|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
دور بولس في تكوين أوغسطين اللاهوتيّ يكفي أن نعدِّد عناوين أولى مقالات أوغسطين التأويليَّة، لنلاحظ المكانة التي تحتلُّها الرسائل البولسيَّة. فبين سنة 394 وسنة 396، شرح أوغسطين ثلاث مرَّات الرسالة إلى رومة بشكل جزئيّ. وشرح الرسالة إلى غلاطية كلَّها، وردَّ على أسئلة إخوته حول نصوص بولسيَّة متنوِّعة في 83 أسئلة مختلفة(23). ونحن نعرف أنَّه قبل أن يكتب عَرْضَ الرسالة إلى غلاطية(24)، قرأ شرح جيروم لهذه الرسالة، كما عاد، على ما يبدو، إلى شرح ماريوس فكتورينوس (حاشية 1). ووُجدت نقاط اتِّصال بين الإمبروسياستر (حاشية 2) وعرض بعض الأمور من الرسالة إلى رومة(25)، ولاسيَّما في النظرة إلى معرفة الله المسبقة(26). غير أنَّ أوغسطين لبث حرٌّا بالنسبة إلى مراجعه، ولاسيَّما في تفسير بولس. ولا بدَّ أيضًا من الأخذ بعين الاعتبار تأثير قاعدة تيكونيوس الثالثة(27) »المواعيد والشريعة« التي نستشفُّ آثارها في تدوين الكتاب الأوَّل إلى سمبليسيانوس (حاشية 21). فهذه الدراسة المعمَّقة لبولس دلَّت على اهتمام التكوين اللاهوتيّ عند أوغسطين(28) كما نفهمها في اهتمام راعويّ (ردود إلى إخوته) وضرورة تجاوز التفسير المانويّ لبولس. أ - تفسير الرسالة إلى رومة أكثر رسالة شرحها بولس هي الرسالة إلى رومة. فإلى رومة تشرح مطوَّلاً ف 7-8، ولكنَّه يترك جانبًا آيات هامَّة مثل 1: 17؛ 3: 21-28 ثمَّ 5: 12. أمّا العرض المرسوم للرسالة إلى الرومان(29) فتوقَّف عند 1: 7. والأسئلة 66-67، 68 (حاشية 22) فعالجت على التوالي 6: 1-8: 11؛ 8: 14-24؛ 9: 20. وأخيرًا إلى سمبليسيانوس عاد أيضًا إلى 7: 7-25 و9: 10-29 ليردَّ على أسئلة سمبليسيانوس. هذه الخيارات تدلُّ على المسائل اللاهوتيَّة التي تهمُّ أوغسطين، ولكنَّها لا تشرح لماذا لم يحاول أوغسطين أن يُدرك بشكل إجماليٍّ نظرة بولس في الرسالة إلى رومة كما تدلُّ بداية رسالة رومة. فالمنظار الأنتيمانويُّ حاضر جدٌّا ولاسيَّما في إلى رومة حيث يسعى أوغسطين لكي يردَّ على الذين يعتبرون أنَّ بولس يشجب الشريعة أو يدمِّر حرِّيَّة القرار. إنَّه يميِّز، في هذا المجال، بمناسبة تفسير 3: 20، أربع درجات(30) من أجل الإنسان بشكل عامٍّ، فتشكِّل إطار تفسير لمجمل الرسالة: قبل الشريعة، تحت الشريعة، تحت النعمة، في السلام(31). قبل الشريعة، تبع الإنسان شهوة(32) اللحم (والدم)، وما حاربها. تحت الشريعة، حاربَ ولكنَّه قُهر بعد أن جرَّته الشهوة وهو عالم أنَّ ما يعمله شرّ. وهذا ما قاده إلى أن يطلب »نعمة المحرِّر« الذي يمنحه بأن لا يخضع بعدُ للرغبات الخاطئة. وأخيرًا، تزول الشهوة اللحميَّة في السلام. تصوَّر أوغسطين تاريخ الخلاص