مزمور 132 (131 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير
صداقة فريدة
رأينا في المقدمة على مزامير المصاعد أن المجموعة الخامسة منها (مز 132-134) تمثل سفر التثنية، حيث يشتهي المؤمن أن يدخل في صداقة مع الله كما كان موسى النبي. الآن في هذا المزمور نجد نوعًا من الميثاق بين الله وداود. فالأخير في وداعةٍ وتواضعٍ لا يجد راحته، ولا يدخل إلى بيته، ولا يصعد على سرير فراشه، ولا يعطي لعينيه نومًا حتى يجد موضعًا للرب، ومسكنًا لإله يعقوب. ومن جانب الرب نفسه، فقد اقسم لداود أن يجعل من بنيه من يجلس على كرسيه إلى الأبد، إن حفظ بنوه عهده.
هذا ما يشتهيه المؤمن الحقيقي، أن يرتبط بصداقة مع الرب إلهه، فيجد الرب راحته في قلب المؤمن كمسكنٍ له، ومن جانب الله، فهو يود أن يدخل به إلى خبرة الحياة الملوكية السماوية.
يرى البعض أن داود المرتل قام بتسجيله بروح الله بمناسبة إحضار تابوت العهد إلي المدينة المقدسة (2 صم 6: 14. 15). وأنه مزمور نبوي مسياني. بلا شك بقيت اللحظات التي عاشها داود مع كل أورشليم حين أحضر تابوت العهد لا تفارق عينيه. إنها لحظات مفرحة، بل كانت مصدر تعزية مستمرة له حتى وسط ضيقاته. لقد اهتز كل كيانه، فرقص أمام تابوت العهد كطفلٍ صغيرٍ، وأنشدت فرق المسبحين الترانيم المقدسة، مستخدمين كل أنواع الآلات الموسيقية في ذلك الحين (2 صم 6).
يرى آخرون أن واضع المزمور سليمان الحكيم الذي دعاه الرب لبناء الهيكل خلال وعده لأبيه داود (2 صم 7: 13). فهو يسجل مجهودات أبيه وتهليل بهذا الحدث الفريد، مع الكشف عن شوقه وجهاد لبناء بيت للرب. أراد سليمان أن يتذكر الشعب على الدوام وعد الله لداود أبيه بخصوص إقامة مسكن الله.
ويرى فريق ثالث أنه وُضع في نهاية السبي البابلي حيث ُعيد يناء الهيكل ووُضع فيه تابوت العهد.
هذا المزمور هو أحد المزامير التي نسبح بها في "تسبحة النوم"، حيث نعلن أننا لن نستريح، وننعم بنومٍ مملوءٍ سلامًا ما لم يسكن الله في قلوبنا، كما نطلب من الله أن يجد فينا قدسه، موضع راحته.
كان يُسبح به في موكب ليتورجي مفرح، في طريق تابوت العهد إلى الهيكل. الالتصاق بالرب يجعل من صهيون مركزًا للبركة الإلهية، والحياة الخصبة والفرح والأمان بالنسبة للمتكلين عليه.
في هذا المزمور يذكر المرتل الشعب بوعود الرب العظيم لداود أنه يحكم في صهيون، وكيف نذر داود أن يبني بيتًا للرب [1-5]. وأعلن عن وعد الرب لداود أنه يبارك نسله [10-13]، ويجعل من صهيون عاصمة له [14-18].
يقول Gabelein إنه ليس من حاجة للقول بأن المزمور يتطلع إلى ذلك الذي هو أعظم من سليمان، هذا الذي صار ملكًا في صهيون، ابن داود وربه[1].
1. شوق لبناء بيت للرب
1-5.
2. نزول الكلمة ليسكن بيننا
6-10.
3. يقيمنا ملوكًا
11-13.
4. راحته في راحتنا ونصرتنا
14-18.
من وحي المزمور 132
1. شوق لبناء بيت الرب
إحضار داود النبي والملك لتابوت العهد إلى أورشليم هو إعلان عن شوق عملي صادق ورغبة أكيدة حارة أن يقيم للرب بيتًا له، وقد أقسم للرب ونذر للقدير إله يعقوب أنه لن يستريح حتى يتمم هذا. وقد تحدث داود مع ناثان النبي في هذا الأمر (2 صم 7: 1-2).
إن كان هذا هو شوق داود النبي من جهة إقامة مبنى كبيتٍ للربِ، فكم يكون شوقه أن يصير الإنسان مسكنًا للرب؟ فقد تحقق هذا لا بدخول التابوت إلى أورشليم، بل بنزول كلمة الله متجسدًا إلى عالمنا ليسكن فينا.
* يقول داود هنا: لست أطلب موضعًا لراحتي سوى المسيح الذي يولد من نسلي، هذا الذي تسبحونه، وهو من ثمرة بطني[2].
تَرْنِيمَةُ الْمَصَاعِدِ
اُذْكُرْ يَا رَبُّ دَاوُدَ كُلَّ ذُلِّهِ [1].
يجيب القديس يوحنا الذهبي الفم على المتسائلين كيف يُقال عن داود "وكل دعته"، مع أنه رجل حرب، وكيف يُقال عن موسى: "كان حليمًا جدًا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض (عد 12: 3)، بالرغم من موقفه مع فرعون خاصة في حدوث الضربات العشرة، وموقفه مع المصري الذي كان في نزاع مع يهودي... يجيب بأن من وداعة موسى أنه لم يدافع قط عن نفسه، ولم يحمل عداوة شخصية، ولا طلب انتقامًا لمن أخطأ إليه شخصيًا. ونفس الأمر بالنسبة لداود النبي.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن سرّ وداعة داود النبي ليس فقط سلوكه وتعامله مع الذين أساءوا إليه، وإنما ما هو أهم أمران: الأول أنه كان يخاف الله ويرتعد من كلمته، أي أن كلمة الله كانت نصب عينيه وعلة تقواه، والأمر الثاني مع اشتياقه لبناء الهيكل والإعداد له وبناء أورشليم مدينة الله. كان مهتمًا بالتجديد في الحياة الروحية بروح الوداعة والتواضع، يربط بين الهيكل الخارجي وهيكل النفس الداخلي.
* داود بحسب واقع التاريخ كان ملك إسرائيل، ابن يسى. بالحق كان وديعًا كما تشهد الأسفار المقدسة نفسها... كان وديعًا فلم يرُد الشر بالشر لمضطهده شاول. احتفظ أمامه بتواضعٍ شديدٍ، حيث تحدث معه كملكٍ، وحسب نفسه كلبًا، ولم يُجب على الملك بتشامخ أو فظاظة، مع أنه أكثر منه في القوة بالرب. إنما سعى أن يسترضيه بالتواضع، ولا يثيره بالكبرياء. لقد سُلِّم شاول له تحت سلطانه من قِبَل الرب الإله، ليفعل به كما يشاء، وإذ لم تصدر إليه وصية بقتله قدَّم له الرحمة التي قدمها الله له[3].
