شفاء مفلوج بيت حسدا
"وبعد هذا كان عيد لليهود،
فصعد يسوع إلى أورشليم". [1]
يرى كثير من آباء الكنيسة والدارسين المعاصرين أن الظروف الواردة في هذا الأصحاح تكشف أنه كان عيد الفصح. هذا وقد جاء اهتمام الإنجيليون الثلاثة الآخرون بخدمة السيد المسيح في اليهودية مقتضبًا جدًا ولم يشيروا إلى أعياد الفصح التي حلت منذ عماد السيد إلى صلبه، بينما أشار القديس يوحنا إلى جميع هذه الأعياد: الأول في 2: 13، والثاني هنا 2: 1، والثالث 6: 4، والرابع 13: 1. وإن كان لم يذكر صراحة هنا أنه عيد الفصح بل "عيد لليهود".
إذ حلَّ العيد، فمع إقامة السيد المسيح في الجليل إلاَّ أنه صعد إلى أورشليم. لقد أوصى في الناموس بصعود الرجال إلى أورشليم في العيد، فلم يرد أن يستثني نفسه مادام قد قبل أن يصير ابن الإنسان الخاضع للناموس. وهو في هذا يقدم لنا نفسه مثالًا للاهتمام بالعبادة الجماعية، حتى وإن مارسها الكثيرون في شكلية بلا روح.
إن كانت الحكمة تنادي في الأماكن العامة (أم 1: 21) فقد صعد الحكمة إلى أورشليم حيث جاء كثير من اليهود من كل بقاع العالم وأيضا من الدخلاء، فيعلن لهم عن الحق، خاصة وأنهم جاءوا للعبادة، وقد تهيأت نفوسهم لقبول الحق والتعرف عليه.
إذ وردت كلمة "عيد" هنا بدون أداة التعريف لهذا رأى بعض الدارسين أنه لم يكن عيد الفصح بل عيد الخمسين، حيث تذكار استلام الناموس ويعتقد كل من القديسين كيرلس الكبير ويوحنا الذهبي الفم بذلك. ويعلل البعض أنه عيد الخمسين أن السيد المسيح قدم حديثه عن مفهوم السبت واتهمهم بأنهم لا يصدقون موسى وإلا كانوا قد صدقوه، لأن الناموس يشهد له [45-47].
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم علي صعود السيد المسيح إلى أورشليم قائلًا: [غالبا ما كان يذهب إلى المدينة، فمن جانب لكي يظهر معهم في العيد، من جانب آخر لكي يجتذب الجمهور الذين هم بلا خبث، ففي مثل هذه الأيام يجتمع البسطاء معًا أكثر من الأوقات الأخرى(564).]
يبدو أن السيد المسيح صعد إلى أورشليم وحده، ولم يكن معه التلاميذ، حتى يدخل كمن هو متخفي. هذا واضح من عدم معرفة المفلوج لشخصه، لأنه ما أن شفاه حتى اعتزل عن الجمع[13].
"وفي أورشليم عند باب الضان بركة،
يُقال لها بالعبرانية بيت حسدا،
لها خمسة أروقة". [2]
يتحدث عن البركة والخمسة أروقة بكونها كانت قائمة في أثناء كتابة السفر. ويرى البعض أن البركة وأروقتها لم تُدمر بتدمير الهيكل في أورشليم والخراب الذي حلَّ بأورشليم. ويرى البعض أنه في نسخ كثيرة يُستشف من الحديث أنها لم تكن قائمة. اُكتشفت البركة حديثًا، وهي بجوار كنيسة القديسة حنة. أظهرت الحفريات أن البركة مطوّقة بمستطيل به أربعة أروقة مع مجرى خامس عبر البركة يقسمها إلى قسمين.
"بيت حسدا" Bethesda وليست بيت صيدا Bethsaida كما جاءت في بعض النسخ. الكلمة العبرية Bethchasdah وتعني "بيت الرحمة". ربما أخذت اسمها من مراحم الله التي ظهرت بشفاء الذين ينزلون فيها.
"باب الضأن": الأرجح أن هذا الباب سُمى كذلك، لأن الكهنة كانوا يغسلون غنم الذبائح ويأتون بها إلى الهيكل.
تشير البركة إلى المعمودية حيث يتمتع المؤمنون بالولادة الجديدة والشفاء من الخطية.
تشير الأروقة الخمسة إلى الناموس الذي سُجل خلال أسفار موسى الخمسة؛ يدخل منها المرضى إلى البركة، ليدرك الداخلون أنهم مرضي وفي حاجة إلى الطبيب السماوي.
الملاك النازل من السماء يشير إلى كلمة الله المتجسد، الطبيب السماوي.
شفاء شخص واحد يشير إلى الكنيسة الواحدة التي تتمتع بالشفاء من الخطية.
تحريك الماء يشير آلام المسيح حيث ثارت الجموع عليه. كما يحمل تحريك الماء معنى أن مياه البركة تصير أشبه بمياه جارية حية، كمياه المعمودية التي يعمل الروح فيها فيولد الإنسان ميلادًا روحيًا كما أعلن السيد المسيح لنيقوديموس (يو 3). وتشير إلى عطية السيد المسيح كقول السيد للسامرية، أن من يشرب من هذا الماء لا يعطش.
*كان هذا الماء هو الشعب اليهودي، والخمسة أروقة هي الناموس، لأن موسى كتب خمسة كتب. لذلك كان الماء مطوقًا بخمسة أروقة كما كان هذا الشعب مُحكمًا بالناموس. اضطراب الماء هو آلام الرب الذي حلَّ بين الشعب. الشخص الذي كان ينزل ويُشفى وهو شخص واحد، لأن هذه هي الوحدة.
الذين يرفضون آلام المسيح هم متكبرون. إنهم لا ينزلون، فلا يُشفون. إنهم يقولون: "هل أؤمن بأن الله تجسد، أن الله ولد من امرأة، وأن الله صُلب وجُلد ومات وجُرح ودُفن؟ حاشا لي أن أؤمن بأن هذه من الله، إنها لا تليق بالله. دعْ القلب يتكلم لا الرقبة. فإنه بالنسبة للمتكبرين يبدو لهم تواضع الرب إنه غير لائق به. لهذا فالتمتع بالصحة أمر بعيد عنهم. لا تتكبر، إن أردت أن تُشفى فلتنزل(565).
*انتبهوا أيها الأحباء، فإن الناموس قد أُعطي لهذه الغاية، أن يكشف عن الأمراض لا أن ينزعها. هكذا فإن هذا القطيع المريض الذي كان يمكن أن يكون مرضى في بيوتهم في سرية عظيمة لو لم توجد هذه الأروقة الخمسة. بدخولهم الأروقة الخمسة صاروا معروفين في أعين كل البشر لكن هذه الأروقة لا تشفيهم.
*إذن فالناموس نافع في كشف الخطايا، لأن ذلك الإنسان يصير بالأكثر مذنبًا جدًا بتعديه للناموس، فيمكن أن يلجم كبرياءه، ويتلمس معونة ذاك الذي يتحنن. أنصت إلى الرسول: "دخل الناموس لكي تكثر الخطية، ولكن حيث كثرت الخطية تزداد النعمة جدًا" (رو 5: 20)... وفي موضع آخر: "حيث لا ناموس ليس هناك تعدِ" (رو 4: 15). يمكن أن يُدعى الإنسان خاطئًا قبل الناموس، لكن لا يمكن أن يدعى متعديًا. ولكنه إذ أخطأ تسلم بعد ذلك الناموس، فوُجد ليس فقد خاطئًا بل ومتعديًا. فإذ أضيف التعدي على الخطية لذلك "كثرت الخطية". وعندما كثرت الخطية تعلم الكبرياء البشري في النهاية أن يخضع وأن يعترف لله ويقول: "أنا ضعيف"(566).
القديس أغسطينوس
*كان قد اقترب وقت تسليم المعمودية، وهي تحمل قوة كثيرة، وأعظم البركات. تظهر كما في صورة بواسطة البركة والظروف الأخرى الملازمة... إذ يرغب الله أن يقترب بنا إلي الإيمان بالمعمودية، فإنها ليس فقط تشفى الرجاسات بل والأمراض أيضًا(567).
القديس يوحنا الذهبي الفم
"في هذه كان مضطجعًا جمهور كثير،
من مرضى وعمي وعرج وعسم،
يتوقعون تحريك الماء". [3]
ذكر من بين المرضى فقط ثلاث فئات، وهي العمي والعرج العسم، وهي الفئات العاجزة عن النزول إلى الماء، لذلك تجمع منهم عدد كبير حول البركة في الأروقة الخمسة.
"لأن ملاكًا كان ينزل أحيانًا في البركة،
ويحرك الماء،
فمن نزل أولًا بعد تحريك الماء كان يبرأ من أي مرض اعتراه". [4]
يرى البعض أن هذا الملاك لم يكن ينزل في البركة يوميًا، وإنما في مواسمٍ معينة، خاصة في الأعياد الثلاثة الكبرى. وأن هذا العمل من قبل الله ليؤكد للشعب أنهم وإن كانوا قد حُرموا من الأنبياء وعمل المعجزات فإن الله لن ينساهم، وهو مهتم بهم.
يرى البعض أن هذا الأمر بدأ بعد أن بنى رئيس الكهنة اليشاب Eliashib حائطًا نحو أورشليم وقدسه بالصلاة، فشهد الله بقبوله ذلك خلال هذا العمل المعجزي للبركة. وآخرون يرون أن ذلك بدأ بميلاد السيد المسيح، وآخرون بعماده. ويرى د. لايتفوت Dr. Lightfoot أنه جاء في يوسيفوس المؤرخ أنه في السنة السابعة من هيرودس، أي الثلاثين قبل السيد المسيح حدث زلزال عظيم. وحيث أن نزول الملائكة تصحبه أحيانًا زلازل، فربما كانت هذه هي السنة الأولى لبداية نزول ملاك على البركة. ويرى البعض أن هذا الأمر توقف بموت السيد المسيح.
بقوله "كان ينزل" Katebainen في الماضي يوضح أن هذا الأمر كان قد توقف عند كتابة السفر، بينما يتحدث عن البركة إنها كانت قائمة في أيامه.
عدم الإشارة الصريحة إليها في كتابات يوسيفوس وفيلون وغيرهما من الكتاب اليهود يشير إلى أن هذا العمل لم يبقَ إلى زمنٍ طويلٍ، أو لم يكن قائمًا أثناء كتابتهم.
الاستحمام، خاصة في مكان عام بإلقاء الشخص بسرعة في الماء غالبًا ما قد يصيبه ضررًا، لكن هنا كان المريض، أيًا كان مرضه، يبرأ إن نزل أولًا إلى الماء.
*"لأن ملاكا كان ينزل أحيانا في البركة ويحرك الماء" [4]، ويهب معه قوة شفاء، حتى يتعلم اليهود أن رب الملائكة يقدر بالأكثر أن يشفي أمراض النفس...
وكما أن طبيعة المياه لم تكن تشفي هنا على بسيط ذات الشفاء، لأنها لو كانت هي الشافية لكان هذا الشفاء يحدث كل حين، لكنها كانت تشفي بفعل الملاك، هكذا الحال في تطهيرنا، ليس بفعل الماء على بسيط فعله، لكنه يقوم بتطهيرنا إذا قبل نعمة الروح، حينئذ يحل خطايانا كلها(568).
القديس يوحنا الذهبي الفم
*كان واحد فقط يُشفى إشارة إلى الوحدة، من يأتي بعد ذلك لم يكن يُشفى، لأنه لا يُشفى أحد خارج الوحدة(569).
القديس أغسطينوس
"وكان هناك إنسان به مرض منذ ثمانٍ وثلاثين سنة". [5]
قضى المريض أكثر من نصف عمره عند البركة يعاني من الفالج، ولا يقدر أن يمارس حياته اليومية. الصحة وزنة يلزمنا أن نستخدمها مادامت فيأيدينا، ونقدم ذبيحة شكر لله عليها.
ربما يتساءل البعض: لماذا لم يُشفِ كل المرضى الذين في بيت حسدا بكلمة من فمه؟ هو طبيب النفوس والأجساد، لكن ما يشغله بالأكثر الشفاء الأبدي، حيث تتمجد النفوس ومعها الأجساد. فشفاء هذا المريض، وغالبًا ما كان أكثرهم عند البركة، وقد عرفه كل الحاضرين من المرضى وأقربائهم وأصدقائهم، وربما المدينة كلها. لهذا إذ يشفيه يفتح عيون الكل لينظروا شخص المسيا، ويتمتع الكل بالإيمان لكي يتمجدوا أبديًا. شفاء هذا المريض كان ولا يزال وراء شفاء نفوس كثيرة محطمة ويائسة. فلو أن السيد شفى الجميع بكلمة لبدا في ذلك استعراضًا لعملٍ إلهيٍ معجزي، لكن ما يشغل قلب السيد المسيح هو إيمان الكل، وتمتعهم بالشفاء الروحي أولًا.
*دخل موضعًا حيث يضطجع عدد ضخم من القطيع المريض من عمي وعرج وعسم، وبكونه طبيب النفوس والأجساد وقد جاء ليشفي نفوس كل الذين يؤمنون اختار من بين هذا القطيع واحدًا ليشفيه لكي يعني الوحدة... مع أنه كان قادرًا بكلمة أن يقيم الكل(570).
*هذه البركة وتلك المياه تبدو لي أنها تشير إلى الشعب اليهودي (رؤ 17: 15)... تلك المياه، أعني الشعب، قد أُغلق عليه في أسفار موسى الخمسة، أي الخمسة أروقة. لكن هذه الأسفار تحضر المرضى ولا تشفيهم. لأن الناموس يدين الخطاة ولا يبرئهم. لذلك فإن الحرف بدون النعمة يجعل الناس مذنبين، هؤلاء الذين إذ يعترفون يخلصون.
هذا ما يقوله الرسول: "لأنه لو أُعطي ناموس قادر أن يحيي لكان بالحقيقة البرّ بالناموس" (غلا 3: 21). ويكمل قائلًا: "لكن الكتاب اغلق على الكل تحت الخطية ليعطي الموعد من إيمان يسوع المسيح للذين يؤمنون" (غلا 3: 22). أي شهادة أكثر من هذه؟ أليست هذه الكلمات قد شرحت الخمسة أروقة وجمهور قطيع المرضى؟(571)
*في رقم 40 إشارة إلى إتمام البرّ، حيث نعيش هنا في جهاد وتعب وضبط للنفس وأصوام وضيقات. هذا هو ممارسة البرّ، وهو أن تحتمل وأن تصوم عن هذا العالم لا عن طعام الجسم، الأمر الذي نفعله لكن نادرًا، أما الصوم عن محبة العالم فيلزم أن نمارسه دومًا. إذن ينفذ الناموس من يمتنع عن هذا العالم. إذ لا يستطيع أن يحب ما هو أبدي ما لم يكف عن محبة ما هو زمني.. لتهتم بمحبة الإنسان ولتحسبها كما لو كانت يد النفس. متى أمسكت بشيء لا تقدر أن تمسك بشيء آخر. ولكي ما تقدر أن تمسك بما يُعطى لها يلزمها أن تترك ما تمسك به فعلًا...
كمال البرّ (حسب الناموس) يظهر بالعدد 40. ما هو الذي يكمل الرقم 40؟ أن يضبط الإنسان نفسه عن محبة هذا العالم. يضبطها عن الأمور الزمنية حتى لا تحب لأجل تدميرنا... لهذا السبب فإن الرب صام أربعين يومًا وموسى وإيليا. الذي أعطى خادميه السلطان أن يصوما 40 يومًا ألم يكن قادرًا أن يصوم 80 يومًا أو مائة يوم؟ إذن لماذا لم يرد أن يصوم أكثر مما أعطى خادميه أن يفعلا إلاَّ لأنه في هذا العدد 40 سرّ الصوم والزهد في العالم...؟ ماذا يقول الرسول: "قد صُلب العالم، وأنا للعالم" (غلا 6: 14). لقد أكمل إذن رقم 40...
لماذا في رقم 40 كمال البرّ؟
قيل في المزامير: "يا الله أرنم لك ترنيمة جديدة على قيثارة ذات عشر أوتار أرنم لك" (مز 144: 9)، والتي تشير إلى الوصايا العشرة التي للناموس، التي جاء الرب لا لينقضها بل ليكملها. والناموس نفسه خلال العالم كله واضح أن له أربع جهات شرق وغرب وجنوب وشمال، كما يقول الكتاب... لذلك فرقم 40 هو الزهد عن العالم، هو تنفيذ الناموس. الآن فإن المحبة هي تكميل الناموس (رو 13: 10؛ غلا 5: 14). لكن وصية المحبة مزدوجة: "حب الرب إلهك من كل قلبك... والأخرى مثلها حب قريبك كنفسك" فمن لديه تقصير في الاثنين يكون له عجز الرقم 38(572).
القديس أغسطينوس
*رقم 40 يجذب انتباهنا كرقمٍ مقدس بنوع من الكمال. ما افترضه هو معروف لكم تمامًا أيها الأحباء. فكثيرًا ما يشهد الكتاب المقدس لهذه الحقيقة. يتكرس الصوم بهذا الرقم كما تعرفون حسنًا. موسى صام أربعين يومًا، وإيليا وكثيرون، وربنا ومخلصنا يسوع المسيح نفسه تمم هذا الرقم في الصوم موسى يعني الناموس، وإيليا الأنبياء، والرب الإنجيل. ولهذا السبب ظهر الثلاثة على ذلك الجبل حيث أظهر (الرب) ذاته لتلاميذه في بهاء ملامحه وثيابه، فقد ظهر في الوسط بين موسى وإيليا، إذ شهد الناموس والأنبياء للإنجيل...(573)
*صبر هذا المخلع مذهل، لأنه ظل ثمان وثلاثين سنة منتظرًا كل سنة أن يتخلص من مرضه، فثبت وما برح عن ذلك الموضع. انظر هذا الرجل الذي ظل مخلعًا منذ ثمان وثلاثين سنة وهو يبصر في كل سنة أناسًا آخرين معافين من مرضهم ويرى ذاته مربوطًا بمرضه ولم ييأس.
القديس يوحنا الذهبي الفم
*ماذا يعلن الملاك في هذا الرمز إلا نزول الروح القدس الذي يجتاز في أيامنا ويقدس المياه عندما يُستدعى بصلوات الكاهن؟ هذا الملاك كان سفير الروح القدس، حيث أنه بنعمة الروح يعمل الدواء في ضعفات النفس والعقل. هكذا للروح أيضًا ذات الخدام كما للَّه الآب والمسيح. إنه يملأ الكل، كل الأشياء، يعمل الكل في الكل بنفس الطريقة مثل اللَّه الآب والابن العاملين(574).
القديس أمبروسيوس
يرىBede أن رقم 38 هو محصلة رقم 40 ناقص 2. فإن كان رقم 40 يشير إلى كمال الفضائل وهي محصلة ضرب 10× 4 أي تكميل الناموس (10) والأناجيل الأربعة (4)، فإن غياب الرقمين الخاصين بوصيتي الحب لله والقريب يظهر الإنسان في حقيقة كشخصٍ مريض طال زمان مرضه. إنهم يقدرون أن يقَّوموا من رذائلهم خلال عطية الروح القدس عندما يهز بلادتهم، ليسرعوا فيحملوا حمل الحب الأخوي لكي يروا خالقهم.
