|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الصلاة للقديس مقاريوس الكبير 1ـ كيفية الصلاة: أـ الصلاة بإيمان إن لم يأت الإنسان إلى الرب بإرادته وبكل نية قلبه ويطلب منه بثقة الإيمان التامة فلا يشفى أبدًا. كما حدث مع المرأة نازفة الدم ومع الأعمى الذي صرخ إلى الرب ” إرحمني يا ابن داود” (مر47:10). بسبب قلة إيماننا وانقسام قلوبنا وعدم محبتنا له من كل القلب، وعدم إيماننا به حقيقة، لم نجد بعد الشفاء الروحي والخلاص . الإنسان لابد أن يأت بثقة وإيمان ورجاء وصبر أنه سينال شيئًا صالحًا مختلفًا تمامًا عن طبيعته الخاصة، أي قوة الروح القدس وإذا لم يحدث هذا فإن هذا الإنسان لن يختبر الحياة الحقيقية أبدًا، ولن يفيق من سكر الأمور المادية. ولن تضيء إنارة الروح في تلك النفس المظلمة..، ولن يستيقظ من سبات الجهل العميق . مطلوب التسليم والإيمان بالرب بثبات، مطلوب لكي يصير الإنسان مسكنًا للمسيح وأن يمتليء بالروح القدس أن يسلم نفسه كلية إلى كلمات وصاياه. يجب عليه أن يواظب على الصلاة وأن ينتظر دائمًا بإيمان وتوقع إفتقاد الرب وعونه، جاعلاً نظر عقله مثبت نحوه . ب ـ الصلاة بإنتباه من أهم العوامل التي تضعف صلواتنا هو التشتت وعدم تجمع العقل. فالصلاة بالجسد فقط ضعيفة، والصلاة القوية هي صلاة بالجسد وبالعقل، فالإنسان بكامله يجب أن يشارك في الصلاة. وعمل الأرواح الشريرة، هو جذب العقل، فالشيطان ماكر جدًا له حيل وخدع كثيرة من كل نوع، لا يدع النفس تصلي الصلاة الصحيحة وتقترب من الله. يقول القديس مكاريوس أنه في حالة العمال المهرة، فإنهم يكونوا مقيدين بجسدهم وعقلهم ليلاً ونهارًا في حرفتهم. فأنظر جيدًا إلى نفسك هل عقلك متغرب عن العالم ولا يرتبط بأمور هذا العالم . حينما يرى الرب أن النفس تجمع ذاتها بأقصى طاقتها، وتطلبه دائمًا منتظره إياه ليلاً ونهارًا، وتصرخ إليه، كما أوصى الرسول أن ” نصلي بلا إنقطاع” (1تس7:5) فإنه ” ينصفها” (لو17:18)، مطهرًا إياها من الشر الذي في داخلها. وهو ” سيحضرها لنفسه” عروسًا ” لا دنس فيها ولا غضن” (أف27:5) . فينبغي أن يكون حرص الإنسان وجهده كله موجهًا ومسلطًا على أفكاره، فينبغي أن يقطع الشجرة الكثيفة المتشابكة، شجرة الأفكار الشريرة التي تقلقه وتهاجمه ويلقي بنفسه على الله، ولا يدع أفكاره تحمله حيث تشاء، بل يجمع أفكاره حينما تجول في كل اتجاه ويميز بين الأفكار الطيبة والأفكار الشريرة . جـ المواظبة على الصلاة: الصلاة تحتاج إلى مثابرة واستمرار. الصلاة مثل الوصايا الأخرى تحتاج إلى تغصب فالإنسان يغصب نفسه على المحبة حينما تنقصه المحبة، ويغصب نفسه إلى الوداعة حينما لا تكون عنده وداعة، ويغصب نفسه إلى الشفقة إلى أن يكون له قلب حنون، وهكذا يغصب نفسه إلى الصلاة حينما لا تكون له الصلاة الروحانية، وهكذا إذ يراه الله جاهدًا وغاصبًا على الرغم من معارضة قلبه، فإنه يهب له صلاة الروح الحقيقية وينعم عليه بالمحبة الحقيقية، والوداعة وأحشاء الرأفات والشفقة الحقيقية، وبإختصار فإنه يملأه بثمار الروح . الإنسان الذي يغصب نفسه كل يوم للمواظبة على الصلاة، فإنه يشتعل بالحب الإلهي ويتقد برغبة نارية من الحب الروحاني نحو الله وينال نعمة كمال تقديس الروح .من يريد ويشتهي أن يصير شريكًا في المجد الإلهي وأن يرى كما في مرآة صور المسيح في داخل عقله، فينبغي أن يطلب معونة الله التي تتدفق بقوة، يطلبها بحب مشتعل لا ينطفيء وبرغبة حارة من كل قلبه وكل قدرته، ليلاً ونهارًا، هذه المعونة الإلهية لا يمكن نوالها، إن لم يتخل الإنسان عن لذة العالم وعن شهوات ورغبات القوة المعادية، والتي هي اجنبية عن النور ومخالفة له وهي من نشاط وعمل الشرير . د ـ الصلاة بهدوء: الإنتباه وجمع العقل في الصلاة يتطلب الهدوء. فالهدوء والرزانة يجب أن يكونا هما سمة الصلاة، وليس الصراخ ورفع الصوت. ولقد شبه القديس مقاريوس حالة الألم الذي يعانيه الإنسان والذي يعبر عنه في صلواته بحالة من يجري جراحة ما تحتاج إلى تحمل الألم. فهناك من يصبر ويتحمل الجراحة وهناك من يضج بصرخات عالية مزعجة غير ملائمة. مع أن الألم هو هو لم يتغير. هكذا أيضًا فإن البعض يحتملون الشدائد والآحزان التي تأتي على نفوسهم بصبر ويتقبلونها بخضوع ولا يصنعون أضطرابًا وإنزعاجًا بل يضبطون أنفسهم بالتامل العقلي في الرب، بينما آخرون حينما تحل بهم نفس الشدائد والأحزان، يفقدون قوة احتمالهم ويقدمون صلواتهم بأصوات مضطربة مزعجة تضايق وتعثر أولئك الذين يسمعونهم. وهناك آخرون برغم أنهم لا يعانون من شدائد أو احزان ولكنهم لأجل التفاخر والرغبة في التميز يصلون بصراخ وبدون إنضباط ظانين أنهم بواسطة هذه الأصوات العالية يستطيعون أن يرضوا الله . إن حضور الرب كان يتميز بأنه كان يظهر في هدوء وسلام وراحة ” وإذ صوت منخفض خفيف” (1مل2:19) وكان الرب في هذا الصوت. الضجيج في الصلاة لا يناسب في الكنائس ولا في القرى، وربما هؤلاء الذين يصلون هكذا يستطيعون ذلك في الصحاري. الصلاة بهدوء هامة لهؤلاء الذين في الخارج. فمن يصلي بهدوء يبني كثيرين غيره، ” لأن الله ليس إله تشويش بل إله سلام” (1كو33:14) . 