الحكمة لقداسة البابا شنودة الثالث
نشكر الله الذى منحنا أن نعرف الطريق الروحى الذى يوصلنا إليه. كما وضع لنا علامات الطريق نستدل بها حتى لا نضل. وقد جعل للطريق الروحى خطوات منتظمة. كل واحدة منها توصل إلى الأخرى. والكل يقود خطانا إلى الهدف الوحيد الذى هو الله. فما هى نقطة البدء فى الطريق الروحى؟ إنها مخافة الله حسب قول الوحى الألهى مرتين:
بدء الحكمة مخافة الله (أم 1:9) و رأس الحكمة مخافة الله (مز 10:111)
محبة الله ومخافته
ولكن البعض قد لا يروقهم الحديث عن مخافة الله. وقد أعتادوا أن نكلمهم بأستمرار عن محبته. وفى الواقع أن محبة الله لا تتعارض مطلقا مع مخافته. إنما هى درجة أعلى منها تجتازها ولكن تظل محتفظة بها. تماما مثل تلميذ وصل إلى المرحلة الجامعية وأجتاز مرحلة القراءة والكتابة والحساب، ولكنه لا يزال محتفظآ بهذه المعلومات لا يستغنى عنها. ولكن الذين يهربون من مخافة الله يحتجون بقول القديس يوحنا الرسول "لا خوف فى المحبة. بل المحبة الكاملة تطرح الخوف إلى الخارج" (1 يو 18:4). وللرد على هذا نقول: من منا قد وصل إلى هذه المحبة الكاملة؟! المحبة التى تحب بها الرب من كل قلبك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك (تث 5:6)(متى 37:22) المحبة التى تملك كل مشاعرك حتى ما تعود تحب شيئآ فى العالم موقنآ أن "محبة العالم عداوة لله" (يع 4:4) وأنه "إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب" (1 يو 15:2). هل وصلت إلى هذة الدرجة؟ وهل وصلت إلى الحب الالهى...الذى يجعلك تصلى كل حين ولا تمل (لو 1:18)، بل تصلى بكل عواطفك وأنت فى عمق الحب وعمق التأمل؟... إن وصلت إلى هذه الدرجة فلن تخاف، لأن حبك الكامل لله يطرح الخوف إلى الخارج. إن كنت لا تزال تخطئ وتسقط وتبتعد أحيانآ عن الله، فلا تنسب إلى ذاتك المحبة الكاملة. وإن كنت تفتر أحيانآ فى روحياتك، ولست عميقآ فى صلواتك وتأملاتك، فلا شك أنك لم تصل بعد إلى المحبة الكاملة ويفيدك أن تعيش فى المخافة. وثق أن مخافة الله هى الطريق الذى يوصلك إلى المحبة.إن كنت تخاف الله، فسوف تخاف أن تخطئ لكى لا تتعرض لعقوبة الله ولغضبه.......
وسوف تخاف من السقوط، لأن الخطية تفصلك عن الله وملائكته، وتفصلك عن الملكوت ومجمع القديسين. لذلك فإن مخافة الله تدفعك إلى حفظ الوصايا....وكلما سلكت فى طريق الله، ستشعر يقينآ بلذة فى الحياة الروحية، وتفرح بوصايا الله كمن وجد غنائم كثيرة (مز119). وتفرح بالقائلين لك إلى بيت الرب نذهب وسوف تفرح بهذة الحياة الروحية، وتقول للرب "محبوب هو إسمك يارب فهو طول النهار تلاوتى" (مز97:119). وهكذا تنتقل تدريجيا من المخافة إلى المحبة، ثم تنمو فى المحبة حتى تصل إلى المحبة الكاملة، فيزول الخوف.