"هذا رآه يسوع مضطجعًا،
وعلم أن له زمانًا كثيرًا،
فقال له: أتريد أن تبرا؟" [6]
إذ جاء السيد المسيح إلى أورشليم لم يزر قصور الأغنياء بل المستشفيات، ليقدم حبًا وحنوًا نحو المرضى. فقد جاء إلى العالم من أجل المحتاجين والمرضي. ولعل السيد ركز عينيه على ذلك المريض، لأنه كان أقدمهم، عانى أكثر من غيره من المرض والحرمان، إذ يجد السيد مسرته في العمل لحساب الذين بلا رجاء ولا معين.
"أتريد أن تبرا؟"بهذا السؤال أراد أن يثير فيه الإيمان والرجاء والرغبة الشديدة نحو الشفاء. يوجه السيد المسيح هذا السؤال نحو كل نفسٍ لعلها تشتاق إلى شفائها خلال طبيب النفوس السماوي.
*لم يسأل المسيح للمخلع أتريد أن أشفيك؟ لأنه لم يكن بعد قد تصور في المسيح تصورًا عظيمًا، لكنه قال له: "أتريد أن تبرأ؟"
*سأله لا لكي يعرف (أنه يريد الشفاء) فإنه لم يكن السيد محتاجًا إلى ذلك، وإنما أراد إبراز مثابرة الرجل، وأنه بسبب هذا ترك الآخرين وجاء إليه...
مثابرة المفلوج مذهلة، له ثمانية وثلاثين عامًا وهو يرجو في كل عام أن يشفي من مرضه. لقد استمر راقدًا ولم ينسحب من البركة...
لنخجل أيها الأحباء، لنخجل ونتنهد على شدة تراخينا.
ثمانية وثلاثون عامًا وهو ينتظر دون أن ينال ما يترجاه ومع هذا لم ينسحب. لم يفشل بسبب إهمال من جانبه، وإنما خلال ضغط الآخرين وعنفهم ومتاعبهم. هذا كله لم يجعله متبلدًا. بينما نحن إن ثابرنا في الصلاة لمدة عشرة أيام من أجل أمر ما ولم ننله تهبط غيرتنا(575).
القديس يوحنا الذهبي الفم
"أجابه المريض:
يا سيد ليس لي إنسان يلقيني في البركة متى تحرك الماء،
بل بينما أنا آتٍ، ينزل قدام يآخر". [7]
في حديثه عن المفلوجين (مت 9: 2) اللذين شفاهما السيد المسيح يبرز القديس يوحنا الذهبي الفم وداعة هذا المفلوج، فإنه إذ يلقي إنسان علي فراشه كل هذه السنوات غالبًا ما يكون ثائرا، يعاني من متاعب نفسية وعصبية. ومع هذا فإنه سمع سؤال السيد المسيح لم يثر قائلا: "ألا تراني هنا أترقب نزول الملاك ليحرك الماء، فكيف تسألني إن كنت أريد أن أبرأ؟ " لكن في وداعة عجيبة أجاب السيد المسيح.
اشتكى المريض من عدم وجود أصدقاء يساعدونه، فإنه حتى الذين نالوا الشفاء اعتادوا بشفائهم ولقائهم مع أقربائهم وأصدقائهم، ولم يوجد واحد من بينهم يهتم بهذا المسكين. كما اشتكى من عجزه في منافسة الآخرين لكي يلقي بنفسه أولًا في البركة إذ كانوا كثيرون يسبقونه.
قديمًا إذ تحولت الأنظار إلي البشر عوض النظر إلى المسيا كطبيب ودواء للشفاء قيل: "أليس بلسان في جلعاد؟ أم ليس هناك طبيب؟ فلماذا لم تُعصب بنت شعبي؟" (إر 8: 22). هذه هي شكوى المفلوج إذ لم يجد من يشفيه ولا من يهبه الدواء. الآن هوذا البلسان نفسه، والطبيب بعينه واقف أمامه يهبه ذاته سرّ شفاء.
كان المفلوج يبحث عن إنسانٍ يلقيه في البركة عند نزول الملاك، فينال الشفاء. وها هو الآب نفسه يطلب إنسانًا ينزل إلى العالم يقدر أن يعمل بالعدل وطلب الحق ليغفر للعالم خطاياه فلم يوجد سوى كلمته المتجسد. يقول الرب: "طوفوا في شوارع أورشليم وانظروا واعرفوا وفتشوا في ساحاتها، هل تجدون إنسانًا أو يوجد عامل بالعدل طالب بالحق فأصفح عنها" (إر 5: 1). كما قال: "فرأى أنه ليس إنسان، وتحير من أنه ليس شفيع" (إش 59: 16).
*اسمع كلام هذا المخلع واعرف جسامة حزنه، فمن يكون أحق بالرثاء من الناطق بهذه الأقوال؟ أرأيت قلبًا مطحونًا بسبب مرض طويل؟ أعرفت كيف يلهبه منقبضًا؟ لأنه لم ينطق بتجديف نظير ما يقوله أكثر الناس في مصائبهم، ولا لعن يومه ولا استصعب السؤال، ولا قال للمسيح إنك جئت بي مستهزأ إذ تسألني أتريد أن تبرأ؟ لكنه قال بوداعة كثيرة: "يا سيد ليس لي إنسان يلقيني في البركة" على الرغم من أنه لم يعرف من هو سائله ولا شعر أنه اعتزم أن يشفيه، لكنه وصف أحواله كلها بدعةٍ وما طلب شيئًا أكثر، فكان حاله حال من يخاطب طبيبه مريدًا أن يصف له مرضه فقط.
*الآن ليس ملاك يحرك الماء، بل رب الملائكة يعمل كل شيء. لا يقدر المريض أن يقول:"ليس لي إنسان"، لا يستطيع القول: "بينما أنا آت ينزل قدامي آخر"[7]، فمع أنه يلزم أن يأتي إلى العالم كله، غير أن النعمة لا تستهلك، والقوى لا تبطل، بل تبقي عظيمة كما كانت. وكما أن أشعة الشمس تعطي ضوء كل يوم مع هذا لا تُستنزف، ولا يقل الضوء بما يقدمه من فيض، هكذا بالأكثر قوة الروح لن تقل بأية طريقة خلال تمتع الكثيرين بها(576).
القديس يوحنا الذهبي الفم
*لكن من الذي يشفي المرضى؟ ذاك الذي ينزل في البركة. ومتى ينزل المريض في البركة؟ عندما يعطي الملاك العلامة بتحريك الماء. فإنه هكذا كانت تلك البركة تتقدس، حيث ينزل الملاك ويحرك الماء. كان الناس يرون الماء يتحرك، ومن حركة المياه المضطربة يدركون حضور الملاك. فإذا ما نزل أحد عندئذ يُشفى. لماذا إذن لم يُشف هذا المريض؟ لنعطي اعتبارًا لكلماته نفسها، يقول: "ليس لي إنسان يلقيني في البركة متى تحرك الماء بل بينما أناآتٍ ينزل قداميآخر"[7]. ألم تستطع بعد ذلك أن تنزل إن نزل قدامك آخر؟ هنا يظهر لنا أنه واحد فقط يُشفى عند تحرك الماء. من ينزل أولًا هو وحده يُشفى(577).
القديس أغسطينوس
"قال له يسوع:
قم إحمل سريرك وامشِ". [8]
قدم له السيد الشفاء بطريقة لم تخطر على فكره، وهي ليس بإلقائه في البركة متى تحرك الماء، وإنما بكلمة تصدر من فمه الإلهي. أمر بسلطان فشُفي المريض.
اعتاد السيد أن يترك علامات بعد المعجزة لكي يتذكر شعبه أعمال محبته، فعندما أشبع الجموع أمر بجمع الكسر. وعندما حوَّل الماء خمرًا طلب من الخدام أن يقدموا للمتكئين. وعندما شفى البرص أمرهم أن يذهبوا إلى الكهنة ليشهدوا بشفائهم. هنا يطلب من المريض أن يحمل السرير الذي حمله أثناء مرضه.
طلب منه حمل السرير ليطمئن أن شفاؤه كامل، وأنه لم ينل القوة الجسدية تدريجيًا بل بكلمة الله وأمره فورًا. إنها صرخة المخلص علي الصليب وهو يتطلع إلي الكنيسة كلها عبر الأجيال منذ آدم إلى آخر، لكي تقوم وتتحرك وتدخل إلى حضن الآب، بيتها السماوي. يطالبها بحمل سريرها الذي هو شركة الصلب معه، لا كثقل علي ظهرها، بل كعرشٍ يحملها، ومجدٍ ينسكب عليها. رأي إشعياء النبي هذا المنظر المبدع بكونه قصة الفداء المفرحة فترنم قائلا: "قومي استنيري، لأنه قد جاء نورك، ومجد الرب أشرق عليك" (إش 60: 1) لم تعد البشرية المؤمنة مطروحة الجسد تحت سطوة الخطية المحطم، بل تمتعت بقوة الروح لتحمل مع عريسها المصلوب صليبه سرّ قوة للخلاص، وتمتع ببهاء المخلص عليها.
ارتبطت قصة شفاء هذا المفلوج بالمعمودية في ذهن الكنيسة الأولي، فوردت في بعض ليتورجيات المعمودية القديمة، كما صورت في بعض سراديب روما للكشف عن إمكانية المعمودية. تصور الرجل المفلوج العاجز عن السير، وقد قام حاملًا سريره علي ظهره في حركة مملوءة حيوية ونشاطًا. صورة رائعة عن عمل المعمودية التي تقيم المؤمن من مرضه المستعصي ليشهد للحياة الجديدة التي صارت له في المسيح يسوع القائم من الأموات!
* "يسوع" تعني"مخلص"، أما في اليونانية فتعني"الشافي"، إذ هو طبيب الأنفس والأجساد، شافي الأرواح، فتح عيني المولود أعمى، وقاد الأذهان إلى النور. يشفي العرج المنظورين، ويقود الخطاة في طريق التوبة، يقول للمفلوج:"لا تخطئ"، وأيضًا:"احمل سريرك وامشِ"، لأن الجسد كان مفلوجًا بسبب خطية النفس. خدم النفس أولًا حتى يمتد بالشفاء إلى الجسد.
لذلكإن كان أحدكم متألم في نفسه من خطاياه، فإنك تجده طبيبًا لك. وإن كان أحدكم قليل الإيمان فليقل له: "أعن عدم إيماني" (مر 24:9).
وإن أصاب أحدكم آلامًا جسدية، فلا يكن غير مؤمنٍ، بل يقترب فإن يسوع يعالج مثل هذه الأمراض، وليعلم أن يسوع هو المسيح(578).
القديس كيرلس الأورشليمي
* "احملوا بعضكم أثقال بعض، وهكذا تمموا ناموس المسيح" (غلا 6: 2). الآن ناموس المسيح هو المحبة، والمحبة لن تتحقق ما لم نحمل أثقال الغير. يقول: "وبطول أناة محتملين بعضكم بعضًا في المحبة، مجتهدين أن تحفظوا وحدانية الروح برباط السلام" (أف 4: 2).
حين كنت ضعيفًا حملك قريبك، الآن أنت صحيح، احتمل أنت قريبك. هكذا تملأ يا إنسان ما كان ناقصًا بالنسبة لك. "إذن احمل سريرك". وحين تحمله لا تقف في الوضع بل "امشِ". بحبك لقريبك، وبحملك قريبك، تتمم مشيك. إلى أين تسير في طريقك إلى الرب الإله، الذي يلزمنا أن نحبه من كل القلب ومن كل النفس ومن كل الفكر. لتحمله، عندئذ إذ تسير تذهب إلى ذاك الذي ترغب أن تمكث معه. لذلك "احمل سريرك وأمشِ"(579).
القديس أغسطينوس
"فحالاً بريء الإنسان،
وحمل سريره ومشى،
وكان في ذلك اليوم سبت". [9]
لماذا أمر السيد هذا الشخص أن يحمل سريره في يوم السبت وقد منع الناموس هذه الأعمال، خاصة حمل الأمور الثقيلة (خر 20: 8؛ إر 17: 21؛ نح 13: 15)؟
1. ربما كان هذا الشخص فقيرًا، لو ترك سريره يفقده، ولم يكن ممكنًا أن يبقى حتى الصباح حارسًا للسرير.
2. أظهر السيد أن اليهود قد أساءوا فهم السبت، فمارسوه بطريقة حرفية بلا فهم روحي سليم، خاصة لمجد الله ونفع الإنسان.
3. ليؤكد للحاضرين أنه رب السبت (مت 12: 8)، كل الأيام هي له دون تمييز بين سبت وغير سبت، فيها يعمل عمل الآب بلا انقطاع.
4. بحمله السرير في وسط العاصمة الدينية ووسط الجمهور القادم للعيد يشد أنظار الشعب لبحث الأمر، والتعرف على محبة المسيح لشعبه، واهتمامه بسلامتهم الروحية والجسدية أكثر من التنفيذ الحرفي للناموس.
5. في هذا الأمر اختبار لمدى طاعة المريض لذاك الذي يشفيه، وإيمانه به.
6. لكي يحمل صورة عملية حيَّة عن الكنيسة في العصر المسيحاني. فقد تطلع الأنبياء إلى الكنيسة في العهد الجديد وترنموا قائلين: "الرب يقوم المنحنين" (مز 146: 8)، "خلص يا رب شعبك... بينهم الأعمى والأعرج" (إر 31: 7). صارت كل أيامها سبت (راحة) لا ينقطع، وعيد مفرح مستمر.
*انظر إلى إيمان هذا المخلع أنه لما سمع من المسيح"قم إحمل سريرك وامشِ"لم يضحك، لكنه نهض وصار معافى، ولم يخالف ما أشار به عليه، وحمل سريره ومشى.
القديس يوحنا الذهبي الفم
2. مقاومة اليهود
"فقال اليهود للذي شُفي:
إنه سبت.
لا يحل لك أن تحمل سريرك". [10]
تخاصم معه القادة واتهموه أنه كاسر للسبت. حسبوا في ذلك العمل تدنيسًا للسبت،وإذ يمارسه علنًا في وسط المدينة وعمدًا فإنه مستحق للرجم. ولم يدركوا أن حسدهم وبغضهم للسيد المسيح هو الذي يدنس سبوتهم وأعيادهم. ذهب السيد المسيح إلى المفلوج ليهبه حياة جديدة وإمكانيات جديدة، وها هم الرؤساء يستدعونه ليجدوا علة للموت. وكما يقول المرتل: "الشرير يراقب الصديق محاولًا أن يميته" (مز 37: 32).
"أجابهم: إن الذي أبرأني هو قال لي:
احمل سريرك وامشِ". [11]
جاءت إجابة المريض تشهد للسيد المسيح، بقوله: "الذي أبرآني هو قال لي احمل سريرك وامشِ" [11]. لم يلقِ بالمسئولية على السيد المسيح، ولا أراد أن يحول اتهام كسر السبت عليه، إنما يؤكد أن ذاك الذي له قوة الشفاء بهذه الطريقة الفائقة لا يمكن أن يخطئ الأمر، ولا يمكن أن يصنع شرًا. أطعته لأني أثق في قداسته وبرِّه.
ذاك الذي له سلطان على الأمراض المزمنة بطريقة تفوق الطبيعة يستحيل يُحسب كاسرًا للناموس. ذاك الذي له هذا الحب والحنو، لا يمكن إلا أن يكون منفذًا للناموس الذي يكمل بالحب العملي.
الحياة التي دبت فيه كانت بلا شك أثمن بما لا يقاس من التنفيذ الحرفي لحفظ السبت. لهذا ترك تفسير حفظ السبت لذاك الذي وهبه هذه الحياة الجديدة التي اختبر فيها الراحة.
*لما كان اليوم سبت، غضب اليهود في جهلٍ، إذ كانوا مرضى بغلاظة الحرف، فكانوا مقيدين أكثر من المفلوج بالحماقة الملتصقة بهم... كانوا مفلوجي الفكر، ضعيفي السلوك، هؤلاء الذين يٌقال لهم بحقٍ: "شددوا الأيادي المسترخية والركب المرتعشة" (إش 35: 3). لكنهم استشاطوا غضبًا، زاعمين أنه ينبغي حتى على واهب الناموس أن يكرم الناموس(580)
القديس كيرلس الكبير
*لم يخالف المخلع قول المسيح، لذلك شُفي في الحال وحمل سريره ومشى. وما كان منه بعد ذلك فهو أعظم بكثير، لأن قبوله ما أشار به المسيح في البداية لم يكن فعلًا مستعجبًا، إذ لم يكن له مغيث يغيثه، لكن لما أحاط به اليهود من كل جهة اشتد جنونهم ولاموه وحاصروه، وقالوا له: "لا يحل لك أن تحمل سريرك". فلم يصغِ إلى جنونهم، لكنه نادى بالمحسن إليه في وسط محفلهم بمجاهرة كثيرة. اسمع ما قاله لهم: "إن الذي أبرآني هو قال لي احمل سريرك وامشِ"، فقارب أن يقول لهم: قد اشتمل عليكم الجنون إذ تأمروني ألا أحتسب من أراحني من مرض طويل معلمًا، ولا أطيع جميع ما يأمرني به.
على أن المخلع لو أراد أن يسيء فعله كان ممكنًا أن يقول قولًا غير هذا، كأن يقول: إن كان فعلي هذا خطأ فانسبوا الخطأ إلى من أمرني به. إلا أنه لم يقل هذا القول، ولا سألهم عفوًا، لكنه بصوت بهي أقر بالإحسان البالغ إليه، ونادى به بعزم واضح، قائلًا:"إن الذي أبرآني هو قال لي احمل سريرك وامشِ".
القديس يوحنا الذهبي الفم
"فسألوه: من هو الإنسان الذي قال لك احمل سريرك وامشِ". [12]
بسؤالهم حاولوا إهانة السيد المسيح ليس فقط بظنهم أنه مجرد إنسان، إنما وضعوا السؤال بطريقة تحمل استخفافًا به: "من هو الإنسان...؟" بمعنى أنه لا وجه للمقارنة بين هذا الإنسان الذي شفاك وبين الله واضع الناموس.
*تأمل كيف كان كلامهم بمكر وافر، لأنهم لم يقولوا للمفلوج من الذي جعلك معافى، لكنهم صمتوا عن هذا القول، وذكروا العمل الذي يحسبونه معصية، وقالوا: "من هوالإنسان الذي قال لك احمل سريرك وامشِ".
القديس يوحنا الذهبي الفم
"أما الذي شفي فلم يكن يعلم من هو،
لأن يسوع اعتزل،
إذ كان في الموضع جمع". [13]
ربما سمع اسم يسوع، لكنه إذ كان ملقى عند البركة 38 سنة لم يرَ السيد من قبل ولا عرف عنه الكثير، ولم يكن قادرًا حتى إن رآه أن يتعرف عليه.
يرى القديس أغسطينوس أن اللَّه استراح في اليوم السابع إشارة إلى إتمام عمل الخلاص على الصليب في اليوم السادس (الجمعة)، وراحته في القبر في اليوم السابع(581).
