مثل الفريسي والعشّار والصلاة المتواضعة
الأحد الثلاثون من السنة: مَثَلُ الفِرِّيسي والعَشَّار والصَّلاة المُتواضِعة (لوقا 18: 9-14)
النص الإنجيلي (لوقا 18: 9-14)
9 وضرَبَ أَيضاً هذا المَثَلَ لِقَومٍ كانوا مُتَيَقِّنينَ أّنَّهم أَبرار، ويَحتَقِرونَ سائرَ النَّاس: 10 ((صَعِدَ رَجُلانِ إلى الهَيكَلِ لِيُصَلِّيا، أَحَدُهما فِرِّيسيّ والآخَرُ جابٍ. 11 فانتَصَبَ الفِرِّيسي قائِماً يُصَلَّي فيَقولُ في نَفْسِه: ((الَّلهُمَّ، شُكراً لَكَ لِأَنِّي لَستُ كَسائِرِ النَّاسِ السَّرَّاقينَ الظَّالمِينَ الفاسقِين، ولا مِثْلَ هذا الجابي. 12 إِنَّي أَصومُ مَرَّتَيْنِ في الأُسبوع، وأُؤَدِّي عُشْرَ كُلِّ ما أَقتَني)). 13 أمَّا الجابي فوَقَفَ بَعيداً لا يُريدُ ولا أَن يَرَفعَ عَينَيهِ نَحوَ السَّماء، بل كانَ يَقرَعُ صَدرَه ويقول: ((الَّلهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطئ!)) 14 أَقولُ لَكم إِنَّ هذا نَزَلَ إلى بَيتِه مَبروراً وأمَّا ذاكَ فلا. فكُلُّ مَن رَفَعَ نَفْسَه وُضِع، ومَن وَضَعَ نَفْسَهُ رُفِع)).
مقدمة:
يتناول إنجيل الأحد الثلاثون من السنة مثل الفِرِّيسي والعَشَّار (لوقا 18: 9—14). يدعو يسوع تلاميذه من خلال هذا المثل أن يتحرَّروا من القناعات والاعتقادات الخاطئة من ناحية، وان يتَّخذوا موقف التواضع في الصلاة من ناحية أخرى. فالصلاة المتواضعة شرطً أساسي لقبولها من قبل الله، وهي التي تُحوّل الخاطئ إنسانًا صالحًا وبارًا. وهكذا يدعونا يسوع من خلال هذا المثل إلى المثول أمامه بقلب متواضعٍ، لأنَّ البِرّ لا يكمن في حفظ الشريعة فحسب، إنَّما هو نتيجة مغفرة مجانية للإنسان المتواضع أمام الله ورحمته تعالى. كلنا خطأة أمام الله وبحاجة إلى رحمة الله وغفرانه كما قيل في الكتاب المقدس "أَنَّهُ لَيْسَ بَارٌّ وَلاَ وَاحِدٌ" (رومة 3: 10). فالتواضع هو موضوع جوهري سواء أمام الله أم أمام البشر، لأنَّه يُحرِّرنا من فخ "الأنا" المتعجرفة الذي تُحرف علاقة الإنسان بربِّه وبقريبه. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.
أولا: وقائع النص الإنجيلي وتحليله (لوقا 18: 9-14)
9 وضرَبَ أَيضاً هذا المَثَلَ لِقَومٍ كانوا مُتَيَقِّنينَ أّنَّهم أَبرار، ويَحتَقِرونَ سائرَ النَّاس.
تشير عبارة "المَثَلَ" فتشير إلى مثال يصور موقفا يُقتدى به أو يُجتنب ليأخذ المرء منه درسًا وعبرة. أمّا عبارة "لِقَومٍ كانوا مُتَيَقِّنينَ أّنَّهم أَبرار" فتشير إلى انتقاد الفِرِّيسيين الذين يعتبرون أنفسهم أبرارًا (لوقا 5: 32) واثقين من برِّهم من خلال أعمالهم، لا من رحمة الله (لوقا 16: 15) ولا من برِّ المسيح، وذلك يقود إلى الكبرياء الديني. والواقع إن اكتفاء الإنسان بنفسه وبأعماله يُحرمه من نعمة الله. والحق أنَّ كل الناس ماثلون إلى الاتكال على البِرّ الذاتي. أمَّا عبارة "يَحتَقِرونَ سائرَ النَّاس" فتشير إلى اعتبار الآخرين أقل برَّاً منهم فيزدرونهم. إذ يشعرون أنّهم كاملين من جميع النّواحي، حتى أمام الله، وأنّهم أفضل من غيرهم. فالكبرياء تقود صاحبها إلى احتقار غيره.
10 صَعِدَ رَجُلانِ إلى الهَيكَلِ لِيُصَلِّيا، أَحَدُهما فِرِّيسيّ والآخَرُ جابٍ.
تشير عبارة "صَعِدَ رَجُلانِ إلى الهَيكَلِ لِيُصَلِّيا" إلى عادة الناس الذين يعيشون بالقرب من أورشليم، حيث كانوا يذهبون غالبا إلى الهيكل للعِبادة أمَّا في الصباح أو في المساء، ساعة تقدمة الذبيحة، ولكن هذا لا يمنعهم من تأدية الصلاة في أي وقت من النهار في الهيكل، مركزاً العِبادة (أشعيا 56: 7). وكانت الصلاة عادة تُقدَّم في الهيكل ثلاث مرات، وهي الساعة التاسعة (أعمال الرسل 2: 15) والثانية عشر ظهرًا والثالثة بعد الظهر (أعمال الرسل 3: 1)؛ أمَّا عبارة "الهَيكَلِ" في الأصل اليوناني ἱερόν وهي مأخوذة من كلمة سومرية (معناها البيت الكبير) وفي العبرية אהַמִּקְדָּשׁ (معناها المقدس) فتشير إلى مكان عبادة الله"، وهو بيت الله وهو أيضًا "بيت" اللمؤمنين. ولكن اليهود لم يطلقوا اسم هيكل הֵיכְלָא على كل مكان للعبادة بل على مكان واحد كبير في القدس. أمِّا باقي أماكن العبادة فكانت تسمَّى مجامع، ومفردها مجمع في العبرية בֵית הַכְּנֵסֶת. أمَّا هيكل القدس הֵיכְלָא فقد بناه سليمان، ثم جُدِّد في عهد زربابل وفي عهد هيرودس الكبير. وقد وردت لفظة الهيكل في الكتاب في معنى هيكل الرب في القدس في معظم الأحيان ولكن الكتاب أعطى الهيكل معناه المَقدس العام في أمكنة أخرى (يوئيل 3: 5 وعزرا 5: 14 وأعمال الرسل 19: 27). واستعملت اللفظة بمعنى خيمة الشهادة في أماكن ثلاثة (1 صموئيل 1: 9 و3: 3 و2 صم 22: 7). يُعلق الراهب الدومينكيّ جان تولير " إن الهيكل هو داخل النفس الحميم، حيث يقيم الثالوث الأقدس بكلّ محبّة، ويعمل بجلال في المكان الّذي أودَع فيه كلّ كنوزه بسخاء، ويرضى ويفرح من خلال تمتّعه بجلال صورته ومثاله " (العظة 48 للأحد الحادي عشر بعد أحد الثالوث الأقدس). أمِّا عبارة " فِرِّيسيّ " في الأصل اليوناني Φαρισαῖος، المترجمة من الكلمة العبريَّة פָּרוּשׁ (معناها المُعتزل أو المُنفصل). فتشير إلى عضوٍ في فئة دينية التي تدعو أعضاءها إلى التمسُّك التامّ بأحكام الشريعة الموسويَّة وبفرائض سُنَّة الأقدمين، وتفرض على أعضائها أن يعتزلوا عن الناس الذين تعتبرهم خطأة. ولكن اهتمام هؤلاء الفِرِّيسيين ينصب غالبًا على التفاصيل الصغيرة، بينما هم يُهملون أعظم واجبات الحياة. ولأنَّهم لا يعملون بما يعلّمونه، أصبحوا معروفون بالمرائين دينيا، إذ هم يهتمون بالمظهر دون الجوهر، فدافع تديُّنهم الكبرياء والاعتزاز بالنفس، لأنَّ قلوبهم مملوءة بالكبرياء والغرور وطلب المجد الباطل من الناس؛ لذلك وبَّخهم يسوع " أَنتُم، تَبدونَ في ظاهِرِكُم لِلنَّاسِ أَبراراً، وأمَّا باطِنُكُم فَمُمتَلِئٌ رِياءً وإِثماً" (متى 23: 28). أمِّا عبارة "جابٍ " في الأصل اليونانيτελώνης المُترجمة من الكلمة العبريَّة מוֹכֵס (معناها عَشَّار) فتشير إلى جابي الضرائب الذي يجبي من أبناء وطنه العُشْرَ، أي المقدَّرة بعُشْرِ دخلهم؛ والضريبة لم تكن مبلغًا مُحدَّدا لكل شخص من قبل الدولة. فكان المُوظف يُحدِّدها كما يشاء فيعطي الدولة الرومانيَّة المُستَعمِرة منها ما توجب ويحتفظ بالباقي؛ فكان معروفاً عن العَشَّارين انهم يجبون مالاً أكثر مما يحق لهم لينفقوه على أنفسهم. لهذا كانوا محرومين من الفعاليات الدينية بشكل كامل، ويُصنَّفون في مستوى واحد مع الزناة فيقال: "العَشَّارون والزناة" (متى 21: 32)، ويَحصونهم عادة مع "الخطأة". ومن هنا كانت كلمة "عَشَّار" عند الشعب اليهودي مرادفة لكلمة "خاطئ" أيْ لص وخائن. ولكن ألا يدلّ صعود العَشَّار إلى الهيكل وانسحاقه أمام الله أنه ينوي التوبة؟
11 فانتَصَبَ الفِرِّيسي قائِماً يُصَلَّي فيَقولُ في نَفْسِه: الَّلهُمَّ، شُكراً لَكَ لِأَنِّي لَستُ كَسائِرِ النَّاسِ السَّرَّاقينَ الظَّالمِينَ الفاسقِين، ولا مِثْلَ هذا الجابي.