القديس أغسطينوس
* التحدث عن وداعته يقتضي ذكر قصصه فيما فعله مع شاول ومع إخوته ويوناثان، وصبره على الجندي الذي صب له شتائم بلا حصر (2 صم 16: 5-13)، وأمور أخرى أكثر أهمية من هذه، قادته إلى فكره الرئيسي (منهجه) على نقطة حساسة كانت واضحة في غيرته. والآن لماذا فعل هذا؟ لسببين:
الأول: مسرة الله الخاصة به. يقول الكتاب: اُذكر إلى من أنظر، إن لم يكن للوديع والهادئ الذي يرتعد من كلامي (راجع إش 66: 2).
الثاني: دافعه الرئيسي نحو إقامة الهيكل وبناء المدينة وإصلاح الطريق القديم للحياة، الأمور التي وجه إليها اهتمامه[4].
* يا لعظمة هذا الرجل! ويا لسمو روحه! هذا الذي كان الناموس يطالبه "عين بعين وسن بسن" (تث 19: 22) فإنه لم يبلغ إلى هذه الدرجة فحسب بل نال درجة عالية من الحكمة.
ولم تقف حكمته في عدم قتل شاول الخصم العنيف، بل ولم ينطق بكلمة غير لائقة ضده، مع أنه لو تكلم ما كان شاول يسمعه. أما نحن فكثيرًا ما نتكلم بالشر حتى ضد أصدقائنا عندما يكونون غائبين.
يا لحنان روحه! إنه بحق قد تبرر كما جاء في القول: "أذكر يا رب داود وكل دعته (وداعته)" (مز 132: 1).
لنقتدِ به فلا ننطق بكلمة ضد عدونا ولا نصنع به شرًا بل نقدم له الخير قدر المستطاع، فإننا بهذا نصنع خيرًا مع أنفسنا أكثر مما نصنعه معهم. فقد أمرنا أن نغفر لأعدائنا فتغفر خطايانا (مت 6: 14)[5].
* الودعاء هم اللطفاء، والمتواضعون لا يبالون بالمظاهر، بسطاء في الإيمان، وصبورون في مواجهة أية إهانة. إذ يتشربون بوصايا الإنجيل يتشبهون بوداعة الرب القائل: "تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب" (مت 11: 29). وجد موسى أعظم نعمة لدى الله، لأنه كان وديعًا. "وأما الرجل موسى فكان حليمًا جدًا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض" (عد 12: 3)[6].
كَيْفَ حَلَفَ لِلرَّبِّ،
نَذَرَ لِعَزِيزِ يَعْقُوبَ: [2]
لم نسمع عن هذا النذر الذي أقامه داود بخصوص بناء بيت للرب إلا في هذا الموضع، إنما نسمع عن غيرته المتقدة بخصوص العبادة الجماعية، وأيضًا اشتياقه لبناء بيت الرب لكي تستقر هذه العبادة.
تارة يفترض القديس يوحنا الذهبي الفم أن واضع المزمور هو داود النبي وأخرى سليمان بن داود، فيطلب من الرب أن يحقق ما وعد به أباه.
* نذر داود كما لو كان الأمر في قدرته، وصلى إلى الله حتى يتمم نذره. بنذره أوجد تكريسًا، وبصلاته تواضعًا. ليته لا يظن أحد أنه يتمم ما نذره بقوته. الذي يحثك على النذر، هو نفسه يساعدك على التنفيذ.
القديس أغسطينوس
لاَ أَدْخُلُ خَيْمَةَ بَيْتِي.
لاَ أَصْعَدُ عَلَى سَرِيرِ فِرَاشِي [3].
لاَ أُعْطِي وَسَنًا لِعَيْنَيَّ
وَلاَ نَوْمًا لأَجْفَانِي [4].
بقوله هذا يُعلن أنه لا يريد أن يعبر يوم ما في حياته دون أن يعمل بكل جدية وفي غيرة متقدة لبناء هيكل الرب.
المؤمن الحقيقي حريص على الجدية في تمتعه بسكنى الله في قلبه، ناميًا في هذه الخبرة الحية كل يومٍ دون تراخٍ أو تأجيل للغد.
* حقًا لن نكف عن السهر والصلاة والجهاد والعمل حتى يُسر الرب بنفوسنا، ويختارها مسكنًا يقيم فيها، قائلًا: "هذا هو موضع راحتي إلى دهور أبدية. ههنا أسكن، لأني اشتهيتها[7]"
* يرشد الله الكل بعمل نعمته، فلا تملّوا ولا تخر قلوبكم، بل اصرخوا إليه ليلًا ونهارًا لتقتنوا حنو الله فيعلمكم من الأعالي ما يجب أن تفعلوه.
لا تعطوا لأعينكم نومًا، ولا لأجفانكم نعاسًا (مز 4:132) حتى ترفعوا نفوسكم ذبائح محرقات طاهرة، وتعاينوا الله. لأنه بدون قداسة لا يقدر أحد أن يعاين الله كقول الرسول (عب 4:12)[8].
القديس أنبا أنطونيوس الكبير
* قال الأب كرونيوس: "لو لم يقُدْ موسى النبي غنمه إلى جبل سيناء لما رأى النار في العليقة." فسأله أخٌ: "ما الذي تشير إليه العليقة؟" فقال له: "العليقة تشير إلى تعب الجسد، لأنه مكتوبٌ: "يُشبه ملكوت السماوات كنزًا مُخفي في حقل" (مت 13: 44). فقال الأخ للشيخ: "إذًا، فالإنسان لا يصل إلى أية مكافأة بدون ضيق الجسد!" فقال له الشيخ: "حقًا إنه مكتوبٌ: "ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمِّله يسوع الذي من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب" (عب 12: 2)، وداود النبي أيضًا قال: "إنِّي لا أدخل إلى مسكن بيتي ولا أصعد على سرير فراشي.. إلى أن أجد موضعًا للرب" (مز132: 4).
* عندما يأتي الله الكلمة وينتهي تقدم هذه الحياة، فإنه يجمع ذاك الذي لا يعطي نومًا لعينيه ولا نعاسًا لأجفانه (مز 132: 4)، وحفظ وصايا ذاك الذي قال: "اسهروا... في كل حين" (لو 21: 36)[9].
أَوْ أَجِدَ مَقَامًا لِلرَّبِّ،
مَسْكَنًا لِعَزِيزِ يَعْقُوبَ [5].
* أين بحث عن موضع للرب؟ إذ كان وديعًا بحث عن الموضع في نفسه. إذ كيف يكون الشخص موضعًا للرب؟ اسمع النبي: "أين تستريح روحي؟ على المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي" (راجع إش 66: 2). أتريد أن تكون موضعًا للرب؟ كن مسكينًا بالروح، ومنسحقًا، ومرتعدًا من كلمة الله، وعندئذٍ تصير أنت ما تطلبه[10].
* اطلب صداقة المسيح بدون خوف، فإنه يريدك أن تستضيفه في بيتك، أعدد له موضعًا. ماذا يعني أن تعدد له موضعًا؟ لا تحب ذاتك، حبه هو. فإن كنت تحب ذاتك تغلق الباب أمامه. إن كنت تحبه، تفتح الباب له. وإن فتحت يدخل، ولا تضيع أنت بحبك لذاتك، إذ تجد نفسك معه، مع ذاك الذي يحبك[11].
القديس أغسطينوس
* يستطيع الإنسان أيضًا أن يحصّن نفسه بعوارض حينما يرتبط بوحدة المحبة.
ويمكنه أن يقف على الأسس الفضية عندما يتأسس في ثبات كلمة الله النبوية والرسولية.
يمكنه أن يزيّن رؤوس الأعمدة بتيجان إذا كانت تيجانه هي الإيمان بالمسيح، لأن "رأس كل رجل هو المسيح" (1 كو 3:11).
ويمكن للإنسان أن يقيم في نفسه عشرة ديار، وذلك حينما يتعمق لا في كلمة أو اثنتين أو ثلاث كلمات من الشريعة، ولكن يتمتع باتساع المعنى الروحي للوصايا العشر للناموس وعندما يثمر ثمر الروح: فرح، سلام، طول أناة، وداعة، لطف، تعفف، إيمان، صلاح، وبالأخص عندما تضاف المحبة فوق كل تلك الثمار. لتكن هذه النفس يقظة: "لا تعطي نعاسًا لعينيها، ولا نومًا لأجفانها، ولا راحة لصدغها" حتى تجد مسكنًا لإله يعقوب (مز 4:132-5)[12].
* اختر لك عملًا تدوم فيه إلى النهاية. ضع يدك على المحراث ولا تلتفت إلى الوراء، بل ثبِّت اهتمامك بما هو أمامك وأنت تصرخ قائلًا: "لا أعطي لعينيَّ نومًا، ولا لأجفاني نعاسًا، ولا راحة لصدغي، إلى أن أجد موضعًا للرب، ومسكنًا لإله يعقوب" (مز 132: 4-5). لأن الإنسان الذي يطلب الله لا يجد راحةً حتى يستجيب له الله. فكما هو مكتوب: "هذا المسكين صرخ، والرب استمعه ومن كل ضيقاته خلَّصه" (مز 34: 6).
* لنقف ضد الشرير محصنين بهذه الأشياء لتكون كدروعٍ لا تنهزم، متيقظين ومستعدين وكأنه نهار. دعونا نطعنه بسهام كلمات الروح ونقطع عنه كل أمله... لأننا أقسمنا لله وأخذنا عهدًا لإله يعقوب بأن "لا أعطى وسنا لعيني ولا نوما لجفني أو أجد مقاما للرب ومسكنا لعزيز يعقوب" (مز 132: 4-5) ليسكن داخل قلوبنا. بالتأكيد لن نكف عن السهر والصلاة والاجتهاد إلى أن يسر الله بأرواحنا ويختارها كمسكنٍ له قائلين: "هذه هي راحتي إلى الأبد، ههنا أسكن، لأني اشتهيتها" (مز 132: 14)[13].
* لا تتبع راحة الجسد، ولكن صلِ وصلِ بجد واهتمام حتى ولو كنت طول النهار تكد وتتعب. لا تكن مهملًا في الصلاة المقدسة، بل انتصب وقل صلاتك من قلبك حتى نهايتها، لأنها واجب عليك نحو الله. "لا أصعد على سرير فراشي، ولا أعطي لعيني نومًا، ولا أجفاني نعاسًا، ولا راحة لصدغي، إلى أن أجد موضعًا للرب (مز 132) أما إذا سمحت لنفسك أن تصلي بدون اعتناء، وليس من كل قلبك، فلن تجد راحة في صلاتك أو بعد صلاتك، فإن أردت أن تستريح حقًا، فاغسل خطاياك بالدموع أمام الله. "أعوم كل ليلة سريري، وبدموعي أبل فراشي" (مز 6). إذن احترس أن لا تمدد جسدك أمام الله، وتزدري بالصلاة من أجل راحة الجسد.
* يقول: لأنني من نسله، وأنت قبلته من أجل غيرته، وقلت أنك تثبت نسله ومملكته، لهذا الآن نسألك تحقيق هذا الاتفاق. لم يقل: "حتى أبني (الهيكل)"، وإنما حتى "أجد مقامًا للرب ومسكنًا" [5]... إنه يذكِّره بأنه هو نفسه الباني أكثر منه أنه الابن... لاحظوا حماسته: إنه لم يقل فقط أنه لا يدخل البيت ولا يصعد على سرير فراشه، إنما ولا يجد راحة للتمتع بهذه الأمور الصادرة عن ضرورة الطبيعة، ما لم يجد مقامًا ومسكنًا لإله يعقوب. لاحظوا مرة أخرى غيرته وانسحاق قلبه: الملك المُسلط على كل شيء يقول: إلى أن أجد مقامًا ومسكنًا لإله يعقوب. لم يهدف فقط نحو البناء، بل في إيجاد مقام لائق ومناسب للهيكل، الأمر الذي يحتاج إلى بحث؛ وكانت نفسه يقظة لهذا الأمر[14].
2. نزول الكلمة ليسكن بيننا
هُوَذَا قَدْ سَمِعْنَا بِهِ فِي أَفْرَاتَةَ.
وَجَدْنَاهُ فِي حُقُولِ الْوَعْرِ [6].
هذه ربما كانت كلمات داود النبي وأصدقائه الأتقياء الذين سمعوا عن تابوت العهد حين كانوا في أفراتة أو بيت لحم ووجدوه في قرية يعاريم (1 صم 7: 1؛ 2 صم 6: 3-4)، ومن هناك ُأصعد إلى صهيون.
تشير الآيتان 6-7 إلى التابوت فعلًا الذي أُخذ من إسرائيل وسقط المنتصرين في قرية يعاريم، وظل هناك عشرين سنة (1 صم 7).