*من الصعب أن ترى المسيح في الجمع، لذلك تلزم الوحدة لأذهاننا. فبالتأمل في عزلة يمكن رؤية اللَّه. الجمع فيه صخب، والرؤية تتطلب سرية... لا تبحث عن المسيح في جمعٍ، إنه ليس كواحدٍ من الجمع، إنه يسمو على كل الجمع... حقًا رآه الرب في الجمع، إنما عرفه في الهيكل. جاء الرجل إلى الرب، رآه في الهيكل، رآه في الموضع المكرس المقدس(582).
القديس أغسطينوس
*يعلن الرب علانية أن سرّ السبت كعلامة لحفظ يومٍ واحدٍ أُعطي لليهود إلى حين، أما تتمة السرّ فتتحقق في (المسيح) نفسه(583).
القديس أغسطينوس
*فإن قلت: وما هو غرض المسيح في أنه أخفى ذاته؟ أجبتك: أخفى المسيح ذاته حتى لا تصير الشهادة مشكوك فيها؛ لأن المفلوج الذي تمتع بعافيته فقد صار شاهدًا بالإحسان الواصل إليه مؤهلًا للتصديق. ومن الجانب الآخر لكي لا يجعل السيد غضب اليهود أكثر التهابًا، فإنه مجرد التطلع إلى الشخص الذي يحسدونه يشعل شرارة ليست بقليلة عند الحاسدين. لهذا انسحب السيد، وترك العمل نفسه يترافع قدامهم، ولا يتكلم السيد عن نفسه بنفسه، وإنما يتحدثون مع من شُفي ومع المهتمين.
القديس يوحنا الذهبي الفم
"بعد ذلك وجده يسوع في الهيكل، وقال له:
ها أنت قد برئت فلا تخطئ أيضًا لئلا يكون لكأشر". [14]
إذ شعر الرجل بحنو الله عليه ذهب إلى الهيكل ربما ليقدم الشكر لله على شفائه. وكأنه يترنم قائلًا: "لله أذبح ذبيحة حمد، وباسم الرب أدعو، أوفي نذوري للرب مقابل شعبه، في ديار بيت الرب في وسطك يا أورشليم" (مز 116: 16-19). غالبًا ما حدث هذا في نفس يوم شفائه.
التقى السيد المسيح بالمريض في الهيكل. ربما إذ اتهموه باحتقاره يوم السبت جاء إلى الهيكل ليؤكد تقديسه ليوم السبت، وانشغاله بالعبادة الجماعية في ذلك اليوم. لقد جاء خصيصًا ليهب البصيرة الروحية، مع علمه بأن أعداءً كثيرين يطلبون قتله. لكن مادامت الحاجة ماسة للقاء مع شخص لبنيانه لم يتوقف عن الذهاب من أجله. لقد شفى جسد المريض، والآن يعلن اهتمامه بشفاء نفسه من الخطية.
أوضح له السيد المسيح أنه عالم بأسرار الماضي: "لا تخطئ أيضًا" موضحًا أن خطيته السابقة كانت السبب في مرضه الطويل المدى. يحذر السيد من الخطية التي تسحبه إلى مستشفى بركة بيت حسدا ليقضي بها 38 عامًا، بل إلى جهنم لكي يُغلق عليه أبديًا في حرمان من المجد السماوي وعذاب مع عدو الخير إبليس.
بعض الأمراض أحيانًا تحل بنا بسب خطايانا، كتأديبٍ إلهيٍ لأجل رجوعنا إلى الله. وكما يقول المرتل: "والجمال من طريق معصيتهم، ومن آثامهم يُذلون. كرهت أنفسهم كل طعام، واقتربوا إلى أبواب الموت، فصرخوا إلى الرب في ضيقهم فخلصهم من شدائدهم" (مز 107: 17-19).
يلاحظ أن السيد لم يشر إلى الخطايا عند شفائه للمرضى إلاَّ في الحالات المستعصية لمدة طويلة كما في هذه الحالة وما ورد في مر 2: 5. ربما لأن هؤلاء إذ عاشوا زمانًا طويلًا في المرض ظنوا أنهم بعدم تعاملهم مع الناس هم أبرار بلا خطية، لذلك يطلب منهم أن يدخلوا إلى أعماق نفوسهم، ويكتشفوا ضعف طبيعتهم، ويرجعوا إلى الله. مثل هؤلاء يحتاجون إلى حذرٍ شديٍد أكثر من غيرهم الذين يدركون أنهم مخطئون.
لعله قال له هذا في الهيكل، فقد حُرم من زيارة الهيكل 38 عامًا بسبب مرضه، فلئلا ينشغل بالمبنى والالتقاء بالناس وما يدور حوله، أراد السيد أن يحول عينيه إلى أعماقه ليحذر في حياته الجديدة من الخطية. حقًا لست أظن أن لغة ما تستطيع أن تعبر عن مشاعر هذا الإنسان في رؤيته للهيكل بعد هذه السنوات الطويلة. ليكن هذا الشوق ممتزجًا باللقاء مع الله الساكن في أعماق النفس!
*عندما نعتمد يُقال لنا: "ها أنت قد برئت، لا تخطئ لئلا يكون لك أشر"(584).
القديس جيروم
*إنه لأمر بسيط أن تقتني شيئًا، لكن الأعظم أن تستطيع الحفاظ علي ما تقتنيه، فالإيمان نفسه والميلاد المكرم يكونان مفعمين بالحيوية المفيدة، لا بنوالهما بل بحفظهما. فالمثابرة حتى النهاية وليس ممارسة الشيء (إلى حين) يحفظ الإنسان لله مباشرة... سليمان وشاول وكثيرون إذ لم يسيروا للنهاية في طرق الرب لم يستطيعوا أن يحفظوا النعمة التي وُهبت لهم. عندما ينسحب تلميذ المسيح منها، تنسحب أيضًا نعمة المسيح منه(585).
الشهيد كبريانوس
*يسأل أحد:ماذا إذن، هل كل مرضٍ سببه الخطية؟ لا، ليس كل الأمراض بل بعضها. البعض يصدر عن بعض أنواع من عدم المبالاة والإهمال حيث أن النهم والإدمان والكسل مثل هذا يسببآلامًا... رغب يسوع أن يضمن لهذا الرجل مستقبله... حافظًا إياه في صحة بالنفع الذي قدمه له وبالخوف من الأمراض المقبلة(586).
*ليس فقط بإعطاء جسم المريض قوة، بل وبطريق آخر قد منحه برهانًا قويًا علي لاهوته، فبقوله: "لا تخطئ أيضًا" أظهر له أنه يعرف كل معاصيه القديمة، وبهذا يمكن أن يقتني إيمانه في المستقبل(587).
القديس يوحنا الذهبي الفم
"فمضى الإنسان وأخبر اليهود أن يسوع هو الذي أبراه". [15]
لم يلقِ بالمسئولية على السيد المسيح أنه هو الذي قال له: احمل سريرك، بل شهد له أنه "هو الذي أبرأه". لقد أراد أن يمجد يسوع وفي نفس الوقت أن يشهد لصالح سامعيه لعلهم يفكرون جديًا في عمله العجيب.
"ولهذا كان اليهود يطردون يسوع،
ويطلبون أن يقتلوه،
لأنه عمل هذا في سبتٍ". [16]
عوض إعادة النظر في نظرتهم ليسوع منقذ النفوس وشافي الأجساد من الأمراض المستعصية حملهم الحسد والحقد إلى الرغبة في ممارسة أعمال أبيهم: الاضطهاد والقتل. فإنهم لن يجدوا شبعًا إلاَّ بسفك دمه. غيرتهم على تقديس السبت كانت تغطية لمشاعرهم المملوءة كراهية.
3. حديث المسيح عن السبت
"فأجابهم يسوع:
أبي يعمل حتى الآن،
وأناأعمل". [17]
دخل السيد المسيح في حوار مع القيادات التي تتهمه بكسر السبت. يبدو أن هذا الحوار كان أمام مجمع السنهدرين، إما في نفس اليوم أو في خلال يومين أو ثلاثة من شفائه للمريض.
بقوله: "أبي يعمل حتى الآن" [17] يوضح لهم أن الآب قد خلق العالم في ستة أيام واستراح في اليوم السابع، أي في السبت. لقد توقف عن عمل الخليقة إذ أكمل كل شيء، لكن راحته لا تعني تجاهله للخليقة، بل يبقى في سبته يعتني بخليقته ويرعاها ويدبر كل أمورها. فالسبت عند الله هو عمل فيه راحة ومسرة، حيث يعلن حبه لخليقته المحبوبة لديه جدًا. لو مارس السبت حرفيًا مثل القيادات اليهودية لتوقفت الخليقة وتدمرت، لأنها لا تقدر أن تقوم بدون العون الإلهي. هكذا الابن يقدس السبت بعمل الحب المستمر، حيث يرعى محبوبيه، ويعمل بلا توقف لكي يبرأ الكل وينمو في المعرفة والمجد. هذا هو مفهوم السبت على المستوى الإلهي.
في السبت يختتن الذكر إن كان هو اليوم الثامن لميلاده، وفي السبت يقدم الكهنة ذبائح، وفي السبت يقدم الرعاة المياه لأغنامهم. هذه كلها أعمال لا تكسر السبت لأنها تحمل رائحة حب. ابن الإنسان هو رب السبت، لأنه هو "الحب" عينه.
"وأنا أعمل": بكونه ابن الله فهو يمارس مسيرة أبيه الدائم العمل لحساب شعبه. التوقف عن عمل الحب هو كسر للسبت وإفساد له، أما عمل المحبة فهو تقديس له. إنه لا يعمل كأبيه، كأن لكل منهما عمله المستقل، إنما هو العامل مع أبيه، إذ "به كان كل شيء". فإن أُتهم بكسر السبت، يكون في ذلك اتهام لله الآب نفسه الذي لا ينفصل الابن عنه قط.
يقارن السيد المسيح نفسه بالآب، فكما أن الآب يعمل في السبت كما في بقية الأيام هكذا يمكن له أن يفعل هذا. هذه المقارنة لها خطورتها عند القيادات اليهودية، لأنها تحمل معنى التساوي بينهما في الخطة الإلهية والعمل. من هو هذا الذي يعالج موضوع الآب والسبت بكونهما يخصانه؟
يرى القديس أغسطينوس أن اليهود أخطأوا في فهمهم ليوم السبت بطريقة جسدانية. لقد ظنوا أن الله خالق العالم في ستة أيام، فتعب وأراد أن يستريح من تعبه في اليوم السابع فقدس هذا اليوم للراحة. هذا الفهم الخاطئ جعلهم هم في تعبٍ. أما المعنى الروحي له فهو أنه إذ تعبر ستة أيام أو فترات التاريخ البشري يأتي يوم الرب بكونه اليوم السابع. راحته تعني راحتنا نحن فيه. أما الأيام الستة فهي:
* اليوم الأول: من آدم إلى نوح.
* اليوم الثاني: من الطوفان إلى إبراهيم.
* اليوم الثالث: من إبراهيم إلى داود.
* اليوم الرابع: من داود إلى السبي البابلي.
* اليوم الخامس: من السبي البابلي إلى مجيء السيد المسيح.
* اليوم السادس: العصر الحاضر منذ مجيء المسيح إلى مجيئه الأخير. في هذا اليوم نتشكل على صورة الله، إذ فيه خُلق الإنسان (تك 1: 27). وفيه يتم تجديد خلقتنا (بالصليب يوم الجمعة).
هكذا يرى القديس أغسطينوس أن الله يعمل خلال الستة أيام، وأن اليوم السادس هو يوم خلقة الإنسان وتجديده حتى يتهيأ للتمتع بالراحة في اليوم السابع، يوم مجيئه الأخير(588).
*لكي نعرف بطريقة أكمل عن مساواة الآب والابن، إذ تكلم الآب عمل الابن، هكذا أيضًا الآب يعمل،والابن يتكلم. الأب يعمل كما هو مكتوب: "أبى يعمل حتى الآن، وأنا أعمل". تجد أنه قيل للابن: "قل كلمة فقط فيبرأ غلامي" (مت 8:8). ويقول الابن للآب: "أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني ليكونون معي حيث أكون أنا" (يو 17:14)، فالآب عمل ما قاله الابن(589).
القديس أمبروسيوس
*بالتأكيد كما تعلمنا الكنيسة حسب كلمات المخلص: "أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل"... اللَّه يعمل (يخلق) نفوسنا كل يوم، الذي به نزيد ونعمل، وهو لن يكف عن أن يكون خالقًا(590).
*هو مُعطي باستمرار، دائمًا واهب عطايا. لا يكفيني أنه يهبني نعمة مرة واحدة، يليق به أن يعطيني النعمة على الدوام. أطلب لكي أنال، وإذ أنال أطلب أيضًا مرة أخرى. إني أطمع في سخاء اللَّه، وإذ لا يتأخر في العطاء، لا أمل من قبول عطائه. قدر ما أشرب أعطش بالأكثر(591).
القديس جيروم
*إن سأل أحد: كيف يعمل الآب الذي توقف عن كل أعماله في اليوم السابع؟ ليته يتعلم ما هي الطريقة التي يعمل بها. ما هي أعماله؟ إنه يعتني بأمور كل ما قد عمله ويدبرها. عندما ترى الشمس مشرقة والقمر يجري في مجاله والبحيرات والينابيع والأنهار والأمطار والمواسم الطبيعية للزرع وطبيعة أجسامنا وأجسام الحيوانات غير العاقلة وكل الأمور الباقية التي بها وجدت هذه المسكونة فنتعلم عدم توقف عمل الآب. إذ "يشرق شمسه علي الأشرار والأبرار، ويمطر علي الصالحين والطالحين" (مت 5: 45). وأيضا الله يلبس عشب الحقل الذي يظهر اليوم ويطرح غدا في التنور (مت 6: 30). وإذ يتحدث عن الطيور قال: "أبوكم السماوي يقوتها"(592).
القديس يوحنا الذهبي الفم
*قال هذا لهم لأنهم أخذوا حفظ السبت بمعنى جسداني، متخيلين أن اللَّه كما لو كان قد نام بعد أن تعب بخلق العالم إلى ذلك اليوم، وأنه قدّس ذلك اليوم حيث بدأ يستريح كما من تعبه.
الآن بالنسبة لآبائنا القدامى قد وُضع سرّ السبت، هذا الذي نحفظه نحن المسيحيون روحيًا بالامتناع عن كل عمل ذليل، أي عن كل خطية، لأن الرب يقول: "كل من يفعل خطية هو عبد للخطية". وإذ ننال راحة في قلوبنا فهذه هي الراحة الروحية.
أما عن القول بأن اللَّه استراح، فذلك لأنه لم يخلق أية خليقة أخرى بعد أن أكمل كل شيء.
علاوة على هذا فإن الكتاب المقدس يدعوها راحة، لكي يحثنا على الأعمال الصالحة التي بعدها نستريح. لأنه كتب في التكوين: "خلق اللَّه كل شيء حسن جدًا، واستراح اللَّه في اليوم السابع". لكي ما تدرك يا إنسان أن اللَّه نفسه قيل أنه استراح بعد الأعمال الصالحة، فتتوقع راحة لنفسك بعد أن تمارس أعمالًا صالحة.
إن كان اللَّه بعد أن خلق الإنسان على صورته ومثاله وفيه أكمل كل أعماله لتكون حسنة جدًا عندئذ استراح في اليوم السابع. هكذا لا تتوقع أنت راحة لنفسك ما لم ترجع إلى ذلك الشبه الذي خُلقت عليه(593).
*لا تظن أن أبي استراح في السبت بمعنى أنه لا يعمل، لكنه إلى الآن هو يعمل، وهكذا أنا أعمل. وكما أن الآب بلا تعب هكذا الابن بلا تعب(594).
*الإيمان الجامعي (للكنيسة الجامعة) هو أن أعمال الآب وأعمال الابن غير منفصلة... كما أن الآب والابن غير منفصلين، هكذا أيضًا أعمال الآب وأعمال الابن غير منفصلة... ما يفعله الآب يفعله أيضًا الابن والروح القدس. فإن كل الأشياء صُنعت بالكلمة، عندما "تكلم كانت"(595).
القديس أغسطينوس
ربما يتساءل البعض: كمثال سار السيد المسيح على المياه، بينما لم يسر الآب على المياه، فكيف نقول أن أعمال الآب والابن غير منفصلة؟ يجيب القديس أغسطينوس قائلًا: [انظروا كيف يقدم الإيمان الجامعي شرحًا لهذا السؤال. سار الابن على البحر، وضع قدميه الجسديتين على الأمواج، سار الجسد، وقد وجَّهه اللاهوت. ولكن حين كان الجسد يمشي واللاهوت يوجّهه، هل كان الآب غائبًا؟ لو كان غائبًا فكيف يقول الابن نفسه: "لكن الآب الحال فيَّ نفسه يعمل الأعمال"؟ إن كان الآب حالًا في الابن، هو نفسه يعمل الأعمال، إذن فالسير على المياه هو من عمل الآب وبالابن. بهذا فإن ذاك السير هو عمل الآب والابن بلا انفصال. أرى الاثنين يعملان كلاهما فيه. الآب لن يترك الابن، ولا الابن الآب. هكذا كل ما يعمله الآب لن يعمله بدون الابن، لأن ما يعمله الآب لن يعمله بدون الابن(596).]
*يقول قائل: كيف يلد الأزلي أزليًا؟ كما أن اللهيب المؤقت يلد نورًا مؤقتًا. فإن اللهيب المولّد معاصر للنور الذي يلده. اللهيب المولّد لن يسبق النور في الزمن، ولكن منذ اللحظة التي يبدأ فيها اللهيب في نفس اللحظة يُولد النور. أرني لهيبًا بلا نور، وأنا أريك اللَّه الآب بدون الابن. لهذا "لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئًا إلا ما ينظر الآب يعمل"، هذا يتضمن أن "ينظر" و"يولد" بالنسبة للابن هما ذات الشيء. رؤيته ووجوده ليسا مختلفين، ولا قوته وكيانه مختلفين. كل ما هو للابن هو من الآب، وكل ما يقدر عليه وما هو عليه هو أمر واحد، الكل من الآب(597).
*ما يعمله الآب هذا أيضًا يعمله الابن. صنع الآب العالم، وصنع الابن العالم، وصنع الروح القدس العالم. لو أنهم ثلاثة آلهة لوجدت ثلاثة عوالم. إذ هم إله واحد الآب والابن والروح القدس، إذن عالم واحد خلقه الآب بالابن في الروح القدس. بالتبعية فإن الابن يعمل ما يفعله الآب، ولا يعمل بطريقة مختلفة، هو يعمل معًا هذه الأمور، ويصنعها بذات الطريقة(598).
*إن كنت ترى أنه لا انفصال في النور، فلماذا تطلب انفصالًا في العمل؟ تطلع إلى اللَّه، انظر إلى كلمة الملازمة للكلمة التي يتكلم بها، فإن المتكلم لا يتحدث بمقاطع لفظية، وإنما كلمته تشرق في بهاء الحكمة. ماذا قيل عن الحكمة نفسها؟ "إنها إشراق النور الأبدي" (حك 9: 15). تطلع إلى الشمس في السماء تنشر بهاءها على كل الأراضي وفوق كل البحار، ومع ذلك فهي نور مادي بسيط. إن كنت بالحق تستطيع أن تفصل البهاء عن الشمس فلتفصل الكلمة عن الآب(599).