تشير عبارة "فانتَصَبَ الفِرِّيسي قائِماً" إلى الوضع المعتاد لليهودي أثناء الصلاة، (متى 6: 5)، لكنه كان يجثو أو يركع عند ما يريد إظهار التواضع أو الإلحاح (أعمال الرسل 9: 40). لكن يبدو أن الكلمة اليونانية σταθεὶς (الواقف) المستعملة هي للدلالة على الفِرِّيسي الذي أخذ مكانا بارزاً أمام الجميع يشير إلى وضع الزهو والاعتداد بالذات والعجرفة الفِرِّيسيَّة التي سمَّمت جميع ميزاته؛ إذ هو يتقدَّم بشعور المُستحق لا بشعور المحتاج؛ أمَّا عبارة "فيَقولُ في نَفْسِه" فتشير إلى أفكاره كلها التي دارت حول نفسه، ولم يخرج بها عن ذاته، وهو يُعدّد فضائله كلّها. أمَّا عبارة "شُكراً لَكَ" فتشير إلى بداية حسنة للصلاة لو كانت مقترنة بتواضع وعدم تعيير الغير، لكن الفِرِّيسي أخطأ من خلال جعل شكره وسيلة للافتخار بفضائله وأعماله، محوَّلاً موضوع شكره لله برَّ نفسه. فهو لا يشكر الله على عظمته ورحمته، بل يشكره لأنه شخصيّاً يختلف عن الآخرين، مُعظِّماً مُبجِّلا نفسه. إنها صلاة الشكر غير صحيحةـ لانَّ ومضوعها ينحصر في "الأنا" المُتكبرة؛ هذا هو الخطر الّذي يدمِّر التواضع الحقيقي فيصبح مزيفًا. أمَّا عبارة "أَنِّي " فتشير إلى الصيغة الشخصية "أنا" التي تكررَّت خمس مرات: ضمير المتكلّم متغلغل في معظم كلماته: "أنا"، "إنّي"، “لست"، "أصوم"، "أعشّر". فكانت صلاته من نفسه، وعنها، وإليها. مما تدل على حب الذات والأنانية "أنا" بعيداً عن الله والقريب. أمَّا عبارة "شُكراً لَكَ لِأَنِّي لَستُ كَسائِرِ النَّاسِ" فتشير إلى تقسيم الناس إلى قسمين: القسم الأول يتكوَّن هو منه، ولا يراه في نفسه إلاَّ الصلاح؛ القسم الثاني يتكوَّن من سائر الناس، وهو لم يره فيهم سوى الشر. وقد نسى الفِرِّيسي في صلاته أنه إنسان ضعيف خاطئ كما جاء في نبوءة أشعيا "كُلُّنا ضَلَلْنا كالغَنَم كُلُّ واحِدٍ مالَ إلى طَريقِه "(أشعيا 53: 6) وبهذا خدع نفسه كما علم يوحنا الرسول " إِذا قُلْنا: إنَّنا بِلا خطيئة ضَلَّلْنا أَنفُسَنا ولَم يَكُنِ الحقُّ فينا" (1 يوحنا 1: 8). ويُعلق يوحنا الذهبي الفم " ما أشقاكَ، أنتَ الذي تجرؤ على إصدار الأحكام على الأرض بأسرها! لِمَ تمعِنُ بإهانة قريبك؟ ما حاجتُكَ إلى أن تحكم على هذا العَشَّار، ألم يكفِكَ ما فعلتهُ بالأرض؟ لقد أصدرتَ اتّهاماتٍ بحقّ جميع البشر، بدون استثناء" (عظات حول التوبة، العظة رقم 2)؛ أمَّا عبارة "السَّرَّاقينَ الظَّالمِينَ الفاسقِين" فتشير إلى تصنيف الناس بحسب آثامهم. فقد أمكنه أن يرَ خطايا الغير ويُعلنها، ولكنه لم يرَ واحدة من آثامه. أمَّا عبارة "لا مِثْلَ هذا الجابي " فتشير إلى اعتبار العَشَّار الداخل إلى الهيكل أحد هؤلاء السَّرَّاقينَ الظَّالمِينَ الفاسقِين، بل هو مثال الخطأة. ويريد أن يركب على أكتاف القريب. ويعلق القدّيس يوحنا الذهبيّ الفم " أمّا العشّار، فقد سمعَ جيّدًا هذه الكلمات، وكان بوسعه أن يجيبَ بهذه العبارات: "مَن تظنّ نفسك، أنت الّذي تجرؤ على توجيه مثل هذه الألفاظ المهينة بحقّي؟ ماذا تعرفُ عن حياتي؟ أنتَ لم تعِش قطّ في البيئة التي أعيشُ فيها، ولستَ من المُقرّبين لي. لِمَ تُظهر هذا الكبرياء؟ لكنّه لم يُجِب بشيء، بل بالعكس، فقد سجدَ قائلاً: "اللهمّ ارحمني أنا الخاطئ!" وقد بُرِّئَ لأنّه أظهر تواضعه"(عظات في التوبة، العظة رقم 2).
12 إِنَّي أَصومُ مَرَّتَيْنِ في الأُسبوع، وأُؤَدِّي عُشْرَ كُلِّ ما أَقتَني.
تشير عبارة "أَصومُ مَرَّتَيْنِ في الأُسبوع" إلى صيام أكثر مما تفرضه عليه الشريعة. فالشريعة لا تُوصي إلاّ بصوم ٍ واحدٍ في السنة وهو يوم الكفارة العظيم، "هذه تَكونُ لَكم فَريضَةً أَبَدِيَّةً في اليَومِ العاشِرِ مِنَ الشَّهرِ السَّابِع، تُذَلِّلونَ أَنفُسَكم ولا تَعمَلونَ عَمَلاً، لا آبنُ البَلَدِ ولا النَّزيلُ المُقيمُ فيما بَينَكم" (الأحبار 16: 29). والفِرِّيسي لم يكتفِ بالفريضة القانونية بل زاد عليها أصواما تطوعية مرتين في الأسبوع :الاثنين والخميس (متى 6: 16) (عن "تعليم الرسل الاثنَي عشر"، 8 الفقرة الأولى)؛ وأمَّا عبارة "أُؤَدِّي عُشْرَ كُلِّ ما أَقتَني" فتشير إلى عُشر ما يقتنيه من "النَّعْنَع والشُّمْرَةِ والكَمُّون" (متى 23: 23) مع أنَّ الشريعة لا تطلب إلا عُشر أثمار الحقل (النبيذ، الزيت) والبهائم (الماشية) كما جاء في الكتاب المقدس كما ورد في شريعة موسى "أمَّا بَنو لاوي فإِني أَعطَيتُهم كُلَّ عُشْرٍ في إِسْرائيلَ ميراثًا، لِقاء خِدمَتِهِمِ الَّتي يَخدُمونَها في خَيمةِ الموعِد" (عدد 18: 21)، وبذلك جعل الله مديونا له. وتدل هذ الآية إلى الفِرِّيسي الذي يقوم بأعمال التقوى التي يفرضها عليه مذهبه (لوقا 5: 33) ويجد فيها التيقُّن من البرّ والخلاص. وهكذا اقتصرت صلاته على سرد المآثر والحسنات من صوم وزكاة متعاليا عن الآخرين وليس فيها طلب، ولا دعاء ولا استغفار، فهو لا يريد من الله شيئا. ويُعلق القدّيس يوحنا الذهبيّ الفم " كم من الادّعاء في هذه الكلمات! يا له من بائس!"(عظات في التوبة، العظة رقم 2). وباختصار، إنَّ صلاةُ الفِرِّيسي صلاةٌ مشحونةٌ بالافتخار بتعديد حسناته وامتداح أعماله، والتظاهرِ واحتقار الآخرينَ. وليس في صلاته شيء من التواضع، بل جعل برَّه الذاتي موضوع الكبرياء والافتخار، ولم يشعر بحاجة للاعتراف بالخطيئة وطلب الغفران.
13 أمَّا الجابي فوَقَفَ بَعيداً لا يُريدُ ولا أَن يَرَفعَ عَينَيهِ نَحوَ السَّماء، بل كانَ يَقرَعُ صَدرَه ويقول: الَّلهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطئ!
