجال العهد القديم الأتقياء في شغفٍ شديدٍ نحو مجيء مخلص العالم، حتى حلّ بهم الهزال، أو كما تقول العروس: "إني مجروحة (مريضة) حبًا" (نش 2: 5؛ 5: 8).
أَقُولُ: يَا إِلَهِي لاَ تَقْبِضْنِي فِي نِصْفِ أَيَّامِي.
إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ سِنُوكَ [24].
هذه هي أنَّات الكنيسة ليس من اضطهادها، وإنما لأجل شوقها أن يأتي السيد المسيح ليجد العالم كله قد تقدَّس، لينعم بالأمجاد الأبدية.
يرى العلامة أوريجينوس أن هذه الطلبة لا تحمل شهوة النبي للبقاء إلى زمن طويل في العالم، وإنما تحمل مفهومًا روحيًا ساميًا. فالمرتل يطلب من الله أن تعمل نعمته فيه ليحقق رسالته التي ائتمنه الله عليها، بهذا يكون قد أكمل كل عمره. فالشهداء مثل أطفال بيت لحم، وإن قتلوا في سن مبكرة، لكنهم يُحسَبون أنهم أكملوا أيامهم بسلام، بينما بعض الشيوخ مثل رئيسي الكهنة حنان وقيافا بالرغم من مركزهما السامي وشيخوختهما لكنهما لم يُكَمِّلا أيامهما.
* تُحسَب النهاية (للعمر) هي كمال الأمور وتحقيق الفضائل. لهذا السبب قال قديس: "لا تستدعني في نصف أيامي" (راجع مز 102: 24). مرة أخرى يُقَدِّم الكتاب المقدس شهادة لأب الآباء العظيم إبراهيم: "ومات شبعان أيامًا" (تك 24: 8). في النهاية أقدم لكم هذه الشهادة، وكأنه قال: "لقد جاهدت الجهاد الحسن، وحفظت الإيمان، وأكملت السعي" (2 تي 4: 7)، الآن أستدعيك من هذا العالم إلى البركة العتيدة، إلى كمال الحياة الأبدية، إلى إكليل البرّ الذي يعده الرب في آخر الدهور لكل الذين يحبونه (2 تي 4: 8؛ يع 1: 12)[29].
* كما يعد الله الذين يخدمونه بالحق: "أكمل عدد أيامك" (خر 23: 26)، مات إبراهيم شبعان أيامًا، ودعا داود الله، قائلًا: "لا تأخذني في نصف أيامي" (مز 102: 24). وأليفاز أحد أصدقاء أيوب، إذ تأكد من هذه الحقيقة، قال: "تدخل المدفن... كرفع الكُدس (الحنطة) في أيامه" (أي 5: 26). ويثبت سليمان هذه الكلمات، قائلًا: "أما سنو الأشرار فتقصر" (أم 10: 27). لهذا يحثنا في سفر الجامعة، قائلًا: "لا تكن شريرًا كثيرًا، ولا تكن جاهلًا، لماذا تموت في غير وقتك؟" (جا 7: 17)[30].
4. تسبحة ختامية
مِنْ قِدَمٍ أَسَّسْتَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتُ،
هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ [25].
أدرك الرسول بولس أن هذه العبارات (25-27) إنما تخص ربنا يسوع المسيح (عب 1: 10-12).
* يتحدث عن الابن ما يُقال عن الآب بكونه الخالق، الأمر الذي ما كان يمكن أن يقوله ما لم يكن يعتقد فيه أنه الخالق، ومع هذا فهو لأي واحد[31].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* الله نفسه يقول: "كل هذه صنعتها يديَّ" (إش 66: 2). وداود يرتل قائلًا: "منذ البدء أسست الأرض والسماوات هي عمل يديك" (مز 102: 25). ويقول أيضًا في المزمور المئة والثاني والأربعين: "تذكرت أيامًا قديمة، تأملت في جميع أعمالك، بصنائع يديك كنت أتأمل" (مز 142: 5). إذن إن كانت يد الله هي التي صنعت الصنائع، وقد كُتب: طل الأشياء قد صارت بالكلمة، وبغيره لم يكن شيء مما كان" (أنظر يو 1: 3)، وأيضًا: "رب واحد يسوع المسيح الذي به جميع الأشياء" (1 كو 8: 6)، وأيضًا: "فيه يقوم الكل" (كو 1: 17)، فإنه من الواضح أن الابن لا يمكن أن يكون عملًا، ولكنه هو الله وحكمته[32].
هِيَ تَبِيدُ وَأَنْتَ تَبْقَى،
وَكُلُّهَا كَثَوْبٍ تَبْلَى،
كَرِدَاءٍ تُغَيِّرُهُنَّ فَتَتَغَيَّرُ [26].
* قال أيضا بولس: "هي تبيد" (عب 1: 11)... وقد أخذ الرسول ذات كلمات داود (مز 102: 25-27). لكن إن كانت كل أعمال الخليقة تبيد تمامًا، فالفردوس الذي لن يبيد، أيضًا يبيد. بالحقيقة، بسبب الفردوس، الذي لا ينتهي، فمن الواضح أن كل أعمال الخليقة ستتجدد من أجلنا، كما يؤكد البعض، ولا تهلك كما يقول آخرون[33].