القديس أغسطينوس
"فمن أجل هذا كان اليهود يطلبون أكثر أن يقتلوه،
لأنه لم ينقض السبت فقط،
بل قال أيضًا إن الله أبوه معادلًا نفسه بالله". [18]
دفاعه عن تقديس السبتبالعمل الإلهي لا بالامتناع عن العمل،حمل شهادة أنه مساو لله الذي دعاه أباه، فازدادوا حقدًا عليه، إذ ليس ما يثيرهم مثل تأكيد سلطانه الإلهي، فطلبوا بالأكثر قتله، لأنه في نظرهم قد جدَّف. كل من الاتهامين عقوبتهما الموت (لا 15: 32؛ لا 24: 11؛ 14: 16).
يري البعض أن ما أزعج القيادات اليهودية هو دعوة الآب أباه الشخصي الذاتي، وهذا يفهم من استخدام الكلمة اليونانية، فيحسب نفسه معادلًا له.
*مكتوب: "لأن أبى أعظم مني" (يو 14:28). كما هو أيضًا مكتوب: "لم يُحسب خلسة أن يكون معادلًا لله" (في 2:6). مكتوب:" قال أيضًا إن الله أبوه معادلًا نفسه بالله" (يو 5:18). مكتوب: "أنا والآب واحد" (يو 10: 30)... هل يمكن أن يكون أقل ومساوٍ في نفس الطبيعة؟ لا، الواحد يشير إلى اللاهوت، والآخر لجسمه(600).
القديس أمبروسيوس
4. حديث عن الحياة الأبدية
"فأجاب يسوع وقال لهم:
الحق الحق أقول لكم لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئًا،
إلا ما ينظر الآب يعمل،
لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك". [19]
في حديثه دومًا يؤكد حقيقتين: وحدانية اللَّه، وأنه واحد مع الآب ومساوٍ له.
إذ أراد اليهود أن يقتلوه ليس فقط لأنه كسر السبت بل وقال أيضًا أن اللَّه أبوه، معادلًا نفسه باللَّه [18]. لم يكن رد الفعل أنه قال: "لماذا تريدون قتلي، إني لست معادلًا لأبي". لو كان السيد المسيح أقل من اللَّه من جهة اللاهوت لالتزم بتوضيح ذلك. لكنه أوضح أنه لا تناقض بينه وبين الآب، لأن ما يفعله الآب إنما يفعله بالابن الذي هو قوة اللَّه وحكمته. "كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يو 1: 2). يقول أن ما يرى الآب هو يفعله؛ ماذا يعني أن ما يرى الآب هو فاعله؟ هل ينظر ما فعله الآب فيكرر ذات الفعل؟ مستحيل! لكن إذ يقوما بذات العمل، فهو واحد مع أبيه في الإرادة، لذلك يتمم الفعل الإلهي الذي حسب مسرة أبيه. وفي نفس الوقت حسب مسرته هو. لا يقدر الابن أن يفعل شيئًا من ذاته بسبب الوحدة التي لا تنفصم مع الآب، ولا يفعل الآب شيئًا دون الابن بسبب الوحدة اللانهائية، لأن الابن هو قوة الله وحكمة الله وكلمة الله.
يقدر الكائن المخلوق أن يفعل شيئًا من ذاته، إذ يستطيع أن يخطئ الأمر الذي لن يقدر الله أن يفعله لأنه قدوس بلا خطية. أما الابن فلن يقدر أن يفعل إلاَّ ما يرى الآب فاعله. كأنه يقول لهم إن اتهمتموني بكسر السبت، فأنا لا أفعل شيئًا إلاَّ ما أرى الآب فاعله، فهل تحسبونه كاسرًا السبت؟!
ركز في مقاله أنه واهب الحياة الأبدية حسبما يشاء[21]، وأن كلماته تهب حياة أبدية[24]، صوته يقيم الأموات [25-26]، وإن الساعة قادمة ليهب حياة لمن في القبور[28-29].
*يُظهر الآب له ما سيفعله لكي ما يُفعل بالابن(601).
*إذن ما نحن نوضحه أيها المحبوبون، الأمر الذي نسأله، كيف يرى الكلمة؟
كيف يُرى الآب بواسطة الكلمة؟
وما هو الذي يراه الكلمة؟
لست أتجاسر هكذا ولا أتهور فأعدكم إنني أشرح هذا لنفسي أو لكم. إنني أقدر قياسكم وأعرف قياسي...
لقد عني بذلك ألا نفهم بأن الآب يفعل بعض الأعمال التي يراها الابن، والابن يفعل أعمالًا أخرى بعد أن يرى ما فاعله الآب. وإنما كلا من الآب والابن يفعلان ذات الأعمال...
فإن كان الابن يفعل ذات أعمال الآب، وإن كان الآب يفعل ما يفعله بالابن، فالآب لا يفعل شيئًا والابن شيئًا آخر، إنما أعمال الآب والابن هي واحدة بعينها...
أقدم لكم مثالًا الذي أظن أنه ليس بصعبٍ عليكم، عندما نكتب خطابات تُشكل أولًا بقلوبنا وبعد ذلك بأيدينا... القلب واليد يقومان بعمل الخطابات. أتظنون أن القلب يشكل خطابات والأيدي خطابات أخرى؟ ذات الخطابات تفعلها القلب عقليًا واليد تشكلها ماديًا.
انظروا كيف أن ذات الأمور تتم ولكن ليس بنفس الطريقة. لذلك لم يكن كافيًا للرب أن يقول: "مهما عمل الآب فهذا يعمله الابن أيضًا"، لكن كان لازمًا أن يضيف: "وبنفس الكيفية"..
إن كان يفعل هذه الأمور بذات الكيفية، إذن فليتيقظوا، وليتحطم اليهود، وليؤمن المسيحي، وليقتنع المبتدع، فإن الابن مساوي للآب(602).
القديس أغسطينوس
*إن سألت: فما معنى قول المسيح "لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئًا"؟ أجبتك: معناه أنه لا يقدر أن يعمل عملًا مضادًا لأبيه ولا غريبًا عنه. وهذا قول يوضح معادلته لأبيه واتفاقه معه كثيرًا جدًا.
قول المسيح: "لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئًا إلا ما ينظر الآب يعمل" كأنه يقول: "إنه ممتنع عليّ وغير ممكن أن أعمل عملًا مضادًا". وقوله: "لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك" بهذا القول أوضح مشابهته التامة لأبيه.
*ماذا يعني: لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئًا؟ إنه لا يقدر أن يعمل من نفسه شيئًا في مضادة للآب، ليس شيء مُغايرًا، ليس شيء غريبًا، مما يظهر بالأكثر المساواة والاتفاق التام.
لماذا لم يقل: "لا يعمل شيئًا مضادًا" عوض قوله: "لا يقدر أن يعمل"؟ وذلك لكي يثبت عدم التغير والمساواة الدقيقة، فإن هذا القول لا يتهمه بالضعف، بل يشهد لقوته العظيمة... وذلك كالقول: "يستحيل على الله أن يخطئ"، لا يتهمه بالضعف، بل يشهد لقوته التي لا يُنطق بها...
هكذا المعنى هنا هو أنه قادر، أي مستحيل أن يفعل شيئًا مضادًا للآب(603).
القديس يوحنا الذهبي الفم
*ليس للابن ولا للروح شيء من ذاتهما، لأن الثالوث لا يتحدث عن أمرٍ خارج عن ذاته... لا يظن أحد أنه يوجد أي اختلاف في العمل سواء من جهة الزمن أو التدبير بين الآب والابن، بل يؤمن في وحدة ذات العملية(604).
*تكمن الحرية (للثالوث القدوس) لا في وجود اختلافات بل في وحدة الإرادة(605).
*لقد حقَّ للابن وثبّت مساواته للآب، مساواة حقيقية، مستبعدًا كل اختلاف في اللاهوت(606).
القديس أمبروسيوس
*صنع المسيح كل الأشياء...، لا بمعنى أن الآب تنقصه قوة لخلق أعماله، إنما لأنه أراد أن يحكم الابن على أعماله فأعطاه اللَّه رسم الأمور المخلوقة. إذ يقول الابن مكرمًا أبيه: "لا يقدر الابن أن يعمل شيئًا إلا ما ينظر الآب يعمل. لأنه مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك" (يو19:5). وأيضًا: "أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل". فلا يوجد تعارض في العمل، إذ يقول الرب في الأناجيل:"كل ما هو لي فهو لك. وما هو لك فهو لي" (يو10:17).
هذا نتعلمه بالتأكيد من العهدين القديم والجديد، لأن الذي قال: "نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا"(تك 26:1) بالتأكيد تكلم مع أقنوم معه. وأوضح من هذا كلمات المرتل:"هو قال فكانت. وهوأمر فخلقت" (مز 5:148). فكما لو أن الآبأمر وتكلم، والابن صنع كل شيء كأمر الآب(607).
القديس كيرلس الأورشليمي
[يحذرنا القديس أغسطينوس من التفسير المادي]
*إنه لم يقل: "لا يقدر الابن أن يفعل شيئًا من ذاته إلاَّ ما يسمع الآب يأمر به" بل يقول: "لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئًا، إلا ما ينظر الآب يعمل". أنظر هل تفهم هذا هكذا: الآب يفعل شيئًا، والابن يصغي ليري ماذا يفعل هو أيضًا، وأنه يفعل شيئًا آخر مثلما يفعل الآب.
ما يفعله الآب بمن يفعل هذا؟ إن لم يكن بالابن، إن لم بالكلمة، فإنك تجدف ضد الإنجيل، "لأن كل شيء به كان" (يو 1: 3).
إذن ما يفعله الآب إنما يفعله بالكلمة. فإن كان بالكلمة يفعل هذا إنما يفعله بالابن. فمن هو هذا الآخر الذي يصغي ليفعل شيئًا يرى الآب فاعله؟(608)
*الآب لا يفعل أشياء والابن أشياء أخرى، فإن كل الأشياء التي يفعلها الآب إنما يصنعها بالابن. الابن أقام لعازر، ألم يقمه الآب؟ الابن أعطى النظر للأعمى، ألم يهبه الآب البصر؟ يعمل الآب بالابن في الروح القدس. إنه الثالوث، لكن عمل الثالوث هو واحد، العظمة واحدة، الأزلية واحدة، الأبدية واحدة، والأعمال واحدة. لم يخلق الآب بعض الناس والابن آخرين والروح القدس آخرين. خلق الآب والابن والروح القدس إنسانًا واحدًا بعينه...
القديس أغسطينوس
*من ينسب ضعفًا للابن ينسبه للآب أيضًا. يحمل الراعي كل القطيع وليس فقط هذا أو ذاك الجزء منه... الكتاب المقدس يعد بفيض من النعمة، لكننا نحن نقر بندرتها(609).
القديس جيروم
*لماذا كُتب: "الابن يعمل نفس الأشياء" وليس "مثل هذه الأشياء" إلا لكي تحكموا أن في الابن وحدة في ذات أعمال الآب، وليس تقليدًا لما يفعله الآب...؟
ماذا نفهم بالقول "ما يراه"؟
هل الابن في حاجة إلى أعين جسدية؟ لا، فإن أكد الأريوسيون هذا عن الابن، فالآب إذن في حاجة إلى أعمال جسدية حتى يراها الابن لكي يفعلها.
إذن ماذا يعني: "لا يقدر الابن أن يفعل شيئًا من ذاته"...؟ هل يوجد شيء مستحيل على قوة اللَّه وحكمته؟ ليُدرك هؤلاء أن هذين هما لقبان لابن اللَّه، الذي قدرته بلا شك ليست عطية ينالها من آخر، ولكن كما أنه هو الحياة ولا يعتمد على آخر ليهبه الحياة بل هو الذي يحيي الآخرين، لأنه هو الحياة، هكذا هو الكلمة (1 كو 24:1) ليس ككائنٍ جاهل يطلب الحكمة، بل يجعل الآخرين حكماء من مخازنه. وهكذا هو القوة ليس كمن ينالها خلال ضعف يحتاج إلى مزيد من القوة، بل يهب القوة للأقوياء(610).
القديس أمبروسيوس
"لأن الآب يحب الابن،
ويريه جميع ما هو يعمله،
وسيريه أعمالاً أعظم من هذه،
لتتعجبوا أنتم". [20]
جاء الفعلان "يحب"، و"يريه" في اليونانية في صيغة الحاضر المستمر، يحملان معنى الحب والرؤية وهما عملان مستمران لا ينقطعان. هو حب الوحدة الكاملة في ذات الجوهر، لذا لم يستخدم "أغابي" `agapy بل "فيلين" ورؤية العمل المستمر، والذي يحمل الشركة معًا في ذات العمل الإلهي.
الأعمال التي أعظم من شفاء المفلوج هي إقامة الموتى[21]، وقيامته من الموت، وإدانته للعالم[22].
*هذا يبرز أن الكل يأتي إلى الوجود خلال إرادة واحدة وسلطة واحدة وقوة واحدة... مادام المسيح لا يفعل شيئًا من ذاته، إن كان المسيح يفعل كل الأمور مثل الآب... لأنه لم يقل بأن "كل الأمور التي يرى الآب فاعلها يعملها هو"، بل "ينظر ما يعمله الآب"(611).
القديس يوحنا الذهبي الفم
*أنه أمر أعظم جدًا أن يقوم ميت عن أن يُشفى مريض. هذه أمور أعظم.
لكن متى يُظهر الآب هذه الأمور للابن؟
ألا يعرفها الابن؟
المتكلم نفسه ألا يعرف كيف يقيم الموتى؟
هل كان محتاجًا أن يتعلم كيف يقيم الأموات إلى الحياة ذاك الذي به كان كل شيء؟ هذا الذي أوجدنا في الحياة حين كنا عدمًا هل كان محتاجًا أن يتعلم كيف نقوم من الأموات؟
فماذا إذن تعني كلماته...؟
إنه يتحدث إلينا تارة بما يليق بجلاله، ومرة أخرى بما يليق بتواضعه. هو نفسه العلي تنازل، لكي يرفعنا نحن الذين أسفل إلى العلا.
ماذا إذن يقول: "وسيريه أعمالًا أعظم من هذه لتتعجبوا أنتم"[20]. إن ما يظهره هو لنا لا لأجله. وإذ يريه الآب لأجلنا، لذلك قال "لتتعجبوا أنتم".
لماذا لم يقل: "سيريكم الآب" بل سيرى الابن؟ لأننا نحن أيضًا أعضاء الابن، وما تتعلمه الأعضاء يتعلمه هو بطريقة ما في أعضائه.
كيف يتعلم فينا؟ كما يتألم أيضًا فينا
أين نُثبت أنه يتألم فينا؟ من الصوت الصادر من السماء: "شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟" (أع 9: 4)(612).
القديس أغسطينوس
"لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويحيي،
كذلك الابن أيضًا يحيي من يشاء". [21]
أقام الآب الموتى كما فعل مع ابنة أرملة صرفة صيدا خلال إيليا النبي (1 مل 17: 22)، وابن الشونمية (2 مل 4: 32-35) خلال خدمة إليشع النبي. ويقيم الابن من يشاء كما حدث مع ابنة يايرس (مر 5: 35- 42)، وابن أرملة نايين (لو 7: 11 -15)، ولعازر في بيت عنيا (يو 11: 14-44). إنه يهب الحياة حسبما يشاء، وليس بطلب قوة خارجية كما حدث مع الأنبياء، وأيضًا التلاميذ. له سلطان مطلق على الحياة! له مفتاح القبر والموت (رؤ 1: 18)، له مفتاح داود يفتح ولا أحد يغلق، ويغلق ولا أحد يفتح (رؤ 3: 7). إنه يميت ويحيي (1 صم 2: 6).
*يظهر التعبير قوة غير مغايرة... ومساواة في السلطة... "فإن كل ما يفعله (الآب) يفعله الابن أيضًا"، مظهرًا أنه يستمر في فعل كل الأشياء التي يفعلها الآب سواء تقولون عن إقامة الموتى أو تشكيل الأجساد أو غفران الخطايا أو أي أمر آخر. إنه يعمل بنفس الطريق بالنسبة للذي ولده(613).
القديس يوحنا الذهبي الفم
*حتمًا لا يعني هذا أن الابن يحيي البعض، والآب يحيي آخرين، بل الآب والابن يحيون نفس الأشخاص، لأن الآب يفعل كل الأشياء بالابن(614)
القديس أغسطينوس
*هكذا مساواة الابن للآب قد رسخت ببساطة خلال وحدة عمل الإحياء، حيث يحيي الابن كما يفعل الآب. لتدركوا هنا أبدية حياته وسلطانه(615).
القديس أمبروسيوس
"لأن الآب لا يدين أحدًا،
بل قد أعطى كل الدينونة للابن". [22]
هذا يؤكد أنه لا يعمل الآب الديان بدون الابن، ولا الابن الديان بدون الآب، لهما سلطان واحد، يعملان معًا.
الآب لا يدين أحدًا، ليس لأنه بلا سلطان، ولكن هذه هي مسرته أن الابن الذي بذل ذاته يدين البشرية. لقد خلقنا الآب بابنه، وخلصنا بموته، ويديننا خلاله. صار المسيح رأسًا للكنيسة بعمله الخلاصي، صار فوق الكل (اف 1: 11)، رأس كل رجلٍ (1 كو 11: 3)، لذلك فهو الذي يتمم ذلك بأن يتمتع مؤمنيه بشركة مجده. وهو الذي بدأ المعركة ضد مملكة الظلمة، فيعلن في الدينونة تحطيمها تمامًا. إن كان الابن في تواضعه قد صار ابن الإنسان واحتمل الموت موت الصليب، فإنه يظهر أيضًا كابن الإنسان ليخجل ويخزي الذين رفضوه وطعنوه بحربة عدم الإيمان به.
إذ طلب اليهود محاكمته وقتله شرعيًا، أعلن أنه هو الديان، الذي سيحكم في اليوم العظيم ويدين كل البشرية.
*نحتاج أيها الأحباء إلى اجتهاد عظيم في كل شيء، إذ سنعطي حسابًا، ونُسأل بكل دقة عن كلماتنا وأعمالنا.
لا تقف اهتماماتنا بما يحدث الآن، بل ما سيحدث بعد ذلك، إذ نقف أمام محاكمة رهيبة. "لأنه لا بُد أننا جميعا نظهر أمام كرسي المسيح لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيرا كان أم شرا" (2 كو 5: 10).
لنضع في ذهننا علي الدوام هذه المحاكمة، حتى يمكننا في كل الأوقات أن نثابر علي الفضيلة... فإن الذي يغفر خطايانا الآن سيديننا، الذي يموت من أجلنا سيظهر ليدين كل البشرية يقول الرسول: "سيظهر ثانية بلا خطية للخلاص للذين ينتظرونه" (عب 9: 28). لذلك يقول في هذا الموضع: "لأن الآب لا يدين أحدا، بل قد أعطى كل الدينونة للابن، لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب"[22-23]...
