06 - 10 - 2013, 08:43 PM
|
رقم المشاركة : ( 2 )
|
..::| VIP |::..
|
رد: فـلـسـفـه الـرهـبـنـه الـقـبـطـيـه و حكمتها بقلم القمص مرقس عزيز خليل
صفحات من تاريخ الرهبنه القبطيه (2)
بقلم القمص مرقس عزيز خليل
وقع الأقباط في أيام ديسيوس ثم في أيام دقلديانوس أبان القرن الثالث الميلادي تحت وطأه الأضطهاد الشديد . و كان عهد هذين الطاغيتين من أسوأ العهود التي مرت بها المسيحيه منذ نشأتها الي اليوم . حتي كانت حياه المسيحيين تحت حكمهما كابوسا مروعا مملوءا بالأهوال , و مذبحه مستمره تفيض من جنباتها دماء الشهداء من رجال و نساء و اطفال . الا أنه لم يكن الأرهاب و العذاب و لم يكن الأضطهاد و الأستشهاد الا ليزيد ما بقلوبهم من ايمان . و ان يضاعف من عزمهم الجبار علي احتمال الآلام و الأخطار . بل لقد دفعت بهم قوه ايمانهم و شده عزمهم الي استعذاب العذاب و التلذذ بالألم و السعي مختارين مطمئنين الي حومه الموت . ثم أنتهي بهم الأمر الي استشعار الفرح و الفخار في التقدم طواعيه لنيل اكليل الشهاده و الي الأحساس بالخيبه و العار لو أن مسيحيا نجا من حد السيف أو من لهيب النار و لم يسعد بنعمه الأستشهاد . حتي اذا أنقضي ذلك العهد الدامي و أنتهت تلك التجربه العظمي . كان مالاقاه المسيحيون من أهوال قد صهر نفوسهم و طهر من أدران الدنيا سرائرهم و خواطرهم و خلجات قلوبهم و أرشدهم الي سبيل الروح و عودهم علي التضحيه بالذات و أحتمال الشدائد لغايه مجرده هي محبه الله . فما بدأ عهد الحريه في أيام قسطنطين حتي بدأت تلك الفضائل المسيحيه في الظهور و الأستقرار . حتي بدأ كل مسيحي بقي علي قيد الحياه يتوجه بالتقدير و التقديس لتلك الدماء الذكيه التي سفكت . ثم يحس بالحسره و الألم لأنه لم تدركه تلك الفرصه المباركه لأن ينال فخر الشهاده مع الشهداء . و من ثم راح يسعي لتعويض ما فاته بالسلوك الذي يمجد الله في حياته عن طريق بذل الذات من أجل الوصول الي التقرب الي الله . فتنازل بعض المسيحيين عن كل ما في الحياه من لذات و متع و قاموا بتكريس الحياه كلها بعيدا عن دنيا الناس للتسبيح و العباده . لقد أدرك المسيحيون خلال تجاربهم المريره بطلان هذا العالم و خداع مظهره الخلاب . و اذ عرفوا بأحساسهم الذي أرهفه العذاب أن هنالك ما هو أحق بالجهاد و الأستشهاد من مطالب هذا العالم الكاذب . راحوا يبذلون أنفسهم بمحض رغبه نفوسهم و مشاعرهم و علي هدي ضمائرهم و بصائرهم هاربين من الناس متواريين عن مدائنهم و قراهم الزاخره بالأدناس . منطلقين في الصحاري و البراري أو منزويين تحت سقوف ألأطلال أو كهوف الجبال يحاربون الجسد فيقتربون بالصلاه و الصوم و التأمل و تسامي الروح من ملكوت السموات . و علي هذه الصوره بدأت الرهبنه . فخرج أفراد من ديار اهلهم و يمموا شطر الأكامات و التلال البعيده عن معالم العمران و أنفرد كل منهم وحيدا متعبدا لله في كهف من الكهوف أو تحت سقف من السقوف . لا يؤنس وحدته أنيس و لا يجلس اليه في خلوته جليس . و لا يعاونه علي تدبير أمره رفيق أو صديق . و كان من اوائل أولئك الناسكين المتوحدين في أواخر القرن الثالث القديس الأنبا بولا ثم الأنبا انطونيوس و الأنبا باخوميوس . ثم ظهر في القرن الرابع الأنبا مكاريوس و هؤلاء هم الذين وضعوا أسس الرهبنه و سنوا شرائعها و صاغوا مبادئها و آدابها حتي جعلوا منها أسلوبا ساميا من اساليب الحياه أجتذب اليه الاف النفوس الباره في مصر و في العالم أجمع . حتي لقد أقبل كثير من الأمراء و الحكماء و الفلاسفه الي وادي النيل كي يتتلمذوا علي هؤلاء الرهبان الأوائل و يسلكوا سبيلهم في الحياه . و من أولئك القديس أرسانيوس و قد كان معلم أبناء الملك في روما و أعظم فيلسوف فيها و كان أبوه من كبار رجال البلاط الملكي . و منهم كذلك القديسان مكسيموس و دوماديوس اللذان تركا قصر أبيهما الملك . و أقبلا من القسطنطينيه . و هما في زهره شبابهما كي ينخرطا في سلك الرهبنه . و قد أفنيا حياتهما في الزهد و التقشف والتعبد و الصلاه . و غير أولئك كثيرون من سائر أمم الأرض . و ظلت الرهبنه هكذا تقوم علي التوحد و هو أسمي مراتبها , اذ به يكتمل ما للرهبنه