|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
يمثّل ضياع الابن الأصغر مكانة الخاطئين من شعب الله، ولا يبرّر المثل هذا الضياع ولا يقلّل من موقف الخطيئة الّذي سبّبه. على عكس مثل الدرهم الضائع ومثل الخروف الضائع، ليس ضياع الابن الأصغر اتّفاقًا ولا يجعل منه ضحيّة. ما يشدّد عليه المثل هو أنّ الضائع الخاطئ لا يزال ابنًا، بل يستعيد بنوّته حين يعود إلى بيت أبيه. ما من بحثٍ عن الضائع الأصغر في النصّ، فالأب لا يترك ابنه الأكبر ليبحث عن الأصغر، بل لا يمنع صغيره من أن يستبق موته فيطلب حظّه من الميراث وأبوه حيّ. ولكن حين يعود الضائع يفرح الأب بابن كان ضائعًا فوُجد، وكان ميتًا فعاش. ويصف المثل لقيا الأب بالابن بكلمات مؤثّرة، حيث تتحرّك أحشاء الأب بالرحمة، كما لو أنّه يلد ابنه من جديد من رحمٍ يجعل منه أبًا وأمًّا معًا، ويناقض خجل الابن بإعادة علامات الكرامة البنويّة وبالاحتفال. وأمّا تزمّت الكتبة والفرّيسيّين فيمثّله موقف الابن الأكبر الّذي لا يعصي لأبيه أمرًا، لكنّه غير قادر على الاحتفال بعودة أخيه. بهذا الموقف يصير الابن الأكبر هو الضائع، الناقص في الاحتفال. مع هذا الوضع الجديد يأتي البحث عن الضائع. فالأب الّذي لم يترك البيت من أجل أصغره، يترك الاحتفال والخلّان، ويخرج ليجدّ في إثر من أضاع. هو الّذي لم يناقش ابنه الأصغر في شأن ترك البيت يتوسّل إلى بكره أن يفرح معه. وهكذا تنقلب المعادلة بين من هو في البيت ومن هو في خارجه، وكأنّ مجيء الخطأة إلى يسوع هو دعوة موجّهة إلى الكتبة والفرّيسيّين ليعزفوا عن قساوة قلوبهم وينضمّوا إلى احتفال الرحمة الّذي يبهج السماء. لا يعذر المثل أيًّا من الابنين على قساوة قلبه، ولا يخفّف من حدّة التناقض بين تلك القسوة ورحمة الأب. ولكنّه يشير بوضوح إلى أنّ كرامة الابن لا تنتقص بدخوله في قساوة القلب. ومع أنّه يختارها ولا تقع عليه (أقلّه كما تجري القصّة)، إلاّ أنّ الأب يشبّه قرار ابنه بالضياع والموت، وعودته بقبول أن يولد من جديد فيحيا من جديد. فالابن الأصغر قاسٍ كلّ القساوة إذ يستبق موت أبيه، وكأنّه يأنف من أن يبقى الابن، ويظنّ السعادة في أن يكون هو الأب. لأنّه يرى في الأبوّة الحرّيّة في التصرّف والتملّك قبل أن يرى فيها الرحمة وآلام المخاض. وحين ينكشف له أنّه غير مؤهّل بعد أن يكون أبًا يظنّ أنّه غير مقبول أن يبقى حتّى ابنًا، فيطلب أن يكون أجيرًا لدى أبيه. في الواقع عدم أهليّته ليكون أبًا يأتي من عدم فهمه للأبوّة. فهو حتّى في توبته يرى أولويّة المقتنيات على العلاقات، فميراثه البنويّ قد ضاع، وما تبقّى هو حقّ لأخيه وليس له. وتظهر رحمة الأب بأنّه يضع العلاقات فوق المقتنيات، فليست البنوّة ميراثًا ولا الأبوّة ملكًا. تغلب الرحمة قساوة القلب بتغليب العلاقات على المقتنيات، وحيث يميت الابن أباه رمزيًّا، يلد الأب أبنه مجدّدًا ويهتف: “كان ميتًا فعاش”. لا يروي المثل خاتمة الحوار بين الأب والابن البكر، فالمستمع