تشير عبارة "وَقَفَ بَعيداً" إلى انزوائه بصلاته بعيداً عن الفِرِّيسي، وعن أنظار المُصلِّين في الهيكل وبعيداً عن الغرور والادعاء. وقف يستجدى بشعور الخاطئ والمتواضع لا بشعور المُستحق. أمِّا عبارة "لا أَن يَرَفعَ عَينَيهِ نَحوَ السَّماء" فتشير إلى خجله وشعوره بعدم استحقاقه أمام قداسة الله كما جاء في سفر عزرا " أَللَّهُمَّ، إِنِّي لَمُستَحي خَجَلاً مِن أَن أَرفَعَ إِلَيكَ وَجْهي، يا إِلهي، لأِنَّ ذُنوبَنا قد تَكاثَرَت علىُ رؤُوسِنا، وتَفاقَمَ إِثمُنا إلى السَّمَوات " (عزرا 9: 6). فكانت عينيه كعيني العبيد كما جاء في سفر المزامير "إِلَيكَ رَفَعتُ عَينَيَّ يا ساكِنَ السَّموات. كما يَرفعُ العَبيدُ عُيونَهم إلى يَدِ سادَتِهم وكما تَرفعُ الأَمَةُ عَينَيها إلى يَدِ سَيِّدَتِها كذلِك عُيوُننا إلى الرَّبِّ إِلهِنا حَتَّى يَتَحَنَّنَ علَينا" (مزمور 123: 1-3). أمَّا عبارة "يَقرَعُ صَدرَه" فتشير إلى نفس خاطئة ومُذنبة تطلب ندامة واستغفاراً وعفواً، وتُعبِّر عن حزنٍ شديدٍ (لوقا 23: 48) وشكواه على نفسه. والعَشَّار بقرعه صدره أشار إلى قلبه، نبع النجاسة لأن "القَلبُ أَخدَعُ كُلِّ شيَء وأَخبَثُه فمَن يَعرِفه؟" (إرميا17: 9)، ويعترف بنجاسته "لأَنَّهُ مِن باطِنِ النَّاس، مِن قُلوبِهم، تَنبَعِثُ المَقاصِدُ السَّيِّئةُ والفُحشُ وَالسَّرِقَةُ والقَتْلُ والزِّنى والطَّمَعُ والخُبثُ والمَكْرُ والفُجورُ والحَسَدُ والشَّتْمُ والكِبرِياءُ والغَباوة. جَميعُ هذِه المُنكَراتِ تَخرُجُ مِن باطِنِ الإِنسانِ فتُنَجِّسُه"(مرقس7: 21-23)؛ إن حركة قرع الصدر تكررَّت أيضا في موضعين في إنجيل لوقا: في طريق يسوع إلى الجلجلة عندما "تَبِعَه جَمعٌ كَثيرٌ مِنَ الشَّعب، ومِن نِساءٍ كُنَّ يَضربنَ الصُّدورَ ويَنُحنَ علَيه"(لوقا 23: 27) والمرة الثانية بعد موت يسوع. "فَلَمَّا رأَى قائِدُ المِائَةِ ما حَدَثَ، مَجَّدَ اللهَ وقال: ((حقّاً هذا الرَّجُلُ كانَ بارّاً!)) وكذلِكَ الجَماهيرُ الَّتي احتَشَدَت، لِتَرى ذلِكَ المَشهدَ فعايَنَت ما حَدَث، رَجَعَت جَميعاً وهي تَقرَعُ الصُّدور" (لوقا 23: 47). وانطلاقا من هذه النظرة تتغير نظرتنا إلى أنفسنا، ونرى كل شيء يتغيَّر. وأمَّا عبارة "الَّلهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطئ!" فتشير إلى صدى ابتهال داود الملك الآثم التائب "إِرحَمْني يا أَللهُ" (مزمور 51: 3)، كاشفًا حقيقة ذاته معترفًا أنه كان فعلاً في حالة فساد وخطيئة وطالبًا الرحمة والغفران؛ وهذا الاعتراف الصادق فتح قلبه على الله ونعمته؛ هذا هو الطلب الوحيد عند جابي الضرائب الذي لا يريد من الله سوى رحمته تعالى ولا يطمع بشيء سواها. أمَّا عبارة "أَنا الخاطئ!" فتشير إلى إدانة نفسه كأنه لا خاطئ على الأرض سواه، دون أنّ يقارن ذاته بالفريسي، بعكس الفِرِّيسي الذي كان يُعبِّر عن نفسه كأنه لا صالح على الأرض سواه. في صلاة العشَّار نتلمس الفرق الحقيقي بين ما يقوله وما يفعله. الاعتراف الإنسان بخطاياه هو الاعتراف برحمة الله وحقِّه وبرَّه. وباختصار، فإن صلاة العَشَّار هي صلاة الإنسان المُنسحق الروحِ المتواضع القلب الذي يطلب الرحمة من الله. الله يمنح الفرصة للتوبة للجميع دون استثناء.
14 أَقولُ لَكم إِنَّ هذا نَزَلَ إلى بَيتِه مَبروراً وأمَّا ذاكَ فلا. فكُلُّ مَن رَفَعَ نَفْسَه وُضِع، ومَن وَضَعَ نَفْسَهُ رُفِع
تشير عبارة "أَقولُ لَكم" إلى تأكيد نتيجة ما سيقوله يسوع، وإن ظن السامعون خلاف ذلك. أمَّا عبارة "هذا" فتشير إلى العَشَّار الذي أدان نفسه. أمَّا عبارة "مَبروراً " فتشير إلى قضاء الله بمغفرة خطايا العَشَّار كلُّها، فصار بارًا في عينه تعالى. أمَّا عبارة "وأمَّا ذاكَ فلا " فتشير إلى الفِرِّيسي الذي بَرَّر نفسه، لكن في الواقع لم يتبرَّر من عند الرب، وكيف يُبرّر يسوع من لم يطلب البِرَّ، ويغفر لمن لا يستغفر؟ أن الفِرِّيسي لم يطلب مغفرة خطاياه، بل اعتبر أنَّه ينال البِرّ بأعماله، في حين أنَّ البِرِّ هو عطيَّة من الله كما يؤكد بولس الرسول "لا يَكونَ بِرِّي ذلك الَّذي يأتي مِنَ الشَّريعة، بلِ البِرُّ الَّذي يُنالُ بِالإِيمانِ بالمسيح، أَيِ البِرُّ الَّذي يأتي مِنَ الله ويَعتَمِدُ على الإِيمان" (فيلبي 3: 9). وردت كلمة البِّر في إنجيل لوقا خمس مرات، وفي إنجيل متى مرتين، ولا نجدها في إنجيل مرقس أو يوحنا، أمَّا بولس الرسول فكثيرا ما يستخدمها. ينوّه يسوع لفضيلة التواضع الحقة ويحذِر الكبرياء. أمَّا عبارة "فكُلُّ مَن رَفَعَ نَفْسَه وُضِع، ومَن وَضَعَ نَفْسَهُ رُفِع" فتشير إلى حكمة مستوحاة من حزقيال "يُرفَعُ الوضيعُ ويُوضَعُ الرَّفيع" (حزقيال 21: 31) وهي تظهر أهمية التواضع. وهو مبدأ أساسي يتكرَّر، فاستخدمه يعقوب الرسول "تَواضَعوا بَينَ يَدَي ربِّكم فيَرفَعَكم" (يعقوب 4: 10)، واستخدمه أيضا بطرس الرسول "فتَواضَعوا تَحتَ يَدِ اللهِ القادِرَة لِيَرفَعَكم في حينِه " (1بطرس 5: 6). أمَّا عبارة "مَن رَفَعَ نَفْسَه وُضِع" فتشير إلى إدانة المُتكبِّرين، ومن لديهم ثقة بالنفس متشامخة كالفِرِّيسيين. رفع الفِرِّيسي نفسه لكن قضاء الله وضعه، وضع العَشَّار نفسه فرفعته رحمة الله. كما فعلت مع العشّار، أشفقْ عليّنا يا رب فنعيش بنعمتك!
ثانياً: تطبيق النص الإنجيلي (لوقا 18: 9-14)
انطلاقا من الملاحظات الوجيزة حول وقائع النص الإنجيلي (لوقا 18: 9-14) نستنتج أن النص يتمحور حول الصلاة: صلاة الفِرِّيسي الزائفة وصلاة العَشَّار المتواضعة.
1. صلاة الفِرِّيسي
صلّى الفِرِّيسي بكبرياء، "فانتَصَبَ الفِرِّيسي قائِماً يُصَلَّي فيَقولُ في نَفْسِه: الَّلهُمَّ، شُكراً لَكَ لِأَنِّي لَستُ كَسائِرِ النَّاسِ السَّرَّاقينَ الظَّالمِينَ الفاسقِين، ولا مِثْلَ هذا الجابي" (لوقا 18: 11). فبيّنت صلاته أنَّه يثق ببرِّه المزعوم ويحتقر الآخرين.
أ) صلاة تثق بالبِرِّ المزعوم
صلاة الفِرِّيسي تكاد تكون محاكاة ساخرة لمزمور الشكر "يا رَبً، لا أخز، فإِنَي دَعَوُتكَ بل لِيَخز الأَشرار ولْيَهبِطوا إلى مَثْوى الأَمواتِ صامِتين" (مزمور 30، 118). يهنئ الفِرِّيسي نفسه على أفعاله، واستحقاقاته بدلاً من تمجيد الله لأعماله القديرة. شكر الفِرِّيسي الله وعدَّد استحقاقاته ظاناً أنه يَخلص بأعماله الذاتية وبإتمام الشريعة. وهذا الأمر يناقض تعليم بولس الرسول "فلَو نالَ إِبراهيمُ البِرَّ بِالأَعمال لَكانَ لَه سَبيلٌ إلى الاِفتِخار بِذلك، ولكِن لَيسَ عِندَ الله" (رومة 4: 2). صحيحٌ أنَ هذا الفِرِّيسي قد شكرَ الله، لكنهُ كانَ شكرُ اللسان فقط. فلم يطلب من الله شيئاً ولا ينتظر منه تعالى شيئاً ظناً أنهُ لا يحتاجُ إلى الله في شيء، لأنهُ يظنَّ نفسه إنساناً كاملاً، فتجاهل الله ونسيَ أنَ الأموالَ والممتلكاتِ والأعمالَ الحسنة وحدها لا تقدرُ أن تُخلِّصهُ دون نعمة الله. وكأنَّه لم يكن بحاجة إلى أيَّة نعمة سماويَّة ترفعه إلى مستوى روحي أعلى ممَّا هو عليه.
