|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
مَثَلُ الآب الرحيم والابن الضال والابن الأكبر
الأحد الرابع من الصوم: مَثَلُ الآب الرحيم والابن الضال والابن الأكبر (لوقا 15: 1-3، 11-32) النص الإنجيلي (لوقا 15: 1-3، 11-32) 1 وكانَ الجُباة والخاطِئونَ يَدنونَ مِنه جَميعاً لِيَستَمِعوا إِلَيه. 2 فكانَ الفِرِّيسِيُّونَ والكَتَبَةُ يَتَذَمَّرونَ فيَقولون: ((هذا الرَّجُلُ يَستَقبِلُ الخاطِئينَ ويَأكُلُ مَعَهم!)) 3 فضرَبَ لَهم هذا المَثَلَ قال: 11 وقال: ((كانَ لِرَجُلٍ ابنان. 12 فقالَ أَصغَرُهما لِأَبيه: يا أَبَتِ أَعطِني النَّصيبَ الَّذي يَعودُ علَيَّ مِنَ المال. فقَسَمَ مالَه بَينَهما. 13 وبَعدَ بِضعَةِ أَيَّامٍ جَمَعَ الاِبنُ الأَصغَرُ كُلَّ شَيءٍ لَه، وسافَرَ إِلى بَلَدٍ بَعيد، فَبدَّدَ مالَه هُناكَ في عيشَةِ إِسراف. 14 فَلَمَّا أَنفَقَ كُلَّ شَيء، أَصابَت ذلكَ البَلَدَ مَجاعَةٌ شَديدة، فأَخَذَ يَشْكو العَوَز. 15 ثُمَّ ذَهَبَ فالتَحَقَ بِرَجُلٍ مِن أَهلِ ذلكَ البَلَد، فأرسَلَه إِلى حُقولِه يَرْعى الخَنازير. 16 وكانَ يَشتَهي أَن يَملأَ بَطنَه مِنَ الخُرنوبِ الَّذي كانتِ الخَنازيرُ تَأكُلُه، فلا يُعطيهِ أَحَد. 17 فرَجَعَ إِلى نَفسِه وقال: كم أَجيرٍ لَأَبي يَفضُلُ عنه الخُبْزُ وأَنا أَهلِكُ هُنا جُوعاً! 18 أَقومُ وأَمضي إِلى أَبي فأَقولُ لَه: يا أَبتِ إِنِّي خَطِئتُ إِلى السَّماءِ وإِلَيكَ. 19 ولَستُ أَهْلاً بَعدَ ذلك لِأَن أُدْعى لَكَ ابناً، فاجعَلْني كأَحَدِ أُجَرائِكَ. 20 فقامَ ومَضى إِلى أَبيه. وكانَ لم يَزَلْ بَعيداً إِذ رآه أَبوه، فتَحَرَّكَت أَحْشاؤُه وأَسرَعَ فأَلْقى بِنَفسِه على عُنُقِه وقَبَّلَه طَويلاً. 21 فقالَ لَه الِابْن: يا أَبَتِ، إِنِّي خَطِئتُ إِلى السَّماءِ وإِلَيكَ، ولَستُ أَهْلاً بَعدَ ذلِكَ لأَن أُدْعى لَكَ ابناً. 22 فقالَ الأَبُ لِخَدَمِه: أَسرِعوا فأتوا بِأَفخَرِ حُلَّةٍ وأَلبِسوه، واجعَلوا في إِصبَعِه خاتَماً وفي قَدَمَيه حِذاءً، 23 وأتوا بالعِجْلِ المُسَمَّن واذبَحوه فنأكُلَ ونَتَنَعَّم، 24 لِأَنَّ ابنِي هذا كانَ مَيتاً فعاش، وكانَ ضالاًّ فوُجِد. فأَخذوا يتَنَّعمون. 25 وكانَ ابنُه الأَكبَرُ في الحَقْل، فلمَّا رَجَعَ واقترَبَ مِنَ الدَّار، سَمِعَ غِناءً ورَقْصاً. 26 فدَعا أَحَدَ الخَدَمِ واستَخبَرَ ما عَسَى أَن يَكونَ ذلك. 27 فقالَ له: قَدِمَ أَخوكَ فذَبَحَ أَبوكَ العِجْلَ المُسَمَّن لِأَنَّه لَقِيَه سالِماً. 28 فغَضِبَ وأَبى أَن يَدخُل. فَخَرَجَ إِلَيه أَبوهُ يَسأَلُه أَن يَدخُل، 29 فأَجابَ أَباه: ها إِنِّي أَخدُمُكَ مُنذُ سِنينَ طِوال، وما عَصَيتُ لَكَ أَمراً قَطّ، فما أَعطَيتَني جَدْياً واحِداً لأَتَنعَّمَ به مع أَصدِقائي. 30 ولمَّا قَدِمَ ابنُكَ هذا الَّذي أَكَلَ مالَكَ مع البَغايا ذَبَحتَ له العِجْلَ المُسَمَّن! 31 فقالَ له: يا بُنَيَّ، أَنتَ مَعي دائماً أبداً، وجَميعُ ما هو لي فهُو لَكَ. 32 ولكِن قد وَجَبَ أَن نَتَنعَّمَ ونَفرَح، لِأَنَّ أَخاكَ هذا كانَ مَيتاً فعاش، وكانَ ضالاًّ فوُجِد)). مقدمة يصف لوقا الإنجيلي ثلاثة أمثال عن الرحمة للخاطئين، مثل الخروف الضال (لوقا: 15-4-7)، والدرهم المفقود (لوقا 15: 8-10)، والابن الضال (لوقا 15: 11-32)، وأبرزها مثل الابن الضال حيث يصوّر استقبال الله ألآب الرحيم للخاطئ التائب؛ الله الذي لا يتخلى عمَّن يبتعد عنه، ولا يحكم عليهم، لكنه يبحث عنهم ويحبهَّم وينتظر عودتهم؛ وهذا المثل هو جواب يسوع على تذمّر الفرِّيسيين عليه بسبب مشاركته للعشَّارين وقبوله للخاطئين. ويُعبّر يسوع من خلال هذا المثل عن الفرح الذي يشعر أبيه السماوي به عند عودة أولئك الأبناء الضَّالين ولقائهم، ويدعو الفريسيين إلى الدخول في هذا الفرح؛ ويدعونا هذا المَثل للعودة نحن أيضا ونيل رحمة أبينا السماوي. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته. أولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 15: 1-3، 11-32) 1 وكانَ الجُباة والخاطِئونَ يَدنونَ مِنه جَميعاً لِيَستَمِعوا إِلَيه تشير عبارة " الجُباة" إلى العَشَّارين الذين يَجمعون الأعشار (الضرائب) في الإمبراطورية الرومانية، وكانوا يتعهدون للحاكم الروماني تسديد الضرائب من جيوبهم في حال عجزهم عن جمعها، لذلك وُصفوا بالقسوة والظلم. والشعب احتقرهم ومنعهم من دخول الهيكل أو مجامعهم ومن الاشتراك في الصلاة والحفلات (لوقا 3:12)؛ وكان أحد العَشَّارين في منطقة أريحا (لوقا 19: 1) وكان متى وكيلاً لعشَّارين في منطقة كفرناحوم (لوقا 5: 27). وقد قصد يسوع أن يُحرِّرهم من النقمة اللاحقة بهم لأنه لا يوافق على سيئات أصحاب المظالم. أمَّا عبارة "الخاطِئونَ" فتشير إلى "المرضى" في نظر يسوع الذين يجب شفاؤهم. فهو صَديق الخاطئين ويدعوهم إلى التوبة (لوقا 5: 32)؛ وقد شبِّه نفسه بالطبيب قائلا: "لَيسَ الأَصِحَّاءُ بِمُحتاجينَ إلى طَبيب، بلِ المَرْضى. ما جِئتُ لأُدعُوَ الأَبرار، بَلِ الخاطِئينَ إلى التَّوبَة "(لوقا 4: 31-32). أمَّا عبارة " يَدنونَ مِنه" فتشير إلى اقتراب جميع الجُباة والخاطِئين إلى المسيح على التوالي لا لمشاهدة معجزاته فقط بل لسماع تعليمه أيضا، لأنهم شعروا بإثمهم واحتياجاتهم إلى مغفرة الله ولم يجدوا ذلك الأمر في تعليم رؤساء اليهود، لأنَّ أولئك الرؤساء حسبوهم أشراراً ونجسين لا يستحقون أن يدنوا منهم، إذ لا يُرجى لهم أن يدخلوا السماء. أمَّا عبارة " جَميعاً" فتشير إلى كثيرين من الجُباة والخاطئين، وهم أكثر الجمع كما يتضَّح ذلك في إنجيل متى "بَينَما هو على الطَّعامِ في البَيت، جاءَ كثيرٌ مِنَ الجُباة والخاطِئين، فجالَسوا يسوعَ وتلاميذَه" (متى 9: 10). أمَّا عبارة " لِيَستَمِعوا إِلَيه" فتشير إلى سماع كلمة الله وقبولها وهذا لا يعني الاستماع إليها بأُذنٍ صاغيةٍ فحسب، إنما يتضمن أيضا فتح القلب لها (أعمال 16: 14) والعمل بها (متى 7: 24-26)، والطاعة لها. تلك هي طاعة الإيمان التي يطلبها سماع البشارة كما جاء في تعليم بولس الرسول " بِالمسيح نِلْنا النِّعمَةَ بِأَن نَكونَ رسولاً، فنَهدِيَ إِلى طاعَةِ الإِيمانِ جَميعَ الأُمَمِ الوَثَنِيَّة، إِكرامًا لاسمِه"(رومة 1: 5). 2 فكانَ الفِرِّيسِيُّونَ والكَتَبَةُ يَتَذَمَّرونَ فيَقولون: هذا الرَّجُلُ يَستَقبِلُ الخاطِئينَ ويَأكُلُ مَعَهم! تشير عبارة "الفِرِّيسِيُّونَ " في الأصل الأرامي הַפְּרוּשִׁים (معناها المعتزلة) إلى إحدى فئات اليهود الرئيسية الثلاث التي كانت تناهض فئتي الصدوقيين والأسينيين، وكانت أضيقها رأياً وتعليمًا (أعمال 26: 5) ويتجنبون العَشَّارين عن الخاطئين. ويرجّح أن يكون الفِرِّيسِيُّونَ خلفاء الحسيديين المتظاهرين بالتقوى المذكورين في سفرالمكابيين (1 ملوك 2: 42) والذين اشتركوا في الثورة المكابية ضد انطيوخس ابيفانوس (175ـ 163 ق.م.). وقد ظهر الفِرِّيسِيُّونَ بهذا الاسم في عهد يوحنا هركانس (135ـ 105 ق.م.). وسعى ابنه إسكندر ينِّي من بعده إلى إبادتهم لكن زوجته ألكسندرا التي خلفته على العرش سنة 78 ق.م. رعتهم فقوي نفوذهم وأصبحوا قادة اليهود في الأمور الدينية. أمَّا من حيث العقيدة فكانوا يؤمنون بخلود النفس وقيامة الجسد ووجود الأرواح (أعمال 23: 8) ومكافأة الإنسان ومعاقبته في الآخرة بحسب صلاح حياته الأرضية أو فسادها لكنهم حصروا الصلاح في طاعة الشريعة فجاءت ديانتهم ظاهرية وليست قلبية داخلية. وقالوا بوجود تقليد سماعي عن موسى تناقله الخلف عن السلف. فجاء تصريح المسيح بأن الإنسان ليس ملزماً بهذا التقليد (متى 15: 2 -6). وكان الفِرِّيسِيُّونَ في أول عهدهم من أنبل الناس خلقاً وأنقاهم ديناً، وقد لاقوا أشدّ الاضطهاد، غير أنه على مرّ الزمن دخل حزبهم من كانت أخلاقهم دون ذلك، ففسدَ جهازهم واشتهر معظمهم بالرياء والعجب. فتعرضوا عن استحقاق للانتقاد اللاذع والتوبيخ القاسي حيث دعاهم يوحنا المعمدان " أولاد الأفاعي"، وقد وبَّخهم السيد المسيح بشدة على ريائهم وكبريائهم وادعائهم البِرّ كذباً وقساوتهم على الشعب وتحميلهم الناس أثقال العرضيات دون الاكتراث لجوهر الناموس (متى 5: 20 و23: 1ـ 39). واستقبال يسوع للخاطئين دفع الفريسيّن للتذمر منه. وكانت لديهم يد بارزة في المؤامرة على حياة المسيح (يوحنا 11: 47ـ 57). ومع هذا فكان في صفوفهم دوماً أفراد مُخلصون وذو أخلاقٍ سامية، منهم بولس في حياته الأولى (أعمال23:6) ومعلمه جِمْلائيل (أعمال 5: 34). أمَّا عبارة " الكَتَبَةُ " في الأصل اليوناني γραμματεῖς(معناها معلمي الشريعة ) فتشير إلى علماء الكتاب المقدس الذين كانوا ينتمون إلى مذهب الفِرِّيسِيين . فقد خصَّصوا نفوسهم لدارسة الناموس وتفسيره، ولدراسة أسفار الكتاب المقدس بنوع عام وذلك من الوجهة التاريخية والتعليمية، وأصبحت قراراتهم شفاهية تدعى التقاليد. وبلغوا أوج نفوذهم على الشعب في أيام المسيح. وكان بينهم أعضاء السنهدريم (مجمع اليهود) الذين آمنوا بتعاليم المسيح (متى 8: 19) إلاَّ أن أكثرهم قاموا ضده وتذمروا عليه وظنُّوا أنهم وجدوا أخطاء في أقواله وأعماله (متى 21: 15). وعلى الكَتَبَةُ يقع جزء كبير من مسؤولية صلب المسيح. وقد اشتركوا مع الحكام والشيوخ في اضطهاد بطرس ويوحنا أيضاً (أعمال 4: 5) كما اشتركوا على استشهاد إسطفانس (أعمال 23: 9). وقد وصف السيد المسيح بعض الكَتَبَةُ بالمرائين لأن اهتمامهم كان مُنصّباً على الأمور المادية العرضية دون الروحية الجوهرية (متى 23). أمَّا عبارة " يَتَذَمَّرونَ " فتشير إلى احتقار الفِرِّيسِيين والكَتَبَةُ لهؤلاء الجُباة والخاطئين وبغضهم لهم لأجل قبح سيرتهم. وأظهروا ذلك بتذمرهم في قلوبهم أو بمخاطبة بعضهم بعضا. أمَّا عبارة " هذا الرَّجُلُ " فتشير إلى استخفاف بالمسيح كأنه لم يستحق أن يُلقَّب بمعلم أو " ربي" أو نبي، بل اعتبروه خاطئًا كسائر العَشَّارين زعما أنه لو لم يكن كذلك ما عاشرهم بل عاشر الأبرار. أمَّا عبارة " يَستَقبِلُ الخاطِئينَ" فتشير إلى لطف يسوع بهم والسماح لهم في أن يتعلموا منه رغبة في خلاصهم. ما حسبه الفريسيون عاراً على المسيح حسبه المسيح شرفا وخيراً للخطأة. وأمَّا عبارة " يَأكُلُ مَعَهم " فتشير إلى فرصة للمسيح لتعليم الخطأة وإقناعهم بمحبِّته لهم (متى 9: 10-11) ورحمة الله بهم (لوقا 5: 21). 3 فضرَبَ لَهم هذا المَثَلَ قال تشير عبارة "هذا المَثَلَ " إلى تاج أمثال المسيح إذ هو إنجيل مختصر يُظهر محبة الله ورحمته للخطأة ورغبته في قبول الراجعين إليه بالتوبة وقيمة النفس من ناحية، وتوبيخ للفريسيين المتذمرين عليه من ناحية أخرى. أمَّا عبارة "المَثَلَ " في الأصل اليوناني παραβολή فتشير إلى حديث موجز للموعظة أو للعبرة أو قصة مُستمدَّة من الطبيعة أو من الحياة اليومية لإلقاء مزيد من الضوء على بعض الحقائق الروحية. فالمثل بالتالي هو تعليم وليس حدثاً. يقول يسوع لنا مثلاً معين للتعبير عن واقع معين وليس عن حدث معين. ويتراوح عدد الأمثال في الأناجيل ما بين خمسين وستين مثلاً. وأَغنى الأناجيل في الأمثال هو إنجيل لوقا، إذ فيه نحو (24) مثلا، منها (15) مثلاً لا تُذكر إلا فيه. وأمَّا في إنجيل متى فهناك (20) مثلاً، منها (11) مثلاً لا تذكر إلا ّفيه؛ وأمَّا في إنجيل مرقس فهناك (18) مثلا، منها (2) فقط لا يذكران إلا فيه. ومع أن كلمة "مثل" أو "أمثال" لا توجد في إنجيل يوحنا، إلا أن الرب يسوع استخدم بعض التشبيهات لنفسه، مثل الراعي الصالح، والباب، وخبز الحياة، والكرمة. هدف يسوع المسيح من استخدام الأمثال هو توضيح حقائق روحية وإيصالها لأذهان السامعين لذلك لا بد من تفسير الأمثال في إطار الملكوت الذي بشَّر به سيدنا يسوع المسيح. 