يقرّر ما ستكون النهاية، والمثل موجّه إلى من يمثّلهم البكر في القصّة، أعني الكتبة والفرّيسيّين. ولكن الحوار يظهر بوضوح غضب الابن الأكبر. هو الّذي يرى أخاه يحصل على أكثر بكثير من كلّ ما هو اشتهى ولم يجرؤ على طلبه، ولو جديًا يتنعّم به مع أصحابه، وحين أتى الوقت ليجني ثمرة حرمانه بأن يحيا هو ويموت أخوه، هوذا الأخ يرجع، والأب يسامح، والعجل المسمّن يُذبَح. غضب الابن الأكبر هو غضب مَن يقدّم العدالة على الحياة، ويُعطي الأولويّة للشريعة على البشر. وفي هذا الموقف قساوة قلب عنيدة، فليس فيها الانكسار الّذي عرفه الابن الأصغر ففتح له بابًا لاستقبال رحمة الأب. ربّما لهذا يتوسّل الأب إلى ابنه أن يتغلّب على نفسه ويدخل الفرح، ويُعيد إليه منطق البديهة الأخويّة: “أخوك هذا كان ميتًا فعاش، وكان ضالًّا فوُجد.” خلاصة إنّ مقاربة الرحمة عن طريق المقارنة مع قساوة القلب تظهر في آن واحد ما تحتويه مواقف البشر من قساوة قلب، وما تتطلّبه معرفة الله من تغيير القلب باتّجاه الرحمة. لا تقتصر الرحمة على مغفرة الإساءة، وإنّما تتعدّاها إلى ما قبل الإساءة، أي إلى الكرامة الأصليّة الّتي ينفيها عن نفسه الخاطئ حين يبتعد عن “البيت” ويكتشف أنّه لم يفقدها في عيني صاحب البيت. والمثل الّذي يكشف للبديهة نوعيّة القبول الّذي يناله الخاطئ في توبته هو مثل العلاقات البيتيّة، الوالديّة. في تلك العلاقات ليس التبادل هو سيّد الموقف، بل يتخطّى الموقف الرحيم كلّ الانتظارات ويخترق مجالات تطبيق الشرائع، وينتظر من الآخر التخطّي نفسه. هكذا يتخطّى الأب الرحيم ما يترجّاه ابنه الأصغر من استقباله لا كابن بل كأجير، ويتخطّى غضب الابن الأكبر بأن يخرج باحثًا عنه، متوسّلاً إليه أن يفرح، وداعيًا إيّاه أن يتخطّى بدوره متطلّبات العدل مفضّلاً عليها الحياة. على المستوى الأخلاقيّ، تقع الرحمة موقع ما لا يمكن المطالبة به، أي تتخطّى مستوى الفضيلة بحصر المعنى، وتتخطّى مجالات تطبيق الشريعة. لذلك لا يمكن استخراج مفهوم الرحمة من الواجب الأخلاقيّ، أي من العقل الأخلاقيّ فحسب. ما يجعل الرحمة ممكنة وحاضرة أمام القرار البشريّ هو اختبار الهشاشة البشريّة، اختبار الاحتياج إليها والحصول عليها من آخر. هذا الآخر يخرج من مجال التبادل المحض ويدخلنا معه في مجال المجّانيّة، وهو مجال الخلق (الولادة الجديدة في مثلنا). وهكذا تتعدّى الرحمة المستوى الأخلاقيّ إلى المستوى اللاهوتيّ، لأنّ الله الخالق هو الوحيد القادر على المجّانيّة. فالآخر الّذي يهب الرحمة هو في نهاية الأمر الرحمن بذاته. وبحضور رحمته في داخل مجالنا البشريّ يجعل رحمتنا ممكنة، وإن بقيت هشّة. لطالما قرأ تلاميذ الإنجيل في صورة الأب الرحيم الله نفسه الّذي لا يكتفي بمسامحة الذنوب بل يعيد للخاطئ وعيه بكرامته الّتي لا ينال منها أيّ ذنب في عيني خالقه. ولعلّ هذه القراءة تجد لها تبريرًا في ذكر فرح السماء في المثلين السابقين، أعني مثل الدرهم الضائع ومثل الخروف الضائع. |
|