الشهيد العظيم مرقوريوس أبى سيفين
سيرة الشهيد العظيم فيلوباتير مرقوريوس أبي سيفين
كانت عائلة هذا القديس وثنية تشتهر بصيد الوحوش وكانت طريقتهم في الصيد هي الخروج للغابة ونصب شباكهم والاختفاء في مكان أمين فإذا وقع حيوان في الشبكة خرجوا من مكانهم وقيدوه واقتادوه في قفص إلى المدينة حيث قصر الملك ثم يقدموه للملك حتى يتصدق عليهم بهباته وعطاياه ، وكان يقوم بهذه المهمة والد القديس ويدعى " ياروس " وجده ويدعى " فيروس " ، وكانت هذه العائلة تعيش في مدينة تسمى " اسكنطس " ببلاد الإمبراطورية الرومانية وقد ولد القديس في هذه المدينة سنة 224 م ودعي اسمه فيلوباتير ( اسم يوناني معناه محب الأب: المحب لأبويه) .
الرب يدعو والديه للإيمان
ذات يوم بينما كان ياروس وفيروس في الغابة يصطادان وقد نصبا شباكهما وتواريا انتظارا لوقوع صيد في الشبكة ودق الأجراس المُثبتة بها ، فلما صلصلت الأجراس ذهبا ليقبضا على الفريسة ، ولكنهما وجدا أن الشبكة بها عملاقان من آكلي لحوم البشر وهما في ثورة عارمة وقد قطعا كل شيء من حبال وأوتاد وكان منظرهما مُهلعاً فأنيابهما حادة جدا ومخالبهما كالأسود ، وشعورهما خشنة مشعثة مخيفة وعيونهما تتقد شرارا . ولذا كثيرا ما كان يُطلق عليهم لفظ " جنس وجوه الكلاب " لبشاعة منظرهما .
وتقدم العملاقان إلى الجد " فيروس " وقفزا عليه وسرعان ما التهماه ، وعندما نظر " ياروس " هذا سقط مغشيا عليه .
ما كاد العملاقان يشمران عن ساعدهما لإفتراس " ياروس " حتى سمعا صوتا من السماء بلغتهم الخاصة يقول لهم :- " يا هريفس وارغانا قفا ولا تقربا إلى هذا الإنسان الملقى على الأرض لأنه سيكون إناءا مختارا لي هو وابنه " .
وعندما عاد " ياروس " إلى نفسه وتأكد أنه لا يزال حيا يرزق وأخذ يتأمل في كل ما يجري حوله ، إذا نور عظيم يضيء في الغابة ويسمع " ياروس " صوت الرب يقول له :- " يا ياروس الوثني الذي لم تعرفني ... أنا خالق الجميع وخالق الكون العظيم ... أنا يسوع المسيح أدعوك إلى نور الإيمان ... لقد اخترتك اناء مختار لي ... واخترت ابنك ليكون اناء مختار لي وسيحمل اسمي أمام الملوك والحكام ويصبح اسمه عاليا في الأرض والسماء ... ولا تتعجب يا ياروس من آكلي لحوم البشر هؤلاء فقد تحولا إلى ملائكة وهم يحرسونك ... والآن ستكون مسيحيا وستكون زوجتك مسيحية وأما ابنك فسيكون بطلا شجاعا ... والآن قم وامضي مع هريفس وارغانا إلى مدينتك وأذهب إلى الأسقف وتعمد على اسم الآب والابن والروح القدس أنت وزوجتك والعملاقين ... والعملاقان لا تخف منهما فسيكون لك منهما نعمة جزيلة وستحدث عجائب على ايديهما... هيا يا ياروس قم معهما إلى المدينة " .
قام ياروس ومضى مع العملاقين إلى المدينة وكان يسير معهما كأنهم ثلاثة أخوة أشقاء أحباء ، ولما اقتربوا من المدينة أشار ياروس عليهما أن يختبؤا خارج المدينة حتى الغروب لئلا ينظرهما أهل المدينة بهذه الهيئة فيرجمونهما بالأحجار ويقتلونهما في سوق المدينة ، ثم مضى ياروس إلى منزله . فلما قابلته زوجته سألته عن سبب تأخره كل هذه المدة ألعله لم يظفر بصيد ؟! فأجابها أنه ظفر بصيد هو بالحقيقة أثمن من كل صيد . وبدأ يقص عليها الحادث الأليم والتعزيات السماوية والرؤيا الإلهية فقاطعته قائلة:- عجبا فإن ذاك الصوت الذي ناداك قد أرسل ملاكه وكشف لي ذلك الأمر بعينه . وفي المساء أدخل العملاقين عنده وفي باكر الغد مضى الجميع إلى أسقف المدينة وأعلموه بكل ما حدث ففرح بهم ووعظهم ثم عمدهم وأعطاهم أسماء جديدة فدعى ياروس نوح وزوجته السفينة والعملاقين باسم " هدفارس " و " مندريا " . ومنذ ذلك الحين أخذت العائلة على عاتقها السلوك في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم وكانت تُكثر من عمل الصدقة .
أحسبوه كل فرح يا أخوتي
شاع خبر العملاقين واعتناق ياروس المسيحية حتى بلغ مسامع أمير المنطقة فأرسل في استدعائه مع عائلته . وعندما دخل الجند للقبض عليهم كان ياروس يقرأ في الكتاب المقدس فأوثقوه مع زوجته وولده والعملاقين ومضوا بهم إلى الملك وهناك أمر بطرحهم للوحوش ولكن إلهنا الحنون الذي سد قديما أفواه الأسود فلم تؤذ دانيال صنع بهم كعظيم رحمته وأنقذهم منها حتى لم تجسر أن تمسهم بسوء أو حتى تقترب منهم حتى اندهش الملك وكل جنده فدعا نوحا وأخذ يستسمحه عما بدر منه وتعويضا عما أصابه من أهانات ولاه رئاسة الجند . ولم يكتف بذلك بل خلع عليه لقب الأمارة وولاه ولاية الأمارة على مدينة " اسكنطس " وكل البقعة المحيطة بها وأمر بإعطاء هدفارس ومندريا الملابس الفاخرة وطلب منهما أن يبقيا في العاصمة ولكنهما فضلا أن يقيما في اسكنطس مع الأمير نوح وابنه الأمير فيلوباتير .
وحدث أن جاءت الأخبار إلى الملك أن البربر يهاجمون بحشود ضخمة من الجنود حدود المملكة ، فطلب الملك مساعدة الأمير نوح والعملاقين حتى يحاربوا البربر أعداء المملكة فأجاب الأمير نوح :-" سيدي الملك ... لا تقلق ولا تضطرب فإن الرب يسوع معنا . وإذا كان الله معنا فمن علينا ... اجلس في قصرك معززاً مكرماً ونذهب نحن إلى الحرب مزودين بقوة السيد المسيح وهو يكتب لنا النصر " .