11 وقال: كانَ لِرَجُلٍ ابنان. تشير عبارة "الرجل" إلى شخص الآب السماوي الذي " كانَ في المَسيحِ مُصالِحًا لِلعالَم وغَيرَ مُحاسِبٍ لَهم على زَلاَّتِهم" (2 قورنتس 5: 19)، وهو الشخص الرئيسي. والأُبوة في نظر يسوع، هي أقرب وصف لصفات الله. ومنه تستمد كل أبوَّة في الأرض كما جاء في تعليم بولس الرسول " لِهذا أَجْثو على رُكبَتَيَّ لِلآب، فمِنه تَستَمِدُّ كُلُّ أُسرَةٍ اسمَها في السَّمَاءِ والأَرْض" (أفسس 3: 14)؛ وأمَّا عبارة "إِبنان" فتشير إلى الابن الأكبر الذي يمثل الفِرِّيسِيين والكَتَبَةُ وبالتالي اليهود المتكبرين الذي المتكلين على برِّ أنفسهم، ؛ والابن الأصغر الذي يمثل العَشَّارين والخاطئين وبالتالي الأمم الذيم يعترفون بآثامهم ويعلق القديس كيرلس الكبير أن الابن الأكبر ينطبق على جماعة الفِرِّيسِيين الذين يفتخرون أنهم يسلكون بالبرّ حسب الشريعة، لكنهم في كبريائهم يرفضون حب المخلِّص للخطأة والعَشَّارين، عوض الفرح والبهجة بخلاصهم". 12 فقالَ أَصغَرُهما لِأَبيه: يا أَبَتِ أَعطِني النَّصيبَ الَّذي يَعودُ علَيَّ مِنَ المال. فقَسَمَ مالَه بَينَهما. تشير عبارة "أَعطِني النَّصيبَ الَّذي يَعودُ علَيَّ مِنَ المال" إلى طلب الابن الأصغر بحصته من الميراث. ويُعد هذا الطلب غير شرعي، والدليل على ذلك أنه كان متداولا في الشريعة اليهودية أن الأب وهو حي يُقسم أمواله باختياره، وليس بطلب ابنيه. قسّم أبونا أبراهيم ماله على أولاده في حياته باختيار منه منعا لانشقاق العائلة (التكوين 25: 5-6). الابن الأصغر هنا طلب نصيبه من الميراث لينفقه على شهواته الجسدية متحرراً من الله وشريعته ويكون إلها لنفسه تابعا ميل قلبه (التكوين 3: 5). فقسَّم معيشته، وفصل بينه وبين ذويه، لأنه فكَّر أن وجوده يتحقق فقط عندما يُصبح وحيداً منعزلاً. المسيحية تُعلم أن الحياة لا تتحقق بالابتعاد ولكن بالاتصال. أمَّا عبارة "قَسَمَ مالَه بَينَهما " فتشير إلى نصيب الابن الأصغر من الميراث الذي يبلغ ثلث أملاك أبيه، كما تنص عليه الشريعة اليهودية (يشوع ابن سيراخ 33: 24). أمَّا الابن الأكبر فله نصيب أثنين (تثنية الاشتراع 21: 17). فالابن له حصة في البيت وهذه الحصة ليست القسم من المال فحسب، إنما حصة الابن هي البنوة، وحين يبتعد الابن بحصته يخسر حقيقته بالذات. إن الله يترك الإنسان حراً ولا يُجبره على خدمته غير مرضية ليختبر هل عبوديته لشهواته أهون من الخدمة لله تعالى كما جاء في تعليم بولس الرسول "أَنَّهم عَرَفوا اللهَ ولَم يُمجِّدوه ولا شَكَروه كما يَنبَغي لِلّه، بل تاهوا في آرائِهِمِ الباطِلَة فأَظلَمَت قُلوبُهمُ الغَبِيِّة" (رومة 1: 21، 28). 13 وبَعدَ بِضعَةِ أَيَّامٍ جَمَعَ الاِبنُ الأَصغَرُ كُلَّ شَيءٍ لَه، وسافَرَ إلى بَلَدٍ بَعيد، فَبدَّدَ مالَه هُناكَ في عيشَةِ إِسراف. تشير عبارة " سافَرَ " إلى رحيل أو اغتراب عن بلده، ويُعلق القديس أوغسطينوس "هو اتكال الإنسان على ذاته وقوَّته الخاصة فيفقد عمل الله فيه، وعلى العكس الاقتراب من الله يعني الاتكال عليه، ليعمل فينا، فنصير على مثاله". أمَّا عبارة " بَلَدٍ بَعيد" فتشير إلى بلاد وثنية غير يهودية، وتدل على بُعد عن الله بالقلب والمشاعر وانغماسه في ملذات الخطيئة وفي كل ما يرضي شهواته، ويُعلق القديس أمبروسيوس "الابتعاد الأعظم هو انفصال الإنسان لا من خلال المسافات المكانية، وإنَّما من خلال العادات، فلا يذهب إلى بلاد مختلفة بل يحمل اتجاهات وسلوكيات مختلفة، ومن ينفصل عن المسيح يتغرب عن الوطن، ويصير وطنه هذا العالم"؛ أمّا عبارة " فَبدَّدَ مالَه هُناكَ" فتشير إلى إنفاق الابن الأصغر على شهواته القوة والمواهب والبركات التي منحه الله إياها لمجده تعالى ولخير الناس، إنه شاب متهوِّر، متلهِّف وراء الحرّية الخاصة، وبلا مسؤولية، لا يعرف إلى أين آلَ إليه مصيرُه عندما يبتعد عن بيته الأبوي. أمَّا عبارة "عيشَةِ إِسراف" فتشير إلى العيش في الزنى والخلاعة، والابتعاد عن الله وخيانته، إذ انجَّرَّ الابن الأصغر لشهواته مبتعدا عن إرشادات عقله ووصايا ابيه. إن الخطيئة استولت عيه فكان كالخروف الضال (لوقا 15: 4) والدرهم المفقود (لوقا 15: 8). 