إن الله الذى خلق طبيعتنا، والذى يعرف ضعفنا وميلنا للسقوط، كما يعرف قدرة عدونا الشيطان الذى يجول كأسد يزأر ملتمسا من يبتلعه (1 بط 8:5)...إلهنا هذا يعرف تمامآ مقدار الفوائد الروحية التى تكمن فى المخافة، لذلك قدم لنا هذه الفضيلة حتى ننتفع بها، وحتى نتدرج منها إلى المحبة تدرجا طبيعيا سهلآ، ثم ننمو فى المحبة. فما هى الفوائد الروحية لمخافة الله؟
أولآ:هى حصن من السقوط
إنها رادع لنا يمنعنا من أرتكاب الخطية. فإن سقطنا، تكون مخافة الله حافزآ لنا على التوبة.. نقول هذا لأن كثيرين قفزوا إلى محبة الله دون أن يعبروا على مخافته، وأصبح كلامهم كله عن الله المحب العطوف المتأنى، الذى لم يصنع معنا حسب خطايانا ولم يجازينا حسب آثامنا (مز 10:103)....هؤلاء لم يفهموا المحبة فهما سليمآ. ولأنهم لم يتعودا المخافة، قادهم هذا إلى الأستهانة والأستهتار وعدم الأهتمام بالوصية، وبالتالى إلى السقوط. فما هى المحبة إذن؟ إنها ليست مجرد مشاعر. فالرب يقول: من يحبنى يحفظ وصاياى (يو3:14). والقديس يوحنا الرسول الذى قال إن المحبة الكاملة تطرح الخوف إلى خارج، هو نفسه الذى قال فى نفس رسالته "لا نحب بالكلام ولا باللسان بل بالعمل والحق" (1يو18:3)...فما هى هذه المحبة العملية؟ إنه يقول "إن هذه هى محبة الله أن تحفظ وصاياه" (1يو3:5)...طبعا نحفظها عن حب
ولكن هذه درجة عالية، يسبقها أن نحفظ الوصايا عن طريق المخافة...وطبيعة الناس هكذا: لم يولدوا قديسين، بل جاهدوا بمخافة الله، وبالتغصب وقهر النفس، حتى وصلوا إلى المحبة. وهكذا يقول القديس بولس الرسول "مكملين القداسة فى خوف الله" (2كو1:7). أذن كيف نكمل القداسة فى خوف الله؟ وكيف نطيع أيضا القديس بطرس الرسول فى قوله "سيروا زمان غربتكم بخوف" (1بط17:1)....يبدأ الانسان حياته الروحية بالحرص الشديد من السقوط فى الخطية...يخاف من العثرات ومن الأغراءات ومن حروب الشياطين، وغير مغتر بقوته ومقاومته واضعا أمامه قول الرسول"لا تستكبر بل خف" (رو20:11). وهو أيضا يخاف أن يغضب الله، ويضع أمامه قول السيد المسيح له المجد "لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد..بل خافوا بالحرى من الذى يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما فى جهنم" (متى28:10). "نعم من هذا خافوا" (لو5:12). هذا هو الخوف من عقوبة الله، يبدأ به الإنسان، وقد يستمر معه طول الحياة...وقد قال أحد الآباء "أخاف من ثلاثة أوقات: وقت خروج روحى من جسدى، ووقت وقفى أمام منبر الله العادل، ووقت صدور الحكم على".....ولا شك أن هذه الأوقات الثلاثة مخيفة لكل إنسان، إلا للذين عاشوا فى محبة الله الكاملة، وتمتعوا بعشرته المقدسة فى أعماقها، ولم يعد ضميرهم يبكتهم على شئ. أما الذى يخشى أن ينكشف فى حياته شئ يوم تفتح الأسفار، فهذا لابد أن يخاف. والخير أن يخاف الانسان ههنا، من أن يخاف فى يوم الدينونة.....