2ـ ماذا نطلب في صلواتنا: أـ طلب الرب وملكوته: يجب أن ينشغل القلب بالمسيح وحده: أولئك الذين يسعون إلى الأمام ليصلوا إلى ربنا المسيح المحبوب الحقيقي، ينبغي أن يغضوا النظر عن كل من هم سواه ولا ينشغلوا بهم. فإن النبلاء والحكام الذين يدخلون القصر إلى الملك، يكونون في خوف شديد، كيف يتكلمون، كيف يواجهون الملك، هل سيخطئون في شيء ما في اجابتهم عن شيء ويؤدي بهم ذلك إلى العقاب والحكم، أما من هم من عامة الشعب البسطاء الذين لم يروا ولا مرة واحدة أمير، فلا يقلقون بسبب هذه المقابلات. هذا هو الحال مع العالم الأرضي ـ من الملك إلى أفقر الناس فمن لا يعرف شيئًا عن مجد المسيح، يهتم فقط بأمور هذه الحياة الأرضية ولا يوجد بينهم حتى ولا واحد يفكر في يوم الدينونة. اما أولئك الذين يأتون بأفكارهم أمام كرسي دينونة المسيح، حيث يكون عرشه، ويصرفون حياتهم في حضرته فإنهم يكونون في خوف ورعدة باستمرار، لكي لا يصنعوا أي خطأ من جهة وصاياه المقدسة . فنحن رغم أننا على الأرض فإن ” مدينتنا هي في السموات” (في20:3) فالعقل المُطَهر تمامًا دائمًا ينظر مجد نور المسيح ويكون مع الرب ليلاً ونهارًا . لنتضرع إلى الله ونسأله ونطلب منه بشعور الإحتياج، أن ينعم علينا بكنز روحه، لكيما نستطيع أن نسلك في وصاياه كلها بطهارة وبلا لوم، ونتمم كل بر الروح بنقاوة وكمال بواسطة الكنز السماوي الذي هو المسيح . ينبغي لنا أولاً أن نطلب من الله بإجتهاد وقلب وبإيمان حتى يهبنا أن نجد في قلوبنا هذا الغنى، أي كنز المسيح الحقيقي بقوة بروح القدس وفاعليته. [ " ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم" (أف4:3ـ17)]. ولهذا فعندما نجد الرب أولاً في نفوسنا لمنفعتنا، أي للخلاص وللحياة الأبدية، فحينئذٍ يمكننا أن ننفع الآخرين أيضًا إذ يصير هذا ممكنًا، لأننا نأخذ من المسيح الذي هو الكنز الموجود في داخلنا ونخرج منه كل الصلاح الذي للكلمات الروحية ونكشف أمامهم أسرار السماء . تحذير: إذا كنا لا نثق بكلامه عن الأمور التي تخص احتياجات هذا العالم من طعام ولباس واهتمامات أخرى، وهي الأمور التي تقلقنا كثيرًا، فإننا لم نؤمن بعد بأننا سننال الخيرات الأبدية، على الرغم من أننا نظن أننا نؤمن . ب ـ تغيير القلب: نتوسل إلى الله لكي يغير القلب وهو قادر على التغيير مثلما هو قادر على شفاء الرجل الأعمى وعلى تغيير طبيعة الأسود المفترسة، وقادر على تحويل طبيعة النار. نطرح في صلواتنا أمام الله أن يغير قلوبنا، وهو كلي القدرة يستطيع أن يغير أفكار النفس ويجعلها إلهية وسماوية وصالحة، ويعلم النفس الصلاة. فلنتوسل إلى الله أن ينزع منا الإنسان العتيق ويجردنا منه، ويلبسنا المسيح السماوي، هنا ومن هذه اللحظة الحاضرة، حتى إذ نكون في فرح وبهجة، وإذ نكون مقادين بروحه، فإننا سنكون في هدوء وسلام عظيم . 3ـ تحقيق الوعد في الوقت المناسب: لأبد ألا نشك في أن الله قد سمع لصلواتنا، وأنه سيجيب على طلباتنا حسب مشيئته في الوقت المناسب وبالطريقة التي يراها مناسبة لنا. فلابد أن نثق أن طلباتنا هي أمامه يعرفها، وهو يدرك ما هو الصالح لنا فنستمر في صلواتنا وفي عرض كل الأمور التي تزعجنا ونحن واثقين أن الله لا يهملنا ولا يتأخر في إستجابة صلواتنا فربما تحقيق الطلب في التو غير صالح لنا، وربما أن استجابة الطلب الذي نريده هو ضار لنا وليس صالحًا كما نرى نحن. أمثلة من حياة رجال الله القديسين: في حالة يوسف: اقتضى الأمر فترات طويلة من الزمن لكي تتحقق مشيئة الله وقصده السابق من جهة يوسف، وتتم الرؤيا التي رآها. وقد أمتحن بآلام وشدائد وأحزان وقد احتملها جميعًا، وقد وُجد في جميعها خادمًا كاملاً أمينًا لله، وبعد ذلك صار ملكًا على مصر وهو الذي عال أسرته وتحققت المناظر النبوية التي كان قد رآها قبل حدوثها بفترة طويلة ووصلت مشيئة الله إلى غايتها المحتومة من نحوه بعد زمن طويل وتدابير كثيرة. كذلك الحال مع داود: فقد مسحه الله ملكًا بواسطة صموئيل النبي، وبعد أن مُسح، هرب من شاول الذي كان يطارده لكي يقتله، فما معنى مسحة الله له إذًا؟ وأين الوعد الذي وُعد به أن يصير ملكًا بعدما مُسح؟ فإنه بعد أن مُسح حلت به شدائد كثيرة وكان يتجول في الصحارى، محرومًا حتى من الخبز ولجأ إلى الوثنيين بسبب مؤامرات شاول ضده كل هذه المصائب الشديدة أحاطت بذلك الإنسان الذي مسحه الله ملكًا، وبعد أن تجرب طويلاً وأُمتحن، وبعد آلام وصبر، إذ قد وضع كل ثقته وإيمانه مرة واحدة في الله، وكأنه يقول لنفسه أن ما فعله الله بي بواسطة مسحه صموئيل النبي وما أمر الله به، لأبد أن يحدث لي ولابد وان يتحقق بدون أدنى شك، حتى وإن استلزم الأمر صبرًا كثيرًا، وبعد فترة من الوقت تمت مشيئة الله وتملك داود بعد كل تجاربه. وحيينئذ أشهرت كلمة الله، وتبرهن أن المسحة التي مسحه بها على يدي صموئيل النبي، إنما هي أكيدة وحقيقية. وهكذا أيضًا مع إبراهيم: فإن الله كان قد وعده منذ زمن طويل أن يعطيه إبنًا، ولكنه لم يعطيه له في الحال، بل خلال سنوات طويلة حلت به تجارب وضيقات ولكن إبراهيم احتمل بصبر كل ما يأتي عليه وتقوى تمامًا بالإيمان موقنًا أن الذي وعد هو صادق ولا يمكن أن يكذب، بل سيتمم كلمته، وهكذا إذ آمن نال الوعد. ونوح أيضًا: لما أمره الله وله من العمر 500 سنة، ان يبني الفلك، وأخبره أنه سيجلب طوفانًا على العالم، ولم يأت الطوفان إلا عندما كان نوح ابن ستمائة سنة، فظل منتظرًا بصبر مائة سنة ولم يشك في قول الله له بل تقوى بالإيمان موقنًا بأن ما خلص هو تكلم الله به لابد أن يحدث، وإذ وجد مقبولاً بسبب نية قلبه وإيمانه وصبره، خلقهو وأهل بيته فقط، لأنه حفظ الوصية بنقاوة . فالرب قريب إلينا أكثر من قرب النفس من الجسد، فهو صالح ومحب ومشفق على الإنسان، ومواعيده صادقة بلا كذب، إن كنا نستمر في طلبنا إياه إلى النهاية. قد تشتد الحرب إذًا ولكن تأتي الراحة في النهاية بعد أن يري الله قتالنا وجهادنا، ولكنه قريب جدًا. فتأخير الإستجابة يكون من أجل التربية والتهذيب، من أجل النضج والكمال. البعض ينالون النعمة ويتقدمون حالاً، والبعض الآخر تتأخر عليهم النعمة: فالبعض تأتيهم نعم ومواهب الروح القدس مقدمًا وهم يتقدمون حالاً في الإيمان والصلاة، بدون جهد أو عرق أو تعب وهم موجودون في وسط العالم. ويعطيهم الله النعمة هكذا ليس باطلاً ولا في غير وقتها ولا بمجرد المصادفة، ولكنه يعطيها بحكمة تفوق الوصف وتفوق الفهم وذلك لكي يمتحن الإختيار وحرية الإرادة لأولئك الذين قد نالوا نعمة الله بهذه السرعة، وهل شعروا وقدَّروا الفائدة وأحسوا بصلاح الله وحلاوته التي أظهرت حسب قياس النعمة الموهوبة لهم بدون أي مجهودات من جانبهم والتي حُسبوا أهلاً أن ينالوها؟ وفي مقابل هذه النعمة ينبغي أن يُظهروا غيرة واجتهادًا ويركضون في الميدان ويجاهدون ويحملون ثمر الإرادة والعزم والحب وأن يردوا للرب مقابل المواهب الروحية التي نالوها. وهناك آخرون، الذين رغم أنهم تركوا هذا العالم وتخلوا عنه بحسب الإنجيل، ويصرفون وقتهم في صلاة مستمرة وصوم وسهر وبقية الفضائل، فإن الله لا يعطيهم النعمة في الحال ولا الراحة ولا فرح الروح بل يتأني ويؤخر موهبته لهم. وهذا يفعله الله، ليس عبثًا ولا بدون قصد ولا مصادفة بل بحكمة تفوق الوصف، لأجل إمتحان ارادتهم، لكي يري إن كانوا قد حسبوا الله أمينًا، ولكي يري إن كانوا بعد إيمانهم بكلمته بالحق، هل يصبرون ويستمرون إلى النهاية في ملء ثقة الإيمان والاجتهاد، يسألون ويطلبون ولا تخور قلوبهم أو يتراجعون، وبعدم إيمان وبدون رجاء يحتقرون الهدف ولا يثبتون إلى النهاية. فإن الذي لا ينال النعمة سريعًا يزداد كل يوم اشتياقًا واجتهادًا، ويزداد ركضًا وسعيًا ويزداد في كل فضيلة ويظهر جوعًا وعطشًا إلى ما هو صالح، ولا يتحول إلى الاحتقار واليأس وعدم الصبر، ولا يسلم نفسه إلى الكسل. ما دام الرب في تأخيره للموهبة إنما يتأني بمحبة ممتعنًا إيمانه ومحبته، فينبغي على الإنسان نفسه أن يكون أكثر حرصًا واجتهادًا ولا يكل أو يفشل بل يطلب عطية الله إذ أنه قد وثق في ذاته بأن الله صادق ولا يمكن أن يكذب، فهو الذي وعد أن يعطي نعمته لأولئك الذين يطلبون بإيمان بكل صبر إلى النهاية . 