14 فَلَمَّا أَنفَقَ كُلَّ شَيء، أَصابَت ذلكَ البَلَدَ مَجاعَةٌ شَديدة، فأَخَذَ يَشْكو العَوَز. تشير عبارة " أَنفَقَ كُلَّ شَيء " إلى ضياع كل طاقاته في أمور العالم وشهواته. لقد بدَّد الابن كل نعمة وموهبة سبق وأخذها من الله، ويُعلق القديس أمبروسيوس"قد بدَّد ميراث كرامته الروحيَّة التي نالها في الملذّات الأرضية". أمَّا عبارة "مَجاعَةٌ شَديدة" فتشير إلى حدوث مجاعة وهذا ليس أمر غريب في الأيام القديمة (أعمال الرسل 11: 28) لأنه لم تكن السفن ووسائط نقل الطعام كثيرة كما في هذه الأيام. وهذه المجاعة هي رمز لجوع النفس التي ابتعدت عن الله، لان ملذات العالم غير قادرة أن تُشبع، إذا أشبعت الجسد، لا تستطيع أن تشبع الروح، والإنسان روح وجسد. والروح لا يشبع سوى بقربه من الله. فكما جَذب َالله يونان للرجوع إليه بواسطة هياج البحر، وحوت ابتلعه، جُذب هذا الابن الضال بهذه المجاعة. عموماً فأي نفس تبتعد عن الله لا بُدَّ أن تشعر بهذه المجاعة والفراغ الداخلي، لأن الإنسان مخلوق على صورة الله، لن تشبع نفسه إلاّ بقربها من الله. أمَّا عبارة "فأَخَذَ يَشْكو العَوَز" فتشير إلى إفلاس الابن الأصغر وجوعه بعد تمتُّعه بحريته وتصرفه حسب شهواته، فأبتعد أصحابه الأشرار عنه عندما أفلس. وجوع الجسد لا يُقارن بجوع النفس التي شعرت ببعدها عن الله كما جاء في نبوءة أشعيا لإسرائيل "إِنَّ شَرَّكِ يُؤَدِّبُكِ وارتِداداتِكِ تُبَكِّتُكِ فاعلَمي وانظُري أَنَّ تَركَكِ الرَّبَّ إِلهَكِ شيءٌ سَيِّئٌ ومُرّ وأَنَّ مَهابَتي لَيسَت فيكِ يَقولُ السَّيِّدُ رَبُّ القُوَّات" (ارميا 2: 19). 15 ثُمَّ ذَهَبَ فالتَحَقَ بِرَجُلٍ مِن أَهلِ ذلكَ البَلَد، فأرسَلَه إلى حُقولِه يَرْعى الخَنازير. تشير عبارة " فالتَحَقَ بِرَجُلٍ مِن أَهلِ ذلكَ البَلَد" إلى الحصول على معاشه بتعبه رغبةً في إصلاح شأنه. أمّا عبارة" يَرْعى الخَنازير" فتشير في نظر اليهود إلى الإهانة ومنتهى الذُل والنَجاسة، لانَّ الخنزير حيوان" نَجِسٌ" (تثنية الاشتراع 14: 8). ومعنى هذا أن الخنزير لا يُوكل ولا يُقدّم كذبائح، بل هو مُحرَّم على اليهود مِن لمسِه خوفا من النجاسة. وكان راعي الخنازير مِن أحط المهن وأدناها، ولا يتعاطها بها إلاَّ الفقراء المُعدومون (لوقا 15: 15)؛ ولم يكن يسمح لراعي الخنزير أن يدخل الهيكل ولا أن يتزوج إلاّ من بنات رعاة الخنازير مثله، لانَّ لا يرضى أحدٌ أن يُزوّج ابنته من راعي الخنازير (هيرودوتس 2:47). طلب هذا الابن التخلص من خدمة أبيه الخفيفة فاضطر إلى خدمة أجنبي ثقيلة تُعد عند اليهود أنجس وأكره خدمة. وكل ذلك يدلّ على أن الابن الأصغر ذهب إلى أرض وثنية وخسر كل كرامته، ولم يقبل في هذا العمل إلاَّ مُكرها بسبب الحاجة والعوز وفقدان ميراثه. 16 وكانَ يَشتَهي أَن يَملأَ بَطنَه مِنَ الخُرنوبِ الَّذي كانتِ الخَنازيرُ تَأكُلُه، فلا يُعطيهِ أَحَد. تشير عبارة" كانَ يَشتَهي أَن يَملأَ بَطنَه" إلى الجائع الذي لا همَّ له سوى أن يملأ بطنه، وذلك إشارة لملذات العالم وشهواته التي يملأ بها الخاطئ بطنه. فالخاطئ كلُّ هَمِّه إشباع بطنه وشهواته إذ قيل "إِلهُهم بَطنُهم" (فيلبي 3: 19)؛ أمَّا عبارة " الخُرنوبِ الَّذي كانتِ الخَنازيرُ تَأكُلُه " فتشير إلى عمل الابن الأصغر، هو أن يذهب إلى البرِّية حيث شجر الخرنوب ويُجني ثمره ويطرحه للخنازير. والخنازير وحدها هي التي تأكل