طاقات الإنسان
لقد زود الله الإنسان بطاقات كثيرة، كل منها لها اختصاصاتها، ولها إمكانياتها ومقدراتها، نذكر منها:
العقل، والروح، والنفس، والضمير، والإرادة، والحواس..
يضاف إلى كل هذا، ما يمنحه الله لكل إنسان على حدة من مواهب.
ويختلف كل إنسان عن غيره في درجة هذه الطاقات كلها.
صدقوني أننا لم نعرف بعد، مقدار عظمة كل هذه الطاقات البشرية العجيبة..
من كان يتصور أن العقل مثلًا، يمكن أن تصل طاقاتها إلى اختراع سفن الفضاء تصل إلي القمر مباشرة ويتمشى الإنسان عليه.. أو آن يخترع أقمار صناعية تجول حول العالم وتجمع أخبارًا وترسل صورًا عن كواكب في السماء.. ومن كان يتصور أن العقل البشري يستطيع أن يتوصل إلي اختراع عقل آلي، واختراع الكومبيوتر، ويستعين بالآلة على سرعة التفكير، وجمع المعلومات واستنتاج الحقائق.
وليست طاقات العقل هذه ضد الدين في شيء. فالله هو الذي خلق العقل ومنحه طاقاته.
فكل ما يصل العقل إليه، يرجع الفضل فيه أولًا وأخيرًا إلي الله تبارك أسمه، الذي وضع فيه كل هذه القدرات حين خلقه.. ويمكننا أن نقول إننا لم نصل بعد إلي اكتشاف كل طاقات العقل، الذي يمكنه أن يخترع أمورًا لا تختر حاليًا على فكر إنسان!
والروح في الإنسان لها أيضًا طاقات عجيبة مذهلة.
الناس لم يعرفوا كل طاقات الروح، لأنهم لم يكتشفوا تلك الطاقات ولم يستخدموها، ذلك لأنهم لم يدخلوا في التداريب التي تنشط الروح، وتمنحها الانطلاق الطبيعي لها.. ونحن حينما نقرأ عن تداريب الروح التي تجريها جماعات من الهندوس ومن اليوجا، وما وصلوا إليه من نتائج، نرى عجبًا.. إنها ليست معجزات أو قدرات خارقة، ولكنها طاقة الطبيعية للروح، التي لا نستخدمها نحن، لأننا نهمل ذلك أو لا ندركه..
كذلك طاقات الحواس لم نستخدمها كلها..
وذلك لعدم شعورنا بالاحتياج إليها. فعدم أستخدمها جعلها طاقات كامنة مختفية تظهر حينما نفقد حاسة معينه، فنستعيض عنها بتنشيط حواس أخرى بديلة..
فإنسان مثلا يفقد بصره: ويحاول أن يستعيض عنه بالسمع وباللمس، فتقوى عنده حاسة السمع وحاسة اللمس، وربما حاسة الشم أيضًا. لأنه أخذ يدرب هذه الحواس تدريبًا دقيقًا، لتكون له أبوابًا للمعرفة عوضًا عن النظر. وهنا تظهر الطاقات الجبارة الموجودة في هذه الحواس، والتي كانت كامنة غير ظاهرة في حالة عدم استخدامها..
إن الإنسان الكامل، في كمال عقله، وكمال روحه، وكمال حواسه كلها، لم يوجد بعد نستثنى من هذا ناسوت السيد المسيح طبعًا.
إن طبيعة الإنسان في كمالها من كل ناحية، تحتاج إلى حرص واهتمام، بحيث لا يفقد الإنسان قوة طاقاته، كما تحتاج إلى تداريب للحفاظ على هذه الطاقات، ولكي تنمو أيضًا..
نعم، يلزم كل إنسان أن ينمى قدراته وطاقته.
وأن ينمى أيضًا المواهب التي يمنحها الله له.
الله منحك عقلًا، ووهبك ذكاء خاصًا في عقلك، أو وهبك لهذا العقل ذاكرة قوية.. فيلزمك ليس فقط أن تحافظ على كل ذلك، بل أيضًا أن تنمى عقلك وذكائك، وذاكرتك.. تنمى قدرتك على التفكير السليم، وعلى الاستنتاج، وعلى حل المشاكل..