يفسر البعض "أفراته" أنها بيت لحم، لكن لم يكن التابوت هناك أبدًا. غير أنه من المحتمل أن أفراته هو اسم منطقة "قرية يعاريم"، ومما يؤكد هذا الرأي أن هذا الموضع كان يخص كالب أفراته (1أي 2: 24).
* يمكننا أن نفهم ببساطة أن أفراته تُقال عن بيت لحم. وقد وُلد المسيح في بيت لحم. مبارك بالحق الموضع الذي فيه تم الاحتفال به زمانًا طويلًا بهذا المزمور الذي للأنبياء قبل حلول وقت (تجسده). حقًا كل الأماكن مقدسة ومكرمة حيث وُلد المسيح، وحيث صلب. لكن هذا الموضع بالحق له كرامة أعظم. تأملوا رأفة الله الحانية! هناك وُلد طفل فقير صغير، ووُضع الطفل في مزود، لأنه لم يكن لهما موضع في المنزل (لو 2: 7)[15].
القديس جيروم
يرى القديس أغسطينوس أن كلمة أفراتة تعني مرآة، وكأننا قد سمعنا عنه في نبوات الأنبياء كما في مرآة، لكننا وجدناه في حقول الوعر، أي في الأمم التي تركت الوثنية وآمنت به. لقد قدَّم الأنبياء السيد المسيح كما في مرآة، أما الأمم فحلَّ بالإيمان في قلوبهم.
* يقول: "هوذا قد سمعنا به في أفراته" ، أي أخبرنا آباؤنا بهذا. تعلمنا هذا بسماع الأذن، أنه كان يتحرك هناك في الحقول والسهول، وأخيرًا جاء إلى الراحة. ليحدث هذا الآن أيضًا[16].
لِنَدْخُلْ إِلَى مَسَاكِنِهِ.
لِنَسْجُدْ عِنْدَ مَوْطِئِ قَدَمَيْهِ [7].
لقد اشتهى الابن الضال أن يترك بيت أبيه ولا يسكن فيه، وظن في ذلك أنه يتمتع بالحرية، ويكون سيدًا لنفسه، فبدَّد ماله. أما المرتل فاشتهى أن يدخل إلى مسكن أبيه السماوي، ويعمل حسب إرادة أبيه.
السجود عند قدمي الرب علامة التسليم الكامل بفرحٍ، ليعمل إرادة المخلص لا إرادته الذاتية
* ألا ترون عظمة دقة التعبير الذي يستخدمه بخصوص مسكن الله: الموضع الذي تطأه قدماه. هذا كله يشير إلى موضع التابوت حيث كانت أصوات مرعبة تصدر لليهود تحل ألغاز ونبوات مستقبلية[17].
* الذين يجوبون العالم ويكرزون بالإنجيل يشهدون بأقدام الرب، الذي يتنبأ عنهم الروح القدس في المزمور: "لنسجد عند موطئ قدميه"، أي حيث الرسل، قدماه، قد بلغوا، لأنه كرز بهم، وبهم جاء إلى أقاصي الأرض[18].
القديس إكليمنضس السكندري
في حديث الأب يوحنا الدمشقي عن السجود وأنواعه، يوضح بصورة قاطعة التمييز بين السجود للعبادة، وهذا خاص بالله وحده، والسجود للتكريم كما سجد يشوع بن نون ودانيال للملاك، وداود أمام تابوت العهد (عند موطئ قدميه) والسجود للاحترام والشكر، كما فعل إبراهيم أمام بني حث، حين قدموا له أرضًا لدفن سارة زوجته.
* السجود هو الوسيلة التي عن طريقها نظهر البرّ والتكريم. دعنا نفهم أن هناك درجات مختلفة من السجود. أول شيء يوجد السجود، الذي نقدمه لله المستحق وحدة للعبادة، وبعد ذلك من أجل من هو مستحق للعبادة بطبيعته، نكرم أصحابه وشركاءه، مثلما سجد يشوع بن نون ودانيال للملاك، أو كما بجّل داود أماكن الله المقدّسة، عندما قال: "لندخل إلى مساكنه. لنسجد عند موطئ قدميه" (مز 132: 7). أو مثلما قدم شعب إسرائيل التقدمّه والعبادة في خيمته، أو عندما أحاطوا بالمعبد في أورشليم، مثبتين نظرهم عليه من كل ناحيّة، ومتعبدين كما أمرهم الملك، أو كما سجد يعقوب إلى الأرض أمام عيسو، أخيّة الأكبر، وأمام فرعون صاحب السلطة المعطاة له من الله (تك 47: 7). وإخوة يوسف وقعوا أمامه إلى الأرض (تك50: 18). سجود آخر يُقدّم للتعبير عن الاحترام، كما كان الحال مع إبراهيم وبني حث. فإما أن نلغي السجود بالكامل أو أن نقبله بالأسلوب والاحترام المناسب[19].
قُمْ يَا رَبُّ إِلَى رَاحَتِكَ،
أَنْتَ وَتَابُوتُ عِزِّكَ [8].
استخدم سليمان نفس العبارات عند تدشين الهيكل (2 أي 6: 41-42).
تنطبق أيضًا هذه العبارة على اليهود في عودتهم من السبي، واشتهوا بناء الهيكل لكي يعلن الله مجده هناك.
إنها أيضًا صرخة كل مؤمنٍ تخرج من أعماق قلبه يوميًا، مشتهيًا أن يعلن الرب مجده فيه، وأن يستريح الرب في أعماقه، فقد سبق فقال السيد المسيح: "ليس لابن الإنسان أين يسند رأسه".
تشير كل الأمور نبويًا إلى ذاك التجديد العظيم الآتي الذي حققه ابن داود الحقيقي، الرب الممسوح يسوع المسيح.
"قم أيها الرب": تكرر تسبحة الاحتفال في الموكب المتقدم في (عد 10: 35؛ مز 168: 1). إن كان ثمة لغة عسكرية يتردد صداها في العبارة "تابوت عزك" إنما لتوحي بالثقة المتناهية في الملك داود كما في التابوت المقدس.
* أنتم تعرفون مَنْ الذي نام، والذي قام... إنه رأسنا، تابوته هو كنيسته. قام أولًا، وكنيسته ستقوم أيضًا. ما كان يمكن للجسد أن يجسر ويعد نفسه بالقيامة ما لم يقم الرأس أولًا. جسد المسيح الذي وُلد من مريم يفهمه البعض أنه تابوت القدس، وكأن الكلمات تعني: قم بجسدك، حتى لا يُحرم الذين يؤمنون (من القيامة)[20].