4ـ الصلاة مصدر الفرح والراحة: المواظبة على الصلاة، تجعلنا نجد الراحة، بل أننا نجد الفرح العظيم في الشدة القليلة والآلم، ونجد الإنتعاش العظيم . النعمة تهدئ كل الأعضاء وتعطي النفس الفرح، حتى أن النفس من كثرة الفرح، تظهر كأنها طفل برئ، ولا يعود الإنسان يدين الوثني ولا اليهودي، ولا الخاطيء ولا الإنسان العالمي، بل أن الإنسان الباطن ينظر كل الناس بعين نقية، ويفرح الإنسان بالعالم كله، ويود أن الجميع يصيرون محبين ويعبدون الله معًا يهود وأمم . يشبه القديس حالة الفرح التي تفرحها النفس مع الرب بحالة الفرح التي للعريس مع عروسه مستندًا في ذلك على إشعياء ” وكفرح العريس مع العروس يفرح بك إلهك” (إش5:62). والإنسان الذي يدخل ويركع في صلاة ربما تأخذه هذه الصلاة لمدة ساعة، يدخل فيها إلى العمق الذي ليس له قرار، عمق ذلك العالم الآخر، وهو في حالة عظيمة حتى أن عقله كله يتغّرب، إذ يرفع وينقل وينفصل مبتعدًا عن الأشياء الأرضية. وفي أثناء هذه الفترة تحصل له حالة نسيان للاهتمامات والتفكير الأرضي. لأن أفكاره تكون مملوءة ومأسورة بالأمور الإلهية السماوية، والاشياء التي لا نهاية لها والتي تفوق الادراك، الاشياء العجيبة الأكيدة التي لا يستطيع لسان بشري أن يعبر عنها، حتى أنه يصلي ويقول في تلك الساعة ” ياليت نفسي تخرج مع صلاتي . بالصلاة نتغلب على قوى الشياطين، وهذا يعطينا الراحة والفرح. فالشياطين الأشداء التي تظهر كالجبال القوية تحترق بالصلاة مثل الشمع حينما يذوب في النار. وحينما ترى النفس أنها تخلصت من أعدائها، بعبورها البحر المُر، بقوة الله، وإذ ترى أعداءها الذين كانت مستعبدة لهم، وقد هلكوا أمام عينيها، فإنها تفرح فرحًا لا ينطق به ومملوء مجدًا (1بط8:1)، وتتعزى بالله وتستريح في الرب . فلنتوسل إلى الله أن ينزع منا الإنسان العتيق ويجردنا منه، ويلبسنا المسيح السماوى، هنا ومن هذه اللحظة الحاضرة، حتى إذ نكون في فرح وبهجة، وإذ نكون منقادين بروحه، فإننا سنكون في هدوء وسلام عظيم . ولكن النعمة التي يحصل عليها الإنسان أحيانًا تشتعل نارها وتضطرم وفي احيان أخرى تكون خفيفة ولطيفة في اشتعالها، وكذلك النور الذي تعطيه يشتعل احيانًا بلهيب وبريق زائد، وفي أوقات أخرى تخف شدة البريق وتضعف. فالمصباح مشتعل ومضيء دائمًا، ولكن احيانًا يتألق ويتوهج، يشتعل كأنه سكران بمحبة الله، واحيانًا يخفت أيضًا بتدبير الله. إذًا فمن الممكن أن يحصل الإنسان على نور مبهر وحلاوة تأمل وأسرار فائقة في الصلاة ومن الممكن أن تتراجع النعمة في تدفقها. ولكن درجة الكمال التي يريدها الإنسان لم تُعط له بصورة مستمرة، فلا يكون الإنسان في هذه الحالة، من السمو ماسورًا دائمًا ومأخوذًا إلى فوق، فلو أنها كانت حاضرة معه كل حين بلا إنقطاع فإنه لن يستطيع أن يقوم بتدبير الكلام ولا أن يحمل مسئولية أي عمل، ولا يستطيع أن يسمع أو أن يهتم بأي شيء عادي يختص بنفسه أو بالغير، بل إنما يجلس في زاوية في حالة علو وسكر روحاني . 5ـ ضرورة الإتضاع: التقدم إلى الله يجب أن يكون بروح الاتضاع، حتى لو حصل الإنسان على النعمة. فيحدث أن تاتي النعمة لإنسان ومع ذلك لا يكون قلبه نقيًا تمامًا. وهذا هو السبب الذي يجعل الكثيرين يسقطون لأنهم لا يصدقون أنهم بعد نوالهم النعمة لا يزال فيهم دخان وخطية، تستطيع أن تؤثر عليهم أما الأبرار فساروا إلى النهاية في الطريق الكرب. فإبراهيم رغم غناه الكثير، من جهة الله ومن جهة العالم، إلا أنه أعتبر نفسه ” تراب ورماد” (تك27:18)، وداود يقول إنه ” عار عند البشر ومُحتقر الشعب، أما أنا فدودة لا إنسان” (مر6:22) . فالإنسان الذي تذوق الفرح والقوة في الصلاة ينتبه لئلا يبدأ في أن ينتفخ، ويفقد إتزانه، ويبدأ في إدانة الاخرين ولذلك يسقط إلى أسفل أعماق الأرض. مثل الإنسان الذي يصير معتدًا بذاته بسبب ثرائه واضعًا ثقته في ذاته. فالحية لازالت تلقي بأفكار الكبرياء في قلوب البشر، قائلة لكل منهم ” أنت كامل، عندك كثير، وانت غني، ولا تحتاج شيئًا أنك مغبوط وسعيد” . الإنسان بعد نواله العزاء عليه أن ينتبه جيدًا. فمثال حالة الإنسان الذي هو فقير في الماديات وحينما وجد كيس من الذهب بدأ يصيح ” لقد وجدت كيسًا من الذهب وصرت إنسانًا غنيًا”. وحينئذ يسمع صاحب الكيس الذي فقده فيأتي ويأخذ ذهبه. وإنسان آخر كان غنيًا وفقد إتزانه وبدأ يحتقر الناس ويعظِّم نفسه على غيره من الإشخاص، وحينما سمع الإمبراطوار عنه صادر كل ممتلكاته. هكذا الأمر في المجال الروحاني. فحينما يتذوق بعض الأشخاص قليلاً من العزاء والنعمة، فإنهم لا يعرفون كيف ينتفعون بما نالوا، بل أنهم يفقدون ما قد نالوه، لأن الخطية تضلهم وتظلم عقولهم . أمثلة السقوط كثيرة: يقول القديس مقاريوس عمن كان معه من النساك، وكان يعيش في اقامة واحده وكان يصلي معي وكان غنيًا جدًا في النعمة، حتى أنه كان يصلي بجواري كانت تغمره الندامة والدموع، وكانت النعمة تغلي في داخله. وقد أُعطى موهبة الشفاء، ولم يكن يطرد الشياطين فقط، بل كان يضع يديه على أولئك المربوطين والمعذبين بأمراض خطيرة فيشفيهم. ثم بعد ذلك بدأ يتهاون لأنه كان ينال مجدًا كثيرًا من العالم: وكان يجد متعة ولذة في هذا المجد وصار منتفخًا وسقط إلى أعماق الخطية. فأنظر كيف أن الذي