عندما جاء هذا الرد إلى الملك فرح به كثيراً وأمر أن يولى الأمير نوح قيادة الجيش . ودع الأمير نوح زوجته وابنه وخرج على رأس الجيش ومعه " هدفارس ومندريا " العملاقين ... ودارت المعركة الأولى وانجلت على نصر ساحق للأمير نوح ومن معه وانتقلت المعركة لأرض جبلية كثيرة الدروب فقسم الأمير قواته حتى لا يلتف البربر على حول الجيش وتصدر جزء من الجيش وترك العملاقين في الجزء الثاني. وتقدم نوح بسرعة ولم يدري أنها خطة من البربر فقد تظاهروا بالهزيمة فتقدم الأمير نوح للحاق بهم وفقد الاتصال مع بقية جيشه فحاصره البربر مع بقية جيشه ووقع في الأسر وكُبل بالقيود الحديدية .
فضاقت نفس الأمير نوح وأخذ يسترسل في صلاة حارة للرب يسوع الذي وضع اعتماده عليه وما أن فرغ من صلاته حتى وجد ميخائيل رئيس جند الرب أمامه وأعطاه السلام وطيب قلبه ووعده بالنجاة.
فلما قدمه البربر إلى ملكهم أعطاه الرب نعمة كبيرة في عيني ذلك الملك ورهبة شديدة فأدخله القصر وبتدبير الله أقامه على خدمته في كل ما يملك ليكون رئيسا عليه .
وهكذا قام الأمير نوح في خدمة ملك البربر بأمانة كاملة مدة سنة وخمسة أشهر بينما جنوده الأولون ظنوه قد مات على أيدي الأعداء وأشاعوا هذا الخبر في مدينة اسكنطس الذي لما سمعه ملك الروم فرح جداً لأنه كان يختلس النظر إلى " السفينة " زوجة الأمير نوح في وجود زوجها ولم يجرؤ على الاقتراب منها . فلما علم بوفاة نوح اعتقد أن الفرصة سانحة لكي يستولي على زوجته ويضمها إلى حريمه.
وما كاد أحد الخدم يسمع من الملك بذلك حتى سارع إلى والدة القديس فيلوباتير وأخبرها بالنية السيئة المبيتة لها . فحزنت جدا لذلك وطلبت منه أن يسعفها بإحضار ولدها من القصر دون أن يلحظ أحد ذلك ، وطلبت منه أن يسرع في ذلك ، فأجابها الخادم لذلك وحمل القديس فيلوباتير إلى أمه وكان طفلا في العاشرة من عمره ففرحت أمه وطلبت من الخادم أن يعينها على الهرب من المدينة هي وولدها حتى لا يظفر بها الملك فنفذ لها الخادم كل طلباتها . فرشى حراس أبواب المدينة وخرجت القديسة وابنها وتنقلا بين المدن والقرى والأقطار حتى وصلا إلى إحدى بلاد الرومان وسكنا أحد الفنادق الكبرى لمدة سبع سنين لم تنسى خلالها الصلوات الحارة وتقديم القرابين عن روح زوجها التي ظنت أنه انتقل إلى السماء.
رجوع نوح لمدينته
استأذن نوح ملك البربر في العودة لمدينته لاحضار زوجته وابنه فأذن له بعد أن وعده أن يرجع لمملكته ومعه أسرته فاتجه مع عدد قليل من رجاله إلى صوب بلده. ولما وصل إلى المدينة لم يجد زوجته ولا ابنه ولم يقدر أن يدله أحد عليهما فحزن جداً لذلك .
بعدها توجه الأمير نوح إلى الأسقف ليستزيد من كلمات النعمة والتعزية وعندما علم الأب الأسقف بقصة نوح شجعه وقواه لأنه كان رجل قديس ومملوء من نعمة الروح القدس . وقص عليه نوح حلم يتكرر كل شهر في أمسية عيد الملاك ميخائيل وهو أنه يرى خبز وخمر ولهما رائحة عطرية ( بخور ) زكية جدا .
فأجابه الأب الأسقف:- أعتقد يا ولدي أن سر هذه الرؤية أنه قربان تحمله زوجتك إلى المذبح كل شهر وهي تظن أنك فارقت الحياة الأرضية.
فاستراح نوح لما علم أن زوجته على قيد الحياة وعاوده الأمل ، وسأله الأب الأسقف عن العملاقين فأخبره نوح أن ملك البربر أراد أن يزوجهما من نساء البربر ليحصل على نسل قوي يستخدمه في الحروب ولكنهما رفضا فأحرق الملك " هدفارس " أما " مندريا " فقد هرب بعيدا ولا يعلم أحد إلى أين ذهب . ثم ودع نوح الأب الأسقف ورجع منزله وأقام سنين طويلة لا يعرف شيئا عن أسرته ولكنه كان متأكد أنهم في حفظ الله ورعايته .
تدبير الله
ذات يوم خرج نوح خارج المدينة فقابله عسكر الرومان وهجموا عليه وأوثقوه وأسلموه إلى ملكهم الذي تعرف عليه وأحبه لكونه مسيحيا وبعدما سمع قصته وبتدبير من الله أقامه والياً على إحدى المقاطعات في مملكته وكان من تدبير الرب العجيب أن تكون تلك المقاطعة هي التي تقيم فيها زوجته وولده وهي من المقاطعات المسيحية . فبينما كان في الكنيسة في أحد الايام رأته زوجته لكنها لم تتحقق منه لعلمها اليقين أن زوجها إنتقل إلى السماء حتى العملاقين الذين ذهبا خلفه لم يرجعا . ولكن حدث بعد مرور سنة على هذه المقابلة أن ذهب نوح مع بعض جنوده يوماً إلى فندق الغرباء الذي بداخل المدينة لقضاء يوم عطلة وكانت " السفينة " التي تسكن نفس الفندق تطل من النافذة ، فلما رأته طلبت من ابنها أن يتمنطق بالمنطقة الذهبية التي أعطاه إياها الملك ويمضي إلى الأمير الذي يشبه زوجها ويركب حصانه عله يجد نعمة في عينيه فيجعله ضمن جنوده ، وكان القديس فيلوباتير في ذلك الوقت في ريعان شبابه وكان الرب معطيه نعمة وقبولاً لدى الجميع كما كان يتمتع بجسم قوي ومتناسق.