القديس أغسطينوس
* تعالوا أنتم أيضًا أيها الأحبّاء الأعزّاء نتغنّى بالأنشودة التي تعلّمنا إيّاها قيثارة داود الملهمة قائلة: "قم يا رب إلى راحتك، أنت وتابوت موضع قدسك" (مز 132: 8). فالعذراء القديسة هي بحق تابوت. مغشّى بالذهب من الداخل والخارج، إذ قبلت كنز القداسة الكامل.
"قم يا رب إلى راحتك". قم من أحضان الآب (دون أن تنفصل قط عنه) حتى تقيم جنس البشر الساقط (يو 16: 28)[21].
القديس غريغوريوس صانع العجائب
* أعطى الله شهادة عن عظمة قوته بهذه الوسيلة، مرة ومرتين وعدة مرات، مثلما حدث عندما أسره شعب أشدود (1 صم 5: 1-8)... الآن ماذا يعني: قم إلى راحتك؟ ضع حدًا للتجول، ولحمل التابوت، فيستقر على الدوام[22].
كَهَنَتُكَ يَلْبِسُونَ الْبِرَّ،
وَأَتْقِيَاؤُكَ يَهْتِفُونَ [9].
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن ما كان يشغل ذهن المرتل ليس إقامة المبنى لبيت الرب، ولا إعداد الأواني الثمينة اللائقة به الخ.، وإنما بالأكثر نقاوة قلب الكهنة والشعب. فيلتحف الكهنة بالبرّ، ويسبح الشعب بروح الهتاف والتهليل الخارج من أعماق القلب.
ويرى العلامة أوريجينوس أن البرّ الذي يلتحف به الكهنة هو السيد المسيح الذي صار لنا برًّا، به نقف أمام الآب فنتبرر.
إذ يحل المسيح بالإيمان في قلوبنا، تمتلئ نفوسنا فرحًا، وتهتف أعماقنا بالتهليل!
يتسربل الكهنة بالثياب الليتورجية أو ملابس الخدمة الكنسية (زك 3: 4-5)، لكن يليق بهم أن يتسربلوا بالبرّ، بالقداسة الشخصية التي هي هبة إلهية للجادين المخلصين، حتى يتأهلوا بقيامهم بالوساطة في تحقيق العهد بين الشعب والله. وقد دُعيت هذه الثياب بثياب الخلاص في (إش 61: 10).
يرتدي الكهنة ثياب البرّ، ويقدم الكل - كهنة وشعبًا - ذبيحة التسبيح كأتقياء الرب أو كقديسي الرب الذين لا يكفون عن الهتاف الروحي. يشترك الشعب كله في موكب النصرة في الرب.
* العبارة صادرة عمن يصلي، لا عمن يروي أو يطلب اقتناء فضيلة. يعطي اسم "البرّ" هنا للطقس والكهنوت والعبادة والذبائح والتقدمات وطابع الحياة في صحبة هذه كلها، حيث أن هذه طلبة قدمت من أجل الكهنة.
"وأتقياؤك يفرحون"، وقد حدث فعلًا. لاحظوا أنه لا يتطلع إلى إنشاءات مباني، ولا إلى وفرة من الأواني، ولا إلى شكل آخر من أشكال الترف، وإنما إلى شكل الهيكل واستقرار التابوت، وكمال عدد الكهنة والطقوس والعبادة والكهنوت[23].
* ولهذا قيل لموسى إنه يجب أن يتأكد من أن الكاهن حينما يدخل خيمة الاجتماع يجب أن يكون محاطًا بأجراس صغيرة (خر 28: 33)، للدلالة على أن الكاهن يجب أن يكون موهوبًا في الوعظ، لئلا يستوجب بسكوته دينونة الله الذي يرى من فوق. لأنه مكتوب: "ليسمع صوتها عند دخوله إلى القدس أمام الرب، وعند خروجه، لئلا يموت". (خر 28: 35) يقع حكم الموت على الكاهن إذا لم يُسمع صوته عند دخوله أو خروجه، وهذا يعني أن الكاهن يثير غضب الديان غير المرئي إذا لم يتكلم بالوعظ والتبشير.
ولقد ثبتت الأجراس الصغيرة في الملابس. وماذا تعني ملابس الكاهن إلا أعماله الصالحة! يشهد النبي بذلك حينما يقول: "كهنتك يلبسون البرّ، وأتقياؤك يبتهجون" (مز 132: 9). فهذه الأجراس الصغيرة أو الجلاجل كانت تثبت في الملابس لكي ما تعلن عن أعمال الكاهن بصوتٍ عالٍ عن طريق حياته وفي كلامه[24].
الأب غريغوريوس (الكبير)
* هذه هي العناصر التي تُصنع منها خيمة الاجتماع، ويكتسي بها الكهنة ويتزين بها رئيس الكهنة.
ويتحدث المرنم عن تلك الثياب في موضع آخر قائلًا: "كهنتك يلبسون البّر، وأتقياؤك يهتفون" (مز 131 (132):9)، فكل هذه الثياب هي ثياب العدل. ويقول بولس الرسول "البسوا كمختاري الله أحشاء رأفات" (كو 12:3). وهي أيضًا ثياب الرحمة. ويضيف الرسول قائلًا عن ثياب أكثر عظمة وفخامة: "البسوا الرب يسوع المسيح، ولا تصنعوا تدبيرًا للجسد لأجل الشهوات" (رو 14:13)، هذه هي الثياب التي تتحلّى بها الكنيسة[25]".
* الثوب المطلوب هو في القلب، لا على الجسم، لأنه لو اُرتدي من الخارج، لن يمكن أن يُخفض حتى من الخدم. لكن ما هو ثوب العرس الذي يلزم ارتداؤه؟ نتعلم من هذه الكلمات: "كهنتك يلبسون البرّ" (مز 132: 9). عن ثوب البرّ هذا يتحدث الرسول عندما يقول: "وإن كنا لابسين لا نُوجد عراة" (2 كو 5: 3). بهذه الطريقة انفضح الإنسان غير المستعد وذلك بواسطة رب الوليمة، واُستجوب، وقُيد، وطُرح خارجًا، وهو واحد من بين كثيرين[26].
منْ أَجْلِ دَاوُدَ عَبْدِكَ،
لاَ تَرُدَّ وَجْهَ مَسِيحِكَ [10].
يرى البعض أن سليمان يطلب من الرب أن يستجيب طلبته ولا يرده مخزيًا، متشفعًا بأبيه المحبوب لديه.
يرى القديس أغسطينوس أن الحديث موجه لله الآب بخصوص مسيحه، كلمة الله المتجسد، وقد صُلب وهم في ثورة ضده. لكنهم عادوا فرأوا المعجزات تتحقق باسم يسوع المصلوب. يشير المرتل هنا إلى البقية التي آمنت بالسيد المسيح بعد قيامته.
