موسى في القصر
ابنة فرعون: يرى القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص أن ابنة فرعون إنما تمثل الفلسفات الزمنية، فهي عقيمة وغير مثمرة، كابنة فرعون العاقر، تتمخض لكنها لا تلد[37]. حقًا كالأميرة ابنة فرعون لها جمالها وسلطانها وغناها وجاذبيتها وتردد الكثيرون عليها ويطلبون رضاءها، لكنا كعاقر لا تشبع النفس. وفي نفس الوقت لا تقف الكنيسة موقف العداء منها، وإنما كما دخل موسى قصرها وإن كان قد نشأ يرضع لبن أمه، هكذا نتقبل الفلسفات والعلوم ولا نحتقرها، لكننا نتمسك بتقليد الكنيسة أمنا وإنجيلها وتعاليمها وفكرها وكل حياتها.
مريم أخت موسى تختبئ وراء عيدان البردي، وابنة فرعون تنتشل موسى من الماء
وقد اهتمت مدرسة الإسكندرية المسيحية منذ بدء انطلاقها بهذا العمل، أي قبول الفلسفة دون الانحراف عن الفكر الإنجيلي، إذ يقول المؤرخ شاف:
[هدف اللاهوت الإسكندري إلى مصالحة المسيحية مع الفلسفة... مقيمًا هذه الوحدة على أساس الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة][38].
فقد رأي القدِّيس إكليمنضس الإسكندري
أنه لا عداوة بين المسيحية والفلسفة[39]، وأن الفلسفة ليست عملًا من أعمال الظلمة، بل في كل مذهب من مذاهبها يشرق عليها شعاع نور[40] من اللوغوس، منتقدًا القائلين أن الفلسفة شر[41]. لقد أوضح أن الله استخدام الفلسفة عند اليونانيين ليدخل بهم إلى معرفة المسيح "الحق".
ويرى العلامة أوريجانوس
أن ابنة فرعون تشير أيضًا إلى كنيسة الأمم التي تقبلت موسى (الناموس) من اليهود خلال النهر(المعمودية) وأدركته بمفهوم جديد، إذ حملته معها إلى قصرها. في هذا يقول: [أعتقد أن ابنة فرعون تمثل الكنيسة التي تجتمع من كل الأمم. فإنه وإن كان أبوها ظالمًا ووثنيًا لكنه قيل لها: "اسمعي يا ابنة وانظري واصغي وانسي شعبك وبيت أبيك، لأن الملك قد اشتهى حسنك" (مز 44: 1). إنها تخرج من بيت أبيها، وتأتي إلى المياه لتغتسل من خطاياها التي اقترفتها في بيت أبيها، حينئذ تقتني "أحشاء رأفات" وترْقَ للطفل. هذه هي الكنيسة القادمة من الأمم لتجد في النهر موسى الذي رفضه خاصته. إنها تأتي إليه بمرضعة من بني جنسه حيث يقضي فترة طفولته ويكبر. يُقدم إليها موسى فتتبناه. كثيرًا ما شرحت أن موسى يمثل الناموس، فبحضور الكنيسة إلى مياه المعمودية تأخذ الناموس الذي كان مخفيًا في سفط من البردي مطليًا بالحمرة والقار... إذ كان الناموس نائمًا في مثل هذا الموضع أسير حواس اليهود (الجسدية) الملوثة، حتى جاءت كنيسة الأمم لتجتذبه من وسط الحمرة وتسكنه في بلاط قصر الحكمة الملوكي. وهكذا عبر الناموس من خاصته لأنهم لا يعرفون كيف يسمعونه روحيًا وهو صغير كطفل يرضع اللبن. لكنه إذ قُدم للكنيسة ودخل البيت كبر وتقوى فلم يلبس ثوب الضعة والحقارة، إنما صار يلبس كل ما هو عظيم وسامٍ وجميل. ما هي هذه العظمة إلاَّ السمو في الروحيات؟!...
إذن فلنصل لربنا يسوع المسيح ليكشف لنا ذاته ويرينا أيضًا عظمة موسى وسموه[42]].
أما من جهة الاسم، فقد دعته ابنة فرعون "موسى"، الذي يعني بالمصرية "ماء" [10]، وهو الاسم الذي دعاه به الله نفسه، وكما يقول القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص:
[لم يستنكف الله أن يدعو خادمه بهذا الاسم، ولا حسبه أمرًا غير لائق أن يترك له الاسم الذي أعطته إيَّاه امرأة أجنبية ليعبر عما يناسب النبي[43]].
ويرى القدِّيس إكليمنضس الإسكندري[44]
أن "موسى" هو الاسم المصري ويعني المنتشل من الماء، أما اسمه العبراني عند ختانه فهو يهوياقيم، وله اسم ثالث في السماء في نظر الرمزيين هو "ملكي" (تث 23: 5).