|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
يسوع هو المسيح ابن الله
آ13. ولمّا جاء يسوعُ إلى بلد قيساريَّة فيلبّوس، وهي مدينة من فونيقي، موقعها عند ذيل جبل لبنان بالقرب من ينبوع نهر الأردنّ، وقد دُعيت قديمًا لاو أو لاسام، ثمَّ دُعيت دان لأنَّها وقعت في سهم سبط دان، ثمَّ بانياس. ودعاها بهذا الاسم اليونانُ عند استيلائهم على سورية، إذ كانوا يعرفون بأنَّ إله الرعاة أكثر من دان السبط العبرانيّ. وأخيرًا زادها ووسَّع بناءها فيلبُّوس بن هيرودس العسقلانيّ، رئيس الربع على إيطوريا وأنطرخون، إكرامًا لطيباريوس قيصر، ودعاها قيساريَّة فيلبُّوس تمييزًا لها عن قيساريَّة الأخرى، التي كان شيَّدها قبلاً هيرودس أبوه، إكرامًا لأغوسطس قيصر، في المحلّ المدعوّ برج ستراطون على البحر المتوسِّط بين دورا ويوب. وهذه حيث إنَّها أقدم وأشرف، فتسمّى بالإطلاق قيساريَّة أو قيساريَّة فلسطين، كما في أع وتواريخ يوسيفوس*. سأل تلاميذَه قائلاً: ماذا تقولُ الناسُ فيَّ أنا ابن البشر؟ أي أيَّة رتبة وأيَّة سلطة يقول الناس إنّي متَّصف بهما؟ وروى مر 8: 27 أنَّه سألهم عن ذلك إذ كانوا في الطريق، وروى لوقا أنَّه سألهم إذ كان يصلّي منفردًا. ووفقه مار أغوسطينوس* بأنَّه إذ كان في الطريق، قبل أن يبلغ المحلّ المسافر إليه، حاد عن الطريق إلى محلٍّ يصلّي. ولمّا انقضت صلاته وأخذ بالمسير معهم سألهم، كما تقدَّم، إذ لا يتَّفق أن يكون في الطريق سائرًا وأن يصلّي وأن يبدأ هذا الخطاب المسهب في وقت واحد. كذا فسَّر ملدوناتوس*. آ14. فقالوا: قومٌ يقولون يوحنّا المعمدان. إنَّ عامَّة اليهود كانت ترى أن قد بطلت عندهم النبوءة والأنبياء من بعد السبي البابليّ، إذ تنبَّأ زخريّا وملاخيا اللذان كانا آخر الأنبياء، ولذا لم يكونوا يحسبون المسيح نبيًّا حديثًا، بل أحد الأنبياء القدماء. وقومٌ كثير من اليهود كانوا يظنُّون أنَّ النفوس تنتقل من جسم إلى آخر، بحسب مذهب التناسخ الذي علَّم به فيتاغوروس*، ولهذا كانوا يتوهَّمون أنَّ نفس أحد الأنبياء انتقلت إلى يسوع، أو كانوا يظنُّون أنَّ أحد الأنبياء قام وهو يسوع، كما قال هيرودس عن المخلِّص: هذا هو يوحنّا فقد قام من بين الأموات. فإذًا كان بعضهم يقولون عن المسيح، إنَّه يوحنّا المعمدان، للمطابقة بينهما في التعليم وحسن الخصال والسيرة. وبما أنَّ يوحنّا كان قُتل عن قرب، فلم يكونوا نسُوا ذكره، وكانوا يحسبونه مستحقًّا القيامة. وآخرون إيليّا. وكان بعضهم يظنُّ المسيح إيليّا، لاعتبار شخصه وغيرته في الإنذار وعجائبه، ولأنَّ إيليّا ما زال حيًّا، وكانوا ينتظرون عودته بحسب ملا 3: 23: هاأنذا أرسل إليكم إيليّا النبيّ. وآخرون إرميا، لأنَّه قيل لهذا النبيّ: ها أنذا أقمتك على الأمم (إر 1: 5). أو أحدُ الأنبياء. وكان بعضهم يقولون إنَّه الماسيّا، وهؤلاء قليلون. آ15. فقال لهم: وأنتم الذين تعرفون أكثر من العامَّة، وقد عاشرتموني وزدتكم نعمًا وإحسانات بالتفضيل عليهم، ماذا تقولون من أنا؟ آ16. فأجاب سمعان الذي كان سُمّي في الختانة سمعان، وسمّاه المسيح كيفا بالسريانيَّة أي الصفا والصخرة، فهذا أجاب بما أنَّ المخلِّص أقامه رئيسًا في مدرسة الرسل، ولذا فاق الباقي رتبة وشرفًا وغيرة، قائلاً دون توقُّف ولا تردُّد: أنت هو المسيح الفادي، الذي وُعدتْ به المسكونةُ، ولستَ إنسانًا محضًا، بل ابنُ الله الحيّ، بالبنوَّة الطبيعيَّة ووصف الله بالحيّ، كما تصفه الأسفار المقدَّسة، تمييزًا له عن الأوثان العادمة الحياة. كذا فسَّر فم الذهب* وكيرلُّس* وأمبروسيوس* وأغوسطينوس*. وارتأى إيرونيموس* وأنسلموس* وتوما* والليري*، وأغوسطينوس* في كلام الربّ خطبة 13، وأمبروسيوس* في كتابه في التجسُّد رأس ،4 وغيرهم، أنَّ بطرس أجاب بالنيابة عن جميع الرسل بمنزلة فم لهم. والأحسن ما ارتآه إيلاريوس* والأبولنسيّ* وملدوناتوس* وفرنسيس لوقا* وبراديوس* وغيرهم، أنَّ بطرس تكلَّم من قبل نفسه فقط، وهذا يظهر من تطويب المسيح له وحده لأجل هذا الاعتراف، ووعده بجزاء وامتياز خاصّ عنوة عن باقي الرسل، كما سيجيء. وارتأى إيلاريوس* وفم الذهب* وغيرهما، أنَّ بطرس أوَّلُ من اعترف بلاهوت المسيح. وأنكره غيرهم قائلين: إنَّ نتانائيل اعترف بذلك قبله، إذ قال: أنت هو ابن الله، أنت هو ملك إسرائيل (يو 1: 49). ولعمري، إنَّ الرسل قبل إقرار بطرس هذا، عرفوا المسيح إلهًا من أقواله وأفعاله وعجائبه المثبِتة ذلك، كما يبان من قول بطرس: قد آمنّا وعرفنا أنَّك أنت هو المسيح ابن الله (يو 6: 65)، وقول الرسل: حقًّا أنت هو ابن الله (مت 14: 33). ولكن من حيث إنَّ الرسل كانوا بعد سذَّجًا، فكانت معرفتهم ذلك ضعيفة ومشوَّشة، فكانوا يؤمنون بأنَّ المسيح هو ابن الله أكثر من كلِّ الأنبياء، بل هو إله أيضًا، إلاّ أنَّهم كانوا يجهلون هل هو إله بالميلاد الأزليّ أو بنوع آخر، ولم يكن يمكنهم شرح ذلك بصراحة وتفصيل. وأمّا بطرس فعَلِمَه بجلاء وإيضاح مستنيرًا بنوع سامٍ من الله. ولمّا سُئلوا عن ذلك أجاب مصرِّحًا به. آ17. فأجابه يسوع قائلاً: طوباك يا سمعانُ بنَ يونا، لأنَّه لا لحمَ ولا دمَ أظهرَ لك ذلك، لكن أبي الذي في السماء. أي طوبى لك على هذا الإيمان والاعتراف بي. ويونا اسم مرخَّم من يوحنّا، إذ قرأت اللاتينيَّة في يو 21: 1 "ابن يوحنّا" عوضًا عن "ابن يونا". ومعنى يوحنّا: تحنُّن الله ونعمته. أو هو ابن يونا بتخفيف الواو وتأويل يونا بالسريانيَّة الحمامة. فطوباك، لأنَّ هذا السرّ لم يُطلعْك عليه، ولم ُعلمْكه الجسد أو الدم، أي البشر والحكمة والحذاقة البشريَّة، فإنَّ هذه لا تستطيع أن تعلو فوق قواها لتعلمك ذلك، بل قد أنارك به وأفهمك إيّاه أبي السماويّ. قد لاحظ فم الذهب* أنَّ المخلِّص دعا بطرس ابن يونا لا بحسب عادة اليهود فقط بأن يضيفوا اسم الابن إلى اسم الأب، بل ملاحظة لجواب بطرس. فكان المسيح يثبت جوابه قائلاً: إنَّك بالحقيقة تقول إنّي ابن الله، لأنَّه كما تدعى أنت ابن يونا، لأنَّك ولدت منه مولدًا طبيعيًّا، هكذا أنا أيضًا أدعى ابن الله، لأنَّ الله ولدني بحسب طبعه منذ الأزل. فأنا إله من إله. وهذا ضدُّ*** من يزعمون أنَّه ابن الله بالذخيرة. ومن حيث إنَّك أقررت هذا الإقرار السامي، فأنا أمنحك أيضًا مرتبة سامية، قد رسمت بمنحها لك دون باقي الرسل كافَّة. آ18. وأنا أقولُ لكَ: إنَّك أنت هو الصخرة وعلى هذه الصخرة أبني بيعتي، وأبوابُ الجحيم لن تَقوى عليها. أي أنا أبيِّن لك الآن، لماذا قلت قبلاً (في يو 1: 43) إنَّك تدعى الصفا أي الصخرة، لأنّي أقمتك بأمري صخرة للكنيسة، وهذه الصخرة تكون أساسًا ثابتًا للكنيسة بعدي، وعليها أبني بيعتي. على أنَّ النسخة اليونانيَّة قرأت: أنت هو بطرس (بالمذكَّر)، وعلى هذه البطرا (بالمؤنَّث) أبني بيعتي. وقد اتَّبعتها النسخة اللاتينيَّة في ذلك، ومن هنا اتَّخذ البروتسطنت سبيلاً ليقولوا إنَّ بطرا ليس هو بطرس، وبالتالي إنَّ بطرس ليس أساس الكنيسة، مع أنَّ بطرس وبطرا بمعنًى واحد وهو الصخرة. وكذبُ مدَّعاهم يبان أوَّلاً من اسم الإشارة هذا، الذي من حيث هو مبهم، فلا يشار به إلاّ إلى بطرس المذكور سابقًا، فكأنَّه يقول: إنَّك أنت هو بطرس أو بطرا الكنيسة يعني صخرتها، وعلى هذه البطرا أبني بيعتي. ثانيًا، إنَّ المسيح تكلَّم بالسريانيَّة فقال: أنت هو كيفا، وعلى هذه الكِيفا أبني بيعتي. وكيفا، الصخرة، ولذلك دعى بطرس كِيفا أي الصفا والصخرة. لكنَّ المترجم اليونانيّ وضع اسم بطرس المذكَّر له بما أنَّه رجل، ووضع اسم بطرا المؤنَّث له بما أنَّ صخرة وأساس للكنيسة وبطرس وبطرا بمعنًى واحد في اليونانيَّة، كما تقدَّم. فالمترجم إذًا، رغبة بالفصاحة، غيَّر النصّ وروى: أنت هو بطرس، وعلى هذه البطرا لا على هذا البطرس. ثالثًا، إنَّه لا التحام في القول: أنت هو بطرس وعليَّ أنا البطرا أبني بيعتي، كما فسَّر البروتسطنت*، إذ يكون ذلك تغييرًا في الخطاب، ونقضًا للإحسان المعطى لبطرس، وكان يمكن بطرس أن يقول للمسيح: أنا هو بطرس أي صخرة الكنيسة، كما دعوتني، فكيف لا تبني بيعتك عليَّ بل على نفسك؟ رابعًا، إنَّ السوابق واللواحق كقوله "أنا أقول لك: إنَّك أنت هو الصخرة"، وقوله "ولك أعطي مفاتيح ملكوت السماء"، لا يمكن أن تُنسب إلاّ لبطرس، ولا تُؤذن بأن يُفهَم بقوله "وعلى هذه الصخرة" غير بطرس. خامسًا، إنَّ النسخ الأصليَّة والشرقيَّة يتَّضح منها جليًّا أنَّ البطرا هي بطرس، وقد تقدَّم منها ذكر العربيَّة والسريانيَّة، وكذا قرئ في الإنجيل العبرانيّ الذي أشهره سابستيانوس مونستاروس* بمنزلة نسخة أصليَّة وصحيحة لمار متّى. وكذا قرأت النسخ الأرمنيَّة والحبشيَّة والقبطيَّة والفارسيَّة. تقول: إنَّ فم الذهب* وإيلاريوس* في ك 6 في الثالوث وكيرلُّس* في ك 4 في الثالوث وأمبروسيوس* في ك 6 في لو 9، فهموا بالبطرا الإيمان الذي أقرَّ به بطرس. فأجيب أنَّ هؤلاء الآباء لم يفهموا بذلك الإيمانَ بالتجرُّد، بل بحسب وجوده في بطرس، وبالتالي يجعلون بطرس بطرا الكنيسة أي صخرتها. أي إنَّهم أرادوا أن يقولوا إنَّ بطرس، لاستحقاق إيمانه، نال مقام الصخرة في الكنيسة. كما صرَّح بذلك إيلاريوس* وفم الذهب*. فإذًا الإيمان سبب لوضعه أساسًا، والأساس أي الصخرة هو بطرس. كذا قال أيضًا كيرلُّس* في ك 4 في الثالوث، وأمبروسيوس* في ك6 في لوقا، وبلرمينوس* في ك 1 في الحبر الأعظم رأس 10. على أنَّ مار أغوسطينوس* في مقالة 27 في يوحنّا، وفي ك 1 من ارتجاعاته رأس 1، قال إنَّ الصخرة يريد بها المسيح نفسه لأنَّه هو الصخرة، كما ورد في 1 كور 10: 4. وهذا التقَفَه كلفينوس* بكلِّ رغبة في ك4 من رسومه رأس 6 فصل 6 والأراطقة، لينقضوا رئاسة بطرس والأحبار الأعظمين. إلاّ أنَّ جميع الآباء الباقين، كأنَّه بالإجمال، يفهمون بالصخرة بطرس، وقد ذكرهم ملدوناتوس* بإسهاب في هذا المحلّ، وبلرمينوس* في ك 1 في الحبر الرومانيّ رأس 10. أمّا مار أغوسطينوس* فقد انخذع لعدم معرفته العبرانيَّة والسريانيَّة، فظنَّ أنَّ البطرا غير بطرس، مع أنَّه واضح أنَّهما بمعنًى واحد. وقد سلَّم مار أغوسطينوس* برأي من يقولون إنَّ بطرس هو صخرة الكنيسة، وها هوذا ما قاله في خطبته في كاتدرا بطرس: "أخيرًا يسمّى صخرة الكنيسة لثبات العبادة، كما قال الربُّ: أنت هو بطرس، وعلى هذه البطرا أبني بيعتي، ويسمّى صخرة لأنَّه أوَّل من وضع أساسات الإيمان عند القبائل، وبمنزلة صخر غير متزعزع يمسك جرم الجمعيَّة المسيحيَّة كلِّها". وقال في خطبة 16 في القدّيسين "إنَّ بطرس (أي الصخرة) يكون مناسبًا للأساس لبناء شعوب الله، وعمودًا للإسناد ومفتاحًا للملكوت". وأمّا الآية السابق ذكرُها من رسالة قورنثية، فمن الواضح أنَّ الكلام فيها ليس بهذا المعنى، إذ قيل هناك: "وكانوا يشربون من صخرة روحانيَّة تتبعهم، وتلك الصخرة هي المسيح". أي أنَّ الصخرة التي كان العبرانيّون يستقون منها كانت صورة ومثالاً للمسيح الذي يفيض أمواه النعم. ثمَّ من حيث إنَّ المخلِّص قال هذا الكلام لبطرس، بما أنَّه حبر عتيد للكنيسة، فقد منح ما منحه إيّاه لجميع خلفائه الأحبار الأعظمين. فإنَّ بطرس كان عتيدًا أن يموت. وقوله "وأبواب الجحيم لن تقوى عليها" معناه أنَّ الجحيم أي إبليس