* إنه يقول: ليس فقط من أجل فضيلته، ولا غيرته على إقامة الهيكل، وإنما أيضًا لأجل العهد معه. "من أجل داود عبدك، لا ترد وجه مسيحك". أيّ وجه يشير إليه؟ ذاك الذي مُسح في ذلك الوقت كمرشدٍ وقائدٍ للشعب[27].
3. يقيمنا ملوكًا
أَقْسَمَ الرَّبُّ لِدَاوُدَ بِالْحَقِّ لاَ يَرْجِعُ عَنْهُ:
مِنْ ثَمَرَةِ بَطْنِكَ أَجْعَلُ عَلَى كُرْسِيِّكَ [11].
يريد ملك الملوك أن يقيم شعبه ملوكًا وكهنة لله أبيه (رؤ 1: 6). هنا يقسم الرب لداود بالوعد أن يقيم من نسله ملوكًا.
في قرية يعاريم حلف (أقسم) داود للرب ألا يستريح حتى يجد مسكنًا للرب وسط شعبه [2]. هنا تبدأ الاحتفالات في أورشليم بقسم الرب لإقامة ملك من نسل داود.
ورد في الكتاب المقدس ثلاثة أقسام (جمع قسم) هامة:
أ. أقسم الرب لإبراهيم أن يكثر نسله (تك 22: 15-18).
ب. أقسم الرب لإسرائيل بامتلاك الأرض (خر 6: 8).
ج. اقسم لداود ليقيم ملوكًا من نسله، إن حفظوا العهد الإلهي عمليًا. هنا نتذكر صلاة سليمان الطويلة عند تكريس الهيكل، مذكرًا الله بوعوده لداود (1 مل 8: 25-26)، تأكيد تمتع الشعب بالبركات الإلهية إذا "جاء وصلى في هذا البيت" (1 مل 8: 42).
وعد الرب داود أن يقيم من ثمرة بطنه من يجلس على كرسيه، وقد تحقق ذلك بتجليس سليمان ملكًا. وإذ جاء كلمة الله متجسدًا من العذراء مريم ابنة داود جلس ملكًا على القلوب، ويجلس في ملكوته أبديًا، فهو ابن داود وربه في نفس الوقت.
* ماذا يعني "أقسم"؟ لقد ثبَّت وعده بنفسه. ماذا يعني "لا يرجع"... لقد وعد بهذا على أنه لا يغير ما وعد به.
القديس أغسطينوس
* لقد ترك متى كل الأسماء ليذكر داود وإبراهيم (مت ١: ١)، لأن الله وعدهما وحدهما (بصراحة) بالمسيح (تك ٢٢: ١٨؛ مز ١٣٢: ١١)[28].
* قال الرب لليهود "ماذا تظنون في المسيح"؟ (مت 22: 42) أجابوه: "ابن داود" (مز 110: 1). لأنهم عرفوا ذلك بسهولة إذ تعلموه من الأنبياء. بالحقيقة كان من نسل داود ولكن "حسب الجسد" من العذراء مريم التي كانت مخطوبة ليوسف. عندما أجابوه أن المسيح ابن الله قال لهم "فكيف يدعوه داود بالروح ربًا، قائلًا: "قال الرب لربي اِجلس عن يميني حتى أضع أعدائك موطئًا لقدميك" (مت 22: 44). "فإن كان داود يدعوه ربًا فكيف يكون ابنه" (مت 22: 45). فلم يستطع اليهود أن يجيبوه. هذا هو ما نجده في الإنجيل. إنه لم ينكر بنوته لداود حتى وإن كانوا لم يستطيعوا أن يدركوا ربوبيته لداود أيضًا. إنهم أدركوا في المسيح ما قد صار بحسب الزمن، لكنهم لم يدركوا ما هو بحسب سرمديته. فبينما كان يرغب في تعليمهم عن لاهوته بسط لهم سؤالًا يخص تأنسه، كأنه يريد أن يقول: "أنتم تعرفون أن المسيح ابن لداود. أخبروني كيف هو رب له أيضًا؟ وإذ ينبغي أن لا يقولوا: "إنه ليس رب داود" جاء بشهادة داود نفسه. ماذا يقول داود؟ إنه يقول الحق. لأنكم تجدون الرب يحدث داود في المزامير قائلًا: "من ثمرة بطنك أجعل على كرسيك" (مز 132: 11). فهذا هو ابن لداود. ولكن كيف يكون ابن داود ربًا له؟ "قال الرب لربي اجلس عن يميني" (مز 110: 1). هل تتعجبون من أن يكون ابن داود إلهًا له عندما ترون مريم أمًا لربها؟ إنه رب داود بكونه إلهًا، رب داود بكونه رب الكل، وابن داود بكونه ابن الإنسان هو رب وابن في نفس الوقت. إنه رب لداود "الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلًا لله" (في 2: 7)، وابن داود بكونه "أخلى نفسه آخذا صورة عبد" (في 2: 7)[29].
* تخاطب العروس بنات أورشليم السمائية. تعبر بواسطة تشجيعهن على هيئة قسم بأن الحب قد يتضاعف ويزيد باستمرار حتى يتمم إرادة ذاك الذي يريد أن الكل يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون (1 تي 2: 4). ويقول النص: "أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقول ألاّ تُيْقِظن ولا تُنبِّهن الحبيب حتى يشاء". فالقسم هو ما ينطق مع ضمان صدقه. ويعمل بطريقتين: فإمَّا إنه يؤكد الحقيقة لمن يسمعونه، أو يُلزم الشخص الذي أقسَم بأن لا يكذب. وكما تقول المزامير: "أقسَم الرب لداود بالحق لا يرجع عنه. من ثمرة بطنك أجعل على كرسيك" (مز 132: 11). في هذه الحالة يتأكد صدق الوعد بالقَسم[30].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
* إذ وُهب النبي معرفة مسبَّقة باستنارة علويَّة، قدَّم نبوَّة واضحة عمًّا سيحدث. فقد قيل في وقت معاصر للطوباوي داود بواسطة الله رب الكل: "من ثمرة بطنك أجعل على كرسيك" (مز 132: 11). إذ يعرف (الله) كل الأشياء غرس في الأنبياء القدِّيسين سابق معرفة لما سيحدث، معلنًا بواسطتهم، أن السرّ يُشهد له من كل الاتجاهات، فيؤمنون بأنَّه حقيقة واقعة. هكذا يقول أن قضيبًا يبرز من أصل يسَّى، وتنبت زهرة. (إش 10: 33-34 LXX)[31].