أطاع الابن كلام والدته ، فلما فعل ما أمرته به أمسك به الجند وقالوا له لماذا تفعل هذا ؟ أجابهم إني أتطلع إلى الجندية وجئت اتعلم فنون الحرب فقدمه أحد الضباط إلى الأمير نوح الذي ما كاد يرى القديس حتى تحركت خلجات قلبه كالمغناطيس وأخذ يتأمله فوجد المنطقة الذهبية وتعرف عليها أنها هي الخاصة بأبنه فسأل القديس عنها وعن مصدرها .
وفيما هما يتحدثان قاطعتهما والدة القديس متوسلة إلى الأمير أن يتعطف على أبنها ولا يؤذه لأنهما غريبان ههنا . فسألهما عن بلدهما وما الذي أتى بهما إلى هذا المكان ؟ فبدأت أم القديس تقص عليه سبب هروبهما من أرضهما.
فوجئ الأمير بهذا وما كاد يسمع هذا ويتأكد أن هذا الفتى هو أبنه وأن هذه السيدة هي زوجته التي طالما طلب من الرب يسوع أن يحفظهما ويرتب لقائه بهما قبل موته حتى وقع يقبلهما في ذهول وأخذ يبكي كما بكى أبونا يعقوب عند مقابلته يوسف أبنه .
سمع الملك بأخبار اللقاء العجيب للأمير نوح مع أسرته التي طالما جد في البحث عنها فاستدعاهم جميعا وصنع معهم خيرا جزيلا ، فاشترى لهم الفندق الذي أقامت فيه الزوجة والأبن مدة طويلة وأمر بتعميره وتجهيزه بما يليق بسكنى الأمراء . ومن العجيب حقا أن هذا الفندق تحول بعد ذلك إلى بيعة على أسم ابنهما.
وعاشت الأسرة ترتع في نعيم السيد المسيح حتى تنيح القديس نوح بسلام فقام أبنه بدفنه ، وناحت " السفينة " على زوجها ولكنها كانت تتعزى من كلام النعمة الذي يخرج من فم أبنها البار ، واستدعى الملك " فيلوباتير " وعينه قائداً ورئيساً على الجند في المكان الذي خلى بعد وفاة والده .
القائد مرقوريوس
مضت الأيام والقديس ينمو في النعمة عند الله والناس فكان يواظب على الصلاة والصوم والتناول وكانت النعمة تؤازره فكان موفقا جدا من جهة قيادته للجند ومحبوبا من رجاله كما كان الملك يقدره ويحبه وسرعان ما أصبح القائد الأول وذاع صيته بين رجال الدولة ثم حدث أن نشبت حرب مع البربر في ذلك الوقت فقام الجيش وعلى رأسه القديس للزود عن البلاد .
الملاك ميخائيل يناوله سيفاً
ذات يوم بينما كان القديس يؤدي خدمته الوطنية إذا ملاك الرب يظهر له بلباس مُضئ وأخذ يقترب منه وهو حامل بيده اليمنى سيفاً لامعاً وناداه قائلاً :- يا فيلوباتير عبد يسوع المسيح لا تخف ولا يضعف قلبك ، بل تقو وتشجع ، وخذ هذا السيف من يدي وامضي به إلى البربر وحاربهم . ولا تنسى الرب إلهك متى ظفرت ... أنا ميخائيل رئيس الملائكة قد أرسلني الله لأعلمك بما هو مُعد لك ، لأنك ستنال عذاباً عظيماً على أسم سيدنا يسوع المسيح له المجد ولكني سأكون حافظاً لك وسأقويك حتى تكمل شهادتك . وستسمع كل المسكونة عن جهادك وصبرك ويتمجد أسم المسيح فيك .
فتناول القديس السيف من يد الملاك بفرح ، وما أن أمسكه حتى شعر بأمتلائه بقوة إلهية ، ثم مضى بالسيفين - سيفه الخاص والسيف الذي سلمه له الملاك - وهجم على البربر وضربهم ضربة عظيمة مع ملكهم .
وعندما بلغ خبر هذه الانتصارات المذهلة للأمبراطور " داكيوس " ( داكيوس Decius ٢٤٩-٢٥١ م ولد سنة ٢٠١ م بآسيا الصغرى وتدرج في وظائف الجندية إلى أن صار واليا على ميسيا ثم أقامه الجنود ملكا سنة ٢٤٩ م . فأثار الإضطهاد على المسيحين في بدء ملكه ثم قُتل في الحرب سنة ٢٥١ م ) . سر كثيرا ومنح البطل لقب " مرقوريوس " ونياشين كثيرة ودفعه إلى رتبة الرئيس العام على جنوده ( مرقوريوس. كلمة يونانية معناها رئيس الجند المحافظين . وهي أسم لصنم كان يعبده الوثنيون ولذا كان يستعمله ملوكهم لقب شرف يمنحونه لأكابر رجالهم ولذلك تم منحه للقديس مكافأة له على شجاعته ومهارته في الحرب ) .
منشور الملك
لم تكن الحرب مع البربر هي الحرب الوحيدة على مسرح الأحداث فقد كانت هناك حرب أخرى تدور رحاها يقوم بها أجناد الشر الروحية المندسة في الهواء . فقد تحرك الشيطان بمؤمراته على قلب الإمبراطور داكيوس والملك آريانوس سادة روما عاصمة الدولة الرومانية وتآمرا على القضاء على المسيحيين في جميع أنحاء الأمبراطورية فأرسل الإمبراطور منشورا امبراطوريا إلى جميع أهالي الدولة سنة ٢٤٩ م قائلاً:- " داكيوس Decius امبراطور روما وسائر أنحاء العالم ، إلى جميع سكان الإمبراطورية . ليكن في معلومكم أن آلهة الأباء والأجداد هي التي كتبت لنا النصر ، فالإله أبولون رب الجميع وله ينبغي أن يسجد الجميع وقد أصدرت أوامري لجميع الجنود والقادة والأمراء وكبار رجال الدولة بالسجود أمام الآلهة وأن يقدموا لها البخور وكل من يطيع أوامري ينال كرامات وعطايا جزيلة ، أما من يعصى هذه الأوامر فله الويل ، فقد أمرت بتعذيبه بأشد أنواع العذاب ثم يقتل بالسيف جزاء خيانته للآلهة ورفضه طاعة أوامري ، كما أمرت أن تترك جثته لطيور السماء وللحيوانات الكاسرة طعاما ليكون عبرة للغير . فيا شعب الإمبراطورية اسجدوا للآلهة ابولون ولسائر الآلهة وابتعدوا عن الخرافات الجديدة التي تدعو إلى عبادة رجل مصلوب قتله اليهود في أورشليم . هذه أوامري والويل لمن يعصاها .