توهم الفِرِّيسي انه بار قديس، لكنه في الواقع، خدع نفسه "قد وَرَدَ في الكِتاب ما مِن أَحَدٍ بارّ" (رومة 3: 10). وُيبَرِّرَ من كانَ مِن أَهلِ الإِيمانِ بِيَسوع"(رومة 3: 26). ويُعلق القديس باسيليوس الكبير "صلى الفِرِّيسي مع نفسه وليس مع الله، لأن خطيئة الكبرياء ردَّته إلى ذاته". فكان يعتقد أنَّ خلاصه منوط بحفظ الشريعة حفظا صارما، وباتكاله على برِّه. فلم يرَ في نفسه إلاَّ الحسنات، ولم يرَ في غيره إلاَّ السيئات ونسي قول الكتاب المقدس "لأَنَّك تَقول: أَنا غَنِيٌّ وقدِ اغتَنَيتُ فما أَحْتاجُ إلى شَيء، ولأَنَّكَ لا تَعلَمُ أَنَّكَ شَقِيٌّ بائِسٌ فَقيرٌ أَعْمى عُرْيان"(رؤيا 17:3-19).
صعد الفِرِّيسي ليصلي، لكنه لم يطلب شيئًا من الله، فهو -في نظر نفسه –من الأصحاء الذين هم ليسوا بحاجة إلى طبيب، ومن الأبرار الذين لا يحتاجون إلى التوبة (متى9: 12 ،13)، صعد ليصلي، ولكن ليس لله، بل لتمجيد نفسه وإدانة غيره، ونتيجة لذلك لم يَنَل شيئًا؛ ويُعلق البابا فرنسيس "الفِرِّيسي يصلّي إلى الله ولكنّه في الواقع ينظر إلى نفسه؛ ويصلّي إلى نفسه! انه يفكر في تمجيد ذاته كما نستنتج من صلاته: "إِنَّي أَصومُ مَرَّتَيْنِ في الأُسبوع، وأُؤَدِّي عُشْرَ كُلِّ ما أَقتَني" (لوقا 18: 12) انه متكبرٌ مرائيٌ، يصنع كل ما يصنعه ليَظهر للناس كما جاء وصفه في إنجيل متى "وجَميعُ أَعمالِهم يَعمَلونَها لِيَنظُرَ النَّاسُ إِلَيهم" (متى 23: 5).
نستنتج مما سبق أنَّ خطيئة الفِرِّيسي تكمن في الاعتداد بالذات، حيث أنه نسي أنَّ "كُلُّ عَطِيَّةٍ صالِحَةٍ وكُلُّ هِبَةٍ كامِلَةٍ تَنزِلُ مِن عَلُ مِن عِندِ أَبي الأَنوار" (يعقوب 17:1). وتكمن خطيئته أيضا في تبرئته لذاته أمام الله ونسيانه ما قال صاحب المزامير " إِن كُنتَ يا رَبُّ لِلآثام مُراقِبًا فمَن يَبْقى، يا سَيِّدُ، قائِمًا؟ " (مزمور 130: 8). ويضيف يوحنا الرسول "إِذا قُلْنا: إِنَّنا بِلا خطيئة، ضَلَّلْنا أَنفُسَنا ولَم يَكُنِ الحقُّ فينا"(1 يوحنا 1: 10). وفي الواقع، في العلاقة مع الربّ لا مكان إذًا للتفاخر بالذات والتباهي على الآخرين، ولا للادعاء أمام الربّ بالكمال وكأنّ لنا حقّ عليه.
تكمن خطيئة الفِرِّيسي أيضا في استهتار بالآخرين، حيث أدان قريبه العَشَّار، إذ قال المسيح: " لا تَدينوا فَلا تُدانوا. لا تَحكُموا على أَحَدٍ فلا يُحكَمَ علَيكم"(لوقا 6: 37). لم ينتفع الفريسي من صلاته بالرغم من أعمال البِّر الذي قام بها؛ فذاك الفِرِّيسي، الذي يعتقد نفسه بارًّا، يتجاهل الوصيّة الأهمّ: محبّة الله والقريب: " أحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ، وكُلِّ نَفسِكَ، وكُلِّ قُوَّتِكَ، وكُلِّ ذِهِنكَ وأَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ" (لوقا 10: 27). ويُعلق القدّيس يوحنا الذهبيّ الفم " ما أشقاكَ، أنتَ الذي تجرؤ على إصدار الأحكام على الأرض بأسرها! لِمَ تمعِنُ بإهانة قريبك؟ ما حاجتُكَ إلى أن تحكم على هذا العشّار، ألم يكفِكَ ما فعلتهُ بالأرض؟ لقد أصدرتَ اتّهاماتٍ بحقّ جميع البشر، بدون استثناء. كم من الادّعاء في هذه الكلمات! يا له من بائس"(عظات في التوبة، العظة رقم 2). ويقول يعقوب الرسول " لَيسَ هُناك إِلاَّ مُشتَرِعٌ واحِدٌ ودَيَّانٌ واحِد، وهو القادِرُ على أَن يُخَلِّصَ ويُهلِك. فمَن أَنتَ لِتَدينَ القَريب؟" (يعقوب 4: 12). وأنّ "مَن كَتَمَ مَعاصِيَه لم يَنجَحْ ومَنِ اْعتَرَفَ بِها وأَقلعً عنها يُرحَم"(أمثال 28: 13).
تكمن خطيئة الفِرِّيسي أيضا في نسيان ما يريده الرب منه، وهو الرحمة كما ورد في الكتاب المقدس " إِنَّما أُريدُ الرَّحمَةَ لا الذَّبيحة" (متى 12: 7)، ألم يقلْ الله على لسان أشعيا النبي "أَلَيسَ الصَّومُ الَّذي فَضَّلتُه هو هذا: حَلُّ قُيودِ الشَّرِّ وفَكُّ رُبُطِ النِّير وإِطْلاقُ المَسْحوقينَ أَحْراراً وتَحْطيمُ كُلِّ نير؟" (أشعيا 58: 6). ويُعلق القديس أثناسيوس "مع أن الفِرِّيسي كان يصوم يومين في الأسبوع إلا أنه لم يستفد شيئًا، لأنه افتخر بذلك على العَشَّار". وفي هذا الصدد يقول القدّيس البابا غريغوريوس الكبير" أنّه اتّخذَ كلّ الاحتياطات الممكنة لحماية نفسه. غير أنّه تركَ ثغرة مفتوحة ومُعرَّضة للعدوّ حين أضافَ عبارة "لأنّني لستُ مثل هذا العشّار". هكذا، ومن خلال غروره، سمحَ لعدوّه بالدخول إلى مدينة قلبه التي كان قد أقفلَها بإحكام من خلال الصوم والصدقة" (Moralia).
تكمن خطيئة الفِرِّيسي بالإضافة إلى أعلاه في الكبرياء ولم يعترف بمعاصيه، بل اكتفى بدفع العشور. يُعلق القدّيس البابا غريغوريوس الكبير "فإن كانت أفكارنا مصدر غرور أو كبرياء في قلوبنا، هذا يعني أنّنا نجاهدُ من أجل مجدٍ باطلٍ فقط، وليس من أجل مجدِ الخالق" (Moralia). فالفِرِّيسي يخطئ إلى الله الذي يكرّمه بدفع العشور. ويُعلق البابا فرنسيس "الفِرِّيسي يُسرّ بمحافظته على الشّرائع ومع ذلك فمواقفه وكلماته بعيدة عن أسلوب تصرّف الله الذي يحبُّ جميع البشر ولا يحتقر الخطأة".
أخيرا تكمن خطيئة الفِرِّيسي انه يبرّر نفسه بنفسه حيث أنَّ الله لا يريد أن نذكِّره بالصوم وتأدية العشور فهو يعرفها، كما جاء في الكتاب "إِنِّي عَليمٌ بِأَعْمالِكَ وجَهدِكَ وثَباتِكَ" (رؤيا 2:2-3)، لا داعي أن يقف الفِرِّيسي أمام الله ويضع الإكليل على رأسه، بل عليه بالحري أنْ ينتظر الحكم من الله، وان يذكر له خطاياه لكي يرحمه مُردِّدا مع داود النبي “فإِنِّي عالِمٌ بِمَعاصِيّ،َ وخَطيئَتي أَمامي في كُلِّ حين" (مزمور 51: 5)؛ ومن يذكر خطاياه ويتضع أمام الله ينساها له كما يقول الشاعر والكاتب العالمي وليم شكسبير " الإنسان يغفر، والله ينسى".
ب) صلاة تحتقر الآخرين
لم يكتفِ الفِرِّيسي في صلاته بثقَته ببرِّه المزعوم بل احتقر الآخرين مبتعداً عن العبادة المتواضعة الداخلية والاتكال على الله. صلّى إلى الله شاكرا إيَّاه، لأنه اعتبر نفسه " ليس كَسائِرِ النَّاسِ السَّرَّاقينَ الظَّالمِينَ الفاسقِين"؛ ولسان حاله: أنا لست مثل العَشَّار، بفضل أعمالي الصالحة، أنا لست بخاطئٍ. فهو مترفعٌ عن الناس ويحتقرهم ويعتز بنفسه مُتَّهمَ العالم كله جهرًا، حاسبًا نفسه أفضل من جميع البشر عِلما أنَّ الشريعة تدعو بعدم التعالي على الأخوة (تثنية الاشتراع 7: 17) ويُعلق القديس يوحنا فم الذهبي "لم يكفيه الازدراء بكل جنس البشر، لكنه هاجم أيضًا العَشَّار. ربما كان خطأه أقل لو لم يهاجمه، لكن بكلمة هاجم الغائبين، وجرح من هو حاضر".