كانت له موهبة الشفاء قد سقط . الباحث جورج ميشيل 1ـ كيفية الصلاة: أـ الصلاة بإيمان إن لم يأت الإنسان إلى الرب بإرادته وبكل نية قلبه ويطلب منه بثقة الإيمان التامة فلا يشفى أبدًا. كما حدث مع المرأة نازفة الدم ومع الأعمى الذي صرخ إلى الرب ” إرحمني يا ابن داود” (مر47:10). بسبب قلة إيماننا وانقسام قلوبنا وعدم محبتنا له من كل القلب، وعدم إيماننا به حقيقة، لم نجد بعد الشفاء الروحي والخلاص . الإنسان لابد أن يأت بثقة وإيمان ورجاء وصبر أنه سينال شيئًا صالحًا مختلفًا تمامًا عن طبيعته الخاصة، أي قوة الروح القدس وإذا لم يحدث هذا فإن هذا الإنسان لن يختبر الحياة الحقيقية أبدًا، ولن يفيق من سكر الأمور المادية. ولن تضيء إنارة الروح في تلك النفس المظلمة..، ولن يستيقظ من سبات الجهل العميق . مطلوب التسليم والإيمان بالرب بثبات، مطلوب لكي يصير الإنسان مسكنًا للمسيح وأن يمتليء بالروح القدس أن يسلم نفسه كلية إلى كلمات وصاياه. يجب عليه أن يواظب على الصلاة وأن ينتظر دائمًا بإيمان وتوقع إفتقاد الرب وعونه، جاعلاً نظر عقله مثبت نحوه . ب ـ الصلاة بإنتباه من أهم العوامل التي تضعف صلواتنا هو التشتت وعدم تجمع العقل. فالصلاة بالجسد فقط ضعيفة، والصلاة القوية هي صلاة بالجسد وبالعقل، فالإنسان بكامله يجب أن يشارك في الصلاة. وعمل الأرواح الشريرة، هو جذب العقل، فالشيطان ماكر جدًا له حيل وخدع كثيرة من كل نوع، لا يدع النفس تصلي الصلاة الصحيحة وتقترب من الله. يقول القديس مكاريوس أنه في حالة العمال المهرة، فإنهم يكونوا مقيدين بجسدهم وعقلهم ليلاً ونهارًا في حرفتهم. فأنظر جيدًا إلى نفسك هل عقلك متغرب عن العالم ولا يرتبط بأمور هذا العالم . حينما يرى الرب أن النفس تجمع ذاتها بأقصى طاقتها، وتطلبه دائمًا منتظره إياه ليلاً ونهارًا، وتصرخ إليه، كما أوصى الرسول أن ” نصلي بلا إنقطاع” (1تس7:5) فإنه ” ينصفها” (لو17:18)، مطهرًا إياها من الشر الذي في داخلها. وهو ” سيحضرها لنفسه” عروسًا ” لا دنس فيها ولا غضن” (أف27:5) . فينبغي أن يكون حرص الإنسان وجهده كله موجهًا ومسلطًا على أفكاره، فينبغي أن يقطع الشجرة الكثيفة المتشابكة، شجرة الأفكار الشريرة التي تقلقه وتهاجمه ويلقي بنفسه على الله، ولا يدع أفكاره تحمله حيث تشاء، بل يجمع أفكاره حينما تجول في كل اتجاه ويميز بين الأفكار الطيبة والأفكار الشريرة . جـ المواظبة على الصلاة: الصلاة تحتاج إلى مثابرة واستمرار. الصلاة مثل الوصايا الأخرى تحتاج إلى تغصب فالإنسان يغصب نفسه على المحبة حينما تنقصه المحبة، ويغصب نفسه إلى الوداعة حينما لا تكون عنده وداعة، ويغصب نفسه إلى الشفقة إلى أن يكون له قلب حنون، وهكذا يغصب نفسه إلى الصلاة حينما لا تكون له الصلاة الروحانية، وهكذا إذ يراه الله جاهدًا وغاصبًا على الرغم من معارضة قلبه، فإنه يهب له صلاة الروح الحقيقية وينعم عليه بالمحبة الحقيقية، والوداعة وأحشاء الرأفات والشفقة الحقيقية، وبإختصار فإنه يملأه بثمار الروح . الإنسان الذي يغصب نفسه كل يوم للمواظبة على الصلاة، فإنه يشتعل بالحب الإلهي ويتقد برغبة نارية من الحب الروحاني نحو الله وينال نعمة كمال تقديس الروح .من يريد ويشتهي أن يصير شريكًا في المجد الإلهي وأن يرى كما في مرآة صور المسيح في داخل عقله، فينبغي أن يطلب معونة الله التي تتدفق بقوة، يطلبها بحب مشتعل لا ينطفيء وبرغبة حارة من كل قلبه وكل قدرته، ليلاً ونهارًا، هذه المعونة الإلهية لا يمكن نوالها، إن لم يتخل الإنسان عن لذة العالم وعن شهوات ورغبات القوة المعادية، والتي هي اجنبية عن النور ومخالفة له وهي من نشاط وعمل الشرير . د ـ الصلاة بهدوء: الإنتباه وجمع العقل في الصلاة يتطلب الهدوء. فالهدوء والرزانة يجب أن يكونا هما سمة الصلاة، وليس الصراخ ورفع الصوت. ولقد شبه القديس مقاريوس حالة الألم الذي يعانيه الإنسان والذي يعبر عنه في صلواته بحالة من يجري جراحة ما تحتاج إلى تحمل الألم. فهناك من يصبر ويتحمل الجراحة وهناك من يضج بصرخات عالية مزعجة غير ملائمة. مع أن الألم هو هو لم يتغير. هكذا أيضًا فإن البعض يحتملون الشدائد والآحزان التي تأتي على نفوسهم بصبر ويتقبلونها بخضوع ولا يصنعون أضطرابًا وإنزعاجًا بل يضبطون أنفسهم بالتامل العقلي في الرب، بينما آخرون حينما تحل بهم نفس الشدائد والأحزان، يفقدون قوة احتمالهم ويقدمون صلواتهم بأصوات مضطربة مزعجة تضايق وتعثر أولئك الذين يسمعونهم. وهناك آخرون برغم أنهم لا يعانون من شدائد أو احزان ولكنهم لأجل التفاخر والرغبة في التميز يصلون بصراخ وبدون إنضباط ظانين أنهم بواسطة هذه الأصوات العالية يستطيعون أن يرضوا الله . إن حضور الرب كان يتميز بأنه كان يظهر في هدوء وسلام وراحة ” وإذ صوت منخفض خفيف” (1مل2:19) وكان الرب في هذا الصوت. الضجيج في الصلاة لا يناسب في الكنائس ولا في القرى، وربما هؤلاء الذين يصلون هكذا يستطيعون ذلك في الصحاري. الصلاة بهدوء هامة لهؤلاء الذين في الخارج. فمن يصلي بهدوء يبني كثيرين غيره، ” لأن الله ليس إله تشويش بل إله سلام” (1كو33:14) . 