على أنَّه كلٌّ متكامل، فدافع هكذا عن قيمة العهد القديم ضدَّ المانويِّين. وفُهمت متتالية الشريعة والنعمة بشكل متزايدة، بحسب النصِّ البولسيّ: فوظيفة الشريعة أن تدلَّ على الخطيئة لا أن تلغيها. فالنعمة تمنح الحياة وتجعل الإنسان روحانيٌّا، وبالتالي قادرًا على تتميم الشريعة. وشدَّد سمبليسيانوس على وظيفة الشريعة مبيِّنًا أنَّها تقود إلى العيش في تعارض بين علمَ وأرادَ، وتبيِّن أنَّ الإنسان عاجز عن العمل بحسب الشريعة. وإن اهتمَّ أوغسطين بأن يدافع عن الشريعة ضدَّ المانويِّين، فقد أراد أيضًا أن يبيِّن ضدَّهم أنَّ بولس لا يلغي القرار الحرّ. »فتحْتَ الشريعةِ« يبدو القرار الحرُّ محدودًا، لأنَّه إذا كان للإنسان الإرادة بأن لا يخطأ، فلا سلطة له. ولكن بحسب إلى رومة يستطيع »في قراره الحرِّ أن يؤمن بالمحرِّر وينال النعمة«. ويتكرَّر هذا الإعلان في روم 9: يرتبط الاختيار الإلهيُّ بقبمعرفة الإيمان المقبل لدى الإنسان. فنداء الله يسبق فعل الإيمان، غير أنَّ الإرادة الحرَّة التي بها يقرِّر الإنسان مع نداء الله أو ضدَّه، هي حاسمة. و»تستحقُّ« أن تتقبَّل الروح القدس. مقابل هذا، في السؤال الثاني من الكتاب الأوَّل إلى سمبليسيانوس، رفض أوغسطين أن ترتبط النعمة باستحقاق الإنسان. ومع ذلك، فهو لا يشكِّك بالقرار الحرِّ، ويبيِّن حين يشرح رو 9 أنَّه إن سبقتنا رحمةُ الله ومنحتنا الإرادة، فأن نريد يكون من الله ومنّا في الوقت عينه. ولكن لكي يسند أوغسطين خيار الله المجّانيَ مستبعدًا كلَّ جور من عند الله، أكَّد أنَّ جميع البشر يستحقُّون بعدلٍ أن يُحكم عليهم وأنَّهم لا يُفلتون من هذا الحكم إلاَّ بفضل رحمة الله. وهكذا أتاحت لأوغسطين الدراسة المعمَّقة للرسالة إلى رومة وخصوصًا ف 7-9، أن يعمِّق نظرته إلى النعمة: هي تستبق كلَّ استحقاق لدى الإنسان. فلا يمكن أن تنفصل عن التحرير بالمسيح (رو 7: 24-25)، فتدلَّ على العبور من مرحلة »تحت الشريعة« إلى مرحلة »تحت النعمة«) وتشكِّل وحدة مع موهبة الروح. فالأسئلة اللاهوتيَّة التي كانت أسئلة أوغسطين، قادته لأن يطبِّق، بدون حقٍّ، على خلاص كلِّ إنسان كلام رو 9 الذي دلَّ على اختيار اليهود والأمم. ب - شرح الرسالة إلى غلاطية في إلى غلاطية، اهتمَّ أوغسطين بأن يوضح السياق التاريخيَّ للرسالة، وهدفَه الذي قابله بهدف الرسالة إلى رومة. فكما في إلى رومة، تضمَّن هذا التفسيرُ ملاحظات أنتيمانويَّة، ولكن بدا المرمى أوسع: نحسُّ باهتمامات أوغسطين الراعويَّة، وهو يرغب بأن يكوِّن إخوته ويصلح كنيسة أفريقيا، التي كانت مقسومة بفعل جدال الدوناتيِّين (رفضوا قبول التائبين الذين خافوا من الاضطهاد...)