القديس كيرلس الكبير
* عرفنا أن الرب يولد من عذراء، بقي لنا أن نعرف عائلة هذه العذراء. "أقسم الرب لداود بالحق ولن يندم، من ثمرة بطنك أجعل على كرسيك". وأيضًا "وأجعل إلى الأبد نسله وكرسيه مثل أيام السماوات". وأيضًا "حلفت بقدسي إني لا أكذب لداود. فله إلى الدهر يكون وكرسيه كالشمس والقمر أمامي" (مز 132: 11؛ مز 89: 29؛ مز 89: 35)[32].
القديس كيرلس الأورشليمي
إِنْ حَفِظَ بَنُوكَ عَهْدِي وَشَهَادَاتِي الَّتِي أُعَلِّمُهُمْ إِيَّاهَا،
فَبَنُوهُمْ أَيْضًا إِلَى الأَبَدِ يَجْلِسُونَ عَلَى كُرْسِيِّكَ [12].
نال داود عهدًا خاصًا باستمرارية ملكه في عهده وفي عهد أبنائه، لكنه كان عهدًا مشروطًا، ألا وهو حفظ أبنائه للعهد والشهادات التي يعلمهم الرب إياها.
لأَنَّ الرَّبَّ قَدِ اخْتَارَ صِهْيَوْنَ.
اشْتَهَاهَا مَسْكَنًا لَهُ: [13].
شتان ما بين أن يُنقل تابوت العهد من موضع إلى آخر، وبين أن نسمع "الرب قد اختار صهيون، اشتهاها مسكنًا له". إنه اختارها بنفسه واشتهاها ليسكن فيها، وهو خالق السماء والأرض. ما هي صهيون إلا رمز لكنيسة الله الحي عمود الحق وقاعدته (1 تي 3: 15).
يا لمحبة الله الفائقة، يريد أن يقيم من كل نفسٍ مدينة له، يسكن فيها ويشتهيها، يجعل منها ملكوته، ويعلن مجده في داخلها!
هكذا يليق بكل مؤمنٍ أن يتطلع إلى نفوس إخوته بكل وقارٍ وتقديرٍ، فالله يطلب أن يقيم فيها كمسكنٍ له.
4. راحته في راحتنا ونصرتنا!
هَذِهِ هِيَ رَاحَتِي إِلَى الأَبَدِ.
هَهُنَا أَسْكُنُ لأَنِّي اشْتَهَيْتُهَا [14].
إن كان الله يشتهي أن يقيم شعبه ملوكًا، فإنه وهو يهب هذه العطية المجانية يجد مسرته كأب يفرح بفرح أولاده، ويستريح براحتهم. هكذا يعلن الله عن شهوته أن يسكن في وسط شعبه، يهبهم شبعًا ومجدًا وتهليلًا وقوةً واستنارةً ونصرةً.
يبدأ المزمور بأنين داود الذي كان في مذلة [1]، لكنه ينال الوعد بقسمٍ في ابنه الملك، ليس سليمان بل المسيا ابن داود الذي بشر بمولده رئيس الملائكة جبرائيل: "ها أنتِ ستحبلين وتلدين ابنًا وتسمينه يسوع... ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية" (لو 1: 32-33). بهذا الوعد ينتهي المزمور إلى الأفراح والأمجاد على مستوى سماوي.
كثيرًا ما نتحدث عن عظمة الله القدير، وأيضًا عن عدله ومحبته لكن لا نجسر على التحدث عن تواضعه. أي تواضع أعظم من قوله عن سكناه في داخلنا: "هذه هي راحتي، ههنا أسكن لأني اشتهيتها". لم نسمع أن يشتهي أن يسكن في أحد الطغمات السماوية المحبوبة جدًا لديه، الطاهرة والنقية، لكنه يشتهي أن يقيم منا مسكنًا له.
* هذه هي كلمات الله: "هذه هي راحتي"، إنني أستريح هناك. يا لعظمة محبة الله لنا أيها الإخوة، فحيث نحن نستريح، يقول إنه هو أيضًا يستريح. لأنه لا يضطرب أحيانًا ولا يستريح مثلنا، إنما يقول إنه يستريح هناك، لأننا سنجد راحتنا فيه. "ههنا أسكن، لأني اشتهيتها"[33].
القديس أغسطينوس
طَعَامَهَا أُبَارِكُ بَرَكَةً.
مَسَاكِينَهَا أُشْبِعُ خُبْزًا [15].
يحل الله في نفس المؤمن فتصير أشبه بفردوس يمتلئ بثمر الروح، وتحل البركة، ويفرح السمائيون. لم يعد بها مساكين، إذ تفيض في داخلها أنهار مياه النعمة الإلهية.
* انظروا كيف حل الرخاء في كل الجوانب معًا، ليس من نقصٍ في الضروريات (الخبز)، يعيش الكهنة في أمان، والشعب في سعادة، والملك في قوة. يقصد بالسراج [17] هنا الملك أو الدفاع أو الخلاص أو النور. فإن أفضل شكل للرخاء هو الارتباط بهذه. ما هذا؟ فإن الأعداء يصيرون في خزي [18]، ولا يصيبه الأذى بهذه الأمور[34].
* "مساكينها أشبع خبزًا". ماذا يعني هذا أيها الإخوة؟ لنكن مساكين عندئذٍ نشبع. كثيرون يثقون في العالم وهم متكبرون، هم مسيحيون؛ إنهم يعبدون المسيح، لكنهم ليسوا شباعى، إذ هم مكتفون بكبريائهم ولديهم فائض... إنهم يعبدون المسيح، ويكرمونه، ويصلون إليه، لكنهم ليسوا شباعى بحكمته وبرِّه. لماذا؟ لأنهم ليسوا مساكين. فإن المساكين أي المتواضعون في القلب كلما جاعوا يأكلون، وكلما فرغوا من العالم يصيرون بالأكثر جائعين...
الله نفسه خبزهم. نزل الخبز إلى الأرض لكي يصير لبنًا لنا، ويقول لخاصته: "أنا هو الخبز الحي النازل من السماء" (يو 6: 15)[35].
القديس أغسطينوس
* لماذا تُعتبر الكنيسة أرملة؟ إذ غاب عنها المسيح عريسها. تلك العروس التي يقول عنها الرسول: "خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح"، "ليحب كل رجلٍ امرأته كما أحب أيضًا المسيح الكنيسة".
ولماذا تعد الكنيسة فقيرة؟ إذا لم تضع كل رجائها في كرامة وثروة هذا العالم لا في الرب الإله وحده. عن هذا نقرأ: "طوبى للمسكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات".
ولماذا تُشبه الكنيسة باليتامى؟ يقول ربنا ومخلصنا نفسه: "لا تدعوا لكم أبًا على الأرض، لأن أباكم واحد الذي في السماء". ليت من ليس لهم أب أن يظهروا متواضعين[36].
