|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
عيسو فاقد البركة علم إسحق –ولاشك- بالصفقة بين ولديه، وتبادل مركز البكورية بالقسم بينهما، وكان ولا شك أسبق علماً بالنبوة الخاصة بكليهما، عندما قال الرب لرفقة: "في بطنك أمتان ومن أحشائك يفترق شعبان، شعب يقوى على شعب، وكبير يستعبد لصغير" وكان من الطبيعي –والحالة هكذا- أن يعرف إسحق، من هو صاحب البركة والمستحق لها،.. غير أن إسحق كما أشرنا في الصراع بين عقله وعاطفته، استجاب للنداء العاطفي دون نداء العقل والحكمة والصوت السماوي،.. ولا نستطيع أن نفسر معنى القول: "فارتعد إسحق ارتعاداً عظيماً جداً وقال فمن هو الذي اصطاد صيداً وأتى به إليَّ فأكلت من الكل قبل أن تجيء وباركته. نعم ويكون مباركاً" دون أن ندرك أنه في تلك اللحظة التي صعق فيها بما حدث، ثاب إلى رشده، وأدرك أنه مهما تكن عواطفه فإن مشيئة الله أصدق وأحق وأعظم،.. ولهذا صاح في مواجهة بكره: "نعم ويكون مباركاً".. وهنا صرخ عيسو صرخته المرة الأليمة، وأدرك فداحة ما ضاع منه، ولم تكن صرخته تعبيراً عن التوبة الحقيقية لما أضاع بحماقته واستباحته، أو رجوعاً عن الحياة الملوثة التي يتمرغ فيها، أو اقتراباً إلى الله العلي الذي جهله ونسيه أياماً بلا عدد، بل هي نوع من الإحساس بالخسارة التي يحس بها المجرم إذا سجن، والمريض إذا سقط فريسة مرضه المتولد عن الخطية، أو التلميذ الذي يرسب في الامتحان نتيجة إهماله وعدم مذاكرته، أو ما أشبه، دون أن تتحول إلى تغيير الحياة والنهج والأسلوب، ويكفي أن تسمع أنه كان يصرخ لأبيه أن يعطيه بركة ولو صغيرة إلى جانب ما استأثر به أخوه من بركات جليلة مجيدة عظيمة!!.. ولعله من الملاحظ أن الشراح وهم يفسرون قول كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "فإنكم تعلمون أنه أيضاً بعد ذلك لما أراد أن يرث البركة رفض إذ لم يجد للتوبة مكاناً مع أنه طلبها بدموع ".. اختلفوا في المقصود بالتعبير: "طلبها بدموع" فرد البعض إلى البركة وليس إلى التوبة آخذين القرينة مما جاء في سفر التكوين، إذ لم تكن صرخة عيسو هناك تعبيراً عن توبة، بل كانت حزناً على خسارة وضياع أصاباه بقسوة بالغة فيما لم يكن قد تنبه إليه سابقاً بفطنة أو تأمل أو وعي،.. وهل كانت صخرة فرعون إلى موسى وهرون توبة عندما قال: "أخطأت إلى الرب إلهكما وإليكما، والآن أصفي عن خطيتي هذه المرة فقط".. لقد كانت رعباً من الضربات المتلاحقة، دون أدنى إحساس بالاتجاه الصحيح أمام الله، وهل كانت صيحة شاول بن قيس تعبيراً عن التوبة، عندما قال لصموئيل: "أخطأت لأني تعديت قول الرب وكلامك لأني خفت من الشعب وسمعت لصوتهم" بقدر ما هي أسى وأسف لقضاء الرب الذي حكم به عليه؟.. إن التوبة الصحيحة أمام الله هي التي ينظر الإنسان فيها إلى الإساءة إلى الله ومجده، قبل أن يراه نوعاً من الخسارة البشرية في شيء، ولذلك قال داود معبراً عنها في خطيته الكبرى: "إليك وحدك أخطأت والشر قدام عينيك فعلت".. لكن هذ لم يكن عند عيسو أو معروفاً لديه،.. وقد شجع هذا الشراح الآخرين إلى أن يردوا الكلمة إلى التوبة، ولكنها ليست توبة عيسو، بل هي بالأحرى توبة إسحق التي لم تستطع دموع عيسو أن تغير فكره واتجاهه، بعد أن ارتعد ارتعاداً عظيماً، لأنه أدرك أنه كان موشكاً أن يقع في أقسى خطأ لو أنه أعطى البركة لعيسو، وهي معطاة من الله للابن الآخر الأصغر!!.. وهو إذ يقف من ابنه الصارخ الباكي لا يستجيب على الإطلاق لبكائه ودموعه، إذ كان قد تاب عن الفعل الذي رتب أن يفعله مخالفاً المشيئة الإلهية العالية، ومن ثم نراه يصيح وهو يتمشى وراء هذه المشيئة العظيمة: "نعم ويكون مباركاً".. وأياً كان اتجاه هذا التفسير أو ذاك،.. فإن العلامة الأساسية في كل توبة، هو تحول الاتجاه الكامل عن الماضي، الأمر الذي لم يحدث في حياة عيسو من قرب أو بعد، والذي سار في طريقه البشع إلى النهاية، مما أخرجه تماماً من كل بكورية أو بركة، كانت أساساً له، ثم فقدها بما عاشه من حياة الاستباحة والزنا والبعد المتوالي عن الله في أرض الوثنية والشر!!. |
|