لكي تفهموا "قد أعطى" كما "قد ولد" اسمعوا ما قيل في موضع آخر: "كما أن الآب له الحياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أن تكون له الحياة في ذاته"[26]. ماذا إذن؟ هل ولده أولًا ثم أعطاه الحياة بعد ذلك...؟
هل وُلد بدون الحياة؟ حتى الشياطين لن تتخيل هذا، لأنه غباوة عظيمة وشر!
فكما إن إعطاء الحياة يعني ميلاده الذي هو الحياة، هكذا إعطاء الدينونة هو إعطاء الميلاد له الذي هو الديان.
ولئلا عندما تسمعون إن الآب هو مصدره تحسبون وجود اختلاف في الجوهر أو نقص في الكرامة قال إنه سيأتي ويدينكم، مبرهنًا بذلك علي مساواته. فإن من له السلطان أن يعاقب ويدين من يشاء، له ذات سلطان الآب(616).
القديس يوحنا الذهبي الفم
*"لأن الآب لا يدين أحدًا بل قد أعطي كل الدينونة للابن"[22]... عندما يدين الابن هل يبقى الآب بلا عمل ولا يدين...؟ قيل هذا لأنه لا يظهر للبشر في الدينونة سوى الابن. سيختفي الآب ويُعلن الابن.
كيف يُعلن الابن؟ في الشكل الذي به صعد. لأن شكل اللاهوت مخفي مع الآب، لكن يعلن شكل الابن للبشر...
بأية كيفية رأوه ذاهبًا؟ في الجسد الذي لمسوه، وامسكوه، والجراحات التي تحققوا منها باللمس؛ في هذا الجسد كان يظهر لهم أربعين يومًا، معلنًا عن ذاته بالحق، لا في خيالٍ أو بطلانٍ أو ظلٍ أو روحٍ، بل هو بنفسه لم يخدعهم: "جسّوني وانظروا، فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون" (لو 24: 39). هذا الجسد بالحق صار متأهلًا للسكنى السماوية، لا يخضع للموت، ولا يتغير مع زوال الزمن(617).
القديس أغسطينوس
"لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب،
من لا يكرم الابن لا يكرم الآب الذي أرسله". [23]
إن كان الابن يُكرم كما يكرم الآب، له ذات الكرامة، تسجد له الخليقة السماوية والأرضية وتتعبد له، الأمر الذي لا يليق إلاَّ بالله، فهو مع الآب الله الواحد.
*هل الابن أقل لأنه قال أنه مُرسل؟ إنني أسمع عن الإرسال لا الانفصال...
بين البشر الراسل أعظم من المُرسل. ليكن، لكن الشئون البشرية تخدع الإنسان، الإلهيات تطهره، لا تتطلع إلى الأمور البشرية التي فيها الراسل يظهر أعظم من المُرسل... ومع ذلك توجد حالات كثيرة فيها يُختار الأعظم لكي يرسله من هو أقل...
ترسل الشمس شعاعًا ولكنه لا ينفصل عنها...
والسراج يفيض نورًا ولا ينفصل عنه. إنني أرى إرسالًا دون انفصال...
الإنسان الذي يرسل آخر يبقى خلفه بينما يتقدم المُرسل. هل يذهب الراسل مع الذي أرسله؟ أما الآب الذي اُرسل الابن لا ينفصل عن الابن... الآب الراسل لا ينفصل عن الابن المُرسل، لأن المرسل والراسل هما واحد(618).
القديس أغسطينوس
*ألا ترون كيف ترتبط كرامة الابن بكرامة الآب؛ قد يقول أحد: ما هذا؟ فإننا نرى نفس الشيء في حالة الرسل إذ يقول المسيح: "من يقبلكم يقبلني" (مت 10:40). في ذلك يتحدث هكذا، لأنه مهتم بخدامه الذين هم له، أما هنا فالسبب هو أن الجوهر واحد والمجد واحد مع الآب. لذلك لم يقل عن الرسل "لكي يكرمونهم"، أما هنا فبحق يقول: "من لا يكرم الابن لا يكرم الآب"[23]. فإنه متى وجد ملكان، من يسب الواحد يكون قد سب الآخر، خاصة إن كان ابنه وأيضًا من يسيء إلى جنوده يحسب كمن أساء إليه، لكن بطريقة مختلفة(619).
القديس يوحنا الذهبي الفم
"الحق الحق أقول لكمإن من يسمع كلمتي ويؤمن بالذي أرسلني،
فله حياة أبدية،
ولا يأتي إلى دينونة،
بل قد انتقل من الموت إلى الحياة". [24]
تعاليمه، أي إنجيل خلاصه، هي بذار الحياة الأبدية الغالبة للموت أبديًا، متى زُرعت في القلب ترفع المؤمن فوق الموت الأبدي والدينونة في يوم الرب العظيم. لن يدخل مدينة الموت التي تحبس النفوس التي حرمت نفسها من مصدر الحياة. إنما تعبر النفس إلى إمبراطورية الحياة، ينال المؤمن مواطنة جديدة، عوض بلدة الموت يتمتع بالمواطنة السماوية ليحيا فيها أبديًا في مجدٍ سماويٍ وينطق بلغةٍ سماويةٍ.
إن كانت الحياة الأبدية لا ترتبط بالزمن، فإن عربون هذه العطية يُقدم في الحياة الحاضرة، لننمو فيها حتى تتمتع بكمالها في الحياة العتيدة.
*إنه لم يقل: "إن من يسمع كلمتي ويؤمن بي" (بدلًا من يؤمن بالذي أرسلني)... لأنه إن كان بعد صنع ربوات المعجزات لفترة طويلة تشككوا فيه عندما تكلم في فترة لاحقة بهذه الطريقة "إن كان أحد يحفظ كلمتي فلن يرى الموت إلى الأبد" (يو 8: 51)، وقالوا له: "قد مات إبراهيم والأنبياء، وأنت تقول إن كان أحد يحفظ كلتمي فلن يذوق الموت إلى الأبد؟" (يو 8: 52)، فلكي لا يصيروا هنا في غضب شديد، انظروا ماذا يقول؟ "إن من يسمع كلمتي، ويؤمن بالذي أرسلني، فله حياةأبدية" [24]. لهذا القول أثره غير القليل في قبول مقاله، عندما يتعلمون أن من يسمعونه يؤمنون أيضًا بالآب، فإنهم إذ يقبلون هذا بسهولة، يمكنهم أن يقبلوا بقية المقال بسهولة. حديثه بطريقة متواضعة ساهمت وقدمتهم إلي الأمور العلوية. فإنه بعد قوله "له حياة أبدية" أضاف: "ولا يأتي إلى دينونة، بل يكون قد انتقل من الموت إلى الحياة " [24](620).
*بهذين الأمرين جعل مقاله يُقبل بسهولة. أولًا لأن الآب هو الذي نؤمن به، وبعد ذلك الذي يؤمن يتمتع ببركاتٍ كثيرة. عدم الآتيان إلى دينونة يعني عدم العقوبة، إذ لا يتحدث هنا عن الموت، بل الموت الأبدي، وأيضًا عن الحياة بلا موت(621).
القديس يوحنا الذهبي الفم
*إذ يحب البشر أن يعيشوا على هذه الأرض وُعدت لهم الحياة، وإذ يخشون الموت جدًا وُعدوا بالحياة الأبدية.
ماذا تحبون؟ أن تعيشوا. ستنالون هذا.
ماذا تخشون؟ أن تموتوا. ستكون لكم حياة أبدية...
لنحب الحياة الأبدية، بهذا نعرف كيف يلزمنا أن نجاهد كثيرًا من أجل الحياة الأبدية(622)
القديس أغسطينوس
*ليس سلطان الابن يزيد، بل معرفتنا عن هذا السلطان هي التي تزيد. وليس ما نتعلمه يضيف إلى كيانه شيئًا، وإنما يضيف إلى نفعنا حتى أننا بمعرفتنا للابن ننال حياة أبدية. هكذا في معرفتنا لابن الله ليست كرامة له، بل فائدتنا هي المعنية(623).
القديس أمبروسيوس
*إن الروح رغم اتحادها مع اللّه فهي لا تشعر بملء السعادة بطريقةٍ مطلقة. إنما كلما تمتعت بجماله زاد اشتياقها إليه.
إن كلمات العريس روح وحياة (يو 24:5)، وكل من التصق بالروح يصير روحًا. كل من التصق بالحياة ينتقل من الموت إلى الحياة كما قال الرب.
هكذا فالروح البكر تشتاق دائمًا للدنو من نبع الحياة الروحية. النبع هو فم العريس الذي تخرج منه كلمات الحياة الأبدية. إنه يملأ الفم الذي يقترب منه مثل داود النبي الذي اجتذب روحًا خلال فمه (مز 131:118).
لما كان لزامًا على الشخص الذي يشرب من النبع أن يضع فمه على فم النبع، وحيث أن الرب ذاته هو النبع كما يقول: "إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب" (يو 37:7)؛ لذلك فإن الأرواح العطشانة تشتهي إن تضع فمها على الفم الذي ينبع بالحياة ويقول: "ليقبلني بقبلات فمه" (نش 2:1).
من يهب الجميع الحياة، ويريد إن الجميع يخلصون، يشتهي أن يتمتع كل واحد بنصيب من هذه القبلات، لأنها تطهر من كل دنس(624).
القديس غريغوريوس النيسي
"الحق الحق أقول لكم إنه تأتي ساعة وهي الآن،
حين يسمع الأموات صوت ابن الله،
والسامعون يحيون". [25]
يميز البعض بين "كلمة" السيد المسيح [24] وصوته [25]، فكلمته هي إنجيل خلاصه حيث يجد المؤمن خلال الصليب الحياة الجديدة عوض الموت، ويتمتع بالحرية عوض العبودية، إذ يقول السيد "كلمتي روح وحياة" أما صوته فهو كائن في كلمته، حيث تستعذب العروس صوت عريسها، فيمتلئ قلبها بنشوة الحب وتتحسس حنانه الإلهي ولن تقبل عنه بديلًا: "خرافي تسمع صوتي" (يو 10: 27).
يشير الكتاب المقدس إلى ثلاثة أنواع من الموت: الموت الطبيعي أو الجسدي، والموت الروحي، والموت الأبدي. الأول يتحقق بانفصال النفس عن الجسد، والثاني بانفصال النفس عن الله، والثالث بانفصال النفس والجسد معًا عن الله في العالم الآخر. مقابل هذا توجد ثلاثة أنواع من الحياة: الحياة الطبيعية التي في هذا العالم، حيث يعمل الجسد مع النفس في وحدة، والحياة الروحية حيث تتمتع النفس بالوحدة مع الله الذي يقودها بروحه القدوس، والحياة الأبدية حيث يشترك الجسد مع النفس في المجد السماوي في حضن الآب.
بمجيء السيد المسيح حلت الساعة لتقوم النفس من موتها، أو انفصالها عن الله مصدر حياتها، فتتمتع بالحياة الجديدة هنا. هذه الحياة الجديدة تهيئ المؤمن لمجيء السيد المسيح الثاني حيث يقوم الأموات لتشترك الأجساد مع النفوس في الحياة الأبدية المجيدة. هذا يتحقق بأمر السيد المسيح، حيث يسمع الأموات صوته.
في مجيئه الأول يتكلم في النفس فيقيمها من الموت، وفي مجيئه الأخير يأمر فيقوم الأموات. ليتنا نسمع دومًا صوته الموجه شخصيًا إلينا: "لعازر هلم خارجًا". ففي كل عبادتنا، بل مع كل نسمة من نسمات حياتنا يلزمنا أن نميل بآذاننا إليه لنسمع صوته العذب المحيي لنفوسنا.
*تتحقق القيامة الآن، ويعبر الناس من الموت إلى الحياة، من الموت بعدم الإيمان إلى الحياة بالإيمان، من الموت بالبطلان إلى الحياة بالحق، من الموت بالشر إلى الحياة بالبرّ. لذلك توجد قيامة للأموات(625).
*الذين يؤمنون ويطيعون يحيون. قبل أن يؤمنوا ويطيعوا كانوا راقدين أمواتا. كانوا يسيرون وهم أموات. ماذا ينتفعون بسيرهم وهم أموات؟ ومع ذلك إن مات أحدهم الموت الجسدي، فيجرون يهيئون القبر ويكفنوه ويحملوه ويدفنوه؛ الموتى يدفنون الميت. وقد قيل عنهم: "دع الموتى يدفنون موتاهم" (مت 8: 22).
مثل هؤلاء الموتى أقيموا بكلمة الله ليعيشوا في الإيمان. الذين كانوا موتى في عدم إيمان أقيموا بالكلمة. عن هذه الساعة يقول الرب: "ستأتي الساعة وقد جاءت الآن". بكلمته يقيم هؤلاء الذين كانوا موتى في عدم الإيمان. عنهم يقول الرسول: "قم أيها النائم، وارتفع عن الموتى، فالمسيح يعطيه النور" (أف 5: 14). هذه هي قيامة القلوب. هذه هي قيامة الإنسان الداخلي، هذه هي قيامة النفس.
لكن ليست هذه هي القيامة الوحيدة، إذ تبقى قيامة الجسد أيضًا. من قام ثانية في النفس سيقوم أيضًا في الجسد لتطويبه في الجسد. وأما من لم يقم أولًا في النفس فسيقوم في الجسد للعنته... إذ نتطلع إلى الرب أنه ختم علينا بهذه القيامة للنفوس التي يجب علينا جميعًا أن نسرع إليها، وأن نجاهد لنعيش فيها، وأن نثابر حتى النهاية. بقي له أن يختم علينا بقيامة الأجساد أيضًا التي ستكون في نهاية العالم. الآن فلتسمع كيف ختم بهذه أيضًا.
عندما قال: "الحق الحق أقول لكم أنه تأتي ساعة وهي الآن حين يسمع الأموات"، أي غير المؤمنين، "صوت ابن الله"، أي الإنجيل، "والسامعون"، أي المطيعون "يحيون"[25]، أي يتبررون، ولا يعودوا بعد غير مؤمنين. عندما أقول أنه قال هذا بقدر ما يرانا أننا محتاجون إلى التعلم عن قيامة الجسد أيضًا، ولا نُترك هكذا لذلك أكمل قوله: "لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته كذلك أعطى الابن أيضًا أن تكون له حياة في ذاته". هذه تشير إلى قيامة النفوس، إلى إحياء النفوس. عندئذ أضاف: "وأعطاه سلطانًا أن يدين أيضًا لأنه ابن الإنسان"[27](626).
*من أي مصدر يحيون؟ من الحياة. من أية حياة؟ من المسيح... يقول: "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو 14: 6).
أتريد أن تسير؟ أنا هو الطريق.
أتود ألا تُخدع؟ "أنا هو الحق".
أتريد ألا تموت؟ "أنا هو الحياة".
هذا ما يقوله مخلصك لك... البشر الذين ماتوا يقومون؛ إنهم يعبرون إلى الحياة، إذ يسمعون صوت ابن اللَّه يحيون. فيه يحيون، إذ يثابرون في الإيمان به. لأن الابن له الحياة؛ حيث له الحياة حتى أن الذين يؤمنون به يحيون(627).
القديس أغسطينوس
*أعرفت هنا سيادة المسيح وسلطانه المطلق غير المنطوق به؟ فكما سيكون في القيامة هكذا يقول "الآن". لذلك عندما نسمع صوته يأمرنا أن نقوم، إذ يقول الرسول: "عندما يأمر الله يقوم الأموات" (راجع 1 تس 4: 16)(628).
القديس يوحنا الذهبي الفم
"لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته،
كذلك أعطى الابن أيضًا أن تكون له حياة في ذاته". [26]
يتحدث ربنا يسوع هنا بكونه المسيا الذي يخلص العالم ويهبه الحياة.
*"أُعطي" بسبب الوحدة معه. أُعطي لا لكي تؤخذ منه، بل لكي يتمجد في الابن. لقد أُعطى لا لكي يقوم الآب بحراستها، بل لكي تكون ملكًا للابن(629).
*لا تظن أنها هبة مجانية للنعمة، إذ هي سرّ ميلاده. إذ لا يوجد أي اختلاف في الحياة بين الآب والابن، كيف يمكنك أن تظن أن الآب وحده له الخلود وليس للابن(630)؟
القديس أمبروسيوس
*أنظر، أنت تقول وتعترف أن الآب يعطى الحياة للابن لكي تكون له الحياة في ذاته، وذلك كما أن الآب له الحياة في ذاته، فلا يكون الآب في حاجة والابن أيضًا ليس في حاجة. كما أن الآب هو الحياة هكذا الابن هو الحياة، وكلاهما يتحدان في حياة واحدة وليس حياتين، لماذا يُقال أن الآب يعطي الحياة للابن؟ ليس كما لو كان الابن بدون حياة ونال الحياة، لأنه لو كان الأمر هكذا لما كانت له الحياة في ذاته(631).
*ماذا إذن قوله "أعطي الابن أن تكون له حياة في ذاته"؟ أقول باختصار أنه ولد الابن... كأنه يقول: "الآب الذي هو الحياة في ذاته قد ولد الابن الذي هو الحياة في ذاته. يمكن فهم كلمة "أعطي" dedit بمعنى "ولد"genuit(632).
*ماذا يعني له الحياة في ذاته؟ لا يحتاج إلى الحياة من آخر، بل هو نفسه فيض من الحياة، منه ينال الغير - الذين يؤمنون به - الحياة... لقد أُعطي أن تكون له الحياة في ذاته، لمن أعطي؟ لكلمته، لذاك الذي هو "في البدء كان الكلمة، وكان الكلمة عند اللَّه"(633).
القديس أغسطينوس
*ألا ترون أن هذا يعلن عن الشبه الكامل إلا في نقطة واحدة، هي أن الواحد هو أب والآخر هو ابن؟ فإن تعبير "أعطي" لمجرد إبراز هذا التمايز أما البقية كلها فمتساوية ومتشابهة تمامًا. واضح إن الابن يفعل كل شيء بسلطان وقوة مثل الآب، وأنه لا يستمد القوة من مصدر آخر، إذ له الحياة في ذاته مثلما للآب(634).
القديس يوحنا الذهبي الفم
"وأعطاه سلطانًا أن يدين أيضًا، لأنه ابن الإنسان". [27]
يرى القديس أمبروسيوس أن السيد المسيح قَبِلَ أن ينال السلطان أن يدين "لأنه ابن الإنسان" أما بكونه ابن الله فهو الديان، إذ هو واحد مع الآب(635).
يقول القديس أغسطينوسأنه هو "ابن الله في ذاته" [25] كان يلزم (بحبه) أن يصير ابن الإنسان حين أخذنا فيه، أو أخذ طبيعتنا.
إنه إذ يقيم الموتى نراه ابن الله واهب الحياة والقيامة، وإذ يدين يتجلى أمامنا عمله الخلاصي الذي بدونه لن نتبرر، فنراه وقد حمل طبيعتنا وصار ابن الإنسان الذي مات وقام ووهبنا برَّه. يراه الأشرار أيضًا ابن الإنسان الذي صلبوه ورذلوه وطعنوه.