وقوّاته وتابعيه، وخاصَّة الأرطقات والأراطقة، لن يقدروا بحيلهم ومكرهم وقوَّتهم أن ينتصروا على هذه الكنيسة المؤسَّسة على الصخرة. فإذًا، المخلِّص يُعدّ هنا بطرس وخلفاءه، بأنَّهم يكونون رؤساء سامين وعامّين للكنيسة، العتيدة أن تدوم في الأرض إلى نهاية العالم. وقد عبَّر المسيح عن ذلك باستعارتين: الأولى، استعارة الصخرة والأساس، لأنَّ ما هو أساس في البناء هو رأس في الجسد، ومدبِّر وملك في الجماعة والمملكة، وحبر أعظم في الكنيسة. والثانية، استعارة المفاتيح الآتي ذكرها، فإنَّ المفاتيح تُسلَّم للملوك والرؤساء إشارة إلى ولايتهم. آ19. ولك أعطي مفاتيحَ ملكوتِ السماء. زعم كلفينوس* وأتباعه أنَّ المراد بالمفاتيح وبالحلِّ والربط الآتي ذكرهما السلطة على الإنذار بالإنجيل وحلُّ الخطايا لمن يؤمن به. لكنَّ هذا مضحك، فالمفاتيح تفتح الأبواب لا أفواه المنذرين والمعلِّمين، والمفاتيح دليل الولاية والسلطة لا دليل العلم والإنذار. ولو صحَّ ذلك، لما كان المسيح أعطى بطرس أكثر ممّا كان للكتبة والفرّيسيّين: "على كرسي موسى جلس الكتبة والفرّيسيّون، فمهما يقولوه لكم لتحفظوه فاحفظوه واعملوا به" (مت 23: 2). وسلطان التعليم قد مُنح لا لبطرس وحده، ولا للرسل وحدهم، بل للاثنين والسبعين تلميذًا أيضًا (لو 10: 1). ولو كان سلطان الحلِّ والربط نفس التعليم، لكان كلُّ من يعلِّم آخر ولو كان امرأة فيغفر له خطاياه. كذا برهن ملدوناتوس*. فالصحيح إذًا أنَّ المراد بالمفاتيح وبالحلِّ والربط هو السلطان السامي والمطلق على السياسة والتدبير. فبهذا القول وعد المخلِّص بطرس وخلفاءه بكلِّ سلطان للدرجة والولاية لازم لتدبير الكنيسة كما ينبغي، ولاقتياد بنيها إلى الحياة الأبديَّة. ومهما تربطْه في الأرض يكُنْ مربوطًا في السماء ومهما تحلَّه في الأرض يكُنْ محلولاً في السماء. فإذًا، وإن كان بطرس إنسانًا مائتًا وخلفاؤه كذلك، فمع هذا هم متَّصفون بسلطان سماويٍّ، كما قال فم الذهب*، وما رسموه من الكاتدرا يلزم اعتباره بمنزلة مرسوم من الله ذاته. إنَّ سلطان الربط يباشَر أوَّلاً، بعدم حلِّ الذنب، ويمسك الحلَّ في الاعتراف السرّيّ على من كان غير أهل له. ثانيًا، بوضع القانون على المعترف مع غفران الذنب. ثالثًا، بمعاقبة المجرم بالحرم وباقي التأديبات والعقوبات الكنائسيَّة. رابعًا، بإلزام المؤمنين بوصايا وشرائع كنائسيَّة كالأصوام والأعياد والعشور. خامسًا، بإلزام المؤمنين بعقائد الإيمان وتحديد المحاورات الدينيَّة، إذ يأمر البابا من الكاتدرا بما يجب الاعتقاد به. ومن ذلك يبان ما يباشَر به سلطان الحلّ. ثمَّ إنَّ قوله مهما تربطه في الأرض ومهما تحلَّه في الأرض معناه: مهما تربطه أو تحلَّه أنت وخلفاؤك في حال كونكم على الأرض، وليس التقدير، في حال