فالمسائل الرياضية والتمارين الهندسية، التي كنا ندرسها في المدارس، لم تكن لمجرد العلم أو بهدف التخصيص، إنما كانت لها فائدة أخرى في تدريب العقل على التفكير..
خذ مثلًا اثنان يلعبان شطرنج، وكل منهما صامت يفكر:
ما هي الخطوة التي سيلعبها زميله، وكيف يرد عليها؟ وماذا سيكون رد زميله على رده؟ وكيف سيتصرف وقتذاك؟ وكيف يمكنه أن يعرقل خططه؟ وكيف يضع هو خططًا غير مكشوفة، تصل به إلى النتيجة المطلوبة، ولو بعد مراحل..؟ إنه تدريب على الذكاء.
وليس مجرد تسلية لقضاء الوقت.
الألغاز أيضًا وحلها، والمسابقات، كلها تداريب للتفكير..
وما أكثر تداريب الذكاء وتنمية التفكير.
يمكنك أن تستخدمها لنفسك، ولأولادك أيضًا ولتلاميذك، حتى ينشأوا بعقل قوى متدرب على الفكر. وحتى إذا صادفتهم مشكلة يكون عقلهم مستعدًا لمواجهتها بغير اضطراب.
وفى الحياة العملية توجد تداريب على الحكمة في التصرف، أو تنمية الفكر عن طريق المشورة والانتفاع بخبرات الأخريين.
ضميرك أيضًا يحتاج إلى تنميته.
إن بولس الرسول حينما يقول "إني بكل ضمير صالح قد عشت لله إلى هذا اليوم" (أع 23: 1)، إنما يذكرنا أن هناك ضميرًا صالحًا، وضمائر أخرى غير صالحة،فهناك ضمير واسع يبلع الجمل، وضمير ضيق يصفى عن البعوضة. وكان الكتبة والفريسيون واقعين في كليهما (مت23: 24). يوجد ضمير مريض لا يميز تمامًا بين ما هو خير وما هو شر. ويوجد ضمير ضعيف تؤثر عليه العوامل الخارجية..
وينمو الضمير عن سماع الوعظ والكلام الروحي، وعن طريق المعرفة السليمة والتأثر بالقدوة الصالحة.
وأنت محتاج إلى تغذي ضميرك بكل ذلك، وتتعود محاسبة نفسك ولومها على كل أخطائها مهما صغرت. وفى نفس الوقت تتعود الجدية والتدقيق. فبهذه الوسائط كلها، ينمو ضميرك في المعرفة وفى الحكم في قيادة النفس بشرط أن تبتعد عن الوسوسة التي تتخيل الشر حيث لا يوجد، أو تحكم على الأخطاء بأزيد من طبيعتها.
وهنا أقول إن معارفك أيضا تحتاج إلى تنمية.
هناك نمو طبيعي في المعرفة خلال مراحل العمر. وهناك أيضًا تنمية للمعرفة، تغذي هذا النمو الطبيعي بمادة سليمة. والذي يهتم بنموه في المعرفة، يتحول إلى إنسان مثقف، ويبعد عن الجهل المحارب للنفس. ويستطيع أن يكون عضوًا نافعًا في المجتمع، إلى جوار نفعه الشخصي..
والمعرفة تغذى عقله، وتغذى ضميره. وتدفعه إلى السلوك السليم.
فيعرف ليس فقط التمييز بين الخير والشر، إنما أيضًا بين اللائق وغير اللائق، المناسب وغير المناسب. وتساعده المعرفة على الحكمة وحسن التصرف، وعلى النجاح في التعامل مع الناس. وإذا نما في ذلك قد يصل إلى القدرة على الإرشاد.
يحتاج الإنسان أيضًا إلى تنمية وتقوية إرادته.
فكثيرون يعرفون الخير. ولكن إرادته لا تقوى على عمله. ويعرفون الشر ومضاره، ومع ذلك فإرادتهم أضعف من أن تبعد عنه، وتعجز إرادتهم عن مقاومة الخطيئة، مع معرفتهم بكل نتائجها. وذلك لأن الرغبة أو الشهوة تسيطر على الإرادة وتقودها في طريقها.