الخُرنوبِ، إذ هو الطعام المناسب لها. الخُرنوب فارغ في الداخل وليِّن في الخارج، ويملأ البطن بلا فائدة غذائية، وزنه أكثر من نفعه. أمَّا عبارة "الخُرنوبِ" فتشير إلى نوع من ثمار الشجر الذي تؤكل قرونه بعد جفافها، وهو طعام لتسمين الخنازير والمواشي، ومع أنها طعام الخنازير والمواشي، إلاَّ أن الناس يأكلونها مُجفَّفة إبان المجاعات؛ وقد اضطر الابن الأصغر أن يأكل من الخُرنوبِ، لان الأجر الذي يتقاضاه لم يكن كافيا لإعالته بخبزٍ كاف ٍفي أرض المجاعة. فالجوع علامة موت الجسد، وخدمة الخنازير علامة موت النفس. مما يدل على أن الابن الأصغر وصل إلى الحضيض جسداً ونفسا. أمَّا عبارة "فلا يُعطيهِ أَحَد" فتشير إلى رضى الابن بطعام الخنازير، لأنه لم يعطهِ أحدٌ طعاما غير الخرنوب للدلالة إلى أي حد وصل من الإذلال والفقر وفقدان الكرامة. 17 فرَجَعَ إلى نَفسِه وقال: كم أَجيرٍ لَأَبي يَفضُلُ عنه الخُبْزُ وأَنا أَهلِكُ هُنا جُوعاً! تشير عبارة "فرَجَعَ إلى نَفسِه " إلى الخطوة الأولى من رجوعه إلى أبيه ورجوعه إلى نفسه، وهكذا سار الابن الأصغر بمقتضى العقل والضمير استعدادا لرجوعه إلى الله. إنها نقطة التحوُّل وبداية طريق التوبة، حيث أنَّ كلمة توبة تعني تغيير الفكر. لقد استخدم عقله وضميره وليس عواطفه وأمياله وشهواته؛ إنه أدرك الحقيقة، كما حدث مع القدِّيس بطرس الذي رجع إلى نفسه عندما أنكر الرب ثم تطلع إليه، "فخَرَجَ مِنَ الدَّارِ وبَكى بُكاءً مُرًّأ" (لوقا 22: 62). ويُعلق القديس أوغسطينوس "الآن يعود إلى نفسه، فيعود إلى أبيه حيث تكون نفسه في أمان تام". وهذه العبارة تدل على أسلوب في أمثال إنجيل لوقا يعبّر فيه الشخص عن فكره بكلام يحدّث فيه نفسه، فيجدَ نفسه في الصراع الداخلي بين خِيارين: إمَّا أن يتابع تمرُّده وابتعاده عن أبيه ويظل في بؤسه المدُقع الذي سيقوده إلى الموت، وإمّا أن يتواضع ويعود إلى بيت أبيه فيجد الفرح والشبع؛ أمَّا عبارة "كم أَجيرٍ لَأَبي يَفضُلُ عنه الخُبْزُ" فتشير إلى البيت الأبوي الذي يُصف كمنزلٍ يتوفر فيه الطعام والخبز بدل الخرنوب. إذ تذكَّر الابن الأصغر أنه كان يأكل فيه حتى الشبع ولا ينقص فيه الخبز، حتى أن الخدم كانوا يأكلون بوفرة. فهناك أب يُطعم الجميع بوفرة وحتى أجرائه، ومن جانب آخر هناك الابن الذي أصبح أجيرا ولكن لا يوجد أحد يعطيه شيئاً ولا حتى طعام الخنازير. يعيش بعيدًا عن بيته الأبوي في جوعٍ شديدٍ بينما الأجراء في بيت أبيه يشبعون! ذكر الابن حال بيت أبيه وقابلها بحالته التعيسة. فالخاطئ يقابل حاله بحال واحدٍ من الأجراء. أمَّا عبارة " أَجيرٍ " فتشير إلى عامل الذي يعمل لقاء أجرة متفق عليها. فهو رمز لمن يحيا بروح العبودية، ومن يعمل ليس عن حب بل طمعًا في أجرةٍ. وأمَّا عبارة " أَنا أَهلِكُ هُنا جُوعاً!" فتشير إلى الابن الأصغر الذي رأى نفسه، لا فارغ اليدين والمعدة فقط بل والقلب أيضاً، لا صديق له ولا مُعين ولا مأوى. ويعُلق القديس يوحنا الذهبي الفم "أحسّ بهلاكه، مدركًا أنه بإرادته ألقى بنفسه في أيدي الغرباء بعيدًا عن أبيه، فصار في منفى عوض بيته، وفي عوز عوض الغنى، وفي مجاعة عوض الخيرات والترف". هنا نجد نتيجة الخدمة للعالم بدلا من الخدمة لله. إن عذاب الإنسان هو في الانفصال عن الله، لأنَّه خُلق على صورته ومثاله ولن يرتاح إلاَّ فيه كما يقول العلامة أوغسطينوس. ومهما حاول أن يشبع في بلد بعيد فلن يفلح، لأن شبعه الحقيقي هو في بيت الآب. فالشعور بالشقاء فرصة لاستعداد للرجوع إلى الآب السماوي الذي ينتظره كما جاء في رسالة العبرانيين "بَسَطتُ يَدَيَّ طَوالَ النَّهارِ لِشَعبٍ عاصٍ مُتَمرِّد" (العبرانيين 19: 21). 