كون المربوطين أو المحلولين على الأرض. لأنَّ سلطان البابا على الحلِّ والربط يمتدُّ إلى النفوس التي في المطهر أيضًا. وفي ذلك جدال حتّى بين العلماء الكاثوليكيّين أيضًا. والأصحّ أنَّ الحبر الأعظم، بمقتضى الحقّ يحلُّ ويربط الأحياء فقط لا الموتى. فإذًا يمنح الغفرانات للموتى، لا بصفة الحلِّ الشرعيّ لكون الموتى لم يعودوا مرؤوسيه حقيقة، بل بصفة الإسعاف والمساعدة التي هو قهرمانها، بمقدار ما هو متوجِّب من العقاب على الموتى، وكنز الغفران هذا هو على الأرض وتحت يد الحبر الأعظم. كذا علَّم مار توما* وبوناونتورا* وريكاردوس8 وغايطانوس* وسوتوسو* بلرمينوس* في مقالته في الغفرانات. وقد ذكرهم واتَّبعهم السواري* في مقالة التوبة. وزاد أنَّ الحبر الأعظم لا يحرم الموتى ولا يحلُّهم من الحرم حقيقة وعلى وجه الاستقامة، بل على غير الاستقامة فقط، إذ يمنع الأحياء من الصلاة لأجل الميت، أو يسمح لهم بها من أجله. فإذًا يقول المخلِّص لبطرس: "مهما تحلَّه" لا يُفهَم الحلّ الشرعيّ فقط، بل كلّ تفسيح ومنحة أيضًا. ومن ذلك توزيع الغفرانات من كنز الكنيسة. إنَّ هذه تُثبت جليًّا استعمال الاعتراف في الكنيسة. فإنَّ سلطان الحلِّ والربط الممنوح لبطرس والرسل، لا تمكن مباشرته دون معرفة الخطايا، ولا يمكن معرفة الخطايا التي تكون غالبًا خفيَّة دون اعتراف مَن ارتكبها. ولذا قد برهن جميع المؤلِّفين القدماء بهذه الآية استعمال الاعتراف وسرّ التوبة. منهم كبريانوس*، في خطبته في الساقطين وأثناسيوس* في الميمر على قوله "اذهبا إلى القرية التي تجاهكما"، وباسيليوس* في رسالته إلى أمفيلوكيوس. بل إنَّ المسيح قد أمر هنا مضمَرًا بالاعتراف. فبإعطائه رسله السلطان على الحلِّ والربط، قد أمر المؤمنين مضمَرًا أن يلتجئوا إليهم بذلك، كما لكأن يلزمهم الالتجاء إليه لو كان باقيًا على الأرض بالنوع المنظور، كذا قال ملدوناتوس*. آ20. حينئذٍ أوصى تلاميذه بألاّ يقولوا لأحد إنَّ هذا هو المسيح، يعني في ذينك المكان والزمان، لئلاّ يظهر متطلِّبًا المجد الباطل، كما رأينا سابقًا في مواقع تشبه هذا. ولأنَّ الرسل لم يكونوا بعد أهلاً لإقناع الجميع بذلك، كما قال فم الذهب* وتاوافيلكتوس* وأوتيميوس*. وأخيرًا (كما يتلخَّص من الآتية التالية وممّا رواه لو 9: 22)، لئلاّ يضعف الإيمان به عند مفاجأة الآلام والموت، فإنَّ الناس إذا نزَّلوا إنسانًا منزلة عليا من الاعتبار ثمَّ سقط، فيتعسَّر عودهم إلى اعتبارهم الأوَّل له. فلهذا كان يلزم انتظار القيامة وتأييدهم يوم العنصرة ليبشِّروا بأنَّه المسيح والله، لئلاّ يشكّك اليهود ويعرفوا أنَّهم يحكمون عليهم بأنَّهم قتلة المسيح والله، فيأبون الإيمان، وإذا أبَوه مرَّة فلا يعودون يريدون استماعه وإن تثبَّت بعجائب عديدة. |
|