الإرادة سلاح ذو حدين، يستخدم للخير وللشر.
وكل إنسان يحتاج إلى تقديس الإرادة. وبهذا تكون طاقة نافعة له في حياته الروحية. وهناك تداريب كثيرة لتقوية الإرادة، منها تداريب ضبط النفس. ومنها الصوم أيضًا. ومنها ضبط اللسان، وضبط الحواس، وضبط الفكر، والسيطرة على الأعصاب، وتداريب التخلص من العادات الخاطئة..
وبتنمية الإرادة نميز بين الحرية والتسيب..
فكلنا نحب الحرية. ولكن ندرب أنفسنا على أن نسلك في الحرية بإرادة صالحة، وبضمير سليم، وفى حياة روحية وصلة بالله.. وإلا تحولت الحرية إلى لون من التسيب، وفقد الإنسان سيطرته على إرادته، وعلى توجيه حياته توجيهًا سليمًا..
حياتك بكل طاقاتها، وزنة سلمك الله إياها، لتعتني بها.
لذلك يلزمك أن تنمى شخصيتك بصفة عامة، لتتحول إلى شخصية قوية سوية، سواء في العقل أو الضمير، أو الإرادة، أو المعرفة، أو الحكمة والسلوك، أو الحكم على الأمور، أو النفسية السوية.
من جهة كل هذا، تحتاج إلى اهتمام خاص، وإلى الاستفادة من الوقت وحسن استخدامه.
كثيرون يضيعون وقتهم في التفاهات، أو في مجرد الترفيه والتسلية، أو يبحثون عن وسائل لقتل الوقت.. دون مراعاة لاستخدام الوقت في تكوين شخصياتهم تكوينًا سليمًا.. وهؤلاء يلزمهم أن يهتموا ببناء أنفسهم، بأن يولوا اهتمامًا خاصًا لتنمية معارفهم وثقافتهم، وتقوية إرادتهم، والوصول بعقولهم وأرواحهم إلى أسمى وضع ممكن. واستخدام كل طاقاتهم لخيرهم وخير الناس، مع تنمية وتنقية وتقوية هذه الطاقات..
لا تترك شخصيتك هكذا دون ضابط ودون اهتمام، ودون نمو..
ولا تجعل كل اهتمامك بنفسك يتركز على الخارج، وليس على الداخل.. كفتاة مثلا كل اهتمامها بنفسها، وكل تنميتها لشخصيتها، يتركز في اهتمامها بشكلها، بجمالها وزيها..! مقياسها الوحيد لشخصيتها هو المرأة، تطمئن بها على نفسها. وقد لا تستخدم سوى هذه المرأة الخارجية، دون أن تكون لها مرآة داخلية لترى بها حالة الروح والعقل والنفس والضمير..
أو إنسان كل مقاييسه لشخصيته هي المركز واللقب والمال، دون النفس من الداخل..
الجسد أيضًا طاقة وهبها الله للإنسان.
فهو الجهاز التنفيذي، لكل القرارات التي تصدر عن الروح، وعن العقل، وعن الإرادة وعن الضمير.. والجسد القوي يستطيع أن ينفذ، بينما الجسد الضعيف يعجز عن ذلك..
وما أسهل أن تؤثر أمراض الجسد على النفس.
فتجلب لها ألوانًا من الألم أو الحزن، أو الضيق أو التذمر. وكثير من الناس قد يصلون إلى درجات من الانهيار النفسي بسبب حالة أجسادهم، أو يصلون إلى مرض الكآبة، أو إلى الحيرة والقلق.. أو تشغيل عقولهم بكيفية التصرف في حالة الجسد..
وبعض أمراض الجسد تؤثر على كثير من طاقاته. ارتجاج مثلا أو نزيف في المخ قد يؤثر على بعض مراكز المخ كالذاكرة أو الحركة، أو الصوت.. وتصلب الشرايين قد يؤدى إلى فقدان الذاكرة. وأعصاب الجسد إذا التهبت، تؤثر على نفسية الإنسان وسلوكه وأمراض القلب تؤثر على طاقاته..
