|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
مزمور 49 - تفسير سفر المزامير قصور الغنىمزمور حكمي: مزمور الحكمة هذا هو آخر مزامير أبناء قورح. في أغلب المزامير نجد الكاتب يصلي أو يسبح الله، أما هنا فنجده يبشر[928]، فالمزمور أشبه بعظة تعلمنا الاتكال على الله لا على ذراع بشر ولا على الكرامة الزمنية ولا على المال إله هذا الدهر. مناسبته: سجله المرتل ربما حين رأى حوله أتقياء فقراء فارتبك وتعب بسبب غنى الأشرار. الإطار العام: 1. دعوة للاستماع [1-4]. 2. قصور الغنى والكرامة [5-13]. 3. بركات البرّ [14-15]. 4. نصيحة وتحذير [16-20]. أنت غناي! العنوان: "لإمام المغنين" لبني قورح؛ مزمور"، وبحسب الترجمة السبعينية: "إلى التمام؛ لبني قورح". وقد سبق لنا شرح مثل هذه العبارة: "إلى التمام": سبق فرأينا أن السيد المسيح هو تمام أو نهاية الناموس، بل هو غاية عبادتنا وجهادنا وحياتنا. هنا في هذا المزمور يكشف المرتل نهاية الاتكال على ذراع بشر أو على كرامة العالم وغناه ويقارنه بنهاية الملتصق ببرّ المسيح. * يخبر هذا المزمور عن نهاية أعمار البشر عامة، لهذا حرر في عنوانه "إلى التمام"، أعني أنه خبَّر عن انقضاء عمر كل إنسان، هذا الانقضاء ينبغي أن نفكر فيه على الدوام؛ لأن غاية قصدنا هو السعادة في الدهر الآتي. ومن أجل هذا حرر الرسول الفصل الخامس عشر من رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس، قائلًا: "وبعد ذلك النهاية متى سلم المُلك لله الآب متى أبطل كل رياسة وكل سلطان وكل قوة" (1 كو 15: 24). الأب أنثيموس أسقف أورشليم 1. دعوة للاستماع: "اسمعوا هذه يا معشر الأمم، وانصتوا يا جميع قاطني الأرض" [1]. تُوجَّه دعوة جامعية للبشرية في كل مكان، للعظماء والعامة، للأغنياء والفقراء، لليهود والأمم، بكون الجميع عبيد الله مدعوين للاستماع لله وطاعته، كي يتمتعوا بكلمة الله وحكمته. يبدأ المزمور بكلمة "اسمعوا"، وهي ذات الكلمة التي بدأت بها الوصايا العشرة: "أسمع يا إسرائيل". هذه هي بداية الوصية الإلهية، هي أمر يحوي ضمنًا وعدًا إلهيًا، فإن الذي يُطالبنا بالاستماع هو الذي يهب آذاننا الختان لكي تكون لنا أذن روحية قادرة على الاستماع والفهم والطاعة بفرح وبهجة قلب. لهذا قيل: "من له أذنان للسمع فليسمع". يرى أنثيموس الأورشليمي الذي اعتمد على أقوال كثير من الآباء، خاصة العلامة أوريجانوس والقديس باسيليوس الكبير، أن المرتل هنا يصنف ثلاثة أنواع: [معشر الأمم، جميع قاطني الأرض، بنو البشر الأغنياء والفقراء]. 1. معشر الأمم، أي غير المؤمنين، فقد جاء السيد المسيح طبيبًا للسقماء، يشفي الأمم بدعوتهم للالتقاء مع الله. 2. قاطنو المسكونة، المستقيموا الرأي، فهم محتاجون أيضًا إلى النصيحة والحكمة الإلهية ماداموا على الأرض. 3. بنو البشر الأرضيون المولودون بمحبة الأرضيات، سواء كانوا أغنياء أو فقراء. بمعنى آخر كل البشرية تحتاج إلى النصيحة الإلهية لتتمتع بخلاصها، ولكي يعمل الكل معًا ويجاهدون بروح الوحدة والحب خلال الشعور المشترك بالحاجة إلى الخلاص والمخلص، سواء كانوا أممًا أو مؤمنين، أرضيين أو روحيين، أغنياء أو فقراء... بأية قوة يكون صوتنا حتى يسمعه كل الأمم؟ إذ يعلنه ربنا يسوع المسيح خلال الرسل، يعلنه بألسنة كثيرة قد أرسلها. وها نحن نرى هذا المزمور الذي كان يُردد في أمة واحدة فقط، في مجمع اليهود، الآن يُردد في العالم كله، في كل الكنائس، وقد تحقق ما قيل هنا: "اسمعوا هذه الكلمات يا كل الأمم". إنه يقول: "اسمعوا بآذان متأملة"، أي لا تسمعوا بحب استطلاع! ربما يُريدنا أن نفهم تعبير "قاطني (الأرض)" بمعنى أوسع، فيفهم "كل الأمم" بمعنى "كل الأشرار"، أما قاطنوا العالم" فكل الأبرار. فإنه من لا يتمسك (مجاهدًا) لا يقطن... لذلك ليت الأشرار أيضًا يسمعون: "اسمعوا هذا يا جميع الأمم". ليت الأبرار أيضًا يسمعون، الذين يسمعون بهدف، هؤلاء بالحري يحكمون العالم (روحيًا) لا أن يحكمهم العالم. مرة أخرى يقول: "يا جميع مولودي الأرض (الأرضيين، بني آدم) وبني البشر". بقوله: "مولودي الأرض: يشير إلى الخطاة، وتعبير "بنو البشر" يشير إلى المؤمنين والأبرار. ها أنت تلاحظ التمييز. من هم مولودو الأرض؟ هم بنو الأرض... الذين يشتهون الميراث الأرضي. من هم بنو البشر؟ الذين ينتمون إلى "ابن الإنسان"... الذين يلتصقون بآدم هم "بنو الأرض، والذين يلتصقون بالمسيح هو بنو البشر. القديس أغسطينوس الدعوة موجهة إلى الجميع: إلى الأمم واليهود؛ الأرضيين الذين وضعوا قلوبهم في التراب وبني البشر الذين التصق قلبهم بابن الإنسان، الأغنياء المتكلين على غناهم وسلطانهم وكرامتهم فصاروا فقراء في الإيمان، والفقراء الذين اقتنوا المخلص كنزًا لهم... إنه وقت فيه يتقبل الجميع كلمة الرب حتى يقبل غير المؤمنين الإيمان، والساقطون التوبة، والمجاهدون في بر المسيح استمرارية العمل الروحي... إنه وقت للتعليم يخضع له الكل: كهنة وشعبًا، فيسأتي وقت الدينونة الذي لا يجتمع فيه الأبرار مع الأشرار. "... الأرضيين وبني البشر، الغني والفقير جميعًا" [2]. الآن ليسمع الأغنياء والفقراء معًا، ليت الجداء والخراف يقتاتون من ذات المرعى حتى يأتي ويفصل الواحد عن يمينه والآخر عن يساره. ليسمعه الكل معًا بكونه المعلم، لئلا ينفصلا عن بعضهما البعض عندما يسمعان صوت كديان. القديس أغسطينوس "فمي ينطق بالحكمة وتلاوة (تأملات) قلبي فهمًا" [3]. يُقدم المرتل مثالًا حيًا للمعلمين، بل ولكل مسيحي، فبينما يتكلم فمه بالحكمة الإلهية التي ينالها كهبة من الله، وبجلوسه مع مريم أخت لعازر ومرثا عند قدميه يسمع له، إذ بقلبه يسبح في تأملات إلهية بفهم وإدراك ورحي. حكمته ليست خبرة إنسانية مجردة وإنما هبة الله الآب أب الأنوار (يع 1: 5) القادر أن يملأ العقل والقلب معًا بالحكمة والفهم، بل وتترجم الحكمية عمليًا في حيتهم اليومية، فلا ينطبق عليهم القول: "هذا الشعب قد اقترب إليّ بفمه وأكرمني بشفتيه وأما قلبه فأبعده عني" (إش 29: 13). يقول النبي: إن قصدي ليس المفاوضة بأمور دنيوية بل بالتكلم بالحكمة. ليس بكلام مرتجل خاص برأيي، ومُستنبط من قريحتي، وإنما هو كلام قد دبرته في قلبي بفهم حسب ما سمعت بإلهام الروح القدس وذلك لما أملت أذني الروحية ليه، فأستعرض أمثالي بالمزمار ليسهل على السامعين تذكرها... يقول الرسول الإلهي في الفصل العاشر من الرسالة إلى أهل رومية: "لأن القلب يُؤمَن به للبر، والفم يُعترف به للخلاص" (رو 10: 10), فاذا فعل الأمرين (الشهادة بالقلب واللسان) يصنع كمال الصلاح. فإن لم يكن الصلاح مُذخرًا في القلب مُسبقًا كيف ينطق الفم بما هو مُذخر؟! وإن كان الإنسان جادًا في قلبه ولا يبرزه بفمه فأي نفع بما هو مذخر وخفي؟! فمن اللازم أن يهذّ القلب بالفهم نفعًا لمن يهذّ به، وبالفم لنفع الغير، لهذا يقول النبي يلهج بالقلب ويتكلم بالفم. الأب أنثيموس أسقف أورشليم إذ يفتح المرتل فكره وقلبه ليتقبل حكمة الله، تميل أذنه الروحية إلى أمثال الرب، وتتهلل أعماقه بها فينشدها بفرح كما بمزمار. هذه صورة جميلة للتلاميذ الذين كانوا يَختلون بالسيد المسيح ليشرح لهم الأمثال ويلهب قلبهم بحب ملكوته. "أميل إلى الأمثال أذني وأفتح بالمزمار فاتحة كلامي" [4]. لماذا "إلى الأمثال"؟ أنه كما يقول الرسول: "فإننا ننظر الآن في مرآة في لغز" (1 كو 13: 12) وذلك متى كنا مستوطنين في الجسد متغربين عن الرب (2 كو 5: 6). فإن رؤيتنا لم تصر بعد وجهًا لوجه حيث لا تكون حينئذ أمثال ولا ألغاز ولا مقارنات. القديس أغسطينوس أما قوله: "أميل إلى الأمثال أذني" فهو نبوة عن الرسل القديسين الذين كان ربنا يسوع المسيح يفسر لهم على إنفراد أقواله التي يقولها للآخرين بأمثال. الأب أنثيموس أسقف أورشليم 2. قصور الغنى والكرامة: يبدأ هذا القسم بسؤال يقدمه الأبرار الذين يعانون الآلام من الأشرار الأغنياء ظلمًا: "لماذا أتخوف في اليوم الشرير؟! إثم عقبي يحيط بي" [5]. لماذا أُعطي لنفسي مجالًا للتخوف والدخول في حالة من الإحباط عندما تحل كارثة، عندما يحاصر شرير غني صاحب سلطان ليطرحني أرضًا؟! نُجيب على هذا القول بإنه لا يوجد يوم شرير، لأن الأيام قد خلقها الله، وكل ما خلقه هو حسن جدًا وليس شريرًا... يقول النبي إني إن سُئلت: لماذا تخاف؟ أجيب: لا أخاف شيئًا مما يُظن به أنه مخوف، لست أخاف من مرض أو فقر أو شدة أو أذية الناس، لكنني أخاف من الخطية فقط، هذه التي تحوّل اليوم الصالح إلى يوم شرير، إلى يوم عقوبة وعذاب. وذلك كما كتب السائح في الفصل الثاني من رسالته إلى أهل رومية: "ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبًا..." (رو 2: 5). أما أوريجانوس فيقول: [إنه "إثم العقب" هو معصية آدم التي بسبب مخالفته أخذت الحية سلطانًا أن تسحق عقبه]. وأيضًا إثم العقب الذي يُخاف منه هو يوم الجزاء، وهي الخطية التي تُمارس في عقب عمر الإنسان (أي في نهاية حياته دون توبة). وأيضًا عقب ربنا يسوع المسيح هو يهوذا مسلمه، لأنه كان دائمًا يرصد خطواته (عقبه). فيقول ربنا إنني لا أخاف يوم الصلب الذي أعده لي الأسرار باغتيال ومكر. الأب أنثيموس أسقف أورشليم لنخف لا من الناس ولا من الأحداث بل من السقوط في الخطية أو من إثم العقب أي الانحراف عن السير في طريق وصايا الرب، هذا ما يرعبنا، إذ يحوّل زماننا إلى أيامٍ شريرة، ويحول يوم الرب العظيم من يوم عُرس أبدي إلى يوم دينونة رهيبة. إذا ما تخلص من "إثم عقبه" وسار في طرق الرب لا يأتي إلى اليوم الشرير... ولا يكون اليوم الأخير بالنسبة له يومًا شريرًا... الآن إذ هم يعيشون ليحذّروا لأنفسهم، لينتزعوا الإثم عن عقبهم... وليسيروا في ذلك "الطريق" الذي قال عنه نفسه: "أنا هو الطريق والحق والحياة"، وعندئذ لا يخافون اليوم الشرير، لأن ذاك الذي صار "الطريق" يهبهم أمانًا. ولهذا يلزمهم أن يتجنبوا إثم عقبهم. القديس أغسطينوس ولعل أخطر الآثام التي يجب أن نتجنبها هي محبة المال التي هي أصل كل الشرور (1 تي 6: 10)، فإن من يحب المال يقيم منه إلهًا يتعبد له. ليس المال في ذاته بل محبته أو الاتكال عليه يحكم حياتنا، لهذا يكمل المرتل حديثه هكذا: "المتكلون على قوَّتهم، وبكثرة غناهم يفتخرون" [6]. مهما بلغ الغنى قد يتركنا يومًا ما كما حدث مع أيوب البار، فلا ينفعنا في وقت الضيق. فمن الأفضل لك أن تكون فقيرًا وتتكل على الله، وتقبله نصيبًا وميراثًا لك، عن أن تكون غنيًا وتعبد المال. فالإنسان الأول لن يسقط من السماء، والثاني لن يدخلها ما لم يتب. محبة المال قد تدفع الإنسان إلى الكبرياء والأنانية والظلم والعنف، وهكذا تسلمه من خطية إلى خطية ليصير ألعوبة الأفكار والتصرفات الشريرة. إن لم تصنعوا من مالكم رحمة في هذا العمر، فإن المال لن يذهب معكم إلى الآخرة، ولا ينفعكم في اليوم الشرير، أعني يوم الجزاء. الأب أنثيموس أسقف أورشليم ليتنا لا نتكل على فضائلنا (قوّتنا)؛ ليتنا لا نفتخر بوفرة ثروتنا، وإنما نفتخر بذاك الذي وعدنا، الذي باتضاعه ارتفع، مهددًا بإدانة المتكبرين؛ بهذا لا يُحاصرنا إثم عقبنا. القديس أغسطينوس أي شيء من كل هذه الأمور يبدو لك مرغوب فيه جدًا وتُحسد عليه؟ تقول بلا شك: السلطة والغنى والشهرة. ومع هذا أي شيء أكثر بؤسًا من هذه الأمور إن قورنت بحرية المسيحيين؟! فقد يخضع الوالي لغضب الرعاع ودوافع الجموع بغير تعقل والخوف ممن هم في مناصب أرقع، والقلق على من هم خاضعين له، ومن كان حاكمًا بالأمس يصير مواطنًا عاديًا اليوم. فإن الحياة الحاضرة لا تختلف في شيء عن خشبة مسرح، بل هي كذلك. إنسان يحتل مركز ملك، وآخر قائد وثالث جندي، ويأتي المساء فلا يكون الملك ملكًا، ولا الوالي واليًا، ولا القائد قائدًا. في ذلك اليوم ينال كل إنسان مكافأته التي يستحقها ليس حسب دوره الخارجي الذي قام به بل حسب أعماله. حسنًا! هل المجد هو أثمن شيء، هذا الذي يزول مثل العشب؟ أم الغنى الذي لا يهب مالكيه سعادة؟ إذ نقرأ: "ويل لكم أيها الأغنياء" (لو 6: 24)، وأيضًا: "ويل لكم يا من تتكلون على قوّتكم وتفتخرون بوفرة غناكم". القديس يوحنا الذهبي الفم يليق بنا ألا نضع رجاء خلاصنا في شيء آخر، وإنما فقط في أعمالنا البارة حسب نعمة الله... إن كان لنا ربوات الأسلاف المشهورين يلزمنا نحن أنفسنا أن نجاهد لكي نتفوق على سموهم، مدركين أننا لا ننتفع شيئًا من جهاد الآخرين كعون لنا في الدينونة العتيدة، بل بالحري يكون دينونة علينا أننا قد وُلدنا من أبوين بارين، وأمامنا أمثلة في البيت ولا نقتدي بمعلمينا[929]. القديس يوحنا الذهبي الفم إن كنا لا نتكل على مالنا وقوتنا في معالجة مشاكلنا الزمنية فبالأولى في خلاصنا الأبدي، فإنه لن يستطيع بشر ما ولا إمكانيات بشرية أن تفدينا من الموت أو تبررنا أمام الله القدوس، أو تدخل بنا إلى شركة الميراث الأبدي. يمكن للغنى أن يقتني بعض الممتلكات الزمنية أو ينال سلطانًا أو كرامة، لكنه لا يقدر أن يقتني الحياة الأبدية إلا بالإيمان الحيّ العامل بالمحبة. هذا ما يدفعنا إلى التطلع إلى المخلص الذي قدم حياته مبذولة عنا، مفتديًا إيانا لا بذهب أو فضة وإنما بدمه الثمين كحمل الله الذي بلا عيب. "الأخ لن يفتدي الإنسان فداءً، ولا يعطي الله استغفارًا عن ذاته، وثمن خلاص نفسه" [7-8]. بمعنى إنه إن لم يتب الإنسان عن الخطية ويصنع أعمالًا مرضية لله لن يقدر أن يفتديه أخ أو أحد أخِصَّائه أو أقربائه، ولو كان فاضلًا، لأن كل أحد يُكافأ منفردًا حسب أعماله... لا يوجد شيء من أمور العالم تساوي قيمة النفس لكي تفديها. إن قام "نوح ودانيال وأيوب فإنهم إنما يخلصون أنفسهم ببرهم يقول السيد الرب... إنهم لا يخلصون بنين ولا بنات" (حز 14: 14-16). ولكن إن قلت يا هذا: ألست شفاعات القديسين نافعة؟ نقول إن شفاعتهم نافعة لكنها تحتاج إلى توبة المذنب وإلى تعب في هذا العمر حتى يمكن اقتناء الحياة الأبدية. وأما إنسان مثلنا خاطئ فلن يقدر أن يفدينا، ولا أن يستغفر الله عنا، سوى دم ربنا يسوع المسيح الإله المخلص. الب أنثيموس الأورشليمي يوجد بعض الناس يتكلمون على أصدقائهم، وآخرون على فضائلهم (قوّنهم)، وآخرون على غناهم. هذه هي عجرفة البشرية التي لا تتكل على الله... "الأخ لن يفتدي، فهل يخلص إنسان؟". هل تتوقع إنسانًا يفتديك من الغضب القادم؟! القديس أغسطينوس لا تتطلع إلى أخ لخلاصك بل إلى الإله المتأنس يسوع المسيح، فهو وحده قادر أن يُقدم فدية لله عنا جميعًا... دم ربنا يسوع المسيح المقدس والثمين جدًان الذي سفكه لأجلنا جميعًا... ليس لأنه سكن بيننا "في شبه جسد الخطية" (رو 8: 3)، تظن أن ربنا إنسان مجرد؛ وتفشل في ملاحظة قوة لاهوته. إنه لا يحتاج أن يُقدم لله فدية عن نفسه،... فإنه "لم يفعل خطية ولا وُجد في فمه غش" (1 بط 2: 21)[930]. القديس باسليوس الكبير الذي يُلقَى مرة هناك (في نهر النار) يبقى فيه إلى الأبد، ليس من يقدر أن ينقذه من عقوبته، سواء كان أبًا أو أمًا أو أخًا[931]. يعلن حزقيال ما هو أكثر من هذا: "وإن كان نوح ودانيال وأيوب في وسطها فإنهم لا يخلصون بنين وبنات" (راجع حز 14: 16). فإنه يوجد دفاع واحد، وهو الأعمال (في الرب)، من يتجرد منها لا يخلص بأية وسيلة أخرى. إذ ننشغل بهذه الأمور ونتأمل فيها باستمرار نطهّر حياتنا ونجعلها بهية، فنرى الرب بدالة، وننال الوعد بالخيرات بنعمة ورأفات ربنا يسوع المسيح، الذي به ومعه المجد إلى أبد الأبد مع الآب والروح القدس. آمين[932]. وكما قال أيضًا النبي معلنًا ذات الشيء: "الأخ لن يفتدي، فهل يُفتدى إنسان؟" كلى، حتى وإن كان موسى أو صموئيل أو إرميا. اسمع كمثال ما يقوله الله في هذا الأمر الأخير: "لا تُصلي لأجل هذا الشعب، فإنني لا أسمع لك". ولماذا تتعجب إنني لا أسمع لك، "وإن وقف موسى وصموئيل أمامي" (إر 15: 1) لا أقبل طلباتهم عن هؤلاء الناس. نعم، إن كان حزقيال يتوسل، يُقال له: "وإن وقف نوح ودنيال وأيوب فإنهم لا يخلّصون بنين وبنات". وإن توسل البطريرط إبراهيم لأجل المصابين بمرض مُستعصي شفائه ولا يمكن تغيرهم فإن الله يتركه ويذهب في طريقه (تك 18: 33)، حتى لا يقبل صرخته لأجلهم. مرة أخرى إن كان صموئيل يفعل ذلك، فيُقال