قداسة البابا تواضروس الثاني
مقال لقداسة البابا تواضروس الثاني في مجلة الكرازة أغلي هدية
رغم أن الحب أسمى عاطفة إنسانية وأعظمها إلا أن علماء الاجتماع يصفون خمس لغات فقط للحب منها: تقديم الهدايا- الوقت- الحوار-… إلخ.
وإذا بحثنا عن أغلى هدية يمكن لإنسان أن يقدمها لإنسان آخر تكون بالضرورة هي:
“الوقت” Time
ويقولون أن الإنسان يحتاج ثلاثة أمور تبدأ بحرف T في اللغة الإنجليزية وهي:
Talk (الحديث)
وTime (الوقت)
وTouch (اللمسة الرقيقة)
ويكون الوقت هو بمثابة الوعاء الذي نملأه بالكلام الحقيقي والمشاعر الصادقة والأفعال المعبرة.
قرأت عن قصة تحكي أن رجل أعمال ثري أراد أن يقدم هدية لزوجته في عيد زواجهما العشرين، فأحضر لها خاتمًا ثمينًا قيمته مليون دولار، وجاء وقدمه لها واثقًا أنها ستفرح بذلك جدًا.. ولكن لدهشته أخذت الخاتم ونحته جانبًا ولم تبد أية سعادة به.. فغضب الزوج وذهب يشكيها للأب الكاهن.. الذي أراد أن يستفسر منها عن سبب تصرفها هذا؟! فأجابت: إنني أريده هو –زوجها- بدلاً من الخاتم، لأنه مشغول عنها جدًا، ولا يمنحها أي وقت للمشاركة والتواجد معها، وكأنه متزوج العمل الذي يمنحه كل الوقت ويحرم زوجته حتى من دقائق معدودة.
إن هدية الوقت لا تقدر بالمال ولا يمكن أن تستعوض بأي شيء آخر.
والمدهش أن الله يمنح كل إنسان 24 ساعة بالتمام والكمال كل يوم في مساواة عجيبة بين جميع البشر في أي مكان. ويكون السؤال أمام كل إنسان هو كيف يستغل هذه الأربعة وعشرين ساعة كل يوم وكيف ينفقها سلبًا أو إيجابًا؟!
ماذا تقدم منها لأسرتك: زوجتك أو زوجك.. ابنك أو بنتك؟ وماذا تقدم منها لأحبائك في محيط حياتك ومجتمعك؟!
أولاً: التركيز على شيء واحد، بمعنى إذا أردت أن تعبر عن حبك لابنك فاجلس معه فترة كافية دون أن تنشغل بأي شيء آخر مهما كان، وبذلك تصل رسالة حبك له صافية وكافية، حيث تمنحه من وقتك وعمرك وفكرك ومشاعرك بصورة صادقة جدًا.
ثانيًا: تخلص من الأشياء الغير مهمة، والتي تستهلك وقتك أو بالأصح تسرق دقائق وساعات من وقتك الثمين بلا ضرورة أو منفعة، مثل مكالمات التليفون الزائدة والطويلة أو الجلوس ساعات وساعات من أجل التصفح على مواقع التواصل الاجتماعي دون البحث عن شيء معين، أو فترات النوم في كسل وخمول…إلخ.
ثالثًا: من المفيد أن تحدد في كل ليلة ما سوف تصنعه في الغد، بمعنى كتابة قائمة بكل المهمات التي تريد أن تنفذها في ذلك اليوم. طبعًا تجنب المهام الروتينية التي تصنعها يوميًا لأنها متكررة ولا حاجة أن تذكر نفسك بها. وهذا الأمر نسميه التخطيط، الذي يفترض ألا يأخذ الكثير من وقتك. وبالطبع تجنب التأجيل الذي يضاعف عليك ثقل الأمور والمهمات التي على عاتقك أن تنفذها.