صلى الفِرِّيسي بكبرياء، لأنه سخر بعبيد الله لتبرير نفسه بموقفه المُتعالي والمُكتفي بذاته إذ قال "الَّلهُمَّ، شُكراً لَكَ لِأَنِّي لَستُ كَسائِرِ النَّاسِ السَّرَّاقينَ الظَّالمِينَ الفاسقِين" (لوقا 18: 11). يُعلق القديس كيرلس الإسكندري "فضعفُ الآخرين يجب ألاَّ يكون موضع ازدراء"؛ والازدراء بعبيد الله ما هو إلا ازدراء بالله وعدله. إن الله يستهزئ بالمتكبرين "َيسخر الله مِنَ السَّاخِرين، وللمُتَواضِعينَ يُعْطي النِّعْمَة" (أمثال 3: 34). ويقول صاحب المزامير "الشَريرُ بِكِبرِيائِهِ يُلاحِقُ البائِس فلْيُؤخَذْ بِالمَكايِدِ الَّتيَ دبرَها" (مزمور 10: 2). ويؤكد بطرس الرسول "فاعلَموا أَوَّلَ الأَمْرِ أَنَّه سيَأتي في آخِرِ الأَيَّام قَومٌ مُستَهزِئُونَ كُلَّ الاستِهزاء، تَقودُهم أَهواؤُهَم" (1بطرس 3: 3).
صلى الفِرِّيسي بكبرياء، لأنه احتقر العَشَّار" الَّلهُمَّ، شُكراً لَكَ لِأَنِّي لَستُ مِثْلَ هذا الجابي (لوقا 18: 11). انه يصلي بكبرياء لأنه يمدح نفسه على حساب العَشَّار مع أن الكتاب المقدس يصرخ: " لِيَمدَحْك الغَريبُ لا فَمُكَ الأَجنَبِيّ لا شَفَتاكَ " (أمثال 27: 2). فكان وجود العَشَّار إلى جانبه منحه فرصة ليتباهى أكثر في نفسه: "أنا لست كسائر الناس؛ أمّا هو، فإنّه كَسائِرِ النَّاسِ السَّرَّاقينَ الظَّالمِينَ الفاسقِين" (لوقا 18: 11). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "أمّا العَشَّار، فقد سمعَ جيّدًا هذه الكلمات، وكان بوسعه أن يجيبَ بهذه العبارات: "مَن تظنّ نفسك، أنت الّذي تجرؤ على توجيه مثل هذه الألفاظ المهينة بحقّي؟ ماذا تعرفُ عن حياتي؟ أنتَ لم تعِش قطّ في البيئة التي أعيشُ فيها، ولستَ من المقرّبين لي. لِمَ تُظهر هذا الكبرياء؟ ومن جهة أخرى، مَن يستطيعُ أن يُثبتَ حقيقة أعمالك الصالحة؟ لِمَ تمدح نفسك، وما الذي يدفعك إلى تمجيد نفسك بهذه الطريقة؟" (عظات حول التوبة، العظة رقم 2)؛
صلى الفِرِّيسي بكبرياء، لأنه مترفِّع العينين، (لوقا 18: 11) وهي من إحدى القبائح السبع التي يُبغضها الرب "سِتَّةٌ يُبغِضها الرَّبُّ والسَّابِعَةُ قَبيحةٌ عِندَه العَينانِ المُتَرفِّعَتان واللِّسانُ الكاذِب واليَدانِ السَّافِكَتانِ الدَّمَ الزَّكِيَّ والقَلبُ المُضمِرُ أَفْكارَ الإِثْم والرِّجْلانِ المُسارِعَتانِ في الجَرْيِ إلى السُّوء وشاهِدُ الزُّورِ الَّذي يَنفِثُ الأكَاذيب وُيلْقي النِّزاعَ بَينَ الإِخْوَة" (أمثال 6: 16-19). ويعلق القديس دوروثيوس "عندما كان الفِرِّيسي يصلي ويشكر الله من أجل فضائله لم يكذب بل نطق بالحق، ولم يُدن من أجل هذا، لكنه عندما التفت نحو العَشَّار وقال: "إني لست مثل هذا العَشَّار ارتكب الإدانة!" وعلى هذا الأساس يُعلمنا الرسول بولس، قائلًا: " فإِن ظَنَّ أَحَدٌ أَنَّه شَيءٌ، مع أَنَّه لَيسَ بِشَيء، فقَد خَدَعَ نَفْسَه. فلْيَنظُرْ كُلُّ واحِدٍ في عَمَلِه هو، فيَكونَ افتِخارُه حينَئذٍ بما يَخُصُّه مِن أَعْمالِه فحَسْبُ، لا بِالنَّظَرِ إلى أَعمالِ غَيرِه " (غلاطية 6: 3-4). لذلك يعتبر تدين الفِرِّيسي تديُّناً شكلياً سطحياً، وهذا التدين حوّل الحياة الروحية إلى مجموعة من الممارسات الآلية روتينية وهدفًا في حد ذاتها.
ج) نتيجة صلاة الفِرِّيسي
رغم أن الفِرِّيسي يبدو ظاهرياً أمام ذاته وأمام أعين الناس من أوائل المصلّين والمُبرَّرين إلا أنه لم يتبرَّر بعين الله، حيث أنَّه صعد مُدّعيًا أنّه يريد الصلاة؛ لكنّه لم يطلب شيئًا من الله، بل تحدّث إلى نفسه وبدأ يمدحها. ونستنتج مما سبق أنَّ الله يجازي المتكبرين " فكُلُّ مَن رَفَعَ نَفْسَه وُضِع" (لوقا 18: 14) انهم يمضون كالدخان فماذا نَفَعَتْنا الكِبْرِياء؟ ... إِنَّه يَتَبَدَّدُ كدُخانٍ في الهَواء " (حكمة 5: 8-14) هم الذين سخروا بالآخرين (لوقا 16:14) فارتفاعهم ما هو إلا مقدمة لدمارهم كما يقول صاحب الأمثال "قَبلَ التَّحَطّمِ الكِبرِياء وقَبلَ السُّقوطِ تَرَفعٌّ الرُّوح" (أمثال 16: 18). فان الرب "شَتَّتَ الـمُتَكَبِّرينَ في قُلوبِهم" (لوقا 1: 51).
لم يكن الفِرِّيسي وهو يصلي سارقًا ولا ظالمًا ولا حتّى زانيًا، ولم يكن يُهمل أعمال التوبة. وكان أيضا يصوم مرّتين في الأسبوع ويؤدّي عُشر ما يقتني، ومع ذلك، ربنا لم يتقبل صلاته، لأنَّه لم يتجرّد من ذاته (فيلبي 2: 7)، بل اعتمد على نفسه وعلى أعماله، ونظر إلى نفسه، وعُجب بذاته ورضى عنها، وأدعى انه سليم، فلم يطلب شيئاً. فهو أيقونة الشّخص الفاسد الذي يتظاهر بأنّه يصلّي، ولكن كلّ ما ينجح في فعله هو التّباهي بنفسه أمام المرآة. ويمجّد الصورة التي بناها لنفسه. فالغرور يصنع من الرجل مخلوقاً غبيَّا.
كانت صلاة الفريسي "كالعُصافةِ الَّتي تَذْروها الرِّياح " (مزمور 4: 1)، لان مَن تُنجِّسه الكبرياء يكون مغلقًا للنعمة، كما جاء في نبوءة أشعيا "فحينَ تَبسُطونَ أَيدِيَكم أَحجُبُ عَينَيَّ عنكم وإِن أَكثَرتُم مِنَ الصَّلاةِ لا أَستَمعُ لَكم لِأَنَّ أَيدِيَكم مَمْلوءَةٌ مِنَ الدِّماء. فأغتَسِلوا وتَطَهَّروا وأَزيلوا شَرَّ أَعْمالِكم مِن أَمامِ عَينَيَّ وكُفُّوا عنِ الإِساءَة "(إشعياء1: 15-16). ويصرّح بطرس الرسول أيضا "اللهَ يُكابِرُ المُتَكبِّرين وُينعِمُ على المُتَواضِعين" (1 بطرس 5: 5) ويعلق القديس أوغسطينوس "كما ترون من يطلب الافتخار لا يدخل بل يسقط، أمِا من يتواضع فيدخل من الباب بواسطة الراعي ولا يسقط."
نستنتج مما سبق أنَّ حكم الله يختلف عن حكم البشر القائم على الظاهر ومحاباة الوجوه. الله هو فاحص الكلى والقلوب ويستجيب استغاثة المُتعبد المتواضع (يشوع بن سيراخ 25: 15-17). رفض الله صلاة الفِرِّيسي لأنَّه كان متكبِّرًا ومرائيا، وغرور بنفسه وبأعماله فيجيبه الرب " فِلأَنَّك تَقول: أَنا غَنِيٌّ وقدِ اغتَنَيتُ فما أَحْتاجُ إلى شَيء، ولأَنَّكَ لا تَعلَمُ أَنَّكَ شَقِيٌّ بائِسٌ فَقيرٌ أَعْمى عُرْيان" (رؤيا 3:17).
لم يتبرّر الفِرِّيسي، لأنه يُحبُّ أن يراه الناس يصلّي ويدّعي الصلاة، وقلبه غير متواضع، وحكم الله واضحًا "كلّ مَن رَفَعَ نَفْسَه وُضِع، ومَن وَضَعَ نَفْسَهُ رُفِع" (لوقا 18: 14). وفي موضعٍ آخر يقول الرب " فَسَوفَ يقولُ لي كثيرٌ منَ النَّاسِ في ذلكَ اليَوم: ((يا ربّ، يا ربّ، أَما بِاسْمِكَ تَنبَّأْنا؟ وبِاسمِكَ طرَدْنا الشِّياطين؟ وباسْمِكَ أَتَيْنا بِالمُعْجِزاتِ الكثيرة؟ فأَقولُ لَهم عَلانِيةً: ((ما عرَفْتُكُم قَطّ. إِلَيْكُم عَنِّي أَيُّها الأَثَمَة! " (متى 7: 22-23). كثيرون من الناس يعتقدون أنهم قاموا بأعمال صالحة للرب، على غرار الفِرِّيسي. إلاَّ أن الله وحده " رَبَّ القُوَّاتِ الحاكِمَ بِالبِرّ الفاحِصَ الكُلى والقُلوب " (ارميا 11: 20) ليُعطي لكل واحد حسب طرقِه وثمر أعمالِه.
