|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
مثَل الزوان
أعلن السيّد المسيح العمل الإلهي في إقامة مملكته داخلنا، فقد خرج الزارع بنفسه، وألقى بذار الكلمة منتظرًا الثمر، أمّا هنا فيُعلن عن وجود عدوّ مقاوم، أي إبليس رئيس مملكة الظلمة الذي لا يطيق مملكة النور. "قدّم لهم مثلًا آخر، قائلًا: يشبه ملكوت السماوات إنسانًا زرع زرعًا جيدًا في حقله. وفيما الناس نيام جاء عدوّه وزرع زوانًا في وسط الحنطة ومضى، فلما طلع النبات وصنع ثمرًا حينئذ ظهر الزوان أيضًا" [24-25]. لم يقل السيّد "وفيما الزارع نائم جاء عدوّه وزرع زوانًا، إنّما قال "فيما الناس نيام". وكأن الله يسهر على كرمه، ويهتمّ به، لكن الكرّامين إذ ينامون يتسلّل العدوّ إلى الكرم. إنه يحترم الإرادة الإنسانيّة ويأتمنها، فإذ يسلّم الكرم للكرّامين يطلب سهرهم، فيعمل فيهم على الدوام ولا يقدر العدوّ أن يلقي بالزوان، لكن إن ناموا لحظة يتسلّل العدوّ. لم يقل السيّد "جاء عدوّهم"، إنّما "جاء عدوّه" فالعدو لا يقصد الكرّامين بل صاحب الكرم. العامل الحقيقي ضدّ الكرم هو إبليس عدوّ الله نفسه، حتى في مضاداته لنا يقصد الله نفسه الساكن فينا. أنها حرب بين الله وإبليس، بين النور والظلمة، ليس لنا عدوّ غير إبليس نفسه وملائكته الأشرار المقاومين لعمل الله فينا. أما النوم هنا فلا يعني نوم الجسد الطبيعي، وإنما التراخي والإهمال أو نسيان الله في العمل الرعوي كما في الجهاد الروحي فالراعي ينام حينما يبذل كل الجهد في رعايته خلال "الأنا"، فيحسب نفسه المسئول الأول عن الكرم، فيختفي الله لتُعلن الذات البشريّة. ويرى القديس جيروم أن النوم إنّما يُشير إلى تراخي الذهن عن الالتصاق بالعريس، إذ يقول: [لا تسمح للعدو أن يلقي زوانًا وسط الحنطة بينما الزارع نائم، أي عندما يكون الذهن الملتصق بالله في غير حراسة، وإنما قل على الدوام مع عروس نشيد الأناشيد: "في الليل على فراشي طلبت من تحبّه نفسه، اخبرني أين ترعى أين تربض عند الظهيرة؟ (نش 3: 1؛ 1: 7)(568).] هكذا يليق بكل مؤمن - كاهن أو من الشعب - ألا ينام روحيًا بل يكون دائمًا في يقظة ملتصقًا بالله، فيحرس الرب كرمه من العدوّ حتى لا يلقي بزوانه وسط الكنيسة أو في قلب المؤمن كعضو فيها. أولًا: يُشير الزوان إلى الهرطقات التي تدخل الكنيسة خلسة، خاصة في غفلة روحيّة من الرعاة. يقول القديس جيروم: [ليت أسقف الكنيسة لا ينام لئلا بإهماله. يأتي إنسان عدوّ ويلقي بالزوان أي تعليم الهراطقة(569).] ثانيًا: يُشير الزوان أيضًا إلى الخطيّة التي تتسلّل إلى الفكر والقلب في غفلة روحيّة من المؤمن. يتحدّث الآب إسيذورس بالبلسان عن الأفكار الشرّيرة، قائلًا: [لماذا تنبع الأفكار الشرّيرة من القلب وتنجِّسالإنسان (مت 15: 19-20)؟ بلا شك لأن العاملين نيام، مع أنه كان يلزم أن يكونوا ساهرين حتى يحفظوا ثمار البذار الصالحة لكي تنمو. فلو لم نضعف أثناء سهرنا بسبب النهم والتراخي وتدنيس الصورة الإلهيّة أي فساد البذرة الصالحة ما كان يمكن لباذر الزوان أن يجد وسيلة للزحف وإلقاء الزوان المستحق للنار(570).] ثالثًا: يُشيرإلى الأشرار بوجه عام الذين يحملون شكليّة العضويّة الكنسيّة دون روحها وحياتها. "فلما طلع النبات وصنع ثمرًا، حينئذ ظهر الزوان أيضًا. فجاء عبيد رب البيت، وقالوا له: يا سيّد أليس زرعًا جيّدًا زَرعت في حقلك، فمن أين له زوان؟ فقال لهم: إنسان عدوّ فعل هذا. فقال له العبيد: أتريد أن نذهب ونجمعه؟ فقال له: لا، لئلا تقلعوا الحنطة مع الزوان وأنتم تجمعونه. دعوهما ينميان كلاهما معًا إلى الحصاد. وفي وقت الحصاد أقول للحصّادين: اِجمعوا أولًا الزوان واِحزموه ليُحرق، وأما الحنطة فاجمعوها إلى مخزني" [26-30]. هكذا ينصحنا السيّد ألا ننشغل بنزع الزوان، إنّما نتركه حتى يأتي وقت الحصاد، فيرسل الله ملائكته كحصّادين يجمعونه ويحرقونه. وأما الحنطة فيجمعونها إلى ملكوته عِوَض أن ندين الأشرار. فإن هذا ليس عملنا! ومن جهة أخرى فإنه مادام الوقت قائمًا فإنّنا لا نيأس قط، مجاهدين لا في اقتلاع الزوان، بل في العمل على تحويل الزوان إلى حنطة. يقول الأب إيسيذورس بالبلسان أن الملائكة يطلبون نزع الزوان أي عقاب الأشرار، لكنهم يُمنعون من ذلك حتى يتمتّع الأشرار بفرصة للتوبة، ولا يُضار الصالحون. فإن الله لم يقطع عيسو الشرّير حتى لا يهلك معه أيوب البار الذي جاء من نسله، ولم يقتل لاوي العشّار حتى لا يفقده ككارز بالإنجيل، ولا اِنتقم لإنكار سمعان بطرس الذي قدّم دموع التوبة بحرقة، ولا ضرب شاول الطرسوسي بالموت حتى لا نفقد بولس الرسول الذي كرز بالخلاص في أقاصي الأرض. * سمح الله بالزمن لأجل التوبة. إنه يحذّرنا هنا لئلا نقطع أخًا قبل الوقت المناسب، فإن من يكون اليوم مصابًا بالتعاليم السامة قد يعود غدًا إلى صوابه ويصير مدافعًا عن الحق(571). القديس جيروم * كثيرون يكونون في البداية زوانًا، لكنهم يصيرون بعد ذلك حنطة، فإن لم نحتملهم بالصبر وهم خطاة، لما يمكن بلوغهم إلى هذا التحوّل المستحق لكل تقدير. * اهدأوا، فإنه ليس الآن وقت للحصاد. سيأتي الوقت لعلّه يجد الزوان قد صار حنطة! لماذا لا تحتملون بصبرٍ خلطة الأشرار بالأبرار؟ إنهم معكم في الحقل، لكن الأمر لا يكون هكذا في المخزن!(572) * إنك تجد القمح والزوان بين الكراسيالعُظمى كما بين العلمانيّين أيضًا. فليحتمل الصالحون الأشرار، وليصلح الأشرار من أمرهم مقتدين بالصالحين(573). القديس أغسطينوس ويرى القديس جيرومفي كلمات الديّان بترك الزوان إلى وقت الحصاد حنوًا على الخطاة لأجل توبتهم، فيناجيه قائلًا: [حقًا يُحسب الناس والملائكة قساة إن قورنوا بك، فأنت وحدك الملك الكُلي الحنو... نسألك أن تكون أنت الديّان، لأنك تحنو على جميع الأمم(574)!] يرى القديس يوحنا الذهبي الفمفي هذا المثل صورة حيّة لواقع الكنيسة فإنه بقدر ما تُبذر بذار الحق، يبذل عدوّ الخير كل الجهد أن يلقي بالزوان في وسطها. إنه يقول: [بعد الأنبياء يأتي أنبياء كذبة، وبعد الرسل يأتي رسل كذبة، وبعد المسيح يأتي ضدّ المسيح(575).] هل يترك الزوان داخل جماعة المؤمنين أو داخل قلب المؤمن؟ ألم يقل الرسول: "ألستم تعلمون أن خميرة صغيرة تخمِّر العجين كله! إذًا نقّوا منكم الخميرة العتيقة لكي تكونوا عجينًا جديدًا كما أنتم فطير" (1 كو 5: 6-7)! لم يقصد السيّد ترك البدع والخطيّة، وإنما أراد تأكيد مبدأ هام، ألا وهو أن نزع الشرّ من عمل الله نفسه لا الإنسان. فالكنيسة في معالجتها للشرّ لا تحتاج إلى مقاومة فلسفيّة ومناقشات بقدر ما تحتاج إلى التقديس. لست أنكر التزامنا نحن كرعاة ورعيّة في رفض البدع والخطيّة. لكن ينبغي أولًا أن نتسلَّح بالجانب الإيجابي ألا وهو الحياة النقيّة المقدّسة، فنحمل السيّد المسيح نفسه فينا، هو الديّان وحده القادر أن يطرد الظلمة بإشراقه علينا كشمس البرّ! لست بهذا أقلّل من شأن أبطال الإيمان الذين وقفوا أمام الهرطقات، والقدّيسين الذين صوّبوا السهام ضدّ الخطيّة، وإنما كان هؤلاء مختفين في السيّد المسيح نفسه الصخرة الحقيقيّة، الذي يحطّم كل موجة للشك، وكان القدّيسون بالروح القدس الساكن فيهم يصوّبون "السيّد المسيح" نفسه كالسهم الناري لقتل الخطيّة والشرّ! حقًا لقد طالبنا السيّد ألا نقتلع الزوان، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [أنه لا يجوز للكنيسة أن تأمر بقتل هرطوقي، فهذا ليس عملها، لكنها تقاومه فكريًا(576).] وأوضح القديس أغسطينوسموقف الكنيسة من الهراطقة "الزوان" قائلًا: [إن كان أحد المسيحيّين وهو ثابت في الكنيسة قد أُخذ في خطيّة من نوع يستحق أن يُحرم من الكنيسة، فلْيتِم هذا: تجنّب حدوث انشقاق، بمعالجة الأمر بالحب فتصحّح عِوض أن تُقتلع. فإن لم يأت إلى معرفة خطأه ولم ينصلِح بالتوبة يُطرد. ليقطع بإرادته من شركة الكنيسة، لأن قول الرب: "دعوهما ينميان كلاهما معًا"، قد أضيف إليه السبب وهو "لئلا تقلعوا الحنطة مع الزوان"، مقدمًا تفسيرًا واضحًا. أمّا هنا فالسبب غير موجود، فبقطعه لا يوجد قلق على سلامة الحنطة متى كانت جريمته واضحة ويظهر لكل واحد أنه ليس من يدافع عنه أو على الأقل أنه ليس له مدافعون يسبّبون انقسامًا(577).] |
|