، ومتشرِّبة بعدُ من عادات وثنيَّة مثل اللجوء إلى التنجيم. وصورة بولس التي نكتشفها في هذا التفسير، هي صورة مؤسِّس جماعات مسيحيَّة، يعلن الإنجيل، ويدافع عن الحقيقة ضدَّ الذين يرتابون بها، ويعلن أنَّ المؤمنين الآتين من الأمم هم أيضًا أبناء إبراهيم، ويسعى أخيرًا ليشفي الشقاقات ويحافظ على الوحدة في المسيح. وحادثة أنطاكية مهمَّة من هذا القبيل. كان أوغسطين ضدَّ جيروم، فدافع عن عصمة الكتاب المقدَّس وأعلن أنَّ بولس لم يكذب. وهكذا برَّر بولسَ، لأنَّه لام بطرس أمام جميع المؤمنين إذ رآه يعود إلى العالم اليهوديّ: »ما كان مفيدًا أن يوبِّخ سرٌّا ضلالاً يُسيء جهرًا«. غير أنَّ أوغسطين شدَّد أيضًا على »مثال التواضع العظيم« الذي قدَّمه بطرس حين قبل الإصلاح الأخويَّ من بولس. وبالنسبة إلى 6: 1، عاد أوغسطين إلى واجب الإصلاح الأخويِّ وإلى طريقة ممارسته. فالتواضع، الذي هو أوَّلاً تواضع المسيح، هو القاعدة الكبرى في النظام المسيحيّ. فبه »تُحفظ المحبَّة«. فالتواضع هو »موهبة الروح الأولى والعظمى« التي تتيح للمؤمن أن يتجنَّب المنازعة والحسد. وهكذا نفهم بسهولة اهتمام أوغسطين بالرسالة إلى غلاطية: ما وجد فيها فقط تعليمًا نظريٌّا حول الشريعة، بل اكتشف فيها أيضًا مثالاً للمسؤول في الجماعة الكنسيَّة. ج- الأسئلة 83 المختلفة يفسِّر هذا الكتاب بعض النصوص البولسيَّة المهمَّة بالنسبة إلى الكرستولوجيّا (حول يسوع المسيح) والأنتروبولوجيا (حول الإنسان). إذا وجب على الابن نفسه أن يكون »خاضعًا لمن أخضع له كلَّ شيء« (1 كو 15: 28)، فهل نظنُّ أنَّ الابن ليس مساويًا للآب؟ وكيف نفهم لفظ »شكل« habitus في فل 2: 7: »في منظره عُرف كإنسان«. أو: في أيِّ معنى يُقال: »صورة الله اللامنظور« (كو 1: 15)؟ هذه الأسئلة هي مناسبة لأوغسطين بأن يؤكِّد في الوقت عينه مساواة الابن مع الآب، وواقع التجسُّد. والسؤال 69 المكرَّس لما في 1 كو 15: 20-28، يعلن أوَّلاً قاعدة الإيمان الكاثوليكيِّ regula fidei catholicae، التي بحسبها تعلن النصوص دُنوَّ الابن بالنسبة إلى الآب، يجب أن تُفهم مرارًا عن الابن في تجسُّده. والنصوص التي تُعلن أنَّه مساوٍ للآب تعني لاهوته: نحن نجد القولين في فل 2: 6 و2: 7. ولكن ينبغي أن نضيف أنَّ الابن هو غير الآب. فالذي هو مولود غير ذاك الذي يَلد. والصورة أيضًا (كو 1: 15) هي غير ذاك الذي هو صورته: فالآيات التي تعبِّر عن »صفات الأشخاص« (أو: الأقانيم) لا تؤثِّر على المساواة فيما بينهم. عندئذٍ نستطيع أن نفهم في أيِّ معنى ينبغي على المسيح أن »يملك إلى أن يجعل كلَّ أعدائه تحت قدميه« (1 كو 15: 25): فبالنظر إلى تجسُّده وحاشه (أو: آلامه)، هو »يملك الآن في المؤمنين باتِّضاعه، بعد أن أخذ صورة العبد«، ودمار كلِّ رئاسة وكلِّ قوَّة يحصل »بالتواضع والصبر