الراهب القمص بطرس البراموسي
: حبوا الأعداء وسامحوا أخواتكم
هذه المقولة البسيطة التي تُذَكِّرْنا بها الكنيسة في قِطَع عشية آحاد الصوم الكبير ليست جديدة، ولكنها وصية إنجيلية نَطَقَ بها السيد المسيح لكي يُعَلِّمنا أننا يجب أن نرتقي فوق المستوى البشري، الذي يعلم أن الإنسان يجب أن يحب قريبه ويبغض عدوّه. ولكنه جاء لكي يقدم لنا طريقًا أفضل وهو طريق الحب والمحبة العملية، فنجده يقول: "سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ" (إنجيل متى 5: 43، 44)، فهذا المستوى يرتقي بِمَن يعيشه إلى الصَّفْح والمغفرة، فليست محبة بدون مغفرة.
فالإنسان الذي لا يسامح ولا يغفر لا يستطيع أن يحب أبدًا، فالقلب الكبير هو الذي يحتوي الآخر بكل تصرفاته الرديئة والحسنة، وهو الذي يحتمِل الإهانة والمديح، وهو الذي يقبل التقريع مثل التفخيم.. يحيا مثل حياة الراهِب في القِصة المذكورة في بستان الرهبان عندما ذهب أحد الرهبان إلى أحد الشيوخ وسأله: "كيف أكون راهِبًا حقيقيًا"؟ فقال له الشيخ: "اذهب إلى القبور وامتدِح الموتى الذين فيها، وقُل لهم: «أيها الأبرار القديسون، الفضلاء...» واسمع بماذا يُجيبوك". فذهب الراهب وفعل هكذا، وبقى فترة صامِتًا كي يسمع منهم الرد فلم يجيبوه بشيء. فرجع وقصَّ ذلك على الشيخ، فقال له الشيخ: "اذهب في الغد وقُل لهم: «أيها الأشرار، السارِقين، الخاطِفين، القُساة...»، واسمع بماذا يجيبوك.. ففعل الراهب هكذا وظل صامِتًا ليسمع ردهم فلم يجيبوه بشيء. فرجع يقص ما حدث للأب الشيخ، فقال له: "هكذا هو حال الراهِب الحقيقي؛ لا يبالي بما يُقال له من مديح أو إهانة، فهذان يتساويان مع بعضهم البعض، لأن الراهب الحقيقي هو مَنْ أماتَ حواسهُ ولم يَعُد يتأثَّر بأي مديح أو إهانة..
هذا الإنسان الذي يُدَرِّب نفسه على المحبة الحقيقية، يُدَرِّب نفسه على محبة العدو مثل محبة القريب، وعلى محبة الفظ الأخلاق مثل اللطيف البَشوش، وعلى محبة مَنْ يذمه مثل مَنْ يمتَدِحَهُ.. ولذلك نعجب من أُناس تَخْرُج من أفواههم وقت المُضايَقات من العالم وساكِنيه ألفاظ تَمَنِّي الضرر بالآخرين، وطلب من الله أن يَنْزِل بالنقمة عليهم ليفنيهم من على وجه الأرض.. وأتمنى من القارئ أن يكون مستوعِبًا ما أريد أن أقوله، وهي: "الدعاء على الأعداء" بالفناء والتشريد والفقر والقتل والتَيَتُّم، وما إلى ذلك من دعوات رديئة لا يسْتَجِب لها الله أبدًا، فالله يعطي لكل إنسان فوق الكرة الأرضية مئات وآلاف الفرص للتوبة، فلا تَسْتَغْرِب أيها الحبيب أن الله يطيل أناته على هؤلاء الأعداء.. فهم في عداء معك، ولكن في صُلح مع غيرك، ولذلك يعطيهم الله فرصًا أكثر للتوبة لكي لا يكون لهم ما يشْتَكون به يوم الدينونة العامة، ويقولون للحاكِم العادِل: "لماذا لم تُعطِنا فُرَصًا لكي نتوب عن أفعالنا هذه"، فيجيبهم: "إنني أعطيتكم فُرَصًا لا حَصْرَ لها وأنتم حَوَّلتُم نظركم عني، لذلك أكملتم «أَنْتُمْ مِكْيَالَ آبَائِكُمْ» (إنجيل متى 23: 32).
ولذلك وجب عليك أيها الحبيب يا مَنْ تَسعى لاقتناء الفضيلة والنمو الروحي أن تُدَرِّب نفسك على احتمال الإهانة والتجريح، وتُدَرِّب نفسك أيضًا على مُسامَحة الكل وحُب الكل حتى الأعداء.