|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
إني خليقتك موضع حبك "يداك صنعتاني وجبلتاني، فهمني فأتعلم وصاياك" [73]. في كل الأجيال تثور الأسئلة السابقة حول عدالة الله وعنايته خاصة عندما تحل بالآنسان ضيقات لا ذنب له فيها، أما المرتل فعوض تقديم الأسئلة يُعلن عن حاجته إلى إدراك أسرار أحكام الله والتعرف عليها، لأننا خليقته التي لا تشك قط في عدالة خالقها وحبه اللانهائي ورعايته. فالضيقة لا تدفع المرتل إلى التساؤلات بروح الشك واليأس وإنما بالأحرى إلى طلب كشف حكمة الخالق والآب السماوي له، أي إلى الرغبة في التعلم. إنه واثق أن الله الذي خلقه يهتم به ويدبر أمور حياته. وكما يقول موسى النبي: "أليس هو أباك ومقتنيك، هو عملك وأنشأك؟!" تث 6:32. يقول أيوب: "أذكر أنك جبلتني كالطين، أفتعيدني إلى التراب؟!" (أي 9:10). إن كان الفخاري يعتز بالآناء الخزفي الذي يشكّله من الطين فبالأولى الله الذي أقام آدم من التراب، وقد صوّره على صورته ومثاله، ووهبه عطية العقل والإدراك... أما يقدم له علمًا وفهمًا متزايدًا ليدرك أسرار حكمة الله فيشكر ويسبح؟! يقول الله لإرميا النبي: "قبلما صورتك في البطن عرفتك" إر 5:1 ليعلن عن مدى اهتمامه به ورعايته... إن كان الله يعرفنا قبل أن نولد، فهو يطلب منا أن نعرفه ونتعرف على سماته وحكمته، فنلتقي معه على مستوى الحب الحق المتبادل والقائم على المعرفة الصادقة الفائقة. بقوله "يداك" يرى البعض أنه يشير إلى ابن والروح القدس، إذ يقول الله في صيغة الجمع: "نعمل الآنسان على صورتنا كشبهنا" تك 26:1. * يُقال إن يديْ الله الآب هما ابن الوحيد والروح القدس، إذ هما (مع الفارق) واردتان عن مصدرٍ واحد ولا تفارقانه أبدًا، ولا ينحل اتحادهما، لكنهما متلاصقتان مع الجسد ومتمايزتان فيما بينهما. كذلك ابن الوحيد والروح القدس صادران عن الآب وحده ومتصلان به وببعضهما في وحدة اللاهوت، ومتمايزان من جهة الأقانيم... لذلك كتب أيوب الصديق في الأصحاح العاشر بإلهام إلهي: "يداك كونتاني وصنعتاني، أفتبيدني؟!" (انظر أي 8:10). لقد استعار داود المغبوط هذا القول من أيوب المطوّب. أنثيموس أسقف أورشليم يرى القديس أغسطينوسأن تعبير "يديْ الله" يشير إلى السيد المسيح وحده أو إلى ابن والروح القدس. * يدا الله هما قوة الله... لنفهم يديْ الله قوة الله وحكمته، أعُطي اللقبان للمسيح الواحد (1كو 24:1)، حيث يُفهم أيضًا تحت رمز "ذراع الرب" إش 1:53 إذ نقرأ: "لمن اُستعلنت ذراع الرب؟". أو ليفهموا يديْ الله: ابن والروح القدس؛ حيث أن الروح القدس يعمل مع ابن..." القديس أغسطينوس * أخيرًا ربما يقرر أن أحد القديسين تقبل التقديس من ابن والروح القدس، قائلًا: "يداك صنعتاني وجبلتاني" [73]1. القديس أمبروسيوس أما تكراره "صنعتاني" و"جبلتاني" فيرى البعض أنه يشير إلى خلقة الجسد والنفس، وكأن الله خالق الآنسان بكليته يهتم أيضًا بكل احتىاجاته الجسدية والروحية، فإن كان يهتم ببنيان النفس وخلاصها فهو أيضًا يمجد معها الجسد الذي يقوم في يوم الرب العظيم... يهتم به في هذا الزمان الحاضر كما في الدهر الآتي، يهتم حتى بعدد شعور رؤوسنا. * تشكَّل هيكل أجسادنا ونفوسنا بيد الفنان الإلهي نفسه2. القديس قيصريوس أسقف آرل ويرى البعض في هذا التكرار إشارة إلى خلقة الآنسان وتجديده في مياه المعمودية على صورة خالقه. مادام الله هو الخالق والمجدد لخلقتنا لذلك لا يشك المؤمن قط في عناية الله به، إنما في دالة البنوة يصرخ: "فهمني فأتعلم وصاياك" [73]. * أنت يا رب صنعتني إنسانًا فهيمًا. إذن فهمني، وكمِّل ما نقص مني من الفهم. أنت جبلتني لكي أكون من خاصتك، وهذه الخصوصية لا تصير إلا بعمل وصيتك. لأنك في الابتداء فرضت على وصية واحدة، لكن الآن إذ صارت سقطاتي كثيرة احتاج إلى وصايا كثيرة. لك أن تُفهمني فأتعلمها، حتى إذا ما أفهمتني إياها أتممها. أما الأشرار فيغتمون ويقولون: هذا غير نافع لنا، ومقاوم لأعمالنا ويجعلنا في عار بعصياننا للشريعة". أنثيموس أسقف أورشليم * "فهمني فأتعلم وصاياك" [73]... عندما علم مخلصنا تلاميذه قال في البشارة بحسب القديس متى الآنجيلي: "كل من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها أشبهه برجلٍ عاقلٍ" مت 24:7. إذن هل يمكن العمل بهذه الوصايا دون أن أفهمها؟! العلامة أوريجينوس يقول أبوليناريوس: [عن هذا الإدراك يقول بولس الرسول أيضًا: "افهم ما أقول، فليعطك الرب فهمًا في كل شيء" 2تي 7:2. هذه الطلبة موجهة إلى الخالق، وهي طلبة منطقية، تعني: تعهد خليقتك، كمِّل الكائن المفكر وهبه التعقل والإدراك والفهم. ذاك الذي أعددته ليحيا في حبك، اجعله يعيش في حبك بمعرفته إرادتك، لأنه منذ البدء احتاج الآنسان إلى التعلم...] يقول القديس أغسطينوس أنه يمكنه أن يقدم لشعبه ما يستمعون إليه من كلمات، أما الفهم فهو عطية إلهية. يقدم الكلمات للآذان، أما الله فيقدم الفهم للقلوب. * يتحقق الاستماع بواسطتي، لكن من يقدم الفهم؟ إني أتحدث مع الأذن لكي تستمع، لكن من يتحدث مع قلبك للفهم؟ بلاشك يوجد من ينطق بشيء من الحق يدخل قلبك، فلا يقف الأمر عند ضجيج الكلمات التي تضرب أذنك، بل يوجد شيء من الحق يدخل قلبك. يوجد من يتحدث مع قلبك وأنت لا تراه. إن كان لكم فهم يا إخوة فالحديث موجه إلى القلب. الفهم هو عطية القلب. إن كان لكم فهم، من ينطق بهذا في قلوبكم إلا ذاك الذي يُوجه إليه المزمور: "فهمني فأتعلم وصاياك"1؟ القديس أغسطينوس |
|