2ـ ماذا نطلب في صلواتنا: أـ طلب الرب وملكوته: يجب أن ينشغل القلب بالمسيح وحده: أولئك الذين يسعون إلى الأمام ليصلوا إلى ربنا المسيح المحبوب الحقيقي، ينبغي أن يغضوا النظر عن كل من هم سواه ولا ينشغلوا بهم. فإن النبلاء والحكام الذين يدخلون القصر إلى الملك، يكونون في خوف شديد، كيف يتكلمون، كيف يواجهون الملك، هل سيخطئون في شيء ما في اجابتهم عن شيء ويؤدي بهم ذلك إلى العقاب والحكم، أما من هم من عامة الشعب البسطاء الذين لم يروا ولا مرة واحدة أمير، فلا يقلقون بسبب هذه المقابلات. هذا هو الحال مع العالم الأرضي ـ من الملك إلى أفقر الناس فمن لا يعرف شيئًا عن مجد المسيح، يهتم فقط بأمور هذه الحياة الأرضية ولا يوجد بينهم حتى ولا واحد يفكر في يوم الدينونة. اما أولئك الذين يأتون بأفكارهم أمام كرسي دينونة المسيح، حيث يكون عرشه، ويصرفون حياتهم في حضرته فإنهم يكونون في خوف ورعدة باستمرار، لكي لا يصنعوا أي خطأ من جهة وصاياه المقدسة . فنحن رغم أننا على الأرض فإن ” مدينتنا هي في السموات” (في20:3) فالعقل المُطَهر تمامًا دائمًا ينظر مجد نور المسيح ويكون مع الرب ليلاً ونهارًا . لنتضرع إلى الله ونسأله ونطلب منه بشعور الإحتياج، أن ينعم علينا بكنز روحه، لكيما نستطيع أن نسلك في وصاياه كلها بطهارة وبلا لوم، ونتمم كل بر الروح بنقاوة وكمال بواسطة الكنز السماوي الذي هو المسيح . ينبغي لنا أولاً أن نطلب من الله بإجتهاد وقلب وبإيمان حتى يهبنا أن نجد في قلوبنا هذا الغنى، أي كنز المسيح الحقيقي بقوة بروح القدس وفاعليته. [ " ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم" (أف4:3ـ17)]. ولهذا فعندما نجد الرب أولاً في نفوسنا لمنفعتنا، أي للخلاص وللحياة الأبدية، فحينئذٍ يمكننا أن ننفع الآخرين أيضًا إذ يصير هذا ممكنًا، لأننا نأخذ من المسيح الذي هو الكنز الموجود في داخلنا ونخرج منه كل الصلاح الذي للكلمات الروحية ونكشف أمامهم أسرار السماء . تحذير: إذا كنا لا نثق بكلامه عن الأمور التي تخص احتياجات هذا العالم من طعام ولباس واهتمامات أخرى، وهي الأمور التي تقلقنا كثيرًا، فإننا لم نؤمن بعد بأننا سننال الخيرات الأبدية، على الرغم من أننا نظن أننا نؤمن . ب ـ تغيير القلب: نتوسل إلى الله لكي يغير القلب وهو قادر على التغيير مثلما هو قادر على شفاء الرجل الأعمى وعلى تغيير طبيعة الأسود المفترسة، وقادر على تحويل طبيعة النار. نطرح في صلواتنا أمام الله أن يغير قلوبنا، وهو كلي القدرة يستطيع أن يغير أفكار النفس ويجعلها إلهية وسماوية وصالحة، ويعلم النفس الصلاة. فلنتوسل إلى الله أن ينزع منا الإنسان العتيق ويجردنا منه، ويلبسنا المسيح السماوي، هنا ومن هذه اللحظة الحاضرة، حتى إذ نكون في فرح وبهجة، وإذ نكون مقادين بروحه، فإننا سنكون في هدوء وسلام عظيم . 3ـ تحقيق الوعد في الوقت المناسب: لأبد ألا نشك في أن الله قد سمع لصلواتنا، وأنه سيجيب على طلباتنا حسب مشيئته في الوقت المناسب وبالطريقة التي يراها مناسبة لنا. فلابد أن نثق أن طلباتنا هي أمامه يعرفها، وهو يدرك ما هو الصالح لنا فنستمر في صلواتنا وفي عرض كل الأمور التي تزعجنا ونحن واثقين أن الله لا يهملنا ولا يتأخر في إستجابة صلواتنا فربما تحقيق الطلب في التو غير صالح لنا، وربما أن استجابة الطلب الذي نريده هو ضار لنا وليس صالحًا كما نرى نحن. أمثلة من حياة رجال الله القديسين: في حالة يوسف: اقتضى الأمر فترات طويلة من الزمن لكي تتحقق مشيئة الله وقصده السابق من جهة يوسف، وتتم الرؤيا التي رآها. وقد أمتحن بآلام وشدائد وأحزان وقد احتملها جميعًا، وقد وُجد في جميعها خادمًا كاملاً أمينًا لله، وبعد ذلك صار ملكًا على مصر وهو الذي عال أسرته وتحققت المناظر النبوية التي كان قد رآها قبل حدوثها بفترة طويلة ووصلت مشيئة الله إلى غايتها المحتومة من نحوه بعد زمن طويل وتدابير كثيرة. كذلك الحال مع داود: فقد مسحه الله ملكًا بواسطة صموئيل النبي، وبعد أن مُسح، هرب من شاول الذي كان يطارده لكي يقتله، فما معنى مسحة الله له إذًا؟ وأين الوعد الذي وُعد به أن يصير ملكًا بعدما مُسح؟ فإنه بعد أن مُسح حلت به شدائد كثيرة وكان يتجول في الصحارى، محرومًا حتى من الخبز ولجأ إلى الوثنيين بسبب مؤامرات شاول ضده كل هذه المصائب الشديدة أحاطت بذلك الإنسان الذي مسحه الله ملكًا، وبعد أن تجرب طويلاً وأُمتحن، وبعد آلام وصبر، إذ قد وضع كل ثقته وإيمانه مرة واحدة في الله، وكأنه يقول لنفسه أن ما فعله الله بي بواسطة مسحه صموئيل النبي وما أمر الله به، لأبد أن يحدث لي ولابد وان يتحقق بدون أدنى شك، حتى وإن استلزم الأمر صبرًا كثيرًا، وبعد فترة من الوقت تمت مشيئة الله وتملك داود بعد كل تجاربه. وحيينئذ أشهرت كلمة الله، وتبرهن أن المسحة التي مسحه بها على يدي صموئيل النبي، إنما هي أكيدة وحقيقية. وهكذا أيضًا مع إبراهيم: فإن الله كان قد وعده منذ زمن طويل أن يعطيه إبنًا، ولكنه لم يعطيه له في الحال، بل خلال سنوات طويلة حلت به تجارب وضيقات ولكن إبراهيم احتمل بصبر كل ما يأتي عليه وتقوى تمامًا بالإيمان موقنًا أن الذي وعد هو صادق ولا يمكن أن يكذب، بل سيتمم كلمته، وهكذا إذ آمن نال الوعد. ونوح أيضًا: لما أمره الله وله من العمر 500 سنة، ان يبني الفلك، وأخبره أنه سيجلب طوفانًا على العالم، ولم يأت الطوفان إلا عندما كان نوح ابن ستمائة سنة، فظل منتظرًا بصبر مائة سنة ولم يشك في قول الله له بل تقوى بالإيمان موقنًا بأن ما خلص هو تكلم الله به لابد أن يحدث، وإذ وجد مقبولاً بسبب نية قلبه وإيمانه وصبره، خلقهو وأهل بيته فقط، لأنه حفظ الوصية بنقاوة . فالرب قريب إلينا أكثر من قرب النفس من الجسد، فهو صالح ومحب ومشفق على الإنسان، ومواعيده صادقة بلا كذب، إن كنا نستمر في طلبنا إياه إلى النهاية. قد تشتد الحرب إذًا ولكن تأتي الراحة في النهاية بعد أن يري الله قتالنا وجهادنا، ولكنه قريب جدًا. فتأخير الإستجابة يكون من أجل التربية والتهذيب، من أجل النضج والكمال. البعض ينالون النعمة ويتقدمون حالاً، والبعض الآخر تتأخر عليهم النعمة: فالبعض تأتيهم نعم ومواهب الروح القدس مقدمًا وهم يتقدمون حالاً في الإيمان والصلاة، بدون جهد أو عرق أو تعب وهم موجودون في وسط العالم. ويعطيهم الله النعمة هكذا ليس باطلاً ولا في غير وقتها ولا بمجرد المصادفة، ولكنه يعطيها بحكمة تفوق الوصف وتفوق الفهم وذلك لكي يمتحن الإختيار وحرية الإرادة لأولئك الذين قد نالوا نعمة الله بهذه السرعة، وهل شعروا وقدَّروا الفائدة وأحسوا بصلاح الله وحلاوته التي أظهرت حسب قياس النعمة الموهوبة لهم بدون أي مجهودات من جانبهم والتي حُسبوا أهلاً أن ينالوها؟ وفي مقابل هذه النعمة ينبغي أن يُظهروا غيرة واجتهادًا ويركضون في الميدان ويجاهدون ويحملون ثمر الإرادة والعزم والحب وأن يردوا للرب مقابل المواهب الروحية التي نالوها. وهناك آخرون، الذين رغم أنهم تركوا هذا العالم وتخلوا عنه بحسب الإنجيل، ويصرفون وقتهم في صلاة مستمرة وصوم وسهر وبقية الفضائل، فإن الله لا يعطيهم النعمة في الحال ولا الراحة ولا فرح الروح بل يتأني ويؤخر موهبته لهم. وهذا يفعله الله، ليس عبثًا ولا بدون قصد ولا مصادفة بل بحكمة تفوق الوصف، لأجل إمتحان ارادتهم، لكي يري إن كانوا قد حسبوا الله أمينًا، ولكي يري إن كانوا بعد إيمانهم بكلمته بالحق، هل يصبرون ويستمرون إلى النهاية في ملء ثقة الإيمان والاجتهاد، يسألون ويطلبون ولا تخور قلوبهم أو يتراجعون، وبعدم إيمان وبدون رجاء يحتقرون الهدف ولا يثبتون إلى النهاية. فإن الذي لا ينال النعمة سريعًا يزداد كل يوم اشتياقًا واجتهادًا، ويزداد ركضًا وسعيًا ويزداد في كل فضيلة ويظهر جوعًا وعطشًا إلى ما هو صالح، ولا يتحول إلى الاحتقار واليأس وعدم الصبر، ولا يسلم نفسه إلى الكسل. ما دام الرب في تأخيره للموهبة إنما يتأني بمحبة ممتعنًا إيمانه ومحبته، فينبغي على الإنسان نفسه أن يكون أكثر حرصًا واجتهادًا ولا يكل أو يفشل بل يطلب عطية الله إذ أنه قد وثق في ذاته بأن الله صادق ولا يمكن أن يكذب، فهو الذي وعد أن يعطي نعمته لأولئك الذين يطلبون بإيمان بكل صبر إلى النهاية . 