القديس مار أفرام السرياني
* اسمعوا داود النبي يقول: "أنت يا الله في البدء أسست الأرض، والسماوات هي عمل يديك. هي تبيد وأنت تبقى" (مز 102: 25). اسمعوا بأي معنى يقول: "هي تبيد"؟ إنه يكمل: "كلها كثوبٍ تذوب قِدَمًا، وكرداء تطويها فتتغير" (مز 102: 26)، إنها كالإنسان الذي يُقال عنه إنه "يُباد". إذ مكتوب عنه: "باد الصديق، وليس أحد يضع ذلك في قلبه" (إش 62: 1). هذا بالرغم من انتظار القيامة. هكذا انتظر كما لو أن هناك قيامة للسماوات[34].
القديس كيرلس الأورشليمي
* تحدث هذه التغيرات في المستقبل... فهو يجدد "الذين يتغيرون"، وكأنه أراد لنا أن ندرك أن هذا التغير مستقبلي...
ربما أراد أيضًا أن يُكَلِّمَنا عن القيامة حيث نتغير ولكن للأفضل... في جسدٍ روحانيٍ، لأنه قيل: "يُزرَع في ضعف، ويُقام في قوة، يُزرَع جسمًا حيوانيًا، ويُقام جسمًا روحانيًا" (1 كو 15: 43-44)...
كل الخليقة الجسدية سوف تتغير أيضًا معنا، "لأن السماوات تبيد، وأنت تبقى، ولكنها كثوب تبلى كرداء تغيرهن فتتغير" (مز 102: 26). في ذلك اليوم سيتضاعف نور الشمس إلى سبع مرات، كقول إشعياء: "ويكون نور القمر كنور الشمس. ونور الشمس يكون سبعة أضعاف... كنور سبعة أيام" (إش 30: 26).
* غسل يسوع ثوبه، لا يغسل غضنًا خاصًا به، إنما يغسل وصمات خاصة بنا. يكمل يعقوب: "غسل... بدم العنب ثوبه (عباءته)" (تك 49: 11). هذا يعني أنه في آلام جسمه غسل الأمم بدمه. حقًا العباءة تمثل الأمم، كما هو مكتوب: "حي أنا يقول الرب، إني ألبس الكل كما لو كانوا ثوبُا" (راجع إش 49: 18)، وفي موضع آخر: "كرداء تغيرهن فتتغير" (مز 102: 26)[35].
* يمكننا أيضًا أن ننسج ثوبًا، لأن ما هو قديم يُخيط، بينما ما هو جديد يُغتصب. "من أيام يوحنا المعمدان ملكوت السماوات يُغتصب، والذين يغتصبونه يختطفونه"[36].
* بالحقيقة العباءة (الثوب) تمثل الأمم، كما هو مكتوب "حي أنا يقول الرب، التحف بهم جميعًا مثل ثوب". وفي موضع آخر: "مثل ثوب تغيرهم وتغسلهم لا عن خطايا لك، فإنه ليس لك خطايا، وإنما عن المعاصي التي نحن نرتكبها[37].
وَأَنْتَ هُوَ،
وَسِنُوكَ لَنْ تَنْتَهِيَ [27].
* يسمو الجوهر الإلهي فوق كل تغيير. ليس من هو أفضل منهم يبلغ إليه، يرتقي إليه. لا، لست أقول مساوٍ له، ولا حتى على الأقل يقترب إليه. يبقى أنه لو كان يمكن أن يتغير، يلزم أن يتغير إلى ما هو أقل (لأنه لا يوجد من يسمو عنه)، بهذا لن يكون هو الله[38].
أَبْنَاءُ عَبِيدِكَ يَسْكُنُونَ،
وَذُرِّيَّتُهُمْ تُثَبَّتُ أَمَامَكَ [28].
قيل عن هذه الذرية المقدسة: "نسله إلى الدهر يكون، وكرسيه كالشمس أمامي" (مز 89: 36).
من وحي مز 102
مسكين أنا، ليس لي من يسندني سواك!
* أعماقي تئن في داخلي:
مسكين أنا، ليس لي من يسندني سواك!
من أجلي يا أيها الغني صرت فقيرًا،
لكي بفقرك تغنيني، فلا أعتاز إلى شيء!
* أمل أذنك، واسمع صلاتي.
أنت وحدك تسمع صرخات قلبي!
دخان خطاياي أعمى عيني وأفسد حياتي،
وجفف عظامي، فيبست.
* في وسط آلامي يبس قلبي تمامًا.
نسيت حتى الخبز الضروري.
ضعف كل جسمي، حتى لصق عظمي بجلدي!
أنت الخبز الحي، ترد لي صحتي.
أنت الطبيب وأنت الدواء.
هب لي أن أتمتع بحضورك وسكناك داخلي.
* تركني الكل، فصرت كبرية خربة يسكنها القوق،
وارتفع صوت البوم المزعج في داخلي.
صرت كعصفورٍ منفرد على السطح، ليس لي رفيق.
ليتركني الكل؛ لكن وجودك يملأ كل فراغ فيّ!
ليعيرني الأعداء، تكفيني نعمتك!
* ارفع غضبك عني، فإنني صرت كالعشب اليابس.
ترفق بي، فتدَّب فيَّ الحياة.
* تطلع إلى كنيستك،
فإنني أعترفُ: أخطأتُ أنا وكل بيت آبائي.
لتقم أيها العريس السماوي،
ولتنزع عنا خطايانا ونجاسات قلوبنا،
وتردنا بروحك القدوس إليك.
* تطلع إلى الكرمة التي غرستها يمينك.
تطلع من السماء، فإنها تترقب رحمتك.
لتسمع أنينها الخفي،
ولتحوِّل مراثيها إلى تسابيح مفرحة!
زيِّنها بروحك القدوس فتشهد لك.
تجتذب الكثيرين إلى عذوبة إنجيلك.
فتصير الأرض سماءً تشهد لك!
متى أرى كل البشرٍ يلتصقون بك!