|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
تمّ الإعلان عن مشيئة الله بطرق متعدّدة. وحفظ الناسُ شرائعَ الله لأنّها تمثّل إرادته، لكنّهم فسّروها وزادوا عليها حتّى مرّات غابت إرادةُ الله منها وبقيتْ إرادةُ البشر فيها. يقول بولس الرسول إنّه لم يتعلّم البشارة التي يكرز بها من إنسان بل من يسوع مباشرة. وهذا حصل له على أبواب دمشق وفيما يلي عندما صعد مرّات إلى السماء الثالثة وسمع كلمات لا يُنطق بها... إلاّ أنّ الرسل نهلوا كرازتهم مباشرة من يسوع وجهاً لوجه. وهذا ما يميّز تفوّق العهد الجديد على العهد القديم: أنّ الإنجيل يَعلن إرادةَ الله مباشرة دون وساطة البشر. حضور يسوع بالجسد يلغي الوساطات. لا شكّ أنّ غاية عيد الميلاد والتجسّد الإلهيّ هو أن يظهر الله لنا جليّاً، أي أن نعرفه ونراه جيّداً. ولا شكّ أيضاً أنّ الإنجيل بالنسبة لغالبيّتنا يمثّل المصدر الأوّل إن لم يكن الوحيد للتعرّف على الربّ يسوع. لكن حدثَ الميلاد بواقعه يُبطل هذه النظرة. إنّ التجسّد الإلهيّ أهمّ بكثير من "كتاب" العهد الجديد أو العهد القديم! "الله بعدما كلّمَ الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرقٍ مختلفة كلّمنا في هذه الأيّام الأخيرة بابنه..."، بهذه الكلمات يفتتح بولس رسالته للعبرانيّين. ويوحنّا الحبيب يعلن "والكلمة- الله- صار جسداً وحلّ بيننا". لقد جاء الكشف الإلهيّ على مراحل متدرّجة في الوضوح. فكشف الله إرادته وعهده مع البشر عبر الوصايا وأقوال الأنبياء حين استعفى الناس عن تطبيق وصاياه. حتّى في الأيّام الأخيرة أرسل كلمته – الربّ يسوع. يُدعى يسوع "كلمة" الآب لأنّه هو مَن يعبّر عن مشيئة وإرادة الله، وبالشكل المطلق. لقد عبّر يسوع عن مشيئة الله بطريقة أفضل من كلّ الكلام. نحن نؤمن أنّ الله يكشف ذاته لنا في التاريخ ليس فقط بطريق عشر وصايا، كما فعل في العهد القديم. نحن نفهم من الإنجيل ونتعلّم من كلام يسوع وكلام يهوذا ومن اعتراف بطرس ومن نكرانه، من الأحداث المثاليّة ومن بعض الضعفات التي سجّلها الإنجيليّون. لأنّنا نقرأ من الإنجيل محبّة الله ورحمته. هذا هو المعنى الأخير الذي وراء كلّ السطور والكلمات. يتعثّر البعض منّا أكثر في العهد القديم، حين يطالعونه وكأنّه تاريخ للشعب اليهوديّ. عندها سيجدون فيه الكثير من "اللاّ مقبول" في ذلك التاريخ وحتّى في الله عينه. نقرأ ما هو وراء السطور، أي محبّة الله وتدخّله وعمله في التاريخ، هذا التاريخ البشريّ. فالله صالح ولكنّه يعمل في تاريخ بشرٍ خاطئين. لسنا من "أهل الكتاب". لم يُنـزِل اللهُ لنا وصايا جُمعتْ في كتاب لتعرّفنا على مشيئته وتضع ميثاق التعاون معه، حاشى! نحن نؤمن بأكثر من "كتاب" أو "كلمات" بالمعنى الأدبيّ للكلمة. نحن نؤمن بأنّ الله "يكلّمنا" كحدث متواصل وبطرق متعدّدة أوضحها تجسّد "الكلمة" – الربّ يسوع. أخذت الكلمة جسداً من العذراء مريم في شخص المسيح. لكن الكلمة كانت طوال التاريخ البشريّ تأخذ "جسداً" ما - لو سمح التعبير - أي وصلتنا بواسطة أشياء من عالمنا المخلوق، ربّما لوحي حجر أو نبوءةٍ أو رؤية... العنصر البشريّ موجود في كتابنا