بقوله: "وأعطاه أن يدين أيضًا لأنه ابن الإنسان" يوجه أنظارهم نحو نبوة دانيال النبي عنه: "كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتي وجاء إلى القديم الأيام، فقربوه قدامه، فأعطي سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة، سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض" (دا 7: 13-14).
*سيكون الديان هنا ابن الإنسان، سيكون ذلك الشكل هو الذي يدين، وقد كان تحت الحكم.
اسمعوا وافهموا ما قاله النبي بالفعل: "سينظرون إلى من طعنوه" (زك 12: 10؛ يو 19: 37)
سينظرون ذات الشكل عينه الذي طعنوه بحربة. يجلس كديان ذاك الذي وقف أمام كرسي القضاء. سيحكم على المجرمين الحقيقيين، ذاك الذي جعلوه مجرمًا باطلًا. سيأتي بنفسه بذات الشكل.
هذا تراه أيضًا في الإنجيل عندما ذهب إلى السماء أمام أعين تلاميذه، وقفوا ونظروا وتكلم الصوت الملائكي: "أيها الرجال الجليليون ما بالكم واقفين... إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقًا إلى السماء" (أع 1:11)...
انظروا الآن على أي أساس كان هذا ينبغي أن يحدث وبحق إن الذين يلزم أن يدانوا يروا الديان. فإن الذين يدانون هم صالحون وأشرار معًا. "ولكن طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله" (مت 5: 8). بقي أنه في الدينونة يعلن شكل العبد للصالحين والأشرار، ويحفظ شكل الله للصالحين وحدهم(636).
*أي شيء سيناله الصالحون...؟ لقد قلت أننا هناك سنكون بصحة سليمة، في أمان أحياء بلا بلايا، بلا جوع ولا عطش، بلا عيب، دون فقدان لأعيننا. هذا ما قلته ولكن ما سيكون لنا أعظم لم أقله: إننا سنرى الله الآب، فإن هذا الأمر عظيم هكذا إذا ما قورنت به كل بقية الأمور تحسب أمامه كلا شيء...
هل سيرى الشرير الله أيضًا هذا الذي قال عنه إشعياء: "ليطرد الشرير فلا يرى مجد الله" (إش 56: 10LXX)...؟ لذلك فإنه سيعلن نفسه للكل، للصالحين والأشرار، ولكن يحتفظ بنفسه للذين يحبونه... بعد قيامة الجسد عندما يُطرد الشرير فلا يرى مجد الله؛ فإنه "إذ أظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو" (1 يو 3: 2)، هذه هي الحياة الأبدية(637)
*كيف إذن لا يأتي الآب نفسه؟ ذلك بكونه لا يكون منظورًا في الدينونة، "سينظرون إلى الذي طعنوه". الشكل الذي ظهر أمام القاضي، سيكون هو الديان. ذاك الشكل الذين حوكم سيدين. لقد حُوكم ظلمًا، سيدين بالعدل. سيأتي في شكل العبد، وهكذا سيظهر. لأنه كيف يظهر شكل اللَّه للأبرار والظالمين؟ لو أن الدينونة ستكون بين الأبرار وحدهم يظهر لهم شكل اللَّه. ولكن لأن الدينونة هي للأبرار والظالمين، ولا يُسمح للظالمين أن يروا اللَّه، لأنه "طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعينون اللَّه" (مت 5: 8)(638).
*هناك سيكون فصل (بين الأبرار والأشرار) ولكن ليس كما هو الآن. الآن نحن منفصلون ليس من جهة المكان، بل حسب السمات والرغبات والإيمان والرجاء والمحبة. الآن نعيش معًا، نعيش مع الأشرار، وإن كانت حياة الكل ليست واحدة. في السرّ نحن متمايزون، سرّا نحن مفصولون، كالقمح في البيدر، وليس كالقمح في المخزن. في الحقل القمح مفصول ومختلط، مفصول لأنه مختلف عن التبن، ومختلط لأنه لم يُغربل بعد. بعد ذلك سيحدث فصل عام... فالذين صنعوا الصالحات سيعيشون مع ملائكة اللَّه، والذين صنعوا السيئات يتعذّبون مع إبليس وجنوده...
بعد الدينونة سيعبر شكل العبد... وسيقود الجسد بكونه الرأس، ويسلم المُلك للَّه (1 كو 15: 24). عندئذ يظهر شكل اللَّه علانية، هذا الذي لم يكن ممكنًا للأشرار أن يروه، وإنما يرون شكل العبد...
سيعلن نفسه، كما وعد للذين يحبونه. إذ يقول: "من يحبني يحفظ وصاياي؛ والذي يحبني يحبه أبي، وأنا أحبه، وأُظهر له ذاتي" (يو 14: 21)(639).
القديس أغسطينوس
"لا تتعجبوا من هذا،
فإنه تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته". [28]
عند قيامة السيد المسيح لم يُسمع صوت ما، لأنه قام بقوته وسلطانه. أما عند إقامتنا في اليوم الأخير فيُسمع صوت المسيح الذي له سلطان أن يقيم الموتى. كما تُسمع أصوات أبواق الملائكة التي تعلن مجيء صاحب السلطان.
*كل الذين يسمعون يحيون، لأن كل الذين يطيعون يحيون...
ها نحن ننظر قيامة الفكر، ليتنا لا نترك إيماننا بقيامة الجسد...
فإنه حقًا كل الفرق التي تتعهد ببث أية عقيدة دينية في الناس يسمحون بالاعتقاد بقيامة الأذهان، وإلا يُقال لهم: إن كانت النفس لا تقوم، فلماذا تتحدثون معي...؟ لكن يوجد كثيرون ينكرون قيامة الجسد، ويؤكدون أن القيامة قد تمت فعلًا بالإيمان. مثل هؤلاء الذين يقاوموهم الرسول قائلًا: "من بينهم هيمينايس وفيليتس اللذين زاغا عن الحق، قائلين أن القيامة قد صارت، فيقلبان إيمان قوم" (2 تي 2: 17-18). يقولون أن القيامة قد تمت فعلًا بطريقة لا نتوقع بها قيامة أخرى، ويلومون الذين يترجون قيامة الجسد، كما لو أن القيامة الموعود بها قد تحققت في عمل الإيمان، أي في الذهن(640).
القديس أغسطينوس
"فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة،
والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة". [29]
"أنا لا اقدر أنأفعل من نفسي شيئًا،
كما أسمع أدين،
ودينونتي عادلة،
لأني لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني". [30]
*كأن المسيح يقول هنا: "إنكم لم تبصروا فيَّ فعلًا غريبًا مخالفًا، ولا عملًا لا يريده أبي".
القديس يوحنا الذهبي الفم
5. شهادة يوحنا المعمدان له
"إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقًا". [31]
لو أنه شهد لنفسه دون شهادة الآب خلال الأنبياء ودون قيامه بأعمال عجيبة إلهية، لكان لهم عذرهم إن حسبوها شهادة باطلة. لقد رفض شهادته لنفسه لأنهم حسبوا هذا نوعًا من طلب مجد الناس. فهو لا يود أن يقدم شهادة حسب معاييرهم ليست حقًا. بهذا يقطع خط الرجعة عليهم، فلا يعطيهم فرصة للاعتراض علي شهادته، ولا يسمح لهم أن يتشككوا في نيته، فيظنوه أنه يطلب المجد الزمني.
*عندما قال: "شهادتي ليست حقا"[31] كان يوبخهم علي رأيهم فيه، واعتراضهم عليه، وعندما قال: "وإن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق" (يو 8: 14) يعلن طبيعة الشيء نفسه، وهي أنه بكونه الله يلزمهم أن يحسبوه موضع ثقة حتى عندما يتحدث عن نفسه(641).
القديس يوحنا الذهبي الفم
*يقدم نفسه مرة في شخص إنسان، وأخرى في جلال اللَّه... مرة يشير أن شهادته ليست حقًا (يو31:5) وأخرى أنها حق (يو14:8)(642).
القديس أمبروسيوس
*إنه قد عرف حسنًا أن شهادته عن نفسه كانت حقًا، ولكن من أجل الضعفاء، الذين بلا فهم فإن الشمس تتطلع إلى المصابيح. من أجل ضعف بصيرتهم لم يحتملوا بهاء الشمس المتألق(643).
*ألم يشهد الشهداء للمسيح؟ ألم يشهدوا للحق؟ لكن إن تطلعنا بشيء من الاهتمام الأكثر عندما شهد الشهداء، شهد هو لنفسه. لأنه يسكن في الشهداء، وهم يشهدون للحق. لنسمع أحد الشهداء، بولس الرسول: "أتقبلون برهان المسيح الذي يتكلم فيّ؟" (2 كو 13: 3 Vulgate). إذن عندما يشهد يوحنا فالمسيح الساكن في يوحنا يشهد لنفسه. ليشهد بطرس، وليشهد بولس وبقية الرسل، ليشهد اسطفانوس، فإن ذاك الذي يسكن فيهم جميعًا هو يشهد لنفسه(644)
القديس أغسطينوس
*إن كان الرب نفسه الذي سيأتي فيما بعد ليحكم في كل شيء لم يرد أن يصدقوه بناء على شهادته هو، مفضلًا أن يتزكى بحكم الله الآب وشهادته، كم بالأكثر يلزمنا نحن عبيده الذين ليس فقط نتزكى بشهادة الله وحكمه بل ونتمجد بها يلزمنا أن نحافظ على ذلك(645).
الشهيد كبريانوس
"الذي يشهد لي هو آخر،
وأنا أعلم أن شهادته التي يشهدها لي هي حق". [32]
جاءت كلمة "يشهد" هنا في صيغة المضارع المستمر، فإن شهادة الآب للابن شهادة سرمدية، شهادة الحب لذاك الذي واحد معه في ذات الجوهر.
هم يؤمنون بالكتاب المقدس، فهو يحمل شهادة الآب عنه خلال النبوات الكثيرة، وهي شهادة صادقة.
*كأنه يقول: "لعلكم تقولون لي إننا لا نصدقك، لأنه على نحو ما يُقال في أناس إن من يشهد بتسرع لنفسه ليس هو مؤهلًا لتصديقه.
فقول المسيح:"إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقا"لا ينبغي أن يُقرأ على بسيط ذات قراءته، لكن ينبغي أن يُقرأ إذا أضفنا إليه ظن أولئك اليهود في المسيح أن قوله ليس حقًا...
أورد الأقوال التي قالها بثلاثة شهود: أولهم الأعمال التي صنعها، وثانيهم شهادة أبيه، وثالثهم إنذار يوحنا المعمدان به، وقد وضع آخرها أولها وهي شهادة يوحنا المعمدان إذ قال: "الذي يشهد لي هو آخر،وأناأعلم أن شهادته التي يشهدها لي هي حق" [32].
القديس يوحنا الذهبي الفم
"أنتم أرسلتم إلى يوحنا فشهد للحق". [33]
مع أن السيد المسيح لا يقبل شهادة من أي إنسان، لكن من أجلهم يقدم شهادة يوحنا المعمدان عنه أو "للحق"، إذ كانوا يحترمونه كسراج حمل النور لساعة. كان يوحنا في ذلك الوقت في السجن. يكرمه السيد المسيح بكونه السراج الذي يعلن عن مجيء المسيح وسط ظلمة هذا العالم.
من جهة سأله الأعداء أنفسهم وطلبوا رأيه، ومن جهة أخرى عُرف القديس يوحنا أنه لا يعطي وزنًا للكرامة الزمنية، ولم يطلب لنفسه مجدًا. إنه مخلص في رسالته، لم يستطع هيرودس أن يثنيه عن الحق، وعندما شهد يوحنا عن السيد المسيح لم يكن قد رآه.
*قال أولًا "أنتم أرسلتم إليّ يوحنا" فما كانوا يرسلون إليه لولا أنهم احتسبوه مؤهلًا للتصديق.
القديس يوحنا الذهبي الفم
*انظروا كيف كان يلزمه أن يقول: "لتضئ يا رب سراجي". أخيرًا إذ استنار قدم شهادته... إنه السراج، الذي استنار، استنار لكي يضيء. وما يمكن أن يُنار يمكن أيضًا أن يُطفأ. فلكي لا يُطفأ ليته لا يعرض نفسه لريح الكبرياء(646).
القديس أغسطينوس
"وأنا لا أقبل شهادة من إنسان،
ولكني أقول هذا لتخلصوا أنتم". [34]
يقول السيد أنه ليس بمحتاج إلى شهادة يوحنا، فإن أعماله فيها كل الكفاية، وهي أعظم من شهادة يوحنا.
أنتم تؤمنون أن يوحنا نبي، لا ينطق بالكذب بل بالحق. وقد شهد أني حمل الله الذي يرفع خطية العالم (يو 1: 29)، فإن آمنتم بي تخلصون من خطاياكم.
*شهادة يوحنا لم تكن شهادة إنسان، لأنه قال: "وأنا لم كن أعرفه، لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء، ذاك قال لي الذي ترى الروح نازلاُ ومستقرًا عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس" (يو ا: 33) فمن هذه الجهة استبان أن شهادة يوحنا المعمدان كانت شهادة الله، لأنه من الله عرفها، وقال له ما قاله.
القديس يوحنا الذهبي الفم
*"أكثر من جميع الذين يعلمونني فهمت، لأن شهاداتك هي درسي"...
من هو هذا الذي له فهم أكثر من كل معلميه؟
إنني أسأل: من هو هذا الذي يتجاسر ويفضل نفسه عن كل الأنبياء، الذي ليس فقط بالكلام علَّم بسلطانٍ عظيمٍ هكذا الذين عاش معهم، وأيضًا الأجيال المتعاقبة بكتاباتهم...؟
ما قد قيل هنا لا يمكن أن يكون عن شخص سليمان...
إنني أعرفه بوضوح ذاك الذي يفهم أكثر من كل الذين يعلمون، فإنه إذ كان صبيًا في الثانية عشرة من عمره بقي يسوع في أورشليم ووجده والداه بعد ثلاثة أيام (لو 42:2-46). قال الابن: "كما علمني أبي أنطق بهذه الأمور".
من الصعب جدًا أن نفهم هذا عن شخص الكلمة، ما لم ندرك أن الابن المولود من الآب... "أخذ صورة عبد" (في 2: 7)، فإنه إذ اتخذ هذا الشكل، ظن من هم أكبر منه سنًا أنه يجب أن يتعلم كصبي، لكن ذاك الذي علَّمه الآب له فهم أكثر من كل معلميه، لأنه درس شهادات اللَّه الخاصة به، وهو يفهمها أكثر منهم عندما نطق بالكلمات: "أنتم أرسلتم إلى يوحنا فشهد للحق، وأنا لا أقبل شهادة من إنسانٍ" (يو 33:5، 34).
القديس أغسطينوس
"كان هو السراج الموقد المنير،
وأنتم أردتم أن تبتهجوا بنوره ساعة". [35]
يقصد بكلمة "موقد" أو الملتهب نارًا الغيرة المتقدة في قلبه نحو توبة الناس وخلاصهم. ويُقصد "بالساعة" الوقت القصير ما بين ظهوره للخدمة وإلقائه في السجن.
"تبتهجوا" agalliatheenai وتعني أن يثبتوا متهللين، أو يفرحوا بفيض بأخبار ظهور المسيا، حيث توقعوا أن يخلصهم من الرومان، لكن ما أن أعلن عن ملكوته الروحي حتى رفضوه ورفضوا السراج الذي أعلن عنه.
عندما كان هيرودس صديقًا ليوحنا كانت القيادات الدينية تتحدث عنه بكل وقارٍ أو على الأقل لا تقاومه، أما وقد ألقي في السجن بواسطة هيرودس فقد صار بلا شك موضع تكريم من الشعب، لكن القيادات لم تبالِ بأمره. وفي نفس الوقت لم تكن قادرة على مهاجمته علنًا، لأنه كان في أعين الشعب كنبي. الآن إذ أدرك الشعب أن يوحنا نبي وهو قد شهد للمسيح يلزم على الشعب أن يقبل المسيح.
يرى القديس جيروم أن القديسين هم كالقديس يوحنا المعمدان كالسراج الذي ينير، وأن النور يشير إلى بهجتهم وفرحهم بالخلاص. كما يقول: [كل الكنيسة الشرقية، حتى عندما لا توجد رفات للشهداء عندما يُقرأ الإنجيل توقد الشموع، حتى عندما يجعل الفجر السماء حمراء، لا لكي تبدد الظلمة، بل من أجل الشهادة لفرحنا. لذا فإن العذارى المذكورات في الإنجيل يشعلن على الدوام مصابيحهن. وأخبر التلاميذ أن يكونوا على الدوام ممنطقين أحقائهم وموقدين مصابيحهم. ونقرأ عن يوحنا المعمدان: "كان هو السراج الموقد المنير"، حتى أنه النور الحسّي يشير إلى النور الذي نقرأ عنه في المزمور: "كلامك سراج لقدميّ يا رب، ونور لسبلي" (مز 105:119)(647).]
*هذا السراج قد أُعد بسبب ارتباكهم، فمن أجل هذا قيل في المزامير منذ زمن طويل: "هيأت سراجًا لمسيحي" (مز 91: 17). ماذا يكون السراج بالنسبة للشمس؟(648)
القديس أغسطينوس
*"بنوره ساعة": هو قول يوضح بسهولة ميلهم وأنهم ولوا عن يوحنا مبتعدين عنه بسرعة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
6. شهادة آياته وأعماله
"وأما أنا، فلي شهادة أعظم من يوحنا،
لأن الأعمال التي أعطاني الآب لأكملها،
هذه الأعمال بعينها التي أنا اعملها،
هي تشهد لي أن الآب قد أرسلني". [36]
كثيرا ما يتحدث السيد المسيح عن شهادة أعماله لشخصه ولرسالته (يو 10: 25، 32، 37، 38؛ 14: 10، 11). هنا لا يعنى بالأعمال كثرة المعجزات والآيات وتنوعها فحسب وإنما أعمال محبته الفائقة، وسلوكه أثناء عمل المعجزات، وحبه العجيب للبشرية إذ كثيرًا ما نسمع أنه "تحنن عليهم وشفاهم"، هذا بجانب أيضًا أحاديثه، والأحداث الفريدة في حياته مثل سماع صوت الآب عند عماده وتجليه، وغلبته لإبليس في التجربة. يشير السيد هنا إلى شفاء المفلوج كشهادة عملية لكي يقبلوا شخصه وتعاليمه فيخلصوا.
كلمة "العطاء" هنا لا تفيد أن ينال الابن ما لم يكن لديه، لكنه تحقيق العمل الإلهي الذي هو للآب والابن وتكميله. فالخلاص علي سبيل المثال هو عمل الثالوث القدوس، الأب يرسل ابنه إلى العالم ليقدم نفسه ذبيحة، والروح القدس يهيئ أحشاء القديسة مريم لتحقيق التجسد الإلهي. فلا فصل ولا ارتباك ولا ازدواج بين عمل الآب والابن والروح، إنما العمل الإلهي واحد. ولقد أعلن السيد علي الصليب أنه أكمل العمل (يو 19: 28). وكما يقول الرسول بولس: "لأنه لاق بذاك الذي من أجله الكل وبه الكل وهو آت بأبناء كثيرين إلى المجد أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام"(عب 2: 10).