أُرسلت هذه المنشورات وتم توزيعها على جميع أنحاء المملكة ، ومما زاده طغيانا أنه كان قد أنكر المسيح قبل محاربة البربر له مباشرة ، فلما انتصر الأنتصار الساحق على البربر نسب الفضل إلى معونة الآلهة الحديثة التي تعبد لها وتمادى في طغيانه فعين يوما عظيما لإقامة احتفالات بالآلهة في كل المدن المزمع المرور بها إلى أن وصل إلى روما عاصمة ملكه .
ولكن جميع المؤمنون في كل البلاد التي مر بها رفضوا إنذار الإمبراطور وتذكروا جميعا قول المسيح " من لا يحمل صليبه ويتبعني فلن يستحقني " فتمسكوا بإيمانهم واستعذبوا العذاب وفرحوا بالاستشهاد ، وبالرغم من أنه كان في كل مكان يصب عليهم جام غضبه ويسلمهم للعذابات الشديدة والاضطهادات القاسية كانت المسيحية تنتشر أكثر فأكثر .
سلام الرب الذي من السماء
ظهر ملاك الرب للقديس فيلوباتير وخاطبه قائلاً:- أنا ملاك الرب الذي قابلتك وأنت في الحرب ودفعت إليك سيف الغلبة الذي به قتلت أعدائك . وقد طلبت منك أن لا تنسى الرب إلهك متى غلبت وظفرت . فلا تجزع ولا ترهب من أمر الملك .
اهتز القديس لعناية الله به وبتشجيعه وتذكيره بوصاياه على يد رئيس الملائكة ميخائيل وأقام تلك الليلة كلها في الصلاة بحرارة ودموع معترفا بضعفه وواثقا في قوة إلهه مشتهيا بحق أن ينطلق ويكون هناك في الحضرة الإلهية جنديا من جنود الملك السماوي ويفوز بهذا الشرف العظيم ويحظى بالمجد الغير الفاني والسعادة التي لا تزول والانتصار الأبدي وهكذا أمضى ليلته ما بين الانسحاق والابتهاج حتى الصباح .
داكيوس يستدعيه
في الصباح الباكر قرع بابه إثنين من مقدمي المملكة يطلبانه فاعتذر بسبب أرهاقه الشديد لأنه كان متعباً جدا ، وفي اليوم التالي أرسل داكيوس رسله للمرة الثانية في طلبه ، فلما مثل بين يديه أخذ يلاطفه في رقة ويقول له :- هيا يا مرقوريوس أمضي لنا لنحمل البخور لآلهتنا لأنهم أعانونا في الحرب وحققوا لنا النصر . لم يرد مرقوريوس الوديع أن يقاوم ملكه بعنف فلم يجب بشئ لكنه في الطريق أثناء سيرهم انسحب في صمت واختفى من وسط الجموع العابدة للأوثان التي كانت تتبع الملك ورجع إلى الديوان الكبير.
ولكن عدو الخير لم يدع الأمر يمر في هدوء لأنه كان يعلم أنه مهما حدث لن يسجد البطل للأوثان ، فحرك عيون لتراقبه وترصد تحركاته فأحست بأختفاءه وتقدمت مسرعة إلى الملك تعلمه بتخلف مرقوريوس عن الركب ، أما داكيوس إذ كان شديد الإعجاب بمرقوريوس لكونه هو تميمة الحظ التي جلبت النصر في الحرب ولشجاعته وأمانته انتهر الرجل صاحب الوشاية وقال له : لعل هناك ضغينة بينك وبينه ، فإذا أثبت لي صدق كلامك كافأتك أجزل مكافأة ، ولكن إذا ظهر لي كذب دعواك فإني سأنزل بك أشد العقوبات .... وسوف أتحقق بنفسي .
أمر الإمبراطور داكيوس باستدعاء القديس مرقوريوس فورا . فلما حضر القديس بادره قائلاً:- أيها الأمير مرقوريوس ألست أنا الذي رفعت من شأنك وأعطيتك أعلى المناصب وجعلتك كبيرا لمستشاري وقائدا عاما للجيوش ؟ فهل أنت حقا ترفض السجود للآلهة الذين أعطوك الغلبة في الحرب ؟
فأجاب مرقوريوس بكل شجاعة مسيحية : - " إن الظفر يا سيدى الملك لم يكن من قبل الآلهة الصماء ، فهذه الآلهة إنما هي من صنعة البشر لا تقوى على الحركة ، وإنما الإنتصار كان من قبل ربي ومخلصي يسوع المسيح الذي أرسل ملاكه وأعطاني سيفا وقواني ، ولن أستطيع أن أنكره بعد كل هذا وأسجد لآلهة ضعيفة . ."
احتار الملك كثيرا لما لمرقوريوس من مكانة عظيمة عنده وأرد استمالته بكل وسيلة حتى لا يخسر هذا البطل الشجاع لكن القديس رفض كل وعوده واغراءاته وبكل شجاعة كلمه قائلاً:- إني لن أقبل أبدا أن أترك عني عبادة سيدي يسوع المسيح من أجل كرامات وقتية .. لكني سأظل أمينا له إلى الموت .
ثم أخذ يُجرد نفسه من الأوسمة أمام الملك ، وخلع عنه أيضا منطقته الذهبية وهو يخاطبه قائلاً:- لست أريد شيئا من مجد العالم ، وكما خرجت عريانا من بطن أمي هكذا أعود .. فكل الرتب والكرامات التي أعطيتني إياها أردها لك . . فهي تفنى مع كل مجد العالم كزهر العشب .
عذابات القديس
السجن وتقوية الرب له
ثارت ثائرة الملك حينذاك وأمر بحبسه في السجن في الحال . فتهلل القديس لهذا الخبر إذ حُسب أهلاً أن يسجن على أسم المسيح .. وكان يبلغ من العمر وقتذاك خمس وعشرين عاما.. وأخذ يصلي ويرنم ويسبح كما فعل معلمنا بولس... وبينما هو كذلك إذا بملاك الرب قد ظهر له يشجعه قائلاً:- يا مرقوريوس حبيب المسيح تقو ولا تخف من عذاب هذا الكافر داكيوس ، فسيقويك السيد المسيح على احتمال العذابات فلا تخف أن تفضح نجاسات عبادة الأوثان وأن تُعلن الإيمان المسيحي القويم ... فلا تخف ممن يقتل الجسد وليس له بعد أن يفعل أكثر ، لكن أبين لك ممن تخاف ... خف ممن إذا قتل له قدرة أن يلقي في جهنم .. تشدد يا مرقوريوس فإنك إناء مختار للرب يسوع.