والضعف«. ولكن حين يُقال أنَّ كلَّ شيء أُخضع له »ما عدا ذاك الذي أخضع له كلَّ شيء« (1 كو 15: 27)، فهذا يقال عنه »بالنظر إلى المبدأ الذي منه ينبثق«، »من حيث إنَّه صورته التي فيها يسكن كلُّ ملء الألوهة« (كو 1: 15؛ 2: 9). وأخيرًا، يتساءل أوغسطين إذا كانت آ28 (1 كو 15) تنطبق فقط على المسيح بما أنَّه رأس الكنيسة، أو على »المسيح الكامل الذي يضمُّ الجسد والأعضاء«. ويستخلص مبرهنًا انطلاقًا من غل 3: 16، 28-29؛ 1 كو 12: 12، 29 أنَّ الإعلان ينطبق على المسيح الكامل. والسؤال 73 الذي يتطرَّق إلى فل 2: 7 يميِّز معنى لفظ شكل habitus، ويستبعد ما يتضمَّن تبدُّلاً في اللاهوت أو في الناسوت. والسؤال 74 المكرَّس إلى كو 1: 14-15 هو توضيح مضمون ألفاظ صورة imago مساواة aequalitas شبه similitudo. وفي النهاية يستنتج أوغسطين: الابن ليس »فقط صورة الله لأنَّه يصدر عنه، وشبهه لأنَّه صورة، ولكنَّه أيضًا مساوٍ له بحيث لا يُوجَد تقييد مسافة زمنيَّة«. هذا التحديد هو حاسم بالنسبة إلى الأنتروبولوجيا: ففي السؤال 51، وبحسب التقليد الآبائيّ، شرح أوغسطين: »أن يكون الإنسان صورة الله ومثاله، ]...[ غير أن يكون على صورة الله ومثاله«: فالتعبير الأوَّل يعني الابن. والثاني يعني الإنسان المخلوق. في النصوص اللاحقة، تخلَّى أوغسطين عن هذا التمييز واعتبر أنَّه أمر شرعيٌّ بأن نقول إنَّ الإنسان هو صورة الله. ففكرة المساواة التي ربطها السؤال 74 مع فكرتي العودة والمثال، جعلت مثل هذا القول ممكنًا لأنَّها قدَّمت وسيلة تعبير أخرى عن المسافة التي تفصل الإنسان عن ابن الله. ونستطيع أن نفترض أيضًا أنَّ قراءة 1 كو 11: 7 (الإنسان هو صورة ومجد الله) الذي أورده أوغسطين ليسند طريقته في الكلام على الثالوث، لم تكن غريبة عن هذا التبدُّل في الألفاظ(33). ونلاحظ أيضًا أهمِّيَّة الأنتروبولوجيا البولسيَّة في صياغة فكر أوغسطين، في تلك الحقبة: فاستعمل في السؤال 51، وفي الوقت عينه، التمييز بين الإنسان الخارجيِّ والإنسان الباطنيِّ (2 كو 4: 16)، والتمييز بين الإنسان القديم والإنسان الجديد (كو 3: 9-10)، والتمييز بين آدم الأوَّل وآدم الثاني (1 كو 15: 45-49). وميَّز في خطِّ بولس، من جهة، القيامة وتجديد الإنسان الباطنيِّ وهذا ما يتمُّ بموت الحياة السابقة موت الخطيئة، وبولادة إلى حياة جديدة، حياة البرّ. ومن جهة ثانية، القيامة المقبلة للإنسان الخارجيّ. مثل هذا التمييز يبقى ثابتة من ثوابت فكر أوغسطين. |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
بولس في طريقة التفسير عند أوغسطين |
دور بولس في اهتداء القدِّيس أوغسطين |
القدِّيس أوغسطين تلميذ بولس الرسول |
بولس اللاهوتيّ |
بولس والمنطق اللاهوتيّ |