|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
حواء : من هي؟ في أغلب الديانات القديمة، من بابلية، وأشورية، ومصرية، وهندية، ويونانية، نجد ذكرا للمرأة الأولى وزوجها، بصور تقرب أو تبعد عن قصة الكتاب، ولئن لم تبلغ هذه الأقاصيص جمال القصة الأخاذة التي دونها موسى في سفر التكوين، ولئن لم ترق إلى سموها ونقاوتها وبساطتها، فانها مع ذلك تقف شاهداً على اعتراف جميع الأجيال والشعوب بحقيقة شخصيتها، كالأم الأولى التي جاءت منها الأجيال البشرية قاطبة، وأن ما ذهب إليه دارون وأشياعه من أصحاب النشوء والارتقاء، مردود واه ضعيف.. على أننا ونحن نتلمس صفحات الوحي، لا ندحة لنا عن الاعتراف، بأنها شخصية صعبة التحليل، وذلك لأن موسى حين عالج قصتها لم يضعها، قصة تاريخية خالصة أو رمزية خالصة بل وضعها قصة اتشح فيها التاريخ والحقيقة ثوبًا من الأموز، فأنت أذ تقرأ عن المرأة التي بنيت من ضلع رجل، وشجرة معرفة الخير والشر، وشجرة الحياة، والحية المغرية لابد تحس أن هناك معاني كثيرة متعددة تستتر وراء هذه الأسماء والعبارات الرمزية، وأن هذه المعاني تكلفك أشق الجهد وأضناه في سبيل بلوغها، والوصول إليها، أضف إلى ذلك أن موسى وهو يتحدث عنها، لم يقصد أن يرينا من هي حواء، بقدر ما آثر أن يرينا ما رسالتها ولذا نراه يمر مروراً سريعًا على طريقة تكوينها، ليقف بنا فقط عند تجربتها، وأثر هذه التجربة في نفسها وزوجها والكون بأجمعه، وقد سار الناس وراء موسى، فلم يعنوا بالنظر إلى حواء كامرأة، تاريخية لها شخصيتها وطباعها وخصائصها التي تنفرد بها عن غيرها، بل عنوا بالنظر إليها كامرأة رمزية مثالية، تعد عنواناً وصورة للمرأة في كل الأجيال، ومن المؤسف أن كثيرين من الذين اجتهدوا في تحليل شخصيتها الخاصة لم يستطيعوا التخلص مما لصق بأذهانهم من صور عامة عن المرأة، أو بما كان لهم من ظروف خاصة في حياتهم، فهناك مثلاً ذلك التقليد اليهودي الطريف الذي يقول إن حواء أعطت زوجها ليأكل معها حتى يموت لئلا يتزوج بامرأة أخرى تأتي بعدها، وهي محال أن تستريح في قبرها ومعه أخرى تأخذ مكنها، ولا أخال القاريء في حاجة إلى أن يدرك أن هذا التقليد أملاه الشعور العام بما يعتقده الكثيرون عن غيرة المرأة وشدة أنانيتها، وملتون الشاعر الانجليزي الضرير الذي يعد أبدع من كتب عن حواء في الفردوس المفقود والمردود، لماذا يصورها لنا أثرة، متكبرة، شديدة الاعتداد بذاتها؟ أغلب الظن أنه فعل ذلك تحت تأثير الحياة الزوجية المعذبة التي عاناها، لقد كان هذا الشاعر نفسه بائسًا في حياته الزوجية، ولقد ألقت زوجته - وهو لا يدري - ظلا عميقًا عنيفًا على ما كتب. على أننا مع ذلك يمكننا أن نقول، ونحن في أمن من الزلل أن حواء كانت تتمتع بحظوظ ثلاثة : «الجمال، والسذاجة، وقوة العاطفة».. الجمال أما أنها كانت جميلة فهذا مما لا ريب فيه وقد حرص الفن على أن يبرزها دائمًا رائعة الحسن وضاحة الجبين، مشرقة المحيا وما نظن أن صورة واحدة لرسام ما شذت عن ذلك، والتقليد اليهودي يقول إن آدم بهر بجمالها، واستقبلها أحر