من معني التصوف . و ما لها من صوره التقوي و التقشف و ما ينبغي لها من التجرد و الأنقطاع الي التأمل في حقائق الكون و الأتصال بالله . و كان الــــــنساك في ذلك الوقت يعيشون في الكهوف أو المغارات أو القلالي يبنونها لأنفسهم و يغلقونها علي أنفسهم . فلا يروون الناس و لا يراهم الناس . حتي أقبل القرن الرابع الميلادي و كثر طلاب الترهب و أنطلاق الناس الي البراري و القفار . الا أن النفوس ليست بقادره كلها علي التزام الصبر الشديد علي الوحده المطلقه بما تنطوي عليه من قسوه و أقفار و حرمان . و قد نشأ الناس بغريزتهم ميالين للأجتماع و التعاون علي مطالب الحياه . و من ثم فقد بدات تظهر الحاجه الي جمع شمل الرهبان ممن عجزوا عن حياه الوحده . كي يعيشوا في جماعات تتوافر لها أسباب الأئتناس بالزماله و الجوار و الأمن و السلامه من عداء الوحوش الضاريه و المغيرين من قطاع الطرق و لصوص القفار . فراح الرهبان يبنون قلاليهم في سفوح الجبال متجاوره مع بعضها حتي يخففوا عن أنفسهم حده ما يستشعرون من وحده و أنفراد . و مع الزمن أبتدأ هؤلاء النساك المتجاورون يتعاونون علي أقامه الصلاه و تدبير ما يلزم لهم من شئون حياتهم , و حمايه أنفسهم من ضواري الصحراء و غارات البربر. فقاموا يبنون أسوارا عاليه تضم قلاليهم ( أماكن سكنهم ) و تعزز ما نشأ بينهم من تعاون و موده . و هكذا نشأت فكره الأديره .
و كان أول من نظم جماعات الرهبان هو الأنبا باخوميوس . فكان يقيم لهم الأديره عند اطراف المدن في نواحي الوجه القبلي . و هكذا فعل الأنبا انطونيوس في الجبل الشرقي و الأنبا مكاريوس في الجبل الغربي . و توالت من بعدهم ديار الرهبان . الا أنها ظلت خلال السنين المتواليه في تطور مستمر من حيث بنائها و من حيث النظام السائد بين ساكنيها . فبعد أن كانت قاصره علي القلالي تضمها الأسوار , أصبحت تقام لها أبنيه كامله ذات حجرات متباعدات أو متجاورات . و بعد أن كانت الصلاه فيها انفراديه دائما أصبحت جماعيه في بعض الأوقات . يشترك فيه رهبان الدير جميعا . و قد أصبحت تضمهم لهذا الغرض كنيسه تبني داخل الدير . و بعد أن كان كل راهب مسئولا عن نفسه و غير مسؤل أمام غيره , أصبح يسود الدير نوع من النظام الأجتماعي قوامه التعاون و التواضع و الطاعه من سائر الرهبان لمن أقاموه رئيسا لهم يسهر علي شئون مجتمعهم الصغير . حتي اذا ما أقبل القرن الخامس . كانت الأديره تملأ كل براري مصر و قفارها حتي بلغت الآلاف . و أصبحت تضم عشرات الآلاف من الرهبان المقبلين من كل بقاع الأرض .
لقد كانت حياه الرهبان في الأديره حياه كفاح و حرمان , بيد أنها كانت في ذات الوقت حياه أنتاج و خصوبه . فلم يكونوا يفهمون الرهبنه علي أنها أنقطاع للعباده و المناجاه فحسب , و لا تطلع الي الخير الذاتي وحده . و أن كان هذا الخير متصلا بالروح و انما يفهمونها علي انها رساله ساميه ذات غايه متسعه الأفاق يمتد ظلها فيشمل المجتمع كله و يشمل الزمن كله , لأنهم كانوا يدركون أن فضيله الأنسان باطله ان كان ضياؤها لا يتعدي جدران النفس البشريه و لا ينعكس علي الأنسانيه كلها فيغمرها بنور الحقيقه , و يهديها الي سر الوجود . فلم يكن الراهب اذ يغلق باب الدير علي نفسه أن يقطع صلته بالكون و الكائنات , و انما أن يتخلص من الجانب المظلم في الحياه كي ينكشف أمامه الجانب المضيء . فيري الكون و يري الكائنات علي هداه , فيتأثر بما حواه من أضواء , ثم يجتهد أن يؤثر بدوره في الحياه البشريه , و أن يكسوها مما أكتست به نفسه من بهاء . و من ثم فقد كان ايمان الراهب غير قاصر علي سويداء قلبه . و انما يجتهد أن يشيع بين الناس ما أقتنع به . فكان للراهب الي جانب تعبده لله واجبان مقدسان هما تبشير أهل الدنيا بأسرار الدين . و تلقينهم ما وصلت اليه القرائح من علم . من ثم كانت حياه الراهب موزعه بين الصلاه و الصوم و التعبد من ناحيه , و بين القراءه و البحث و الكتابه من ناحيه أخري . و بذلك وصلت الينا أخبار نسكهم و قداستهم و شده أحتمالهم و طهاره قلوبهم و تفانيهم في ايمانهم و اجتهادهم في مرضاه ربهم و اجهاد أبدانهم في عبادته و تسبيحه و اجلاله
|
|
|
|