*الغرض الذي كان يحرص عليه أولًا هو أن يصدقوا أنه جاء من الله، وهو أقل بكثير من تصديقهم أنه إله معادل لأبيه.
القديس يوحنا الذهبي الفم
7. شهادة الآب له
"والآب نفسه الذي أرسلني يشهد (قد شهد) لي لم تسمعوا صوته قط،
ولا أبصرتم هيئته". [37]
لقد شهد له الآب نفسه علي فم الأنبياء كما ورد في العهد القديم وانتهى بشهادة القديس يوحنا المعمدان. وأخيرا شهد له الآب بصوته من السماء يوم عماده (مت 3: 17)، وفي تجليه أمام ثلاثة من تلاميذه.
*إن سألت: وأين شهد له؟ أجبتك: في الأردن قائلًا: "هذا هو ابنى الحبيب الذي به سررت" (مت 3: 17)...
أوضح أنه ليس في الله صوت وليس له صورة، لكنه هو أعلى من كل الأشكال والنغمات التي هذه صفتها.
القديس يوحنا الذهبي الفم
"لم تسمعوا صوته قط، ولا أبصرتم هيئته". [37]يحدثنا القديس أغسطينوس في هذا الشأن قائلاً: [لا تستسلموا للتفكير بأنكم ترون للَّه وجهًا جسديًا، لئلا بتفكيركم هذا تهيئون أعينكم الجسدية لرؤيته فتبحثون عن وجه... تنبهوا من هو هذا الذي نقول له بإخلاص:"لك قال قلبي... وجهك يا رب أطلب"... لتبحثوا عنه بقلوبكم. يتحدث الكتاب المقدس عن وجه اللَّه وذراعه ويديه وقدميه وكرسيه وموطئ قدميه... لكن لا تحسبوا أنه يقصد بها أعضاء بشرية. فإن أردتم أن تكونوا هيكل اللَّه فلتكسروا تمثال البهتان هذا(649).]
* إنه ليس مثلنا يُدرك من جانب دونآخر. فإن مثل هذا تجديف لا يليق بجوهر اللٌه الذي يعرف الأمور قبل كونها، قدوس وقدير، يفوق الكل في الصلاح والعظمة والحكمة.
لا يمكنناأن نخبر عن بداية له أو شكل أو مظهر، إذ يقول الكتاب:"لم تسمعوا صوته قط ولا أبصرتم هيئته". وكما قال موسى:"احتفظوا جدًا لأنفسكم فإنكم لم تروا صورة ما "يوم كلمتكم".
فإذ يستحيل تمامًا رؤية شكله، كيف تفكر في الاقتراب من جوهره؟!(650)
القديس كيرلس الأورشليمي
8. شهادة الكتاب المقدس له
"وليست لكم كلمته ثابتة فيكم،
لأن الذي أرسله هو لستم أنتم تؤمنون به". [38]
وإن كنتم تؤمنون بالكتاب المقدس وما يحويه من نبوات إلاَّ أن قلوبكم غير ثابتة في الكلمة. تنطقون بها بألسنتكم، وترفضها قلوبكم، لأنه إذ تحققت النبوات بمجيئي لم تقبلوني. إنكم تقتنون الكتب لكنكم ترفضون خلاصكم. على نقيض داود النبي القائل: "خبأت كلامك في قلبي لئلا أخطئ إليك" (مز 119: 11).
"فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية،
وهي التي تشهد لي". [39]
كأنه يقول لهم: "لا يكفي أنكم تفتخرون باقتنائكم الكتب، وأنكم تقرأونها، إنما يلزم أن تفتشوا فيها باجتهاد لتتمتعوا بخلاصكم وحياتكم الأبدية، فإن جميعها تدور حول مجيئي إليكم". يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن العبارة هنا تشير إلى الذين يبحثون عن المعادن النفيسة في بطن الأرض، يحفرون المناجم ويبحثون باهتمام عن المعدن النفيس حتى يجدوه.
استخدم السيد المسيح هذه النبوات في حديثه مع تلميذيه اللذين كانا في طريقهما إلى عمواس يوم قيامته: "ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب" (لو 24: 27).
ويوجهنا القديس بطرس الرسول إلي هذه الشهادة الحية فيقول: "وعندنا الكلمة النبوية وهي أثبت، التي تفعلون حسنًا إن انتبهتم إليها كما إلى سراجٍ منيرٍ في موضع مظلم، إلى أن ينفجر النهار، ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم، عالمين هذا أولًا أن كل نبوة الكتاب ليست من تفسير خاص، لأنه لم تأتِ نبوة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون، مسوقين من الروح القدس" (2 بط 1:17-21). كما يقول: "الخلاص الذي فتش وبحث عنه أنبياء الذين تنبأوا عن النعمة التي لأجلكم، باحثين أي وقت أو ما الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح الذي فيهم، إذ سبق فشهد بالآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها" (1 بط 1: 10-11).
*أرسل المسيح اليهود إلى الكتب ليس للقراءة العادية لها، لكنه أرسلهم ليبحثوها بحثًا بليغًا متصفحًا، لأنه لم يقل اقرأوا الكتب بل قال: "فتشوا الكتب"، لهذا يأمرهم أن يتعمقوا فيها، لأن الأقوال التي قيلت عنه تحتاج إلى اهتمامٍ كبيرٍ ليمكنهم أن يجدوا الفوائد الموضوعة في أعماقها.
القديس يوحنا الذهبي الفم
*نقول بالصدق أن الفهم اللفظي للنص يكفى كما في حالة موسى الذي أصدر قانون الفصح. يؤكل اللحم الظاهر ولكن يترك ما يختفي داخل العظم (خروج 9:12). فإذا رغب أحد في النخاع المختفي للنص، لنتركه يبحث عنه عند ذاك الذي يكشف عن الأسرار المختفية لمن هم يستحقون. إلا أننا يجب أن لا نعطى الانطباع على أننا سنترك النص دون اختبار وتمحيص، وسوف لا نهمل أمر اللّه، الذي يحفزنا على أن نفتش الكتب (يو 39:5)(651).
القديس غريغوريوس النيسي
"ولا تريدون أن تأتوا إليّ لتكون لكم حياة". [40]
إنهم يبحثون في الكتب المقدسة في غير إخلاص، فيقدمون دراسات وتفاسير وهم متجاهلون جوهر الكتب، شخص المسيا، إذ لا يريدون أن يلتقوا به ويؤمنوا به ليتمتعوا بالحياة.
"مجدًا من الناس لستأقبل". [41]
لم يطلب منهم هذا عن احتياج إلى تكريم منهم، فإن خلاص الإنسان لا يضيف إلى الله شيئًا، ولا هلاك الإنسان يسيء إلى الله، إنما مسرة الله محب البشر هو بنيان الإنسان ومجده الأبدي.
"ولكني قد عرفتكم أن ليست لكم محبة الله فيأنفسكم". [42]
لقد قاوموا السيد المسيح تحت ستار غيرتهم على الله وعلى مجده وعلى ناموسه، وأنهم يدافعون عن الحق الإلهي، لأن يسوع كاسر للناموس ومجدف، حيث يساوي نفسه بالآب. ها هو يكشف لهم أعماقهم أنهم لا يحملون حبًا صادقًا لله ولا غيرة على اسمه ومجده وناموسه، فإنه لو كان لهم هذا الحب لكانوا عرفوا بالحق من هو يسوع، وأدركوا شخصه وعمله. لم يكن ممكنًا لشخصٍ آخر أن يتجاسر ويعلن ما أعلنه السيد أن محبة الله ليست في قلوبهم.
*يقول قائل للمسيح: لِم تقول هذه الأقوال؟ يجيب: "أقولها حتى أوبخهم، لأنهم لم يطردوني لأجل حب الله. إذ كان الله يشهد لي بأفعاله وأنبيائه لأنهم على نحو ما ظنوا قبل هذا الوقت أنني ضد لله فطردوني، كذلك الآن منذ أريتهم هذه المعجزات وجب عليهم أن يبادروا إليّ لو أنهم أحبوا الله إلا أنهم لم يحبوه".
القديس يوحنا الذهبي الفم
"أنا قد أتيت باسم أبي ولستم تقبلونني.
إن أتى آخر باسم نفسه فذلك تقبلونه". [43]
يرى القديس أمبروسيوس مع تمايز الأقانيم وجود وحدة في الاسم الإلهي، لهذا يتم العماد باسم الآب والابن والروح القدس وليس "بأسماء" (مت 19:28). وقد جاء الابن باسم الآب (43:5)، وكما يُدعى الروح القدس بالباراكليت (الشفيع أو المحامي). هكذا أيضًا يُدعى الابن (1 يو 1:2). وكما يتحدث السيد المسيح عن نفسه قائلًا: "أنا هو الحق" (يو 6:14)، يُدعى الروح القدس أيضًا "الحق" (1 يو 7:5)(652). أيضًا يُدعى كل من الآب والابن والروح القدس "النور" (1 يو 5:1؛ يو 8:1-9؛ إش 2:9؛ مز 6:4) (653). وهكذا الأقانيم الثلاثة يدعوا "الحياة"(654).
كان الحاخامات يعتزون جدًا بأن من يقدم نفسه معلمًا يشهد له شخص أو أشخاص لهم مكانتهم الدينية، لهذا كان شاول الطرسوسي يعتز بشهادة معلمه غمالائيل. لقد جاء ربنا يسوع يشهد له الآب، ويتكلم باسمه، ويطلب مجده، أما أضداد المسيح فيأتون بأسماء أنفسهم (مت 24: 5).
*لقد أظهر الالتزام بتعليم وحدة الاسم الإلهي، وعدم وجود اختلاف، حيث أن المسيح جاء في وحدة الاسم، أما ضد المسيح فسيأتي باسمه الخاص به... علمنا بكل وضوح من خلال هذه العبارات (مت 19:28؛ يو 26:14؛ أع 12:4؛ يو 43:5) أنه لا يوجد فارق في الاسم (الإلهي) في الآب والابن والروح القدس(655).
القديس أمبروسيوس
*لم يقبل اليهود الرب يسوع المسيح الذي هو أبن الله وهو الله، لكنهم سيقبلون المحتال الذي يدعو نفسه الله(656)
الأب يوحنا الدمشقي
*من هو هذا الذي قال عنه أنه يأتي باسم نفسه؟ إنه يذكر هنا بطريقة غامضة أن الذي يأتي هو ضد المسيح.
القديس يوحنا الذهبي الفم
*قيل عن ضد المسيح وعن كل الذين ينكرون الرب هذا: "أنا قد أتيت باسم أبي ولستم تقبلوني. إن أتى آخر باسم نفسه فذلك تقبلونه" [43]. لنسمع أيضًا يوحنا: "سمعتم أن ضد المسيح يأتي، قد صار الآن أضداد للمسيح كثيرون" (1 يو 2: 18). ماذا في ضد المسيح؟ نحن نرتعب منه، إلاَّ أن اسمه يُكرم ويحتقر اسم الرب؟ ماذا يقول سوى: "إني أبرر ذاتي"؟ نجيبه: "أنا أتيت إلى المسيح لا بقدمي بل بقلبي. حيث سمعت الإنجيل هناك آمنت. هناك اعتمدت، فإني إذ آمنت بالمسيح آمنت بالله"(657)
القديس أغسطينوس
"كيف تقدرون أن تؤمنوا، وأنتم تقبلون مجدًا بعضكم من بعض،
والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه؟" [44]
أوضح السيد المسيح أن مشكلتهم قائمة في أعماقهم، ففسادهم أعمى أعينهم عن معرفة الحق وقبوله. فالعائق الرئيسي لخلاص الكتبة والفريسيين هو كبرياؤهم. فإنهم يفضلون فقدان خلاصهم وهلاك نفوسهم عن أن تُمس سمعتهم وسط الشعب. يهتمون بما يقوله الناس عنهم، لا بما يشهد به الله عنهم.
*أراهم أنهم لم يطلبوا حقوق الله، لكنهم بتظاهرهم هذا أرادوا أن ينتصروا لمرضهم، فابتعدوا عن مجد الله، لأنهم رغبوا المجد الإنساني أكثر من المجد الذي من الله.
القديس يوحنا الذهبي الفم
*يلزمكم أن تهتموا بتجنب شباك هوى المجد الباطل. يقول يسوع: "كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجدًا بعضكم من بعض؟"[44] أي شر هذا الذي ضحيته لا نقدر أن نؤمن! ليتنا بالأحرى نقول: "أنت مجدي" (إر 24:9)، وأيضًا "من يفتخر فليفتخر في الرب" (1 كو 31:1)، "إن كنتُ بعد أُرضي الناس فلستُ عبدًا للمسيح" (غلا 10:1). "حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح، الذي به قد صُلب العالم لي وأنا للعالم"(658).
القديس جيروم
"لا تظنوا إني أشكوكم إلى الآب،
يوجد الذي يشكوكم،
وهو موسى الذي عليه رجاؤكم". [45]
اتهموه بكسر السبت، وقد أثبت لهم أن بعمله هذا يقدس السبت لأنه يعمل حسب مسرة الآب. الآن وقد ظهر بطلان اتهامهم، فإنه لم يقم بدوره باتهامهم ككاسري الناموس كله، فإنه ليس بمحتاج إلى ذلك، ولا جاء لهذا الغرض. إنه لم يتجسد ليدين الناس بل ليخلصهم. إنه يترك موسى نفسه الذي يثقون فيه، هو نفسه يتهمهم ويدينهم.
"لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني،
لأنه هو كتب عني". [46]
جاءت أسفار موسى الخمسة مشحونة بالرموز والنبوات التي تشهد لشخص السيد المسيح وميلاده وخدمته وصلبه وقيامته كمخلص للعالم. فمن يصدق موسى يصدق السيد المسيح نفسه، لأن فيه تمت النبوات.
"فإن كنتم لستم تصدقون كتب ذاك فكيف تصدقون كلامي؟" [47]
إن كانوا لا يفتحون قلوبهم للنبوات ويدركون أعماق الناموس بل يتمسكون بالحرف بطريقة جافة، فكيف يمكنهم أن يتمتعوا بشخص السيد المسيح عصب الكتاب ومركزه؟ لديهم الحقل لكنهم لا يبحثون عن الكنز المخفي فيه. يقول القديس بولس أنه لا يزال البرقع موضوعًا على قلوبهم إلى اليوم حين يُقرأ موسى (2 كو 3: 15)، فلا يدركون غاية الكلمة الإلهية.
خُتم حديث السيد المسيح بصمت كامل من جهة المقاومين، إذ لم يكن لديهم ما يجيبون عليه. ويبدو أن كل ما قد فعلوه أنهم رفعوا الاتهام عنه في صمت، أما قلوبهم فازدادت تحجرًا، تترقب فرصة أخرى ليمسكوه بها.
من وحي يو 5
ليس لي إنسان!
*نفسي تئن مع مريض بيت حسدا.
دخلتُ معه كما من الأروقة الخمسة.
دخلت خلال كتاب موسى الخمسة،
سقطت تحت الناموس الذي فضح ضعفي.
اكتشفت إني مريض، محتاج إلى طبيب سماوي!
*عبَرَ عمري وكأنه 38 عامًا، ينقصني فيه الحب الحقيقي!
ليس لي إنسان يلقيني في مياه الحب الإلهي فأُشفى!
من يهبني الحب الحقيقي للَّه واخوتي؟
من يسندني لأكمل ناموس الحب فأبرأ؟
*كثيرًا ما عبرت يا طبيب النفوس!
كأنك قد تركت الكل لتبحث عن ضعفي،
فإني أول الخطاة!
كنت بالحب تردد بلا توقف:
أتريد أن تبرأ؟
لغباوتي لم أسمع صوتك!
أحببت ضجيج العالم، وانشغلت به.
ليس لي أذنان تسمعان صوت الحب السماوي!
صوتك حلو، لكن لثقل أذناي لم استمع إليه!
*روحك القدوس العجيب سحب قلبي إليك.
سمعت صوتك الحلو،
وتمتعت بوجهك الأبرع جمالًا من بني البشر!
اعترفت لك بحاجتي لمن يشفيني.
*على كلمتك القديرة قمت من فراشي،
وفي طاعة لوصيتك حملت سريري، منطلقًا إلى بيتي!
حملت سرير مرضي،
أراه فأذكر ضعفي وموتي،
بل أذكر قدرتك يا واهب الغفران والحياة.
إني أسير، وأبقى أسير حتى أدخل بيتي.
لن أستريح حتى أبلغ أحضان أبيك، بيتي الأبدي!
*حوّلت حياتي كلها إلى سبتٍ دائمٍ،
تحوّل زماني إلى عيدٍ وراحة فائقة.
عبرت بي إلى عربون الأبدية،
لأتمتع بشركة الطبيعة الإلهية.
كتاب :عدم التذمر بين الغنى المادي والغنى الروحي - القديس يوحنا ذهبي الفم - عصر نيقية وما بعد نيقية
القديس يوحنا الذهبي الفم
ملاحظة: هذه الترجمة من أعمال الكنيسة القبطية
في حديثنا عن موضوع المفلوج الملقي علي سريره بجوار البركة. نكتشف كنزاً وفيراً وعظيماً. لا بالحفر في الارض بل بالتعمق في داخل القلب ، نجد كنزاً لا من الفضة أو الذهب أو الحجارة الكريمة ، بل من الاحتمال والحكمة والصبر والرجاء العظيم في الله. الأمور التي تفوق كل صنوف اللآلي ومصادر الغني.
فمادة الغني يمكن أن يسلبها اللصوص وتكون موضع حيل المحتالين الاشرار ودناءة الخدم. . بل وتسبب عواصف من المتاعب لا حصر لها. أما الغني الروحي فليس فيه مجال للتعرض لمثل هذه المساوئ ، بل يسمو علي كل فساد من هذا النوع ، ويضحك مستهزءاً باللصوص وسراق المنازل والقتلة والمحتلين الأشرار بالموت ذاته.
فالغني ( الروحي ) لا يعرض صاحبه للموت بل يعطيه صوناً منه ، فيرحل معه في رحلته إلى العالم الاخر. . . ويسير مدافعاً عجيباً عنه ، يحنن قلب القاضي عليه.
لاتتذمر
لنتأمل في إلهنا الرحوم. ونتطلع متفرسين في عبده المريض هذا الذي له ثمانية وثلاثون عاماً يناضل مع ضعف يستصعي شفاءه. . . ومع ذلك لم يتذمر قط ،ولا قوه بكلمة تجديف. لم يتهم خالقه بل في شجاعة ووداعة عظيمة جداً احتمل كارثته
قد نقول ومن أين يظهر ذلك لان الكتاب المقدس لم يذكر لنا شيئاً بوضوح في حياته الأولى ، وكل ما قاله عنه أن له ثمانية وثلاثين عاماً في ضعفه ؟ أنه لم يذكر كلمة تأكد أنه لم يظهر تذمراً أو غضباً أو حده. ومع ذلك فمن يمعن النظر جيداً في الكتاب المقدس يجده قد أوضح هذا. .