الأب قيصريوس أسقف آرل
كَهَنَتَهَا أُلْبِسُ خَلاَصًا،
وَأَتْقِيَاؤُهَا يَهْتِفُونَ هُتَافًا [16].
صورة مبهجة لكنيسة العهد الجديد التي صارت مسكنًا لله، يستريح فيها، ويفيض بنعمته عليها، ويُشبع مساكينها ويزين كهنتها بلباس الخلاص، حيث يلبس المعمدون المسيح ويستترون فيه، وتصير لغتهم هي لغة الفرح والتهليل الذي لا ينقطع.
* من هو خلاصنا إلا مسيحنا؟ إذن ماذا يعني: "كهنتها ألبس خلاصًا"؟ ذلك كما أن الكثيرين منكم إذ اعتمدوا في المسيح لبسوا المسيح (غل 3: 27)[37].
القديس أغسطينوس
هُنَاكَ أُنْبِتُ قَرْنًا لِدَاوُدَ.
رَتَّبْتُ سِرَاجًا لِمَسِيحِي [17].
يشير القرن إلى القوة. وما هي قوة داود التي نبتت إلا تجسد كلمة الله، الذي جاء من نسل داود حسب الجسد. هذا الذي أضاء المسكونة بنور صليبه، معلنًا حبه العملي للعالم.
لم يأتِ مجيئه فجأة بلا تهيئة، فقد بعث في كل الأجيال رجال الله والأنبياء يشهدون له، وأخيرًا أرسل القديس يوحنا المعمدان يهيئ له الطريق، ويشهد له علانية. إنه السراج الذي سبق مجيء السيد المسيح مباشرة، وشهد له، قائلًا: "هذا هو حمل الله الذي يحمل خطية العالم".
* يوحنا المعمدان كان السراج الذي سبق المسيح. لقد تحدث الله أيضًا عنه بطريقة مشابهة: "رتبت سراجًا لمسيحي" (مز 132: 17)[38].
* لم يُدعَ يوحنا ملاكًا للمسيح فحسب، وإنما يُدعى بالحري سراجًا أشرق أمام المسيح، لأن داود يتنبأ: "رتبت سراجًا لمسيحي[39]".
العلامة ترتليان
* كان المعمدان سراجًا يسبق المسيح، للذين هم تحت الناموس، الساكنين في اليهودية. هكذا قال عنه الله قبلًا: "رتبت سراجًا لمسيحي" [17]. أيضًا الناموس يُرمز له بالسراج، الذي أُوصى أن يظل مشتعلًا دائمًا. لكن اليهود بعدما سروا به زمانًا مسرعين إلى معموديته، ومُعجبين بأسلوب حياته، سرعان ما قتلوه، باذلين أقصى ما وسعهم لإطفاء السراج المضطرم أبدًا. لهذا السبب يتحدث المخلص أيضًا عنه إنه كان سراجًا مشتعلًا مضيئًا: "وأنتم أردتم ألا تبتهجوا بنوره زمانًا" (يو 5: 35)[40].
القديس كيرلس الكبير
* عندما جاء المسيح رفضه اليهود، بينما اعترفت به الشياطين.
داود جده لم يجهله عندما قال: "رتبت سراجًا لمسيحي" (مز 7:132)، هذا السراج الذي فسره البعض أنه بهاء البنوة (2 بط 19:1)، وفسره البعض أنه الجسد الذي أخذه من العذراء...
لم يجهل النبي أمر المسيح إذ قال: "وأعلن بين البشر بمسيحه His Anointed" (عا 13:4 الترجمة السبعينية).
موسى أيضًا عرفه، وإشعياء، وإرميا. لم يجهله أحد من الأنبياء، بل حتى الشياطين عرفته إذ انتهرها...
رئيس الكهنة لم يعرفه، والشياطين اعترفت به.
رئيس الكهنة لم يعرفه، والسامرية أعلنت عنه قائلةً: "انظروا إنسانًا قال لي كل ما فعلت، ألعل هذا هو المسيح؟!" (يو 29:4)[41]
* "أية امرأة لها عشرة دراهم إن أضاعت درهمًا واحدًا ألا توقد سراجًا وتكنس البيت وتفتش باجتهاد حتى تجده؟" (لو 15: 8) من هي المرأة؟ إنها جسد المسيح. ما هو السراج؟ "هيأت سراجًا لمسيحي" (مز 132: 17)، لذلك كان يُبحث عنا حتى نوجد، وإذ نوجد ننطق. ليتنا لا نفتخر، لأننا قبلًا لم نكن موجودين، بل كنا نبقى هكذا مفقودين لو لم يُبحث عنا[42].
أَعْدَاءَهُ أُلْبِسُ خِزْيًا
وَعَلَيْهِ يُزْهِرُ إِكْلِيلُهُ [18].
جاءت كلمة "إكليله" في بعض النسخ "عليه تزهر قداستي".
يختم المرتل المزمور بصورة مبهجة، فإن كان عدو الخير لا يكف عن المقاومة واضطهاد كنيسة الله، إنما ليمتلئ كأس شره ويرتدي الخزي أبديًا، ويتزكى أولاد الله ويزدهرون بإكليل القداسة خلال النعمة الإلهية.
من وحي المزمور 132
لتقم يا رب في داخلي
* إلهي، أنت هو حياتي وراحتي وسلامي!
لتقم يا رب في أعماقي، فتستريح نفسي بك.
مع كل صباح أدعوك أن تعلن ذاتك في أعماقي.
وطول النهار ينشغل قلبي وفكري بك.
لا يعبر يوم دون أن أتمتع بخبرة جديدة معك.
* لا تستريح نفسي إلا في أحضانك.
ينام جسمي، لكن نفسي تناجيك.
لأسترح أنا في أحضانك،
ولتقبل أن تستريح في أعماقي.
قم يا رب في أعماقي إلى راحتك،
أنت وتابوت عزك.
* هب لي مع كل يومٍ خبرة جديدة،
حيث تعمل نعمتك فيّ،
ولا أكف عن الجهاد المستمر،
لكي تتجلى في داخلي.
لأحيا في جدية بلا تواكل.
فلا يضيع يوم واحد من حياتي.
فإن أيامي قليلة،
بخار، سرعان ما يضمحل.
* لتزين هيكلك فيَّ ببرّك، فالتحف به.
ولتهبني مخافتك فأحيا بروح التقوى.
حلولك يملأ أعماقي بالبهجة والجمال الروحي.
حلولك ينير أعماقي ببهائك.
* لن يكف عدو الخير عن المقاومة.
لكن كيف يقف أمامك؟
بمقاومته يلبس الخزي،
وتتمجد أنت في أبنائك.