4ـ الصلاة مصدر الفرح والراحة: المواظبة على الصلاة، تجعلنا نجد الراحة، بل أننا نجد الفرح العظيم في الشدة القليلة والآلم، ونجد الإنتعاش العظيم . النعمة تهدئ كل الأعضاء وتعطي النفس الفرح، حتى أن النفس من كثرة الفرح، تظهر كأنها طفل برئ، ولا يعود الإنسان يدين الوثني ولا اليهودي، ولا الخاطيء ولا الإنسان العالمي، بل أن الإنسان الباطن ينظر كل الناس بعين نقية، ويفرح الإنسان بالعالم كله، ويود أن الجميع يصيرون محبين ويعبدون الله معًا يهود وأمم . يشبه القديس حالة الفرح التي تفرحها النفس مع الرب بحالة الفرح التي للعريس مع عروسه مستندًا في ذلك على إشعياء ” وكفرح العريس مع العروس يفرح بك إلهك” (إش5:62). والإنسان الذي يدخل ويركع في صلاة ربما تأخذه هذه الصلاة لمدة ساعة، يدخل فيها إلى العمق الذي ليس له قرار، عمق ذلك العالم الآخر، وهو في حالة عظيمة حتى أن عقله كله يتغّرب، إذ يرفع وينقل وينفصل مبتعدًا عن الأشياء الأرضية. وفي أثناء هذه الفترة تحصل له حالة نسيان للاهتمامات والتفكير الأرضي. لأن أفكاره تكون مملوءة ومأسورة بالأمور الإلهية السماوية، والاشياء التي لا نهاية لها والتي تفوق الادراك، الاشياء العجيبة الأكيدة التي لا يستطيع لسان بشري أن يعبر عنها، حتى أنه يصلي ويقول في تلك الساعة ” ياليت نفسي تخرج مع صلاتي . بالصلاة نتغلب على قوى الشياطين، وهذا يعطينا الراحة والفرح. فالشياطين الأشداء التي تظهر كالجبال القوية تحترق بالصلاة مثل الشمع حينما يذوب في النار. وحينما ترى النفس أنها تخلصت من أعدائها، بعبورها البحر المُر، بقوة الله، وإذ ترى أعداءها الذين كانت مستعبدة لهم، وقد هلكوا أمام عينيها، فإنها تفرح فرحًا لا ينطق به ومملوء مجدًا (1بط8:1)، وتتعزى بالله وتستريح في الرب . فلنتوسل إلى الله أن ينزع منا الإنسان العتيق ويجردنا منه، ويلبسنا المسيح السماوى، هنا ومن هذه اللحظة الحاضرة، حتى إذ نكون في فرح وبهجة، وإذ نكون منقادين بروحه، فإننا سنكون في هدوء وسلام عظيم . ولكن النعمة التي يحصل عليها الإنسان أحيانًا تشتعل نارها وتضطرم وفي احيان أخرى تكون خفيفة ولطيفة في اشتعالها، وكذلك النور الذي تعطيه يشتعل احيانًا بلهيب وبريق زائد، وفي أوقات أخرى تخف شدة البريق وتضعف. فالمصباح مشتعل ومضيء دائمًا، ولكن احيانًا يتألق ويتوهج، يشتعل كأنه سكران بمحبة الله، واحيانًا يخفت أيضًا بتدبير الله. إذًا فمن الممكن أن يحصل الإنسان على نور مبهر وحلاوة تأمل وأسرار فائقة في الصلاة ومن الممكن أن تتراجع النعمة في تدفقها. ولكن درجة الكمال التي يريدها الإنسان لم تُعط له بصورة مستمرة، فلا يكون الإنسان في هذه الحالة، من السمو ماسورًا دائمًا ومأخوذًا إلى فوق، فلو أنها كانت حاضرة معه كل حين بلا إنقطاع فإنه لن يستطيع أن يقوم بتدبير الكلام ولا أن يحمل مسئولية أي عمل، ولا يستطيع أن يسمع أو أن يهتم بأي شيء عادي يختص بنفسه أو بالغير، بل إنما يجلس في زاوية في حالة علو وسكر روحاني . 5ـ ضرورة الإتضاع: التقدم إلى الله يجب أن يكون بروح الاتضاع، حتى لو حصل الإنسان على النعمة. فيحدث أن تاتي النعمة لإنسان ومع ذلك لا يكون قلبه نقيًا تمامًا. وهذا هو السبب الذي يجعل الكثيرين يسقطون لأنهم لا يصدقون أنهم بعد نوالهم النعمة لا يزال فيهم دخان وخطية، تستطيع أن تؤثر عليهم أما الأبرار فساروا إلى النهاية في الطريق الكرب. فإبراهيم رغم غناه الكثير، من جهة الله ومن جهة العالم، إلا أنه أعتبر نفسه ” تراب ورماد” (تك27:18)، وداود يقول إنه ” عار عند البشر ومُحتقر الشعب، أما أنا فدودة لا إنسان” (مر6:22) . فالإنسان الذي تذوق الفرح والقوة في الصلاة ينتبه لئلا يبدأ في أن ينتفخ، ويفقد إتزانه، ويبدأ في إدانة الاخرين ولذلك يسقط إلى أسفل أعماق الأرض. مثل الإنسان الذي يصير معتدًا بذاته بسبب ثرائه واضعًا ثقته في ذاته. فالحية لازالت تلقي بأفكار الكبرياء في قلوب البشر، قائلة لكل منهم ” أنت كامل، عندك كثير، وانت غني، ولا تحتاج شيئًا أنك مغبوط وسعيد” . الإنسان بعد نواله العزاء عليه أن ينتبه جيدًا. فمثال حالة الإنسان الذي هو فقير في الماديات وحينما وجد كيس من الذهب بدأ يصيح ” لقد وجدت كيسًا من الذهب وصرت إنسانًا غنيًا”. وحينئذ يسمع صاحب الكيس الذي فقده فيأتي ويأخذ ذهبه. وإنسان آخر كان غنيًا وفقد إتزانه وبدأ يحتقر الناس ويعظِّم نفسه على غيره من الإشخاص، وحينما سمع الإمبراطوار عنه صادر كل ممتلكاته. هكذا الأمر في المجال الروحاني. فحينما يتذوق بعض الأشخاص قليلاً من العزاء والنعمة، فإنهم لا يعرفون كيف ينتفعون بما نالوا، بل أنهم يفقدون ما قد نالوه، لأن الخطية تضلهم وتظلم عقولهم . أمثلة السقوط كثيرة: يقول القديس مقاريوس عمن كان معه من النساك، وكان يعيش في اقامة واحده وكان يصلي معي وكان غنيًا جدًا في النعمة، حتى أنه كان يصلي بجواري كانت تغمره الندامة والدموع، وكانت النعمة تغلي في داخله. وقد أُعطى موهبة الشفاء، ولم يكن يطرد الشياطين فقط، بل كان يضع يديه على أولئك المربوطين والمعذبين بأمراض خطيرة فيشفيهم. ثم بعد ذلك بدأ يتهاون لأنه كان ينال مجدًا كثيرًا من العالم: وكان يجد متعة ولذة في هذا المجد وصار منتفخًا وسقط إلى أعماق الخطية. فأنظر كيف أن الذي كانت له موهبة الشفاء قد سقط |
|