له: "لا تنح على شاول" (راجع 1 صم 16: 1). وإن توسل أحد من أجل أخته وكان الأمر غير مناسب فسيسمع ذات الأجابة التي قيلت لموسى "ولو بصق أبوها بصقًا في وجهها" (عد 12: 14)[933]. دعى إبراهيم الإنسان الغنى "ابنًا" (لو 16: 25)، ومع ذلك لم يقدر أن يقوم بواجب أبٍ. ودعاه الغنى: "أبي"، ومع هذا لم يستطيع أن يستمتع بما ينتظره ابن من مشيئة أبيه الصالحة. حدث هذا ليُعلّمكم إنه لا يمكن للعلاقة الأسرية ولا للحب أو العاطفة أو لشيء آخر أن يُعين من خانته حياته هو[934]. وأوضحنا بإسهاب إننا بحسب رآفات الله ومحبته يلزمنا أن يكون لنا رجاء الخلاص في أعمالنا البارة (بنعمة الله) دون حسبان لآبائنا وأجدادنا وآباء أجدادنا، أو أقربائنا وأصدقائنا وعائلاتنا وجيرانا، لأن "الأخ لا يفتدي، فهل يُفتدى إنسان؟"... لقد استجدت الخمس عذارى زيتًا من رفيقاتهن ولم يحصلن على شيء. فالإنسان الذي دفن وزنته في الأرض يبدي أعذارًا لكنه يُدان[935]. القديس يوحنا الذهبي الفم "تعب إلى الدهر، ويحيا إلى الانقضاء، ولا يُعاين فسادًا، إذا رأى الحكماء يموتون، الجاهل والذي لا عقل له معًا يهلكون، ويخلفون غناهم للغرباء، وتصير قبورهم لهم مسكنًا إلى الأبد، ومحلًا لهم إلى جيل فجيل، دعوا بأسمائهم على الأرض" [8-10]. ابتدأ النبي يعظ الفقراء والمتعبين ويحثهم على الجهاد، قائلًا: إن تعبكم في هذا العمر القصير يسبب لكم حياة أبدية في الدهر الآتي، وكما يقول بولس الرسولك "أنا تعبت أكثر منكم" (1 كو 15: 10)، "في الأتعاب أكثر" (2 كو 11: 23). إن الذي فضَّل الحياة الشاقة المتعبة عن الواسعة الرغدة، واختار الطريق الضيق المحزن لأجل محبة المسيح فأنه لا يُبتلى بالعقوبات المعدَّة للمدَّعين حكمة هذا العالم هذه التي يدعوها الرسول حماقة. وأيضًا إذا ما رأى الفقراء الأغنياءَ والحكماءَ يموتون مثل الآخرين فلا يمقتون الفقر ولا يغمهم التعب الذي يُكابدونه في هذا العمر الحاضر... الجاهل هو ذاك الذي يعيش حياة وثنية، والذي لا عقل له هو من استنار بشرائع اليهود ولم يعمل ما يرضي الله، فإذا بكليهما قد بادا وهلكا من جهلهما وحماقتهما، فصرنا نحن المؤمنين نمتلك غناهما. وإذ كانت أعمالهما مميتة وسمجة صار جسداهما اللذين هما مسكنا النفسين بمنزلة قبرين حاويين جيفة، وانتقلا من بيوت مزخرفة إلى القبور، يسكنان فيها إلى الأبد. وقد شبههما ربنا أيضًا بقبور ظاهرة جميلة، وداخلها مفعمة برمم الأموات وكل فساد... إن ابن قايين هو أول من بنى مدينة ودعاها باسمه، وبعده دعا كثير من الملوك والولاة أسماءهم على ما اقتنوه من الأراضي. هنا يوبخهم النبي لأنهم لم يعتزموا أن يديموا ذكرهم بشيء روحي كما فعل رسل المسيح وسائر القديسين الذين أبَّدوا ذكرهم بفضائل، وجعلوا شهرتهم في أمور سماوية لا أرضية، كُتبت أسماؤهم على الأرض. الأب انثيموس أسقف أورشليم ماذا يعني هذا؟ إنه لا يفهم ما هو الموت، فعندما يرى إنسانًا حيكمًا يموت، يقول في نفسه: "هذا الزميل، كان بالنسبة للكل حكيمًا، يقطن مع الحكمة، ويعبد الله بتقوى، ألم يمت؟ لهذا فإني أمتّع نفسي مادمت حيًا لأنه لو كان الحكماء في أمور أخرى قادرين على عمل شيء ما ما كانوا يموتون". وذلك كما فعل اليهود عندما رأوا المسيح معلقًا على الصليب احتقروه، قائلين: "إن كان هذا ابن الله لينزل عن الصليب"، غير مدركين ما هو الموت... ومن هو "غير الحكيم"؟ ذاك الذي لا يدرك في أية حالة شريرة هو. القديس أغسطينوس يقول الكتاب المقدس بالحق إن "أنفس الأبرار في يديْ الله، الموت لا يمسهم" (حك 3: 1). لأن موت القديسين هو رقاد وليس موتًا. لأنهم جاهدوا من أجل الأبدية، وإلى الأبد سيحيون. "عزيزي في عينيْ الرب موت قديسيه"؛ فماذا أثمن من أن نكون في يدّ الله؟ لأن الله هو الحياة والنور، والذين في يدّ الله يبيتون في حياة ونور[936]. الأب يوحنا الدمشقي "الإنسان إذ كان في كرامة ولم يفهمها. قيس بالبهائم التي لا معرفة لها، وشُبّه بها" [12]. من يظن أنه يستقر في هذا العالم ويبقى متلذذًا بمباهجه غبي وبلا فهم، ويُسحب كالحيوانات. لهذا يُشبّه الأنبياء الأشرار الملتصقون بالزمنيات بالذئاب أو الأسود أو الكلاب والثيران والحيات الخ، وذلك من جهة عدم تعقلهم. أما الأبرار والملتصقون بالسمويات فيُشبهون ببعض الطيور والحيوانات لا من جهة عدم فهمهم وإنما من جوانب أخرى، فتُشبه الكنيسة بالحمامة في طهارتها، والحمل في وداعته، بل وشُبه السيد المسيح بالحمل بكونه الذبيحة والفدية عن البشرية، والأسد الخارج من سبط يهوذا المدافع عن شعبه ضد إبليس وجنوده. على أي الأحوال: "الإنسان إذ كان في كرامة ولم يفهمها". ماذا يعني: "إذ كان في كرامة". أي بخلقته على صورة الله ومثاله فضَّله على الحيوانات أم يخلق الله الإنسان ليس كما خلق الحيوان، إنما خلق الإنسان لكي يسود على الحيوانات... والذي خُلق على صورة الله صار يُقارن بالحيوانات التي بلا إحساسات وصار مثلها، بينما قيل: "لا تكن كفرس أو بغل بلا فهم". القديس أغسطينوس إن فعلنا غير هذا، غير مدركين إننا على صورة الله، وانشغلنا بأجسادنا أكثر مما بنفوسنا، أخشى أن يوبخنا الروح القدس بقوله بالنبي: "والإنسان في كل سموّه لم يثبت، إنه يشبه البهائم التي تُباد"[937]. إن كان رجل ملتصق بزوجته دون حدود... وينظر إلى زوجة آخر أو ابنته أو خادمة له أو لغيره - وهذه خطية خطيرة للغاية - فهو مغلوب من الشهوة البهيمية، ويصير كالبهائم ويفقد آدميته... إن كنتم لا تخشون أن تصيروا كالبهائم فعلى الأقل خافوا من أن تموتوا مثلها[938]. الأب قيصريوس أسقف آرل وأيضًا إذ كان الإنسان في كرامة قد صار كالبهائم، مما يُشير إلى أنه بسبب خطئه الشخصي تشبه بالبهائم، إذ تمثل بحياتهم غير العاقلة[939]... هكذا سيُدان بعدل، فإنه إذ خُلق إنسانًا عاقلًا، فقد تعلقه الحقيقي الذي من الله، ليعيش بطريقة غير عاقلة، معارضًا برّ الله، مستسلمًا لكل روح أرضي، وخاضع لكل الشهوات وكما يقول النبي: "الإنسان إذ كان في كرامة ولم يفهمها، قيس بالبهائم التي بلا إحساس وتشبه بها"[940]. القديس إيريناؤس من جهة أخرى، هل ينفض (الإنسان) نير خالقه، ويتجاهل أوامره الإلهية، ومن ثم يُخضِع النفس للجسد، مفضلًا ملذات الجسد، غير مدركٍ لكرامته، ومن ثم يتشبه بالبهائم التي بلا حس؟! وبهذا يتعرض للموت والفساد، مما يُسبب له حالة إحباط[941]... الأب يوحنا الدمشقي تنحني رؤوسهم نحو الأرض، ويتطلعون إلى بطونهم، ويسعون فقط من أجل خير بطونهم! رأسك يا إنسان متجهة نحو السماء، وعيناك تنظران إلى أعلى! فحين تنحط بنفسك إلى أهواء الجسد، وتُستعبد لبطنك ولأعضائك السفلية، تتمثل بالحيوانات الدُّنيا غير العاقلة وتصير كواحدة منها. إنكم مدعوون إلى اهتمامات أكثر شرفًا، فاطلبوا ما هو فوق حيث المسيح جالس. ارفعوا نفوسكم إلى فوق الأرضيات... ثبتوا سيرتكم في السماء، في وطنكم الحقيقي، التي هي أورشليم السماوية، فإن رفقاءكم في الوطن هم الأبكار المكتوبون في السماء[942]. القديس باسيليوس الكبير كرامة الطبيعة العاقلة تظهر في تمييز الخير من الشر، والذين يبددونها يشبهون بحق "الحيوانات العجماوات" التي لا عقل لها ولا تمييز. بهذه القدرة على الإدراك يمكننا أن نجد طريقنا إلى الله. إنها المعرفة الطبيعية، وهي سابقة للإيمان وأصله. هي السبيل إلى الله[943]. مار إسحق السرياني منذ أخطأ الإنسان الأول وعصى الله قيل: "صار الإنسان كالبهائم". فقد أعتبر حقًا من الكائنات غير العاقلة، لهذا شُبّه بالبهائم، إذ يقول الحكمة:"... صار الشهواني والزاني كبهيمة عجماء"، وكما أضيف: "أنه يصهل، أيا كان الذي يمتطيه". هذا معناه أن الإنسان لا يعود ينطق بعد، لأن الذي يمتطيه ضد العقل... إنه حيوان أعجم يخضع لشهوات قد امتطته[944]. القديس اكليمندس الإسكندري امتطى (السيد) أتانًا (مر 11: 1-8، يو 12: 13) حتى يحّول النفس (التي صارت كما يقول النبي غير عاقل وشُبهت بالحيوانات العجماوات) إلى صورة الله، ويُخضعها للاهوته[945]. الأب دوروثيؤس من غزة خلق إله الجميع الإنسان على الأرض بعقلٍ قادرٍ على الحكمة، وله قدرات للفهم، لكن الشيطان خدعه، على الرغم من أن (الإنسان) مخلوق على صورة الله، مفضلًا ألا تكون له معرفة خالقه وجابل الجميع. وقد تسبب (الشيطان) في انحطاط سكان الأرض إلى أدنى مرتبة من اللاعقلانية والجهل. وإذا يدرك الطوباوي داود هذا يبكي بمرارة، ويقول إن الإنسان الذي في كرامة لم يفهم ومن ثم شُبه بالبهائم التي بلا فهم[946]. القديس كيرلس الكبير هذا ما فعلته بنا الشهوات البهيمية، لذا لاق بالإنسان - وقد أدرك ما انحط إليه فعجز عن معرفة أسرار الله - أن يقبل كلمة الله فيه، يقبل عمله الإلهي في حياته كما من خلال تلميذيه اللذين حلا الأتان والجحش (مت 21: 3)، يحلانه من رباطات الخطية بالروح القدس ويقدمانه كمركبة إلهية نارية تنطبق في حرية نحو أورشليم العليا (غل 4: 26). يستمر المرتل في حزنه وأسفه على شقاء البشرية، فإنه إذ يعتمد البشر على غناهم ومالهم يسلكون هذا الطريق في حماقة وينحطون، يأتي الجيل التالي فلا يتعظ من سلفه بل يرتضي السلوك في ذات الاتجاه ويغبطونه. "هذا سبيلهم صار شكًا لهم، ومن بعد هذا بأفواههم يرتضون" [12]. 3. بركات البرّ: إذ يدفع الاتكال على غنى العالم الإنسان إلى الحياة البهيمية، إنما يدفعه كما إلى الذبح أو الموت، يصيرون في مذلة تحت سلطان راعيهم الجيد ألا وهو الموت، أما الذين لهم برّ المسيح فيحملون سلطانًا! "جُعلوا في الجحيم مثل الغنم، والموت يرعاهم، ويسود عليهم المستقيمون بالغداة. ومعونتهم تبلى في الجحيم من مجدهم. بل أن الله ينقذ نفسي من يد الجحيم إذ أخذها" [14- 15]. vالذين لم يهتموا بما ينفع آخرتهم، والذين جاءوا بعدهم يصنعون مثلهم، صاروا في الجحيم مثل غنم في المجزر. وإذا لم يريدوا أن يكونوا تحت رعاية الراعي الصالح لهذا "يرعاهم الموت"، أي الهلاك. وأما "معونتهم" التي فب مالهم وقوتهم، والتي كانوا يستعينون مستغيثين بها تقدم وتبل في الجحيم، إذ تذهب عنهم ويصيرون عرايا من مجدهم. وأما المستقيمون فإنه إذ يشرق عليهم الغداة وصحوة النور الإلهي في الدهر العتيد يصيرون رؤساء وسادة! يقول القديس باسيليوس الكبير: [إذ كان الإنسان في كرامة ولم يعرفها وقيس بلبهائم وشُبه بها، لذلك استولى المحتال على الجنس البشري بأسره، وجمع كافة الناس في الجحيم مثل الغنم التي بلا فهم ولا تقدر أن تمانع، ودفعها إلى الموت، وصار يرعاها منذ آدم حتى مجيء ربنا يسوع المسيح له المجد. ولأجل هذا قال في الإنجيل المقدس: "أنا هو الراعي الصالح"، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف التي كان يرعاها الموت. ثم أنه بالغداة، أي لما أشرق وارتفع نهار شمس البر الذي هو ربنا يسوع المسيح، فإنه الذين تبعوا الاستقامة وآمنوا به عتقهم من رق الموت العقلي الذي هو البُعد عن الحياة الأبدية. وسلَّم حراستهم للمستقيمين، أعني الملائكة الذين يسودون على المؤمنين الذين كل واحدٍ منهم يتولى ملاك مستقيم حراسته، يدبر حياته لأجل خلاص نفسه وحراسة جسده. الأب أنثيموس أسقف أورشليم إن كان المسيح هو "الحياة"، فإبليس هو "موت"... ليس لأنه الموت في ذاته، وإنما يحل الموت بسببه... بالنسبة لغير المؤمنين الموت هو الراعي، أما بالنسبة للمؤمنين فالحياة هي الراعي. فإن كان في الجحيم يوجد الغنم الذي راعيه الموت، ففي السماء يوجد الغنم الذي راعيه الحياة... إننا بالجسد نسير على الأرض وبالقلب نسكن في السماء. نسكن هناك إن كنا نرسل كل ما يمسنا إلى هناك... سيظهر تعبنا في الغداة، وسيكون الثمر في الصباح، فالذين يتعبون الآن يملكون، وأما المتكبرون والمتشامخون هنا ينحدرون إلى أسفل. فإنه ماذا يقول بعد: "ويسود عليهم المستقيمون بالغداة". القديس أغسطينوس استعدوا وتهيأوا لملاقاة (ملاك الموت) الذي يُفنى شكلنا... إذ ينزعون جمال مجد طبيعتهم (الأشرار) وتتحلل أجسادهم في التراب. طوبي للإنسان الذي يحتفي بالنجاة من هذا الهلاك بفرح[947]! مار إسحق السرياني 4. نصيحة وتحذير: يختم المرتل مزموره بالنصائح التالية: 1. إن كان الموت هو راعي الأشرار، والجحيم هو مسكنهم الأبدي، فإن الله هو راعي نفسي القادر وحده أن يخلصني من يدّ الجحيم، ولا يقدر الموت أن يأسرني [15]. 