المقدّس، طبعاً دون أن يؤثّر على الوحيّ الإلهيّ. فالراويات فيه ما يعلّم من خيرها أو شرّها. الكتاب المقدّس هو بالأحرى تسجيل لحوار إلهيّ بشريّ وليس "كلماتٍ منـزلة"- كتاباً. لم يرسل الله لنا وصايا بل خاطب عقلنا وكياننا، وشارك هذا العقل وتلك الضعفات في الحوار لأنّه لا يأتي من فوقها بل يأتي ليغيّرها. نحن نؤمن أنّ ما في الكتاب هو أمور إلهيّة-إنسانيّة. فحيث تغلب كلمةُ الله نتعزّى وعندما تغلب ضعفات البشر نتعلّم ونعتبر. نؤمن بيسوع من كلماته، ومن كلمات سواه، ومن حركاته ومن ضعفات سواه... نؤمن بيسوع المسيح أيضاً مما هو بعد الإنجيل، من حوار القدّيسين معه وحياة الكنيسة وتقليدها. في التاريخ البشريّ هناك تاريخٌ مقدّس، وهو ما يلخّص حوار البشريّة مع الله، بكلمات وسواها. هناك يكلّمنا الله أيضاً. تجسِّدُ الكنيسةُ يسوعَ المسيح كلمةَ الله في التاريخ. مَن لا يحيا في الكنيسة ولو قرأ الإنجيل مرّات ومرّات سيعرف الكثير عن يسوع المسيح ولكنّه سيجهل الأكثر أيضاً. كلّ ميلاد يأتي يحثّنا على التعرّف إلى يسوع المسيح أكثر. ليس من كلمات أو كتاب وحسب، بل في الكنيسة التي تشرح لنا يسوع المسيح إلى الأبد. معرفة يسوع المسيح ليست الاطلاع على روايات عن حياته دوّنتها أربعةُ أناجيل. معرفة يسوع المسيح هي بالأساس محبّته وعشرته، لذلك نعرف يسوع في الكنيسة والأسرار وبتناول الجسد والدم المقدّسَين. الكنيسة ساحة لقاء مع الرب يسوع وليست مدرسة تعليم دينيّ عنه. الكنيسة "خِدْرٌ"، نتّحد به مع يسوع. هناك نعرفه في اللّقاء والمحبّة وليس في "التعليم الدينيّ". هذا الأخير بدون الوصول للأوّل تافه! غاية المسيحيّ على الأرض هي أن يتعرّف إلى وجه يسوع المسيح كلّ يوم أكثر، وهذه هي قيمة الزمن وكرامته. المسيح ليس شريعة بل هو عمانوئيل: "الله معنا" وإلى الأبد في الكنيسة، وهناك نلقاه ونتعرّف به أكثر. الروح القدس يجسّد المسيح في التاريخ في الكنيسة. عندما سأل يسوع تلاميذه الأخصّاء، وذلك بعد ثلاث سنوات متواصلة من الأقوال والأفعال، "ماذا يقول الناس أنّي أنا هو؟" أجاب التلاميذ: البعض يقولون إنّك يوحنّا المعمدان أو النبيّ..." ولكن لما صرخ بطرس: "أنتَ المسيح ابن الله الحيّ" أجابه يسوع: "لا لحم ولا دم كشف لكَ هذا يا بطرس". أي الروح القدس هو مَن كشف لبطرس وليس لحم أو دم ولا كلمات ولا وصايا ولا معارف ولا صفحات من هذا العالم المخلوق. الميلاد ليس قصّة ولادة وحسب، الميلاد دفع جديد لنا لنتحاور بالحياة مع تجسّد المسيح في التاريخ. لقد أرسل الله في الأيّام الأخيرة ابنه الوحيد، لكي نحاوره اليوم وغداً. يكلّمنا الله بيسوع المتجسّد أوضح كلمة ويكلّمنا بقدّيسيه كلمات مثلها بمقدار ما يكون هُم مثله. الكنيسة هي علاقة التاريخ بالله، وبهذا العراك مع التاريخ نعاشر المسيح فنعرفه كلّ يوم أكثر. الميلاد كرواية شيء هامّ، والميلاد كتجسّد دائم هو الأهمّ. الثاني يحتوي الأوّل، والأوّل يشير إلى الثاني. الميلاد كلمة، أي نطق وحوار، إذن يستدعي منّا فهماً وجواباً. لا يترك الميلاد إنساناً في الحياد. كما أنّ كلمة الله تخرج منه ولا تعود فارغة، آمين. المطران بولس يازجي |
|