كذلك شهوات الجسد تؤثر على العقل وعلى الضمير.
وتحاول أن تستخدم العقل لتحقيق رغباتها، كما تسكت الضمير أو تحاول أن توجد لهذه الشهوات أعذارًا وتبريرات!!
وشهوة الجسد قد تستأثر الفكر تماما، فلا تدور إلا في فلكها، كما تضعف الروح وتبطل صلتها بالله.
لكل هذا يلزمنا الاهتمام بأجسادنا. لا نضعفها بحيث تتعطل طاقاتنا. ولا تثير غرائزنا بحيث تضعف أرواحنا.
النقطة الهامة التي نريد أن نذكرها بعد كل ما قلناه هي:
حفظ التوازن بين طاقات الإنسان، والتعاون والتكامل.
فلا نوجد تناقض أو تصارع بين طاقاته، ونتفادى أن يوجد انقسام في شخصيته أو صراع داخلي. كما قال أحد الأدباء عن صراع بين مشاعره وضميره:
"كنت أصارع نفسي وأجاهد، حتى كأنني اثنان في واحد. هذا يدفعني، وهذا يمنعني".
ما أسهل أن تتصارع الطاقات: الجسد يشتهي ضد الروح، والروح ضد الجسد (غل5: 17). أو النفس ضد الضمير. أو العقل ضد الإرادة.
ويجد الإنسان نفسه أنه ليس شخصًا واحدًا، بل أنه اثنان يتصارعان! صراعًا بين طرق متشعبة تتجاذبه، أو بين محبة للخير أو شهوته للخطيئة، أو بين أفكار لا يعرف أين الخير فيها. وما أشهر ما قاله الشاعر إيليا أبو ماضي في قصيدته: "لست أدرى"
إنني ألمح في نفسي صراعًا وعراكًا وأرى نفسي شيطانًا، وأحيانًا ملاكًا
هل أنا شخصان يأبى هذا مع ذاك اشتراكًا أم تراني واهمًا فيما أراه: لست أدرى
الإنسان السليم السوي لا يوجد فيه هذا الصراع. من الجائز أن يوجد صراع بينه وبين عوامل أو حروب خارجية. ولكنه في داخل نفسه مستقر تمامًا، غير منقسم على ذاته، وفى فكره ولا في مشاعره ولا في إرادته هو إنسان واحد، يحارب بكل طاقاته حربًا خارجة عنه.
أما الحرب الداخلية فتحدث لأسباب منها: أن طاقة من طاقات الإنسان تحب أن تسيطر على طاقاته الأخرى أو بعضها.
إنسان مثلًا يحكم عقله، فتسير أموره سيرًا حسنًا. ثم تأتي نفسه فتشتهي شهوة، أو تنفعل انفعالا، فتخرج العقل من سيرة الطبيعي ليخضع لها. وكثيرًا ما قلت:
ما أسهل أن يكون العقل خادمًا مطيعًا لرغبات النفس!
رغبة للنفس خاطئة، وهى مصرة عليها ومنقادة لها، وتخضع العقل لها، ليقدم لها براهين وأدلة، وربما يستخدم آيات من الكتاب المقدس بتأويل خاص يناسبه، أو قصصًا من قصص الآباء.. ولو رغبت النفس في العكس يسايرها العقل بأدلة وبراهين.
أم يخطئ أبنها، فيتقدم عقلها للدفاع عنه، ملبيًا مشاعر قلبها. ونفس الخطاء يقع فيه أبن الجيران، فينتقده عقلها بشدة،لآن النفس لم تدفعه إلى الدفاع.
وهكذا نرى العقل يزن أحيانًا بميزانين.
وهنا التناقض، لأنه كان حرًا في إحدى الحالتين، وتابعًا للنفس في الحالة الأخرى. أما الإنسان العادل، صاحب العقل الحر، فيقول عن الحق أنه حق، ولو كان صادرًا من عدوه. ويقول عن الباطل إنه باطل، ولو كان صادرًا من أبيه أو من أخيه.
العقل يقع تحت تأثيرات أخرى كثيرة.