2. لا تخف من أصحاب السلطة والغنى ولا تتملقهم، فإنهم يموتون ولا يأخذون معهم شيئًا [16]، فإنهم يلحقون بآبائهم الذين سبقوهم في نفس الاتجاه وقد فقدوا كل شيء. بمعنى آخر ينصحنا ألا ننشغل بالمنظورات والزمانيات ولا من نالوا الكثير منها: "لا تخف إذا ما استغنى الإنسان، وإذا كثر مجد بيته، لأنه إذا مات لا يأخذها جميعًا. ولا ينزل معه مجده إلى الجحيم" [16-17]. ألا تُريد أن تكون لك أعين إلا لترى الأمور الحاضرة؟ لقد وعد بالأمور المستقبلية، ذاك الذي قام، لكنه لم يَعِد بسلام هذا العالم ولا راحة هذه الحياة. كل إنسان يطلب الراحة، إنما يطلب أمرًا صالحًا، لكنه لا يطلبها في موضعها اللائق. لا سلام في هذه الحياة، لكنه وعدنا أن ننال في السماء ما نطلبه على الأرض. وعدنا أن يعطينا في العالم القادم ما نطلبه في هذا العالم. القديس أغسطينوس مجد هذا العالم بلا قيمة وغير دائم، وإن بقى فإلى الموت وعندئذ ينتهي تمامًا. إذ قيل: "لا ينزل معه مجده". وبالنسبة لكثيرين لم يبق المجد حتى إلى نهاية الحياة. لكننا لا نفكر هكذا بالنسبة لذاك المجد، إذ يوم بلا نهاية. فإن الأمور الخاصة بالله دائمة وفوق كل تغيير وبلا نهاية. مجد هذه الحال ليس من الخارج بل من الداخل. أقصد أنه لا يقوم على كثرة الخدم والمركبات والثياب الفاخر. بعيدًا عن هذا كله الإنسان يلتحف بالمجد (الداخلي)؛ هنا بدون هذه الأمور يكون الإنسان عريانًا[948]. القديس يوحنا الذهبي الفم ها أنت تراه (الغنى) حيًا، احسبه ميتًا. أنت تلاحظ ما هو معه هنا، لاحظ ما يأخذه معه... لديه مخزن من الذهب والفضة وممتلكات كثيرة وعبيد؛ إنه يموت وتبقى هذه الأمور لا يعرف لمن هذه. فإنه وإن كان يتركها لمن يريد هو، لكنه يحفظها ليس لمن يُريد. فإن كثيرين اقتنوا حتى ما لم يُترك لهم، وكثيرون فقدوا ما تُرك لهم. القديس أغسطينوس 3. تطلب البركة لا حسب هواك بل حسب مشورة الرب، فكثيرون يظنون الحياة السعيدة المباركة هي في الولائم والملذات الزمنية. "لأن نفسه تُبارك في حياته، يعترف لك إذا ما أحسنت إليه" [18]. يضع الشرير بركته أو سعادته في الزمنيات، ويعترف لله بفضله إن أحسن إليه بها، أما إن دخل في ضيقة فسرعان ما يخطئ في حق الله. يقول القديس أغسطينوس: [إن مثل هذا يظن أنه يُحسن إلى نفسه حينما يأكل ويشرب ويلو ولا يدرك أنه يضر نفسه]. اعتاد أن يأكل الولائم الفاخرة بفمه الجسدي، والإثم بفم قلبه... هل يؤكل الإثم...؟ لست أنا الذي أقول هذا، إسمع الكتاب المقدس: "كالخل للأسنان وكالدخان للعينين كذلك الإثم للذين يستعملونه" (أم 10: 26). فإن الذي يأكل الإثم، أي الذي يمارسه بإرادته، لا يستطيع أن يأكل البر. فإن البر هو خبز. من هو هذا الخبر. "أنا هو الخبز الحيّ الذي نزل من السماء" (يو 6: 51). إنه هو (المسيح) خبز القلب! القديس أغسطينوس 4. يلزم ألا نتمثل بآبائنا في حبهم للعالم لئلا ننضم إليهم في مصيرهم الشرير. "يدخل إلى جيل آبائه، ولا يُعاين النور إلى الدهر" [19]. يعلق القديس أغسطينوس على ذلك بقوله: [إنه يتمثل بآبائه... سيأتي الصباح ويظهر هابيل أين هو قايين أين يوجد. وهكذا كل الذين يسلكون وراء قايين وأيضًا الذين هم وراء هابيل، وذلك حتى نهاية العالم]. 5. يختم المزمور بتأكيد حفظ الإنسان لكرامته بتمتعه بالطبيعة التي خُلق عليها على صورة الله ومثاله وعدم انحداره إلى المستوى الحيواني غير العاقل [20]. أنت غناي! هب لي يا رب أذنًا روحية تسمع صوتك، فأدرك وصيتك، وأتعرف على أعمال محبتك! أقمني على صورتك وكرّمتني بالعقل الفهم. لكنني في غباوتي تركت كل معرفة صادقة، وأحنيت رأسي إلى التراب، واشتهيت مجد العالم وغناه. حلَّ بي الفقر الداخلي عوض الغنى، ودخلت إلى غباوة الحيوانات عوض الفهم. نزلتّ إليّ أيها الغني، افتقرت لكي بفقرك تغنيني! هب لي ذاتك، فأقتنيك، فإنك أنت هو غناي ومجدي! |
|