الأهم ليس فقط القيام بأعمال صالحة، بل الاعتراف بما قام به يسوع من أجلنا على الصليب، فلا ننظر إلى أنفسنا بغرور وكبرياء بل بالتواضع طالبين رحمة الله مثل العَشَّار واللص اليمين، فنضع نفوسنا أمام الرب لنعيد نظام حياتنا لكي تتوافق علاقتنا مع الله بالعلاقة مع الآخر في الصلاة والحياة العملية.
2. صلاة العَشَّار
"وَقَفَ العَشَّار بَعيداً لا يُريدُ ولا أَن يَرَفعَ عَينَيهِ نَحوَ الله " (لوقا 18: 13)، وكأنه يُعيد صلاة عزرا الكاتب "إِنِّي لَمُستَحي خَجَلاً مِن أَن أَرفَعَ إِلَيكَ وَجْهي، يا إِلهي، لأِنَّ ذُنوبَنا قد تَكاثَرَت علىُ رؤُوسِنا، وتَفاقَمَ إِثمُنا إلى السَّمَوات"(عزرا 9: 6). وأخذ يُصلي بقلبٍ متواضع ٍ، وهو يَقرَعُ صَدرَه مُنسحقا قائلا "الَّلهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطئ!" ومُردِّداً مزمور "ارحمني يا الله" (مزمور 51: 19). إنه يعلم أن أمام الله لا أحد بارًا، لا أحد لديه سبب للتباهي به، إنما نحن كلنا خطأة كما جاء في تعليم بولس الرسول "ما مِن أَحَدٍ بارّ، لا أَحَد"(رومة 3: 10). ويُعلق الراهب الدومينكيّ جان تولير "في الحقيقة، أريد أن أتصرّف مثلما فعل العشار وأن أعي على الدوام فراغي. هذا يكون الطريق الأسمى والأصلح الّذي يمكننا أن نتبعه" (العظة 48 للأحد الحادي عشر بعد أحد الثالوث الأقدس). وفي الواقع، تذكرنا صلاة العَشَّار مشهد الجلجلة حيت "الجَماهيرُ الَّتي احتَشَدَت، لِتَرى ذلِكَ المَشهدَ فعايَنَت ما حَدَث، رَجَعَت جَميعاً وهي تَقرَعُ الصُّدور" (لوقا 23: 47). رات الجماهير يسوع يموت على الصليب فعرفت نفسها على حقيقتها، فأخذت تقرع صدرها حزنًا لا على المسيح البار فحسب إنَّما على خطاياها وآثامها.
صلى العَشَّار بتواضع مُبيّنا ذلك في وقفتِه وقرع ِ صدره ومضمونِ صلاته. يقول القديس ايرونيموس "الكبرياء ضد التواضع". يساعدنا التواضع على رؤية الذات على حقيقتها وبالتالي على الانفتاح على نعمة الربّ ورحمته على عكس الفِرِّيسي المتكبر الذي ظل مغلقًا على نفسه وحبِّه لذات دون حاجة إلى شخص آخر. لم يجرؤ العَشَّار بسبب تواضعه على رفع عينيه إلى الله، بل رأى نفسه، على حقيقتها، انه خاطئ أمام الله القدوس البار، واخذ يقرع صدره حزنا على ذنوبه طلبا المغفرة.
ا) صلاة متواضعة في وقفته
صلى العَشَّار بتواضع "فوَقَفَ بَعيداً" (لوقا 18: 13)، كخليقة خاطئة أمام الله القدوس طالبا الرحمة ومبتعداً عن حب الظهور والزهو، كما جاء في تعليم بولس الرسول أنَّ الذين يتحلون بثوب التواضع "يجلسون في المكان الأخير" (فيلبي 2: 3-4). ويُعلق القديس أوغسطينوس "كان توبيخ قلبه يُبعده عن الله، لكن حبّه كان يُقرّبه منه". وقف هذا العَشَّار بعيدًا، لكنّ الله اقترب منه ليسمعه كما يؤكِّد صاحب المزامير "الرَّبُّ تَعالى ونَظَرَ إلى المُتَواضِع أمَّا المُتَكَبّر فيَعرِفُه مِن بَعيد " (مزمور 138: 6)؛ وبإحساس ضميره كان العَشَّار بعيدًا، لكن بتواضعه اقترب، وما التواضع إلاّ الاستعداد للانفتاح نحو الله، والخضوع بثقة لنعمته تعالى وكلمته المقدسة. فالله يسكن عند المرء المتواضع المُنسحق كما جاء في نبوءة أشعيا "أَسكُنُ في العَلاءِ وفي القُدْس ومع المُنسَحِقِ والمُتَواضِعِ الرُّوح لِأُحيِيَ أَرْواحَ المتواضِعين وأُحيِيَ قُلوبَ المُنسَحِقين (أشعيا 15:57).
صلى العَشَّار بتواضع غير متكلٍ على ذاته، معترفاً أنَّه عبدٌ ضعيفٌ " ولم يجرؤ أَن " يَرَفعَ عَينَيهِ نَحوَ السَّماء" (لوقا 18: 13)، لأنّ ضميره كان يُخفضه، ولم يردْ أن يكون حكيما في عيني نفسه الخاطئة كما جاء في تعليم الأمثال "لا تَكُنْ حَكيمًا في عَينَي نَفسِكَ إِتَّقِ الرَّبَّ وجانِبِ الشَّرّ" (الأمثال 3: 7). ويُعلق القدّيس أوغسطينوس "إنّ الله لا يميل أذنه نحو الغنيّ، بل نحو الفقير والمسكين، نحو المتواضع الذي يعترف بخطاياه، نحو الذي يتضرّع إلى الرحمة الإلهيّة، وليس نحو الشبعان الذي يتفاخر بنفسه كمَن لا يحتاج إلى شيء"(أحاديث عن المزامير، المزمور 85).
ب) صلاة متواضعة في قرعه لصدره.
صلى العَشَّار وهو يَقرَعُ صَدرَه دلالة على شعوره بالخطيئة واعترافه بمسؤوليّته عن اختياره وأفعاله. عرفَ حقيقةَ نفسهِ، عرفَ أنهُ خاطي، ولا يستحق شيئًا؛ عرفَ أنهُ لا يستطيعُ العيشَ دونِ رحمةَ. فهو خاطي نظرًا لقداسةِ الله، ومحتاجٌ إلى رحمته تعالىِ وغفرانهُ. وأنهُ سيهلك حتماً إن لم ينل غفراناً لخطاياهُ. لذلكَ عبَّرَ عن إيمانِه بتوبتهِ وتواضعهِ وإنكارهِ لذاتهِ وطلبهُ لرحمةِ الله وغفرانه.
يميل الإنسان المتواضع إلى الاتجاه نحو الله بقلب تائب منسحق كما جاء في سفر المزامير "إنًّما الذَّبيحةُ للهِ روحٌ مُنكَسِر القَلبُ المُنكَسِرُ المُنسَحِقُ لا تَزْدَريه يا أَلله"(مزمور 51: 19). فالبحث عن الله هو التماس التواضع (صفنيا 2: 3). والمتواضع (πραΰς) يجعل خضوعه لله صبورًا ووديعًا" (متى 11: 29). ومثل صلاة العشّار المتواضعة تجعل الإنسان ينفتح لنعمة الله ويُمجِّد الله "الرَّبّ يَضَعُ ويَرفَع" (1 صموئيل 2: 7)؛ لان "قَبْلَ المَجْدِ التَّواضُع"(أمثال 15: 33).
صلَّى العَشَّار بروح متواضعة، وبالرَّغم من خطيئته إلاَّ أنه تسامى على الفِرِّيسي الذي كان يتكلم عن أصوامِه ودفعِ العشور. وتغلب العشار على الكبرياء والمجد الباطل بتواضعه. الله يستجيب لصاحب القلب المنسحق المُتَّكل عليه، لا لصاحب الاعتداد والمُكتفي بذاته، إنه يقرع صدره، ويعترف بخطاياه، ويكشف مرضه كما إلى الطبيب، ويسأله الشفاء والرحمة.
شعر العَشَّار أنَّه لا شيء بسبب خطاياه، وشعر أنَّ الله فقط يغفر خطاياه. وهذا الشعور بالانسحاق هو الطريق المقبول للحصول على مراحم الله، إذ ربط المسيح التوبة بالتواضع. فالخاطئ شخص مديون، يبرئه الله من دينه بالصفح عنه (العدد 14: 19). ويؤكد المسيح إنَّ الإبراء مجاني كما قال يسوع لسمعان وهو في العشاء في بيت فرِّيسي" كانَ لِمُدايِنٍ مَدينانَ. ولم يَكُنْ بِإِمكانِهِما أَن يُوفِيا دَينَهُما فأَعفاهُما جَميعاً" (لوقا 7: 42).
ج) صلاة متواضعة في مضمونها
ذهب العَشَّار، جابي الضرائب، إلى الهيكل مُدْركًا لخطيئته ومعترفًا بها لله وملتمسا الرحمة. وصلَّىَّ وهو شاعرٌ أنه لا يستحق شيئاً لانَّ خطاياه هي السبب في عدم استحقاقه. لذلك وقف لا يطلب شيئاً سوى مراحم الله "الَّلهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطئ!" (لوقا 18: 14)؛ لذا، سامحه الله وغفر خطاياه، ويعلق القديس باسيليوس الكبير " التواضع لا يعني انحطاط الفكر بل سموه وارتفاعه خلال اتحاده بالسيد المسيح المتواضع، فنحمل مع الرسول بولس فكر المسيح. فلنقترب من الربّ الصالح القدّوس، بموقف التواضع والتوبة، على مثال العَشَّار، كي يرحمنا نحن الخاطئين أيضاً".