18 أَقومُ وأَمضي إلى أَبي فأَقولُ لَه: يا أَبتِ إِنِّي خَطِئتُ إلى السَّماءِ وإِلَيكَ. تشير عبارة "أَقومُ" إلى قرار إيجابي، وذلك بالرجوع عمَّا هو فيه، نتيجة تأمُّله في سوء الحال التي صار إليها. والقرار هو قيامة الابن الأصغر من موت الجسد وموت النفس. وهذا القرار يُدعى التوبة، والتوبة ليست عملًا سلبيًا خلاله يكتشف الإنسان ضعفه وهلاكه التام، بل هي عمل إيجابي فيه يقبل المؤمن مسيحه كسرّ قيامته وحياته، مشتاقًا أن يبلغ قياس قامة ملء المسيح (أفسس 4: 13)؛ فكأنَّ بريقا أناره وذكّره بالرّفاهية التي كان غارقا فيها في طفولته في بيته الأبوي، ففاض قلبه بالحنين إلى هذا البيت، وعرف خطأه، وندِم على فعلتِه. أمَّا عبارة "خَطِئتُ " مصلح عبري חָטָאתִי (معناه ارتكبتُ ذنباً بتعمُّد) فتشير إلى الاعتراف بالخطأ؛ لقد واجه الابن الضال خطيئته بتواضع وثقة ولام ذاته. فطريق الملكوت هي لوم الذات والاعتراف " أنا "خَطِئتُ"، والله يعرف كل شيء، ولكنه ينتظر هذا الاعتراف. الاعتراف بالخطيئة شرط ضروري للمغفرة، ولا تكون التوبة صحيحة دون الاعتراف " إِذا اعتَرَفْنا بِخَطايانا فإِنَّه أَمينٌ بارّ يَغفِرُ لَنا خَطايانا وُيطَهِّرُنا مِن كُلِّ إِثْم" (1 يوحنا 1: 9). ويُعلق القديس أنطونيوس الكبير "إذا سلَّمت النفس ذاتها للرب بطلت قوَّتها، يظهر الله الصالح لها هذه الأوجاع والعيوب واحدة فواحدة لكي تحيد عنها". وهكذا يليق بكل خاطئ أن يصلي قائلا كالعشار: "الَّلهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطئ! " (لوقا 18: 13). علامة التوبة الحقيقية هي شعور الخاطئ بانه أخطأ إلى الله وان ذلك أعظم جرما من الأخطاء إلى الناس، هكذا كانت توبة داود بدليل قوله " إِلَيكَ وَحدَكَ خَطِئتُ والشَرّ أَمامَ عَينَيكَ صَنعتُ" (مزمور 51: 6). أمَّا عبارة "السَّماءِ" فتشير إلى الله دون ذكر اسمه الذي لا يوصف (دانيال 14: 22)، وتدل أيضا على مسكن الله الخاص، ولذلك يُقال إن الله في السماء وأنه إله السماء، ومشيئته نافذة هناك ولذلك نصلي قائلين: لِيَأتِ مَلَكوتُكَ لِيَكُنْ ما تَشاء في الأَرْضِ كما في السَّماء " (متى 6: 10)؛ وقد نزل المسيح من السماء وصعد إليها وهو فيها (يوحنا 3: 13) هناك تسكن الملائكة، ويسود الفرح والسلام. وقد هيأ المسيح فيها منازل كثيرة للمؤمنين به (يوحنا 14: 2) وقد صعد إيليا في عاصفة إليها (2 ملوك 2: 1) كما أن لكل مؤمن ميراثاً فيها وهو يكنز فيها كنوزه (1 بطرس 1: 4) وقد قال الربِّيون أن هناك سبع سماوات، ولكن بولس الرسول يقول إنه صعد إلى السماء الثالثة في رؤياه (2 قورنتس 12: 2) فالسماء الأولى سماء السحب والطيور، والسماء الثانية سماء الكواكب والنجوم، أمَّا السماء الثالثة فهي مظهر المجد الإلهي ومسكن المسيح بالجسد والملائكة والقديسين. وحالتها فوق فهمنا وإدراكنا (أفسس 1: 3). أمَّا عبارة " إِلَيكَ " في الأصل اليوناني ἐνώπιόν σου (معناها قدّامك) فتشير إلى اعتراف الإنسان لله والاتضاع أمامه تائبا. 19 ولَستُ أَهْلاً بَعدَ ذلك لِأَن أُدْعى لَكَ ابناً، فاجعَلْني كأَحَدِ أُجَرائِكَ. تشير عبارة "لَستُ أَهْلاً بَعدَ ذلك لِأَن أُدْعى لَكَ ابناً" إلى علامة التواضع وعدم الاستحقاق، وبالتالي التوبة الحقيقية: أن يعترف الإنسان أولاً بخطيئته، ثم يتواضع ويقرِّر أن يغيِّر ثانياً، مستسلما كلياً له عالماً بأنه غير مستحق حب الله الآب له. ويُعلق القديس أمبروسيوس "الأب ينصت إليك، وأنت تتحدَّث في داخلك، ويسرع لمقابلتك"؛ ومن علامات التوبة الحقيقية هي التواضع. وأفضل برهان على تواضع الإنسان هو شعوره انه غير مستحق. أمَّا عبارة " فاجعَلْني كأَحَدِ أُجَرائِكَ" فتشير إلى الشعور بعدم الاستحقاق إذ كان قد أخذ نصيبه من قبل وبدَّده، لكن الآب في محبته لم يسمح له بأن يقول هذه العبارة (لوقا 15: 23). أمَّا عبارة "الأجير" فتشير إلى من يحيا بروح العبودية، والذي يعمل ليس عن حب بل عن طمع في الأُجرة. الخطيئة تجعل الابن ينظر إلى أبيه كسيّد، وهو كخادم. 