لأنه خوفه ههنا إنما يقوده إلى التوبة وإلى الصلح مع الله إن أراد. أما ذلك الخوف فى يوم الدين، فإنه خوف خرج عن حدود الأرادة البشرية. الخوف ههنا يعطينا حياة الخشوع، وحياة الدموع، ويعطينا الأرادة فى الرجوع. ويكون سياجا لنا فى الطريق حتى لا ننحرف...ونحن نقول فى صلاة الشكر "أمنحنا أن نكمل هذا اليوم المقدس وكل أيام حياتنا، بكل سلام مع مخافتك". عجيب أن أشخاصا يخافون من الناس، ولا يخافون الله....يخافون أن يخطئوا أمام الناس لئلا يصغر قدرهم فى أعينهم. ويخافون أن تنكشف خطاياهم أمام الناس، خوفآ من الفضيحة. ولكنهم مع ذلك يرتكبون أية خطية أمام الله بلا خوف ما دام الأمر فى خفية عن الناس. أنهم يستغلون طيبة الله ومحبته!!! ويستغلون إيمانهم برحمة الله وحنوه وتسامحه ومغفرته وقلبه الواسع الذى غفر للزانية وللناكر، ويقودهم هذا للأسف الشديد إلى التساهل فى كل حقوق الله عليهم! ويعيشون فى حياتهم الروحية بلا جدية وبلا التزام!!....وكأن الله إن كان لا يعاتبنا، ولا يعاقبنا، فلا أهتمام من جانبنا ونصل بهذا إلى اللامبالاة.... إن المحبة الكاملة التى تطرح الخوف هى للقديسين الكبار، وليس للمبتدئين فى التوبة أو المقصريين فى روحياتهم. لذلك عش فى مخافة الله، ولا تقفز قفزآ إلى المحبة، بطريقة نظرية تدعى فيها ما ليس لك..ولا تحتقر مخافة الله كدرجة بسيطة لا تصلح لك!! إنما ثق تماما أنك إذا كنت أمينآ فى القليل الذى هو المخافة فسيقيمك الله على الكثير الذى هو المحبة.إذن سر فى حياتك الروحية بنظام يوصلك إلى الله. وبخطوة سليمة تقودك إلى خطوة أخرى بطريقة عملية.دون أشتهاء لمظهرية لها صورة الروحانية ولا توصلك!! إن قمة الحياة الروحية هى حقآ المحبة الكاملة. ولكنك لا تبدأ بالقمة، إبدأ بالمخافة حينئذ تصل إلى القمة دون أن تعثر، وبخاصة فى هذا الجيل المستهتر الذى كثرت فيه الخطية والذى كثرت فيه الشكوك والعثرات، والذى يوجد فيه من ينكرون وجود الله ومن يجدفون عليه...ومن ينتقدون وصاياه ويسخرون ببعضها، ويتذمرون على الله أحيانا ويخاصمونه!!!. الذى فيه مخافة الله يتقدم كل يوم لأنه يخاف عدم الوصول إلى هدفه. أما الذى ليست فيه مخافة الله فإنه ينحدر كل يوم إلى أسفل. الذى يخاف الله يرى طريق الكمال طويلا جدآ أمامه: فيحاول بكل جهد أن يصل. مثل تلميذ يجد أمامه مقررآ طويلآ لم يحصل منه عشره، فيخاف أن يدركه الامتحان دون أن ينتهى منه ويدفعه الخوف إلى مزيد من الجهد. ونحن أمامنا منهج روحى طويل، يتلخص فى كلمتين القداسة والكمال، قال لنا الرب "كونوا أنتم كاملين، كما أن أباكم الذى فى السموات هو كامل" (متى48:5) وقال أيضا "كونوا قديسين" ...فمن منا وصل إلى هذا المستوى؟؟ لذلك نخاف أن يدركنا الموت ولم نصل، ويدفعنا الخوف إلى الجهاد....لماذا إذن لا نسلك فى مخافة الله؟ هناك أسباب نذكر منها:
لا يخاف الإنسان الذى لم يفحص ذاته بعد، ولم يعرف حقيقته وماضيه، وخطاياه وضعفاته. ولم يعرف المستوى الروحى المطلوب منه، وما يلزمه من سعى ومن جهد...كذلك لا يخاف الذى لا يضع الدينونة أمام عينيه، لذلك تذكرنا الكنيسة بهذه الحقيقة كل يوم فى قطع صلاة النوم، وفى قطع صلاة نصف الليل، حتى نستيقظ من غفلتنا فى الحياة....كذلك لا يخاف الإنسان الذى تجرفه دوامة العالم فلا يعلم أين هو؟! يلفه العالم فى طياته، ويغرقه فى لججه، ويجره فى مشغوليات لا تحصى بحيث لا يبقى له وقتآ يفكر فيه فى مصيره، أو وقتآ يفكر فيه فى روحياته.وقد يقع فى عدم المخافة، لأن الأوساط الخارجية التى تؤثر عليه ليست فيها مخافة الله فتساعده على السير بنفس الأسلوب. والذى لم يصل إلى المخافة بعد، كيف يمكنه أن يصل إلى المحبة؟؟بل وكيف يمكنه أن يصل إلى المحبة الكاملة التى تطرح الخوف إلى الخارج؟؟
أننا لا نخاف لأننا لا نضع الله أمام أعيننا، فننساه وننسى وصاياه كما قال المزمور عن الخطاة
"لم يسبقوا أن يجعلوا الله أمامهم". وكذلك لأننا نفكر فى العالم الحاضر...ولا نفكر مطلقا فى العالم الآخر وفى الدينونة. لذلك حسنآ قال الكتاب إن القديس بولس الرسول لما تكلم عن البر والدينونة والتعفف، أرتعب فيلكس الوالى (أع25:24). كذلك نصل إلى مخافة الله إن تذكرنا قول الرب لكل واحد من رعاة كنائس آسيا "أنا عارف أعمالك" (رؤ2،3). هذه كلها أسباب تمنع المخافة. ولكن هناك تداريب تساعدنا على أقتناء مخافة الله: حاول أن تخاف الله، على الأقل كما تخاف الناس. الشئ الذى تخاف أن تعمله أمام الناس لا تعمله أمام الله. والفكر الذى تخاف أن يعرفه الناس أو تخاف أن ينكشف عندما تفيق من التخدير، هذا لا تفكر فيه أمام الله الذى يقرأ كل أفكارك ويفحصها. وأعلم أن كل أفكارك ستنكشف أمام الخليقة كلها فى اليوم الأخير، إلا التى تبت عنها ومحيت. والخطايا الخفية التى تخجل من أرتكابها أمام الناس، فتعملها فى الظلام، حاول أن تخجل منها أمام الله الذى يراها. لتكن لله هيبة تجعلك تستحى منه ومن أرتكاب الخطية أمامه....أتخاف الناس، ولا تخاف الله الذى خلق هؤلاء الناس من تراب. لهذا اسلك أمام الله فى أستحياء، وأعرف أنه ينظرك ويسمعك فى كل ما تفعله. كذلك أحتفظ بهيبة كل ما يتعلق بالله وكل ما يخصه. قف فى صلاتك بكل توقير وخشوع لكى تدخل مخافة الله فى قلبك...وتذكر أنك تقف بأحترام أمام رؤسائك. فكيف لا تكون كذلك أمام الله أيضا. أعط هيبة لكتاب الله: فلا تضع شيئا فوقه، ولا تطالعه بغير أحترام، وتذكر أن الشماس يصيح فى الكنيسة قائلا "قفوا بخوف من الله وأنصتوا لسماع الأنجيل المقدس". وأن كنت تهاب كلام الله، فسوف تهاب الله نفسه. أستح من ملائكة الله القديسين الذين حولك، يرونك ويسمعونك. وأعرف أن أخطاءك البشعة تفصلك عن عشرة الملائكة فينصرفون عنك، ويتركونك إلى أعدائك المحاربين لك. وعليك أن تخاف من هذا جدآ. كذلك أستح من أرواح القديسين الذين يرونك فى الخطية، هم وأرواح معارفك، وأصدقائك بل وأعدائك الذين أنتقلوا.....أسلك فى مخافة الله لتصل إلى محبته. وتذكر قول الرسول "أحبوا الأخوة..خافوا الله" (1 بط17:2). وقول الملاك فى سفر الرؤيا "خافوا الله، وأعطوه مجدآ" (رؤ14). وأعلم أن مخافة الله موجودة فى العهد الجديد، كما فى العهد القديم. ومحبة الله موجودة فى العهد القديم كما فى العهد الجديد