الإنسان الخاطئ الذي يعرف حالته لا يعتمد على قواه الذاتية، بل يغتنم جميع الفرص المُتاحة لتوبته وعود ته عن غيّه. ولم يكن لدى العَشَّار ما يفتخر به سوى أنه طلب رحمة الله. وقد اقتصرت صلاته على كلمات المزمور "إِرحَمْني يا أَللهُ" (مزمور 51: 3) "إِنًّما الذَّبيحةُ للهِ روحٌ مُنكَسِر القَلبُ المُنكَسِرُ المُنسَحِقُ لا تَزْدَريه يا أَلله" (مزمور 51: 91). أقرَّ بضعفه فنال المغفرة والخلاص. ويُعلق يوحنّا السُّلَّميّ " لتكن صلاتكم في غاية البساطة، فقد تمكّنت كلمة واحدة من العشّار من التأثير على رحمة الله؛ كما أنّ كلمة واحدة مُفعمة بالإيمان أنقذت اللصّ الصالح" (لوقا 23: 42)" (السلّم المقدّس، الفصل 28)، ويعلق البابا فرنسيس" إنَّ الخطوة الأولى للصلاة هي أن يكون المرء متواضعًا ويتوجه إلى الآب السماوي قائلاً: "أنا خاطئ وضعيف؛ أنا شرّير..." والرب سيصغي؛ لأنَّ الرب يُصغي إلى الصلاة المتواضعة" (لقاء الأربعاء 5/1/2018).
اعتمد العَشَّار على رحمة الله طالباً الرحمة وحصل عليها. وأصبحت هذه الصلاة "صلاة القلب" التي ردَّدها السائح الروسي في دروب الرب: "يا يسوع، ابن داود، ارحمني أنا الخاطئ. وقد اشتركَتْ جميع أعضاء جسمه في تلك الصلاة؛ رجلاه ويداه، وقلبه، وعقله، ولسانه، وصدره، وعيناه. وأصبحت صلاة العَشَّار نموذجاً في صلاة الكنيسة. وفي صلاة الغروب نقول: " فَما أَجْسَرَ أنْ أنْظرَ إلى عُلُوِّ السَّماءِ، لَكنّى أتَّكِلُ عَلَى غِنَى رَحْمتِكَ ومَحبَّتِكَ لِلْبَشَرِيَّة، صارِخاً قائِلاً: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي أَنا الخاطِئ وارْحَمنى"، وكذلك في صلاة النوم نقول: "لكني اتخذ صورة العَشَّار قارعًا صدري قائلاً: اللهم ارحمني أنا الخاطئ".
ج) نتيجة صلاة العَشَّار
ماذا كانت النتيجة؟ " إِنَّ هذا (العَشَّار) نَزَلَ إلى بَيتِه مَبروراً وأمَّا ذاكَ (الفِرِّيسي) فلا. فكُلُّ مَن رَفَعَ نَفْسَه وُضِع، ومَن وَضَعَ نَفْسَهُ رُفِع" (لوقا 18: 14). كيف يمكننا أن نتوقّع من الربّ أن يُصغي إلى صلوات الفِرِّيسي إذا كان لا يقترب منه بتواضع وبقلب منسحق تائب؟ لأنّ الفريسيّ الغنيّ كان يتغنّى بمزاياه؛ أمّا العشّار الفقير، فكان يعترف بخطاياه. قال النبي هوشع، الّذي يتكلّم باسم الرب: " فإِنَّما أُريدُ الرَّحمَةَ لا الذَّبيحة" (هوشع 6: 6). إنّ البرّ الذاتي والإطراء الذاتي مُدمّر وخطير. كانت صلاة الفِرِّيسي متمركزة ًعلى ذاته بدلاً من على الربّ وتسبيحه تعالى وطلب رحمته ومعونته من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن وازدراء القريب يقفل باب قلب الربّ. " إِنَّ اللهَ يُكابِرُ المُتَكَبِّرين ويُنعِمُ على المُتَواضِعين" (يعقوب 4: 6) وخير مثال على ذلك نشيد سيدتنا مريم العذراء " كَشَفَ عَن شِدَّةِ ساعِدِه فشَتَّتَ الـمُتَكَبِّرينَ في قُلوبِهم. حَطَّ الأَقوِياءَ عنِ العُروش ورفَعَ الوُضَعاء" (لوقا 51:1-52). غادرَ الفِرِّيسي الهيكلَ، محرومًا من الغفران، في حين أنّ العَشَّار ذهب، وقلبه مُتجدّدٌ بالرحمة التي حُظيَ بها.
حَكَمَ العَشَّارُ على نفسه، والله دافع عن قضيّته؛ وعلى هذا الأساس يُعلمنا الرسول بولس، قائلًا: " فلْيَنظُرْ كُلُّ واحِدٍ في عَمَلِه هو، فيَكونَ افتِخارُه حينَئذٍ بما يَخُصُّه مِن أَعْمالِه فحَسْبُ، لا بِالنَّظَرِ إِلى أَعمالِ غَيرِه"(غلاطية 6: 4). العشار اتّهم نفسه والله دافع عنه. اسمع ما يقوله الديان: " إِنَّ هذا نَزَلَ إلى بَيتِه مَبروراً " (لوقا 18: 14). لماذا؟ لان "كُلُّ مَن وَضَعَ نَفْسَهُ رُفِع" (لوقا 18: 14). يدل المبدأ على أنَّ أحكام الله غير أحكام البشر. إن صلاة العَشَّار المتواضعة نالت له نعمة الخلاص، وهذا ما يؤكده صاحب الأمثال " ثَوابُ التَّواضُعَ مَخافةُ الرَّبّ الغِنى والمَجدُ والحَياة " (أمثال 22: 4). إن الله ينظر إلى المتواضعين ويحنو عليهم (مزمور 138: 6). فالمتواضع ينال مغفرة الخطايا (1 قورنتس 1: 25)، لان هبةُ اللهِ هي مغفرةُ الخطايا، وتتمُّ المغفرة عندَ التوبة الحقيقية القلبية، وفي هذا تقول كلمة الله "إِذا اعتَرَفْنا بِخَطايانا فإِنَّه أَمينٌ بارّ يَغفِرُ لَنا خَطايانا وُيطَهِّرُنا مِن كُلِّ إِثْم" (1 يوحنا 9:1).
لم يلتمس العَشَّار المُبرِّرات بل القى نفسه بين ذراعي الرحمة الإلهية. وابتهل بانسحاق القلب طالبا الرحمة فاستُجيبت صلاته. تواضع العَشَّار ومعرفته لخطاياه جعلتاه يسبق الفِرِّيسي إلى الغفران والخلاص والبِرِّ والسلام، وذلك تأكيدا لقول الرب للفِرِّيسيِّن: "إِنَّ الْعَشَّارينَ وَالزَّوَانِيَ يَسْبِقُونَكُمْ إلى مَلَكُوتِ اللهِ" (متى 21: 31). لذا ينصح الكتاب المقدس "إِزْدَد تَواضُعًا لما ازدَدتَ عَظَمَةً فتَنالَ حُظوَةً لَدى الرَّب" (يشوع بن سيراخ 3: 20)، لانَّ" صَلاةُ المُتَواضِعِ تَنفُذُ الغُيوم ولا يَتَعَزَّى حَتى تَصِل (يشوع بن سيراخ 35: 17). لذلك تعلمنا الكنيسة صلاة الرحمة "يا ربي يسوع المسيح، إرحمني أنا الخاطئ" ونردَّد صلاة الرحمة في كل قداس قائلين "يا رب ارحم" أو " كيريا أليسون ". وهكذا تصير الصلاة معيار لتقييم حياتنا أمام الله، على ضوء كلمته. فكيف نقف أمام الله؟
العبرة
أوضح يسوع معنى المثل وقال إن العَشَّار هو الشخص الذي حصل على الموقف الصحيح أمام الله لأنه متواضع. أما الفِرِّيسي فذهب إلى بيته غير مبرورًا كما كان من قبل، لأنه نفخ ذاته أمام الله. دخل الفِرِّيسي بيت الله متعاليًا ممتلئًا من ذاته، فخرج دون ذلك العَشَّار الّذي دخل مُفرغًا من ذاته ليملأه الله. ومن هنا نتعلم العِبر التالية:
يُعلمنا مثل الفِرِّيسي والعَشَّار كيف نصلي بروح التواضع والتوبة. العَشَّار هو رمز الخاطئ المتواضع، ويمثل جماعة الأمم التي اشتاقت إلى الخلاص رغم افتقارها للمعرفة، وحرمانها من كل تمتع به اليهود من عهود ووعود وشريعة ونبوءات. فكل من يتَّكل على برِّه يسقط، ومن يتكل على برِّ المسيح شاعرًا بخطاياه يتبرَّر. وصدق شكسبير بقوله "التواضع يحطم الغرور". فمن يتكل على بره يرى في نفسه كل الحسنات ولا يرى في غيره سوى السيئات (رؤيا 3: 17-19). ويعلق القديس أوغسطينوس "تشبّه بالعَشَّار لئلا تدان مع الفِرِّيسي" ويقول أيضاً "لا تيأس، أحد اللصين خُلص، ولا تغترّ، فاللص الآخر هلك". ينبغي علينا أن نصلّي مثل العَشَّار أمام الله، مصدر" كلّ أبوّة في السَّمَاءِ والأَرْض" (أفسس 3: 15)، تمامًا كما نحن، لأننا جميعا محتاجون إلى رحمة الله كل يوم.