ثم مضى عنه الملاك بعد أن ترك بردا وسلاما في قلبه فواصل في حماس شديد صلاته طوال الليل ثم نام بعض الوقت وهو قرير العين مستريح البال.
وفي الصباح انعقد مجلس الإمبراطور داكيوس في القصر لينظر في أمر القديس وأرسل في طلبه .
القديس يجاهر بإيمانه
وصل القديس إلى مجلس الإمبراطور الذي أخذ يلاطفه لعله ينثني عن عزمه ويبخر للآلهة ، وكان يوضح له خطورة عصيان أوامره وكان يحايله بالوعد تارة ويرهبه بالوعيد تارة أخرى فكان القديس يجيبه بشجاعة قائلاً:- إنني لا أخشى العذاب .. ولا أهاب الموت .. لأن المسيح ربنا أوصانا أن لا نخاف من الذين يقتلون الجسد وليس لهم بعد ذلك ما يفعلون بل نخاف بالأحرى من الذي له السلطان أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم .. فأنت أيها الملك ليس لك سلطان إلا على جسدي فقط فإفعل به ما شئت .
وبالرغم من صراحة الجواب فإن الملك لم يقطع الرجاء فيه بل أخذ ينصحه ويلاطفه بالأكثر قائلاً:- اذهب يا مرقوريوس وأرفع البخور للآلهة الكرام لتحيا نفسك ، وسأجعلك ثاني المملكة .
فأجابه القديس :- يا سيدي الملك إن آلهتك هي التي قال عنها معلمنا داود النبي في المزمور " أصنامهم فضة وذهب عمل أيدي الناس لها أفواه ولا تتكلم ولها أعين ولا تبصر ، ولها آذان ولا تسمع .. مثلها يكون صانعوها بل كل من يتكل عليها " ( مز ١١٥: ٥ ) .
فأجابه الملك: يا مرقوريوس أعلم أنني أحبك لذلك أكرر عليك الكلام بأن تذهب وترفع البخور للآلهة فتحيا نفسك .
أخيرا أجاب القديس :- يا سيدي الملك لقد قلت أني لن أسمع لقولك هذا .. فلا تتعب نفسك وتكرر عليّ الطلب فإني أشفق عليك لأني أرى أن الشيطان قد أطغاك وأظلم قلبك حتى أنك لم تعد تفهم كلامي .. وها أنا مستعد الآن ليس أن أتألم فقط بل لأن أموت أيضا على أسم المسيح فكل ما تريد أن تفعله بي فأفعله بأكثر سرعة .
ضربه بالدبابيس
لما عدم داكيوس الحيلة في إخضاعه وتحقق من فشله في استمالته إليه وإلى عبادة الأوثان صرخ في وجهه غاضبا : كيف تجاسرت يا مرقوريوس أن تتكلم بهذا الكلام وترفض أوامري ؟
ثم أمر أن يُعرى من ثيابه ويُعمل له أربعة أوتاد في الأرض ، ويُربط بينهما على ارتفاع ذراع عن الأرض ، ويُضرب بدبابيس طويلة حادة في كل جسده ... ففعلوا به بحسب أمر الملك الذي وقف يتأمل صبره واحتماله ، ثم يناديه من وسط هذا العذاب المرير ويهزأ به قائلاً : - أين هي شجاعتك الآن يا مرقوريوس وأين قوتك العظيمة في الحروب وأين هو إلهك لينجيك من يدي داكيوس ؟
لم يعبأ القديس بكلام الشيطان كما فعل معلمه رب المجد يسوع المسيح حين عيره اليهود وهو على خشبة الصليب وكان القديس مرقوريوس صابرا شاكرا في وسط العذاب .
تمزيق لحمه بأمواس حادة وحرقه بالنار
حينئذ أمر الملك أن يُمزق لحمه بأمواس حادة ويُوضع جمر نار على جنبيه ليُحرق وهو حي . ففعلوا به كذلك . لكن النار سرعان ما أنطفأت من كثرة الدم الذي كان يسيل من جروح القديس . وبقوة السيد المسيح كان محتملاً الألم في صمت .
بعد ذلك أمر داكيوس أن يُلقى في السجن متخيلاً أنه لابد أن يموت تلك الليلة فأخذوه وألقوه في سجن مُظلم ، ولكن الرب الذي لا يتخلى عن أولاده المتمسكين أرسل له ملاكه الجليل ميخائيل وهو في السجن ليعزيه قائلاً: - أيها الغالب مرقوريوس تشدد فإن الرب يعضدك لكي تغلب... فلا تخف من العذاب لأن هذا الزمان قليل والملكوت الأبدي ينتظرك حيث تنعم فيه إلى مدى الدهور .
ثم مد الملاك يده ولمس جسده فصار كأنه لم يصبه شيء وأعطاه السلام ثم أنصرف عنه . قام القديس ورفع يديه بالصلاة قائلاً:- أشكرك يا ربي يسوع المسيح الصالح محب البشر لأنك سمعت صراخي وأرسلت لي ملاكك الطاهر فشفاني من أوجاعي حتى لا يشمت بي العدو القائل أين هو الرب إلهه المُتكل عليه .. أنت يا رب تمجدك الملائكة وتسجد لك رؤساء الملائكة لك المجد والعز والسلطان والسجود الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين آمين .
المجابهة مع داكيوس
في الغد أمر داكيوس بأن يؤتى بالقديس أمامه . فلما رآه أندهش غاية الدهشة لسلامة القديس واندفع في القول مستفسرا:- ألم يمضوا بك في الأمس محمولاً شبه ميت ؟! فكيف أراك سليما معافى ؟ .
ولكي يتأكد من حالته أمر الجند بفحص جسده ، ولما فعلوا . لم يجدوا به أي أثر للجروح أو الحرق. فتعجب جدا وقال في نفسه هذا عمل سحر لا شك في ذلك . . وأن مرقوريوس بذلك يمكنه الادعاء بأن إلهه قويَ على شفائه .. ماذا أفعل يا ترى .. من الذي دخل السجن وشفاه ؟ ثم التفت إلى القديس وقال له أعلمني يا مرقوريوس كيف شُفيت فإني متأكد أنك شُفيت بعمل سحر .
أجابه القديس:- إن طبيب النفوس والأجساد هو سيدي ومخلصي ربي يسوع المسيح الذي شفاني أما السحرة فهم غرباء عني وسيهلكهم الرب بسحرهم .
فأزداد غضب الملك على القديس وصاح به قائلاً:- هوذا أنا سأهلكك بكثرة العذاب وحريق النار ، وسأرى من الذي يمكنه أن يُخلصك من يدي .
فرد عليه القديس في وداعة قائلاً:- قلت لك قبلاً ليس لك سلطان إلا على جسدي فقط فأفعل به ما شئت.
طرحه على حديد محمى بالنار
حينئذ أمر داكيوس بأن يُطرح على حديد محمى . ثم يؤتى بمشاعل وتوضع على جنبيه . ففعلوا كما أمرهم الطاغية . ولكن كم كانت دهشتهم حين تعطر الجو برائحة بخور ذكية كانت تخرج من جسد القديس عوضا عن رائحة دخان الحريق .
تعليقه مُنكس الرأس
تقسى قلب داكيوس أكثر فأكثر كما تقسى قلب فرعون مصر أمام ضربات موسى النبي . فأمر بأن يُعلق مُنكس الرأس . ثم يُربط في عنقه حجر كبير كي يُعجل بموته بأن يخنقه من ثقل جذبه.. لأنه مَل من تعذيبه .. بينما القديس لم يمل من إحتمال الآلام بل كان شاكرا فرحا أنه حُسب أهلا أن يُهان ويُعذب على أسم حبيبه يسوع الذي ذاق الموت عنه .. وحين ضجر أمر بطرح القديس في السجن إلى الغد .
أما القديس فبرغم الآلام القاتلة أمضى ليلته كلها في الصلاة وبينما هو يصلي إذ بنور عظيم أضاء كل أرجاء السجن . فسقطت القيود التي كان مكبل بها جميعها . وفي وسط هذا النور المجيد ظهر له ملاك الرب وخاطبه قائلاً : - تقو وأغلب يا حبيب المسيح.. لا تبال بالعذاب المؤقت ... فهو لا شيء بالنسبة للإكليل المُعد لك .
ثم مد يده ومسح كل جراحاته فشُفي في الحال وزال عنه كل أثر للجروح . فللوقت قام يصلي قائلاً:- آه يا رب ماذا أرد لك عن كل ما أعطيتني كأس الخلاص آخذ وباسم الرب أدعو .. أشكرك يا إلهي الذي لا تجعلني معتاذا شيئا من غنى كرامتك .. أشكرك يا ربي على محبتك للبشر وأعتناءك بي أنا الضعيف . . أسبحك يا ربي وأمجد اسمك الأن وكل أوان وإلى دهر الداهرين آمين.
جلده بالسياط
لم يهدأ داكيوس الليل كله ولم يغمض له جفن حتى طلوع الصباح فأرسل يستدعي القديس وهو عازم على أن يُنهي أمر عناد القديس حتى لو تكلف الأمر قتله كيما ينتقم للآلهة من المُجدف مرقوريوس فلما مثل أمامه قال له : - أشفق على جسدك يا مرقوريوس وأعدل عن عنادك وضحي للآلهة الكرام فتستريح من هذا العذاب الأليم .
ولكن القديس الذي أختبر طعم الألم الذي أصبح الوسيلة التي يتمتع عن طريقها بتذوق حلاوة الصليب واختبار كلمات الكتاب المقدس عمليا لم تعد تخيفه التهديدات .
وهكذا بعد أن تعب داكيوس في تفننه في عذاب القديس وكان قد تملكه الحقد لثباته على محبة مسيحه أمر بقطع رأسه بحد السيف بعد أن يُجلد بالسياط أولا وكتب قضيته هكذا .
" حيث أن الأمير مرقوريوس عميد الجيوش أنكر الآلهة الكرام ورفض اطاعة الأوامر الملكية وعظمتها ، نأمر بأن يُمضى به إلى قيسارية الكبادوك لتؤخذ رأسه هناك بحد السيف "
ثم سلم مرقوريوس إلى بعض الجنود ليضربوه أولا قبل السفر فأخذوا يجلدونه بسياطهم الرومانية حتى صار دمه ينزف من كل جسمه ثم أركبوه دابة وأخذوه إلى قيسارية الكبادوك ( في تركيا الآن ) خوفاً من أن يحدث شغب بسببه لمحبة الجند له ، وبعد سفر طويل وشاق وصل الركب إلى المكان الموعود في المدينة ( قيسارية) وكان الوقت ليلاً فأستراحوا حتى الصباح من عناء الطريق .
ظهور رب المجد له
في نصف الليل بسط القديس يديه ووقف يصلي بحرارة راجيا من الرب يسوع قبوله في فردوس النعيم ، وبينما هو قائم يصلي إذا المكان يتزلزل ويُضيء نور عظيم ساطع والرب يسوع في مجده ومعه ملائكته القديسين قد وقف قبالته وأعطاه السلام وأخذ يخاطبه بصوته الحنون المُفعم محبة قائلاً : - " السلام لك يا عبدي ومختاري مرقوريوس ... هلما الآن لتستريح مع الأبرار ... فإن صبرك وصلواتك صعدت أمامي بخوراً ذكياً ... وبما أنك أتممت جهادك معترفاً ومتمسكا باسمي حاملاً الصليب ومستهينا بالآلام فإني سأجعل اسمك شائعاً في المسكونة وأجري عجائب ومعجزات كثيرة في البيع التي تبنى على اسمك وأنجي كل من يدعوني باسمك من جميع شدائده ... وكل من يكتب سيرة شهادتك والأتعاب التي احتملتها من أجلي أكتب اسمه في سفر الحياة ... وكل من يكفن جسدك على الأرض فإني البسه الحلل النورانية يوم تقف الخلائق عراة في الدينونة ... وكل من يبني بيعة على اسمك فإني أعد له مسكنا في أورشليم السمائية ... وسأجعل ميخائيل رئيس الملائكة حافظاً لبيعتك إلى الأبد ويكتب خطوات كل الآتين إلى كنيستك يوم تذكارك لسماع أتعابك وأخذ بركتك ... أقول لك يا مرقوريوس إني اتحنن عليهم بالرحمة والمسامحة وأقبل شفاعتك عنهم " .
وبعد هذا بارك عليه السيد المسيح وصعد إلى السموات بمجد عظيم .
اكليل الشهادة
أيقظ القديس أحد الجنود . وكان قد آمن بالمسيح على يدي القديس في الطريق إلى قيسارية . وأعلمه بكل ما حدث له من أول القصة إلى آخرها وأخبره بكلمات السيد المسيح وأن انتقاله من هذه الدنيا أصبح وشيكاً وشجعه وقواه في الإيمان وأوصاه بأن ينقل قصته هذه إلى رئيس أساقفة روما . ووعده الجندي أن يفعل كل ما قاله . عندئذ قام البطل العظيم وجثى على ركبتيه يصلي إلى المسيح وهو في فرح وسعادة لا يوصفان . ولما كان الفجر قام القديس البطل وأيقظ قائد الجند ورجاله وقال لهم :- أيها الأخوة أفعلوا ما أُمرتم به ، وإنني أسأل السيد المسيح ألا يقيم عليكم هذه الخطية ، كما أسأله أن يهديكم إلى نعمة الإيمان المقدس بالرب يسوع المسيح.