استقبال، مشدوها صائحًا بالقول : «هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي» وهل يمكن أن تكون غير ذلك، وقد خلقها الله لتكون ختام عمله في الجنة والتاج الذي يضعه على مفرق الرجل.. ان الكلمة بني التي استعملها موسى وهو يصف عملية خلقها كلمة غنية في الأصل بالمعاني التي تشير إلى دقة وروعة وقدرة ونشاط الحكمة الإلهية في إبداعها، لم تكن حواء جميلة فحسب بل كانت، فيما أعتقد آية ونموذجًا للجمال، لم تبلغه امرأة أخرى من بناتها بعدها.... وذلك لأن جمالها خلق قبل أن تعرفه الخطية ويمسخه الشيطان، وما تبقى لها بعد ذلك منه إن هو إلا مسحة رائعة متكسرة تشهد بعظمة تلك الأصول القوية الأولى التي عصف بها السقوط، وهوى بها ما تبعه من أمراض وأوجاع وأحزان ودموع وتعاسة وشقاء وشر وآثم هي المعاول القاسية الهدامة لكل حسن وجمال، ألا ما أفظع الخطية وأبشعها أثرًا في خلقة الإنسان وخلقه، فالخطية أعدى أعداء الجمال، وأشدها تنكيلاً بروعته، وفتتنه وحسنه، ولن يعود الجمال إلى عرشه الضائع، ومجده السليب، ولن يسترد ما ولي عنه من أنوار أخاذة قديمة، حتى تتحرر الأرض من الآثم، وتغسل من الفساد، وتتطهر من الشر، ويقف ذلك الجمع الهائل الذي أبصره الرائي القديم من كل الأمم والقبائل والشعوب والألسنة أمام العرش، وأمام الخروف، متسربلين بثيابهم البيض، وفي أيديهم سعف النخل، حين ترجع حواء وأبنائها وبناتها المخلصون إلى الفردوس الأبدي المردود!! السذاجة كانت حواء اذن من الناحية البدنية ذات جمال كبير، على أنها من الناحية العقلية كانت ساذجة قاصرة غريرة ضيقة التفكير محدودة الإدراك، وقصة عدن فيما اعتقد تشجعنا كثيراً على هذا الاستنتاج، فهي كما وصفها جورج ماثيسون «قصة الطفولة في أدق ما في الكلمة من معنى، طفولة الطبيعة الإنسانية التي لم تلف وراءها السنين الطوال من المعرفة والاختبار والمران والتجربة، الطفولة التي لم تكن قد اشتبكت بعد في نضال الحياة، وجابهت ما فيها من تنوع واختلاف وتلون وصعوبة توقد العقل وتشحذ التفكير».. بدأت حواء حياتها في الجنة وكانت أمامها أيام طويلة، قبل أن تبلغ مرتبة الوعي والإدراك والنضوج الكامل، وما الجنة في الواقع إلا روضتها ومدرستها التي كانت ستستعين بها على النمو والرقي والتقدم الفكري، كما أن المجرب اتجه إليها دون آدم لأنه أدرك أنها أقل فطنة وذكاء وتحذرًا. قوة العاطفة على أن ما فاتها من هذه الناحية قد عوضته في وقدة الشعور وحدة الإحساس والتهاب العاطفة، وأظننا جميعًا نتفق مع ما ذهب إليه أفلاطون وفيلو والكنيسة في العصور الوسطى من أنها تمثل الجانب العاطفي والإحساسي في الرجل وأن منطقها يسكن بين جنبيها، أكثر مما يرتفع إلى عقلها، وأن حجتها تأتي دائمًا من وراء حواسها أكثر منها من وراء النقاش المنطقي العقلي الرتيب، ولقد ورثت بنات حواء عن أمهن هذه الخلة العاطفية وكانت سلاحهن الجبار في الخير أو الشر على حد سواء، فقد استطعن بالضعف والابتسامة والحنان والدموع أن يهززن العالم ويوجهن التاريخ البشري بأكمله على مدى الأجيال!! |
|