يدعونا يسوع للصلاة دون احتقار الآخرين، عالمين أننا خطأة لسنا أفضل من الآخرين كما أدّعى الفِرِّيسي، ولا نستحق شيئًا، بل نحن بحاجة إلى رحمته تعالى. ولقد ظنَّ أن الله يُرضيه إتمام الفرائض دون نقاوة القلب واتضاعه، حتى أنه في صلاته رأى أنه أفضل من غيره، ولم يفكر في أن يذكر ضعفه وينقّي قلبه من الخفايا. ومن هذا المنطلق، فان من يعتبر نفسه بارًّا ويحكم على الآخرين ويحتقرهم يكون فريسيًا فاسدًا ومُرائيّاً. ويعلق البابا فرنسيس "إنّ الغرور يُفسد كلّ عمل صالح ويُفرغ الصلاة من معناها ويُبعدنا عن الله والآخرين". فإن الرب "شَتَّتَ الـمُتَكَبِّرينَ في قُلوبِهم...ورفَعَ الوُضَعاء. "(لوقا 1: 51-52)؛ لا شكَ إن هذا المثلَ صالحٌ لعصرنا الحالي. فما أكثر الذينَ يُشبهونَ الفِرِّيسي في تصرفاتهم وافتخارهم ببرَّهم الذاتي ويرونَ أنهم أحسن من غيرهم، أحسن في ثقافتهم وعِلمهم، أحسن في أموالهم ومُمتلكاتهم، أحسن في سيارتهم وبيوتهم، أحسن في جنسيتهم وقوميتهم أحسن في انتمائهم السياسي والديني.
يدعونا يسوع أن نتخرج من مدرسته، هو المعلم "الوَديعٌ مُتواضِعُ القَلْب" (متى 29: 11). فالتواضع كما يقول القديس أوغسطينوس "علامة المسيح" فنصلي بكل تواضع مثل العَشَّار ولا نطلب شيء سوى مراحم الله "اللهم ارحمني أنا الخاطئ، لانَّ" اللهَ يُكابِرُ المُتَكبِّرين وُينعِمُ على المُتَواضِعين"(1بطرس 5: 5) ونجد صدى لكلام بطرس الرسول في المزامير " دَعا بائِسٌ والرَّبُّ سَمِعَه ومِن جَميعِ مَضايِقهِ خَلَّصَه" (مزمور 34: 7). الغفران يأتي من خلال اعترافنا بخطايانا بتواضع، وهو شرط أساسي لدخول ملكوت السماوات.
يدعونا يسوع أخيرا في هذا المثل أن نتقدَّم إليهِ بروحِ التواضع والانسحاق والندم والتوبة عن الخطيئة، وطلب المغفرة، لانَّ المغفرة تأتي كهبة مجَّانية دونَ أي مقابل من الإنسان، إذ أن المسيح يسوع قد دفعَ ثمنَ هذا الغفران بدمه الغالي الثمين "قَد عَلِمتُم أَنَّكم لم تُفتَدَوا بِالفاني مِنَ الفِضَّةِ أَو الذَّهَب مِن سيرَتِكمُ الباطِلَةِ الَّتي وَرِثتُموها عن آبائِكم، بل بِدَمٍ كريم، دَمِ الحَمَلِ الَّذي لا عَيبَ فيه ولا دَنَس، دَمِ المسيح"(1بطرس 1: 18-19).
الخلاصة:
قدَّم لنا يسوع مثل الفِرِّيسي والعَشَّار واصفًا نهجين مختلفين للعيش في العالم والالتقاء به تعالى. يقوم الاثنان بعمل نفسه: صَعِدَ رَجُلانِ إلى الهَيكَلِ لِيُصَلِّيا (لوقا 18: 10)، ولكن بطريقتين متناقضين، يقف الفريسي أمام الله بكبرياء ليُبرز ذاته وكمال أعماله وحفظه للشريعة، فلا يرى الله إنَّما نفسه وأعماله، ويقلِّل من شأن الآخرين. فحرم نفسه من رحمة الله. وأمَّا العشار "وَقَفَ بَعيداً لا يُريدُ ولا أَن يَرَفعَ عَينَيهِ نَحوَ السَّماء، بل كانَ يَقرَعُ صَدرَه ويقول: الَّلهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطئ!" (لوقا 18: 13). لموقفه المتواضع نال العشار رحمة الله.
يعلمنا يسوع من خلال هاتين الشخصيتين المتناقضتين سره الإلهي ويكشف الفرق بين التواضع الحقيقي والزائف. ويعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم" فالعشّار اعترف بأنّه خاطئ، وبهذا أصبح بارًّا؛ فكم بالحريّ البارّ الذي يعترف بأنّه خاطئ، فهو سيرى ازدياد بِرّه واستحقاقاته! فالتواضع يجعل الخاطئ بارًّا لأنّه يعترف بحقيقة حياته؛ وفي نفوس الأبرار، يعمل التواضع الحقيقيّ بقوّة أكبر" (عظات عن القدّيس متّى، العظة 3).
ضرب يسوع هذا المثل ليُعلم تلاميذه كيف ينبغي أن يصلوا مبيّنا اختلاف الفِرِّيسي والعَشَّار في الروح والغرض في الصلاة. فكانت صلاة العَشَّار دُعاء وليس خطاب كصلاة الفِرِّيسي. وسال الله حاجاته الشخصية ولم يلتفت إلى خطايا غيره كما فعل الفِرِّيسي. واقترنت صلاته بالتواضع والاعتراف بإثمه بعكس الفِرِّيسي التي اقترنت صلاته بالكبرياء والاعتزاز بفضائله وأعماله، وكذلك اتكل العَشَّار في صلاته على رحمة الله بعكس الفِرِّيسي التي اتكل على بره الذاتي وأخيرا، كانت صلاة العَشَّار صادرة من قلبه لا من شفتيه كالفِرِّيسي. لخّص القديس يوحنا الذهبي الفم هذا المثل بقوله "أن الفِرِّيسي ركب مركبة يجرها البرّ مع الكبرياء بينما مركبة العَشَّار تجرها الخطيئة مع التواضع؛ الأولى تحطمت وهوت، والثانية ارتفعت وعلت بعد أن غُفرت خطايا العَشَّار بتواضعه". كم هو مفيد تواضع الروح، وكم هو مفسد الكبرياء؟
القديسون العظام حينما وقفوا أمام الله لم يجدوا شيئاً يتقدمون به، فوقفوا أمامهُ عراه وضُعفاء كإبراهيم، أب الآباء حين قال: "قد أَقدَمتُ على الكلامِ مع سَيِّدي، وأنا تُرابٌ ورَماد " (تكوين 18: 27)، وأيوب الصديق يقول: " فلِذلك أَرجعُ عن كَلامي وأَندَمُ في التُّرابِ والرَّمادِ" (أيوب 42: 6)، وداود النبي يقول "ما الإِنسانُ يا رَبُّ حتَّى تَعرِفَه واْبنُ الإِنْسانِ حتَّى تُفَكّرَ فيه؟ " (مزمور 144: 3)، ويقول: لقَد لَصِقَت بِالتُّرابِ نَفْسي فأَحْيِني بِحَسَبِ كَلِمَتِكَ" (مزمور 119: 25). في حين يقيم الرب في متواضعي القلوب الّذين يقرّون بإثمهم ويقرّون برحمة الربّ ونعمته المُخلّصة كما جاء في نبوءة أشعيا " أَسكُنُ في العَلاءِ وفي القُدْس ومع المُنسَحِقِ والمُتَواضِعِ الرُّوح لِأُحيِيَ أَرْواحَ المتواضِعين وأُحيِيَ قُلوبَ المُنسَحِقين " (أشعيا 57، 15).
الدعاء:
نسألك، أيّها الربّ الإله، أن تجعلنا متواضعي القلب والفكر والنفس في صلاتنا. ولا تجعل الكِبْرياء تسود علينا فتفسد حياتنا، وعلِّمْنا أن نحاسب أنفسَنا قبل أن نحاسبَ الآخرين، وساعدنا كي نعرف أننا خطأة لا نجسر أن ننظر نحو السماء، لكنَّنا نتَّكل على غنى رحمتك ومحبتك للبشرية صارخين مع العَشَّار: "الَّلهُمَّ ارحَمني أَنا الخاطئ". ولنعبِّر عن شكرنا مع أمُّنا مريم المتواضعة "تعظّم نفسي الربّ تُعَظِّمُ الرَّبَّ نَفْسي وتَبتَهِجُ روحي بِاللهِ مُخَلِّصي لأَنَّه نَظَرَ إلى أَمَتِه الوَضيعة. ورَحمَتُه مِن جيلٍ إلى جيلٍ لِلذَّينَ يَتَقّونَه" (لوقا 1: 48-50). آمين.
القصة:
دخل شخص إلى الكنيسة يُصلي وسجد أمام هيكل الله وبدأ صلاته بالقول "يا رب أتيت اليوم إليك لأقدم لك العالم وما يحمله من شرور ومآسي وحروب لتحوِّله أنت إلى عالم مليء بالأفراح والسلام والأمان.
أجابه الرب: أنا خلقت العالم وأنت ماذا فعلت لأجله؟
المُصلي: يا رب أقدم لك حياتي كي تكون تحت تصرفك.
أجابه الرب: أنا وهبتك الحياة فهل عشت وفق إرادتي.
المُصلي: يا رب أقدم لك أعمالي
أجابه الرب: أنا وهبتك الأعمال والمقدرة على إتمامها.
فخرَّ المصُلي ساجداً وقال: يا رب أنا لا أملك شيئاً أقدمه لك، فأنت المالك كلّ شيء، وما عندي سوى خطاياي وذنوبي فأقدِّمها لك.
وهنا سمع المُصلِّي صوت الرب قائلاً له " أنا رفعت عنك خطاياك.