عندما اقترب منه السيد المسيح الذي كان بالنسبة له غريب وينظر إليه كانسان عادي ، تحدث معه بوداعة عظيمة ، منها تدرك مقدار حكمه السابقة ( قبل المرض ). لأنه عندما قال له يسوع " أتريد أن تبرأ " لم يجبه بهذه الايجابية الطبيعية " ها أنت تراني هكذا ملقي منذ أمد طويل بمرض الفالج ، ومع هذا تسألني إن كنت أريد أن ابرأ ؟! هل أتيت لكي تزيد من كارثتي وتوبخني وتضحك علي وتحتقرني هازءا بمصيبتي ؟
أنه لم يقل شيئاً من هذا ولا فكر بهذا ، بل بوداعة أجاب : نعم يا سيد
أن كان له هذه الوداعة وذلك النبل بعد ثمانية وثلاثين عاماً ينهار فيها نشاطه وقوته التي لقتدراته النبيلة ، فتأمل كم كانت وداعته وكم كان نيله قبل ان تحل به هذه الالام؟! لأنه بالتأكيد لا يكون رضي المرضي في بداية مرضهم مثله بعد ما يطول بهم المرض. . . بل يزيدادون شراسة.
ولكن ان كان لهذا المريض هذه الحكمة ويجيب بصبر عظيم هكذا بعد مرض طال سنوات هذا عددها ، فأنه بالتأكيد كان قبلاً يحتمل التجربة بشكر عظيم.
فالنقتقد بالصبر هذا العبد زاميلنا ، لأن الفالج الذي به يكفي لأنعاش روحنا. لأنه من يلاحظ عظم هذه الكارثة. . ويبقي في جسده منبطحاً علي ظهره ؟أما يحتمل بشجاعة كل ما يحيق به من شرور ولو كان أثقل بكثير مما نعرفه ؟
لقد صار هذا المفلوج لنا فيه نفع عظيم لا في صحة جسدة بل وفي مرضة. فشفاؤه يبعث في أرواح المستمعين أن تمجد الله ، أما مرضه وضعفه فيشجعانك علي الاحتمال ، ويحثانك علي الإقتداء بغيرته ، اذ بالحري يكشفان لك عن حب الله
الله يحبك !
شفاء هذا الرجل من مثل هذا المرض بعد ما طال به المرض ، انما هو احدي علامات العناية ( الإلهيه ) العظيمة لأجل نفعه :
فكما يلقي ممحص الذهب بقطعة الذهب في الفرن لتحتمل النار الى حين حتي يراها قد تنقت. هكذا يسمح الله بامتحان البشر بالضيقات حتي تتنقي وتحصل علي نفع عظيم من عملية الغربلة. وهذا من أعظم المنافع التي ننالها. فليتنا لا نضطرب ولا نيأس عندما تحل بنا التجارب لانه كما ان ممحص الذهب يعلم الزمن الذي ينبغي أن يترك فيه الذهب في الفرن فيخرجه في الوقت المعين ولا يتركه بعد في النار حتي لا يفسد ولا يحترق هكذا كم بالأكثر يعلم الله ذلك ، عندما يرانا قد تنقينا بالأكثر ، يعنقنا من تجاربنا حتي لا ننطرح ونطرد بسبب تزايد شرورنا.
فعندما يحل بنا أمر ما لم نكن نتوقعه،لانتذمر ولاتخور قلوبنا ،بل نتحمل الله الذي يعرف هذه الأمور بدقه ،حتي يمتحن قلوبنا بالنار كيفما يسر ،إذ يفعل هذا بهدف نافع وبقصد فائدة المجربين لذلك يوصينا الحكيم قائلاً بأن نخضع الله في كل الأمور ،لأنه يعرف تماماً متي يخرجنا من فرن الشر. حكمة يشوع 1:1 ،2
الله طبيب نفسك !
لنخضع له علي الدوام ،ونشكره باستمرار،محتملين كل شيء برضي،سواء عندما يمنحنا بركات أو يقدم لنا تأديبات. لأن هذه الأخيرة هي نوع من انواع البركات.
فالطبيب ليس فقط عندما يسمح لنا بالاستحمام ( في الحمامات ) أو الذهاب الي الحدائق المبهجة بل وايضاً عندما يستخدم المبعض والسكين ، هو طبيب !
والأب ليس فقط عندما يلاطف إبنه،بل وعندما يؤدبه ويعاقبه. . هو أب!
وإذ نعلم أن الله أكثر حنواً من كل الأطباء ،فليس لنا أن نستقصي عن معاملته ،ولاأن نطلب منه حساباً عنها،بل ما يحسن في عينيه يفعله ، فلا نميز إن كان يعتقنا من التجربة أو يؤدبنا لأنه بكلا الطريقين يود ردنا الي الصحة ،ويجعلنا شركاء معه ،وهو يعلم احتياجاتنا المختلفة ،وما يناسب كل واحد منا وكيف،وبأي طريقة يلزمنا أن نخلص،وخلال هذا الطريق يقودنا.
لنتبعه حيثما يأمرنا،ولانفكر كثيراً إن كان يأمرنا أن نسلك طريقاً سهلاً وممهداً،أو طريقاً صعباً وعراً كما في حالة المفلوج.
الله يعين أثناء التجربة
عندما كانت نفس المفلوج تعاني لفترة طويلة من الأتعاب ، فأن أحد منافعها الحقيقية هو تسليمها للتجربة المتقدة المحزنة كأحد أنواع الأفران،وأما النفع الأخر الذي لايقل عن هذا فهو أن " الله كان حاضراً مع المفلوج في وسط بلاياه مقدماً له عزاء عظيماً "
الله هو الذي قواه وسنده وأمسك بيده لايسقط فإننا إن كنا حكماء بلا حدود ،حتي وإن كنا قادرين وأقوياء أكثر من كل البشر ، لكن في غياب النعمة الإلهية لانقدر أن نقف حتي أمام التجارب العادية جداً.
ولماذا أتكلم بخصوص من كلا شيء ( في مستواهم الروحي )مثلنا ،لأنه حتي بولس أو بطرس أو يعقوب أو يوحنا ،لو نزعت العناية الإلهية عن أحدهم لسقط للحال في العار وطرح مستلقياً أرضاً.
أمثلة :عن هؤلاء أقرأ لك كلمات المسيح نفسه. إذًا يقول لبطرس: "هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة. ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفني إيمانك "لو31:22 ،32
ماذا يعني بقوله " يغربلكم"؟ أي يدور بكم ويثنيكم ويثيركم ويحطمكم ويقلقكم، الأمور التي تحدث أثناء الغريلة.
يقول : لكنني أصده ،عارفاً بعجزك عن احتمال التجربة ،لأن قوله " لكي لا يفني إيمانك " ينطق بها ذاك الذي يعني أنه لو سمح بها لهلك إيمانه.
فإن كان بطرس، الذي كان هكذا غيوراً في حبه للرب، مقدماًً حياته عنه مرات كثيرة، نائلاً رتبة الرسولية ،ودعاه سيدة " مطوباً " ، ولقبه " بطرس " لحفظه ايماناً ثابتاً قوياً وتمسكه به ، بطرس هذا كان يمكن أن يهلك وتنزع عنه وظيفته لو سمح المسيح للشيطان أن يجربه بالقدر الذي كان الشيطان يريده فمن يقدر أن يثبت بدون معونة المسيح؟
لذلك يقول بولس ايضاً " ولكن الله أمين الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون بل سيجعل مع التجربة أيضاً المنفذ فقط أنه لا يسمح بالتجربة فوق طاقتنا ،بل وحتي لتلك التي هي قدر طاقتنا فانه يحملنا معنا ويسندنا ، فقط إن كان من جانبنا نعمل قدر استطاعتنا ،مظهرين الغيرة والرجاء في الله والشكر والاحتمال والصبر.
فليس فقط في التجارب التي هي فوق استطاعتنا ،بل وتلك التي هي في قدرتنا. نحتاج الي العون الإلهي ،ان كنا ثابتين بشجاعة ،فقد قيل في موضع اخر أنه كلما كثرت ألام المسيح فينا،حتي نعزي الذين هم في أي ضيقة بالتعزية التي فينا من الله( كو5:1 ،4 )
هكذا اذاً الذي عزي المفلوج ،هو نفسه الذي سمح له بالتجربة أن تحدق به.
يسوع يهتم بنا !!
انظر بعد شفائه، أي حنو قدمه المسيح له. لأنه لم يتركه أو يتخلي عنه بعد الشفاء، بل اذ وجده في الهيكل قال له "ها أنت قد برئت فلا تخطيء ايضاً لئلا يكون لك أشر " يو14:5.
فلو أن يسوع كان قد سمح له بالتأديب لأنه يكرهه ما كان قد أبرأه ،ولما كان قد دبرله سلامه المقبل قائلاً له : " لئلا يكون لك أشر " إنما نطق بهذا ذاك الذي يرغب أن يصد عنه شروراً مقبلة تلحق به. لقد وضع حداً للمرض. لكنه لم يضع حداً للصراع ( للجهاد)
نزع الضعف لكنه لم ينزع الخوف من الضعف. حتي تبقي الفائدة التي قدمها له ثابتة. هذا هو عمل الطبيب طيب القلب ليس فقط ينزع الألام الحالية بل ويحتاط للمستقبل بالوقاية. هذا هو ما صنعه السيد المسيح مشدداً روح المفلوج بتذكيره الأحداث الماضية،لأنه بنظره أن الأشياء التي تضايقنا قد انتهت،وان ذكراها ينتهي ،يود أن يذكرنا بها دائماً قائلاً " فلا تخطيء ايضاً لئلا يكون لك أشر "
الله يستر علينا !!
علاوة علي هذا ،فانه يمكننا أن نفطن الي بعد تفكيره ،لا في هذا الأمر فحسب بل وفي كون يسوع يظهر كمنتهر. لأنه لم يشهر بخطاياه علناً ومع ذلك فقد اخبره أن ما عاناه كان بسبب خطاياه. أما ما هي خطاياه فلم يكشفها يسوع ، ولاقال له " أنت مخطيء" او " أنت عاصي " بل اشار الي حقيقة كخاطيء بتعبير واحد بسيط "لاتخطيء ايضاً "
وبقوله هذا مذكراً اياه اخطاياه السابقة ، ينبهه بالأكثر ان يحتاط في المستقبل. وفي نفس الوقت أعلن لنا جميعاً صبره وشجاعته وحكمته. . . دون أن يكشف خطاياه عناً.
فكما نرغب نحن في ستر خطايانا ،كذلك يريد الله أن يستر علينا أكثر مما نريد نحن لهذا شفي المفلوج علناً في حضرة الجميع لكنه قدم له النصيحة خفيه. فانه لن يفضح خطايانا علناً، اللهم إلا إذا رأي الانسان مستهترأ لا يشعر بخطاياه.
يوبخ لكنه يحب !!
عندما يقول " لأني جعت فلم تطعموني، عطشت فلم تسقوني" مت42:25 ،ينطق بهذا في الوقت الحاضر حتي لا نسمعها في العالم الأتي.
انه يهددنا ،انه يفضحنا في هذا العالم حتي لا يفضحنا في العالم الأخر. وعندما هدد أهل نينوي بهلاك مدينتهم ( يونان 2:1) هدد لهذا السبب ،أي لكي لا يهلكها.
فلو أنه يود التشهير بخطايانا ما كان يهددنا بالتشهير ،إنما ينطق بذلك لكي يرتقي بنا ،حتي يخفينا من الفضيحة وان لم نرتدع يستخدم التخويف بالعقاب، بهذا نتنقي من خطايانا.
هذا ايضاً ما يحدث في حالة العماد ،فان يسوع يقود الإنسان الي بركة الماء من غير أن يفضح خطايا أي إنسان منا لكنه يقدم النعمة علناً ويظهرها للجميع. .
هذا ايضاً ماقدحدث في حالة هذا المفلوج ،فأن يسوع وبخه في غير حضرة شهود ،بل بالحري ان كلماته لم تكن توبيخاً بل ايضاً تبريراً. يسوع بررنفسه. . مؤكداً له أنه حمله هذا الحزن لمدة طويلة ليس بلا سبب أو بلا هدف. فاذ ذكره بخطاياه ،اعلن له سبب ضعفه،اذ نقرأ "بعد ذلك وجده يسوع في الهيل وقال له. . فلا تخطيء ايضاً لئلا يكون لك أشر".
حكمة يسوع في المعجزتين
والأن بعدما استخلصنا نفعاً عظيماً من جهة المفلوج السابق فلنحول انظارنا تجاه المفلوج الذي قدمه لنا الإنجيلي متي ( الذي دلوه أربعة من السقف ) لأنه عندما يجد انسان قطعة ذهبية ينقب في نفس المكان أكثر. .
بقي لنا أن نعود الي بدايه القصة وننظر كيف شفي المسيح الواحد ولأخر،فاختلفت الطريقة في حالة عنها في الأخري.
لماذا شفي واحد يوم السبت والأخر في غير السبت.
لماذا جاء الي أحدهما بنفسه،بينما انتظر الأخر يحضره اصدقاؤه.
لماذا شفي جسد أحدهما أولاً ، بينما شفي روح الثاني اولاً !! فيسوع لم يصنع شيئاً اعتباطاً بغير معني. . بل لنصغي اليه ونلاحظه وهو يهب الشفاء. .
اولاً :الايمان والشفاء
تقديم
يسوع في شفائه للمفلوج أبرز لنا عدم تذمره ،وفي نفس الوقت علمنا أنه ساتر الخطايا، يظهر ما للمفلوج من حسنات بينما ينتهره خفية.
والدرس الثالث الذي يقدمه لنا ،انه رغم عدم ايمانه لكنه لم يحرمه من الشفاء. فالله الخالق يحب الكل ويعطي البركات الجسدية بلا حساب حتي للذين يسيئون اليه " فانه يشرق شمسه علي الأشرار والصالحين ويمطر علي الأبرار والظالمين "مت54:5
لكنه في الشفاء الروحي لا يهبه إلا للمؤمنين به كفادي ومخلص لنفوسهم.
شفاء رغم عدم الايمان !!
دعنا نتأمل السيد المسيح وهو يشفي المفلوج " فدخل السفينة واجتاز الي مدينته واذا مفلوج يقدمونه اليه مطروحاً علي فراش فلما رأي يسوع ايمانهم قال للمفلوج ثق يابني مغفورة لك خطاياك " مت 1:9 ،2.
إنه كان أقل إيماناً من قائد المئة، لكنه أكثر ايمانا من المفلوج الملقي بجوار البركة لأن قائد المئة لم يدعو الطبيب لزيارته ولا جاء بالمريض اليه بل تلامس معه كإله قائلاً " قل كلمة فيبرأ غلامي " لو 7:7.
هؤلاء الرجال ( حاملوا المفلوج ) لم يدعوا الطبيب ( لزيارة المريض ) في البيت وكانوا أبعد ما يكون عن أن يتساووا مع قائد المءة اذ احضروا المريض الي الطبيب ولم يقولوا " قل كلمة فقط ".
غير أن هؤلاء كانوا أكثر إيماناً من المريض الملقي عند البركة لأن هذا قال " يا سيد ليس انسان يلقيني في البركة متي تحرك الماء "يو6:5. أما هؤلاء الرجال فعرفوا السيد المسيحانه ليس بمحتاج الي ماء أو بركة أو شيء من هذا القبيل.
وقد شفي يسوع غلام قائد المئة من مرضه،وكذلك الإثنين الأخرين،ولم يقل لأحدهما "لأنك قدمت درجة قليلة من الإيمان يكون شفاؤك قليلاً "إنما صرف الرجل الذي أعلن ايماناً عظيماً بمديح وكرامة. . أما الذي أظهر إيماناً أقل فلم يمدحه لم يحرمه من الشفاء. لا بل حتي لم يظهر إيماناً بالمرة شفاه !!
وكما أن الاطباء عندما يعالجون نفس المرض ،يأخذون من شخص مئة قطعة من الذهب ،ومن اخرين نصف المبلغ، واخرين لا ياخذون منهم شيئاً بالمرة. هكذا ايضاً المسيح أخذ من قائد المئة ايماناً عظيماً لاينطق به ( لو9:7) والثاني ايمان أقل والثالث لم يأخذ منه حتي الإيمان العادي. . لكنه شفي الجميع
لماذا وهب الشفاء لمن يقدم ايماناً بالمرة ؟ لأن فشله في اظهار الإيمان ،لم يكن عن كسل أو عدم احساس في الروح، انما عن جهله بالمسيح وعدم سماعه قط عن أي معجزة صنعها ،لاكبيرة ولاصغيرة.
لهذا السبب نال هذا الرجل ترفقاً. وقد أشار الإنجيلي عن ذلك بطريقة غامضة بقوله "فلم يكن يعلم من هو" يو 13:5. انما عرفه فقط. . عندما أضاء عليه في المرة الثانية.
ثانياً: يسوع يريد ايمانك انت
يقول البعض بان هذا الرجل قد شفي لمجرد ايمان الحاملين له ولكن هذه ليس الحقيقة لأن القول " فلما رأي يسوع ايمانهم " مت 2:9 لا يشير الي ايمانهم وحده بل وايمان الذين كانوا يحملونه لماذا ؟
تقول :ألم يشفي أحد لاجل ايمان أخر ؟
في رأيي ما أظن هذا إلا في حالة عدم نضج السن ( القاصر ) أو الضعف الشديد لدرجة عدم القدرة علي الايمان.
تقول كيف هذا فإنه في حالة المرأة الكنعانية ،الأم أمنت والبنة شفيت ،وفي حالة غلام قائد المئة أمن القائد أن يسوع قادر أن يقيم الغلام من فراش المرض وقد تم ذلك. . ذلك لأن المريضين في الحالتين كانا عاجزين عن أن يؤمنا.
أما في الحالة التي أمامنا فلا نقدر أن نقول هذا ،لأن المفلوج أمن. كيف يظهر هذا ؟من طريقة إقترابه للسيد المسيح فلا تصغي بلا اهتمام الي العبارة القائلة انهم دلوه من السقف بل تأمل كيف أن مريضاً يمكن أن يكون له الثبات علي مكابدة إنزاله مدلياً من السقف.
أنت تعلم أن المرضي قلوبهم واهية حتي أنهم غلباً ما يرفضون المعاملة التي يلاقونها وهم علي أسرة مرضهم غير راغبين في إحتمال ألام العلاج مفضلين احتمال الام المرض عنها. أما هذا الرجل فكان له من العزم أن يخرج من المنزل ويحمل وسط السوق ويصير منظراً وسط الجماهير. مع أن عادة المرضي أنهم يفضلون الموت عن أن تنفضح مصائبهم الخاصة.
هذا المريض لم يفعل هذا فحسب ،بل وعندما رأي أن مكان الاجتماع مزدحم والمقربين متكتلين ،وميناء الأمان معاق،خضع للتدلية من السقف.
لم يقل لأصدقائه:مامعني هذا؟لماذا هذا الإزعاج؟ لماذا هذا التعجل ؟لننتظر حتي يفرغ البيت وينفض الإجتماع وتنصرف الجموع. فنقترب اله علي إنفراد متداولين في هذه الأمور. لماذا تعرضون مصائبي وسط كل المشاهدين وتدلونني من قمة السقف سالكين طريقاً شاذاً؟