ثم مد رقبته المقدسة للسياف فهوى بسيفه عليها ونال أكليل الشهادة وورث النعيم الأبدي وملكوت السموات . وكان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من شهر هاتور ، الموافق اليوم الرابع من ديسمبر سنة ٢٥٠ م .
وقد لا حظوا نورا عجيبا ورائحة طيب عطرة ، فأعلن كثير من الحاضرين إيمانهم بالسيد المسيح ، ومن ثم أخذوا الجسد الطاهر وكفنوه وأخفوه في المكان الذي استشهد فيه - بركة شفاعته تكون معنا آمين -
ظهور جسد القديس
مرت السنون وانتهت عصور الإضطهاد وجسد القديس مرقوريوس في مكان خفي في مدينة قيسارية ، ونسى الكثيرون أن هناك قديس عظيم استشهد في هذه المدينة على أسم السيد المسيح ، ولما أرادت عناية الله أن تُظهر الجسد المبارك . اختارت أسرة وثنية غنية في المدينة لتحظى بهذا الشرف وقد كان لهذه الأسرة ابنة ترملت بعد أن أنجبت ابنة وحيدة.. وفي يوم ما وقد انتصف النهار وبينما السيدة الأرملة تجلس في بهو قصرها إذ تشعر أن الدنيا قد أظلمت والنور يخف شيئا فشيئا وأن عينيها قد كلتا عن البصر وأنها أصبحت لا ترى شيئا .. ولأنها امرأة بسيطة ظنت أن فقد بصرها يرجع إلى تقصيرها في عبادة آلهتها ، فطلبت من ابنتها أن تُحضر لها الصنم الذي تعبده وأخذت تبكي أمامه طالبة أن يرفع عنها هذه التجربة القاسية .. ولكن كلما ازدادت بكاءا كلما ازداد الوثن صمتا وجمودا ولم يستطع هذا البكاء والعويل أن يوقظ الإله الذهبي من سباته ، ولكنهما وصلا إلى مسامع والدها وكل الأسرة فجاءوا جميعا يشاركون بالبكاء في هذه الكارثة ، ويتعجبون أكثر أن عيني ابنتهم مع كونهما مفتوحتين لا تبصر .وجاء الأطباء واحتاروا في تفسير هذا المرض.
لكن الله الذي ينظر إلى آمنتها واستقامة قلبها في عبادة الأوثان ، وحين أراد أن يخلصها من عبادة الأوثان المقيتة ، أرسل لها القديس مرقوريوس في رؤيا بشكل مُقدِم جند الملك وهو حامل بيده قضيبا من ذهب وبأعلاه صليب مضيء قائلاً لها : - لا تخافي أيتها المرأة فإنك ستنالين الشفاء بعد أن يُظهر الرب جسدي على يد ( فلان ) الرجل المسيحي الفقير الذي يعمل عندكم .
وكان هناك عدد كبير من الأجراء يعملون في حقول هذه الأسرة ، وكان بينهم رجل مسيحي بار . وبينما هو نائم خارج قصر الأسرة بعد أن صلى إلى الله ، ظهر له الشهيد مرقوريوس وقال له : - هل تقبل أن تعمل عندي اليوم وأنا أدفع لك أجرة جزيلة ؟
فأجابه الرجل : - سيدي الأمير أرجو أن تغفر لي جرأتي.. فإني لم أتشرف بمعرفتك من قبل .
فأجابه القديس: - أنا مرقوريوس أبي سيفين الذي استشهد على أسم المسيح على يد داكيوس الملك ، وجسدي الآن موجود بالغرب من مدينتكم ( قيسارية الكبادوك ) فاذهب في الغد إلى البيت المهدوم الموجود على "طريق الملك" واحفر في الحائط القبلي مقدار ذراع واحد فستجد جسدا ملفوفا بثوب ، أما الجسد فلونه أبيض كالثلج ذلك لأن السيد المسيح كان عن يميني ساعة استشهادي لذلك إبيض جسدي .
وفي الصباح استيقظ الرجل مبهوتا وأسرع إلى حيث أرشده القديس وحفر كما قال له فاشتم رائحة بخور ذكية ، ولساعته أبصر الجسد المبارك ففرح جدا وتهلل ومجد الرب ثم احتضن الجسد وأخذ يقبله.
وفي هذه اللحظة مر به ابن الرجل الغني صاحب الضيعة وكان ممتطيا حصانه فتوقف عند ذلك المنظر - رجل من عمال أبيه يحفر بجانب الجدار ويحتضن جسد رجل ميت - فقال له الشاب بغطرسة وكبرياء : ماذا تفعل هنا ولماذا تحفر بجوار حائطنا ؟ هل تعمل في ضيعتنا فتأخذ خبزنا ثم تُهمل عملك وتأتي هنا لتحمل عظام الأموات ؟..سأريك من نحن حتى تتأدب.
وهم الشاب الغني أن ينزل عن حصانه ليضرب الرجل المسكين ، ففي تلك اللحظة تحرك جسد القديس مرقوريوس في الكفن فرجع الحصان إلى الخلف وتعلقت رجل الشاب في ركاب السرج وأصبح الحصان والرجل معلقا به في الهواء . وما كاد الرجل ينظر هذه الاعجوبة حتى صاح " مبارك الرب يسوع... سلام لك يا قديس مرقوريوس " وسرعان ما تجمع أهل المدينة يشاهدون هذا المنظر العجيب وجاء كبير العائلة ليشاهد ابنه معلقا في الهواء وجاءت معه ابنته الأرملة التي أصيبت بالعمى ، فدخل نور الإيمان قلوبهم فصاحوا " ارحمنا يا قديس الله مرقوريوس " ثم تقدمت الأرملة إلى جسد القديس باكية وصرخت : يا سيدي يسوع المسيح الذي سمعت من خدامي المسيحيين عنه أنه فتح عيني المولود أعمى أرحمني أنا أيضا وأنر عيني حتى نؤمن جميعا باسمك وحتى يعرف الجميع أن قديسك هذا مرقوريوس له مكانة كبيرة عندك . . وما كادت المرأة تتم هذه الأقوال بإيمان كبير حتى تساقط من أعينها ما يشبه القشور وللوقت عاد إليها بصرها وصاحت وهي سعيدة " لقد أبصرت " وهنا لم يتمالك والدها إلا أن يقول " آمنت بالسيد المسيح...إنني وأهل بيتي من المسيحيين... أيها العبيد أسرعوا وهاتوا أصنامي حتى أحطمها بنفسي أمام أهل المدينة.