رابعًا: كن متوازنًا في توزيع وقتك، إن عملك أو خدمتك يحتاج وقتًا طويلاً منك. ولكن أسرتك وكل فرد فيها يحتاج وقتًا خاصًا به، فلا تهمل هذا التوازن وهو مسؤوليتك الأولى لكي ما تشعر أنت بدفء الحياة الأسرية وحلاوة تربية أبنائك ومشاركتهم مراحل نموهم وتطلعهم للحياة بكل أبعادها. إنك إذا أعطيت شيئًا أو شخصًا من وقتك سوف تجد نتائجه بالقدر الذي منحته سابقًا… إن معظم مشكلات الأسرة تعود إلى عدم تقديم الوقت الكافي، سواء في العبادة والتواصل مع الله وجعل أوقات مقدسة في الصلاة والإنجيل والخدمة، أو في التواجد معًا والمشاركة معًا بين أفراد الأسرة. صار الانشغال الشديد والواسع كل يوم عند الأسرة سببًا في التفكك وانهيار الروابط الأسرية والبعد عن المبادئ والقيم العائلية والتي عاشت فيها البشرية أجيال وأجيال…
خامسًا: من المناسب أن تغير طريقتك في إنفاق وقتك، وأن تعرف كم هو ثمين وعظيم، خاصة عندما تمنحه لمن يستحق كهدية غالية لا تقدر بثمن ولا يمكن تعويضها. بعض الأعمال في حياتك اليومية مهمة وعاجلة ولكن بعضها أيضًا مهمة وغير عاجلة. وفي المقابل هناك أعمال غير عاجلة وغير مهمة وهي سببًا في الوقت المهدور والمجهود الضائع ولذا حاول الانتباه لها وتخلص منها.
سادسًا: استخدم أسلوب التعويض، بعض أيام العمل أو الخدمة ثقيلة ومشحونة بعمل كثير أو خدمات عديدة وهناك أيام أخرى خفيفة أو محدودة في ما تطلبه من وقت.. حاول أن تعوض انشغالك في أيام محددة بفرص أخرى تعوض بها تقصيرك في مسؤولياتك تجاه أسرتك أو حياتك الخاصة وقانونك الروحي والشبع النفسي والروحي مع الشبع الاجتماعي والجسدي. استفد من أخطاء الماضي وتجاهل أي معوقات وليكن شعارك “لْيَكُنْ كُلُّ شَيْءٍ بِلِيَاقَةٍ وَبِحَسَبِ تَرْتِيبٍ” (1كورنثوس 14: 40).
أنا شخصيًا أحاول تنظيم وقتي وسط كل مسؤولياتي العديدة بتقسيم اليوم إلى نصفين: الأول من 11 صباحًا إلى 11 مساءً أكون مع الناس في مقابلات واجتماعات وزيارات وخدمات عديدة، والنصف الثاني من 11 مساءً إلى 11 صباحًا أكون مع الله في صلوات وقراءات وتحضير وتفكير وكتابات وهدوء. بمعنى آخر النصف الأول وقت عام والنصف الثاني وقت خاص. وأشعر دائمًا أن جدول مواعيدي مع الناس هو تقديم هدية الوقت لهم وتعبير عن الحب الذي يكنه قلبي نحوهم. وأشعر بسعادة بالغة خاصة عندما أجلس مع الصغار وأتحاور معهم وأحكي لهم وأتعلم منهم ومن براءتهم.
هدية الوقت هدية غالية جدًا
حتى أن القديس بولس الرسول يعبر عنها:
“انْظُرُوا كَيْفَ تَسْلُكُونَ بِالتَّدْقِيقِ،
لاَ كَجُهَلاَءَ بَلْ كَحُكَمَاءَ،
مُفْتَدِينَ الْوَقْتَ لأَنَّ الأَيَّامَ شِرِّيرَةٌ”
(أفسس 5: 15، 16)،
وهو بذلك يجعل استخدام الوقت
بصورة صحيحة هو شكل من الحكمة
أما إضاعة الوقت فهو الجهل بعينه.