معجزة أخرى من الجسد الطاهر
بعد ذلك أراد الشعب أن يحملوا جسد القديس إلى المدينة إلا أن البعض اعترضوا على ذلك مفضلين ابقاءه في مكانه فحدثت مشاجرة بينهم وإذا بالجسد الطاهر يميل نحو المدينة وسُمع صوت يقول " رتلوا أمام الشهيد مرقوريوس " وسمع الجميع ذلك الصوت . فحملوا الجسد إلى المدينة . وفي الطريق يُصر الرجل الغني على أن ينقله إلى قصره ، ويتكاتف رجاله من عبيد وخدم على تنفيذ رغبة سيدهم ، ولكن ما أن هموا بحمله حتى شعروا أن الجسد ثقيل الوزن جدا ككتلة من الرصاص حتى أن عشرات الرجال عجزوا عن حمله ، فاتضح للجميع بأن القديس يرفض الذهاب لقصر الرجل الغني ، ويتفقوا على الذهاب إلى كنيسة المدينة وما كاد الرجال يتقدمون لحمله حتى وجدوه خفيف الوزن يسر الحمل . فيهلل الجميع بالترانيم وهم يحملونه إلى الكنيسة ويتفق الجميع على بناء كنيسة جديدة له وتمموا ما أرادوا .
ويتقدم الرجل الغني إلى أسقف المدينة يلتمس منه أن يقوم بتعميده هو وجميع أهل بيته . فيستجيب الأب الأسقف لهذه الرغبة وتم تعميد ثلاثة وتسعين نفسا من أهل بيت هذا الغني الذي قدم للبيعة الطاهرة في هذا اليوم تقدمات وقرابين كثيرة جدا .
أيقونة الشهيد أبي سيفين
الأيقونة التقليدية للشهيد يظهر فيها عادة وهو بملابسه العسكرية الرومانية كقائد للجيش الروماني راكبا جواده وممسكا بسيفين بكلتى يديه إشارة إلى السيف الذي أعطاه إياه الملاك قبل ذهابه للحرب بجانب سيفه الخاص ، وتحته الملك يوليانوس الكافر ساقط من على حصانه وحربة الشهيد مرقوريوس مغمدة في قلبه ، ويظهر القديس باسيليوس في إحدى أركان الصورة بالملابس الحبرية الكهنوتية البيضاء والقديس يحني له رأسه وكأنه يقول له نعم وفي أعلى الأيقونة يظهر الملاك ميخائيل أثناء ظهوره للبطل الشهيد ومناولته السيف . وقصة هذه الأيقونة أن القديس باسيليوس رئيس أساقفة قيسارية ( ٣٢٩- ٣٧٩ ) وهو الذي رتب القداس الباسيلي المعروف باسمه في الكنيستين القبطية واليونانية ، كان يحب الشهيد مرقوريوس حبا شديدا . وكان بعده بحوالي مائة عام ، عاصر الإمبراطور يوليانوس الجاحد ( ٣٣١-٣٦٣ ) الذي أراد أن يُعيد عجلة الزمن فأصدر أوامره بإلغاء المسيحية والعودة إلى عصر الإضطهادات القديمة ... فقبض على القديس باسيليوس وألقاه في السجن ، ولما سمع يوليانوس أن سابور ملك الفرس عزم على محاربته عبأ جيشا وسار إليه ، وكان القديس باسيليوس لشدة حبه لأبي سيفين يحمل أيقونته معه أينما ذهب ، وفي أحد الأيام بينما كان قائما في السجن والأيقونة أمامه أخذ يتأملها ويستشفع بصاحبها ، وإذا بصورة الشهيد تختفي عن الأيقونة ، فاندهش القديس باسيليوس جدا وظل يُمعن النظر في الأيقونة ، وبعد برهة وجد أن الصورة عادت إلى ما كانت عليه ، غير أن الحربة التي كانت بيد الشهيد مُلطخة بالدماء ، فأحس القديس باسيليوس بالأمر وسأل الشهيد بدالة قائلا :- هل قتلت يوليانوس ؟ . فطأطأ الشهيد برأسه في الصورة إشارة الإجابة. فشكر القديس باسيليوس الرب كثيرا الذي أسرع في نجدته وأرسل البطل أبي سيفين ولذا نرى تأثير هذه المعجزة في أيقونة أبي سيفين.
وصول جزء من الجسد إلى الديار المصرية
دبرت العناية الإلهية أن يصل جزء من جسد القديس مرقوريوس أبي سيفين إلى ديارنا المصرية في عهد البابا يؤانس الثالث عشر البطريرك الرابع والتسعون من بطاركة الكرسي المرقسي ( ١٤٨٣ - ١٥٢٤ م ) ... وذلك أنه حدث في أيام رئاسته أن زاره المطران " مكروني" مطران دير مار يعقوب للأرمن الأرثوذكس بأورشليم ( القدس ) وكان برفقته جماعة من الأرمن بينهم شخص يدعى " قسطنطين " . وكانوا قد جاءوا جميعا للاحتفال بعيد الملاك ميخائيل بكنيسته برأس الخليج ، وبعد الانتهاء من القداس . جلس المطران " مكروني " مع البابا يؤانس يتحادثان في سير القديسين ، فساقهم الكلام إلى الحديث عن القديس " أبي سيفين " ووجود جسده في ( قيسارية الكبادوك) ، فطلب البابا من المطران " مكروني " أن يبذل كل ما في وسعه ليحصل لنا على عضو من أعضاء الشهيد القديس لوضعه في كنيسته بمصر القديمة ليكون بركة للشعب الأرثوذكسي ، فسافر الشخص المدعو قسطنطين إلى ضيعة قيسارية الكبادوك وقابل الكهنة هناك وبعد جهد كبير أخذ عضوا من أعضاء الشهيد القديس ، ودبر الرب أن يصل لمصر في اليوم التاسع من شهر بؤونه سنة ( ١٤٨٨ م = ١٢٠٤ ش ) بعد جهد عظيم وكان يحمله قسطنطين المذكور والمقدم عزاز والقس المكرم يعقوب الأرمني والأخ سمعان .
ومن هذا التاريخ تحتفل الكنيسة القبطية بتذكار وصول الأعضاء المقدسة في ٩ بؤونه من كل عام .
شفاعة الشهيد العظيم فيلوباتير مرقوريوس أبي سيفين تكن مع جميعنا ... ولربنا يسوع المسيح المجد الدائم الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين آمين.