20 فقامَ ومَضى إلى أَبيه. وكانَ لم يَزَلْ بَعيداً إِذ رآه أَبوه، فتَحَرَّكَت أَحْشاؤُه وأَسرَعَ فأَلْقى بِنَفسِه على عُنُقِه وقَبَّلَه طَويلاً تشير عبارة " فقامَ ومَضى إلى أَبيه " إلى عودة الابن الضال إلى أبيه، وهي دليل على صحة توبته، وكأنه يسمع صوت النبي زكريا: "هكذا قالَ رَبُّ القُوَّات: إِرجِعوا إِلَيَّ، يَقولُ رَبُّ القُوَّات، فأَرجِعَ إلَيكم، قالَ رَبّ القُوَّات " (زكريا 1: 3). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " قد يقول قائل: كيف أرجع؟ فقط ابتدئ بالعمل، فيتحقَّق كل شيء". لقد أدرك الابن أن المسافة مهما طالت بينه وبين أبيه لا تمثل عائقًا. وما فعله الابن هو شبيه بفعله الجُباة والخاطئون باقترابهم إلى المسيح (لوقا 15: 1). أمَّا عبارة "كانَ لم يَزَلْ بَعيداً إِذ رآه أَبوه" فتشير إلى انتظار الأب وتوقعه عودة ابنه الضالّ وترقُّبه، هو الأب المحبّ ذو قلب كبير وحكمة وبصيرة، يريد بقلبه رجوع ابنه، وبعقله يرى أنّ ذلك أفضل من تشرّده وانحرافه وضياعه. أمّا عبارة "فتَحَرَّكَت أَحْشاؤُه" في الأصل اليوناني ἐσπλαγχνίσθη فتشير إلى تحنُّن الأب على ابنه لِما صار إليه من سوء حال. فانّه رقَّ له بلا واسطة. أمَّا عبارة "أَسرَعَ" في الأصل اليوناني τρέχω(معناها ركض) فتشير إلى الركض عند أهل الشرق يدل على تصرّف استثنائي. إذ أنَّ الركض جهارا أمام الناس ليس من شيمة ذوي النفوس الوقورة الكبيرة على حد قول أرسطو الفيلسوف. وبالرغم من ذلك ركض الآب مما يدلّ على حبِّه ومسرته برجوع ابنه. ركض الآب مسرعًا لا ليعاتب ابنه أو يوبِّخه وإنما ليضمَّه ويقّبله. وفي هذا الصدد يقول الكاتب الفرنسي بييرو كورنيه: "للقلب أسبابه لا يعرفها العقل". قلب الأب يريد أن يرفع من معنويات ابنه ويشجِّعه. ومحبة الآب هي تضحية بابنه يسوع فداء للخاطئين "إِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة" (يوحنا 3: 16). أمّا عبارة " فأَلْقى بِنَفسِه على عُنُقِه" فتشير إلى علامة حبِّه لابنه كما فعل يوسف بن يعقوب مع أخيه بَنْيامينَ الذي كان يحبه حبَّاًّ جما عندما التقي به في مصر "أَلْقى بِنَفْسِه على عُنُقِ بَنْيامينَ"(التكوين 45: 14)."أمَّا عبارة "قَبَّلَه" فتشير إلى علامة الصفح والسلام وتعبير عن حبِّه الأبوي (التكوين 33: 4) ومغفرته دون عتاب أو جرح لمشاعره، كما قبّل داود الملك ابنه أبْشالوم غافرا له إثمه (2 صموئيل 14: 33). ويعكس هذا الاستقبال الوالديّ صورة للاب الأزلي الذي ينتظرنا دومًا بعد توبتنا ويُعلق القديس أمبروسيوس "هكذا يحتضنك الرب عندما تتوب". عندما نخطأ نحن نعيش في الغربة. لكن الله لا ينسانا، بل هو ينتظر عودتنا، بذراعين مفتوحتين، كأنَّ شيئا لم يحدث. 21 فقالَ لَه الِابْن: يا أَبَتِ، إِنِّي خَطِئتُ إلى السَّماءِ وإِلَيكَ، ولَستُ أَهْلاً بَعدَ ذلِكَ لأَن أُدْعى لَكَ ابناً. تشير " يا أَبَتِ " إلى مناداة الابن الضال إلى أبيه بثقة مع أنه قد أساء إليه. أمَّا أبيه لم يشر إلى خطيئة ولده بشيء لا من خلال ملامح وجهه ولا بكلامه. ومع ذلك كله اعترف الابن بذنبه لان شعر بمحبة أبيه له. لنتعلم كيف نتضرع إلى الآب. يا لرحمة الله وعطفه! الذي لا يرفض مناداته "يا أَبَتِ" بالرغم من إساءتنا إليه تعالى. أمَّا عبارة "إِنِّي خَطِئتُ إلى السَّماءِ وإِلَيكَ " (تعبير عبرية חָטָאתִי גַּם לְשָׁמַיִם) فتشير إلى الاعتراف قدام سيد الرحمة، أمام ديان الخطيئة. الله يعرف كل شيء، لكنه ينتظر الإقرار بالاعتراف، لان "الشَّهادةُ بِالفمِ تُؤَدِّي إلى الخَلاص " (رومة 10: 10). لا نتردد أن نعترف بخطايانا فيشفع فينا المسيح لأنه هو شفيعنا لدى الآب كما جاء في تعليم يوحنا الرسول " إذا خَطِئ أَحدٌ فهُناك شَفيعٌ لَنا عِندَ الآب وهو يسوعُ المَسيحُ البارّ" (1 يوحنا 2: 1). أمَّا عبارة "لَستُ أَهْلاً بَعدَ ذلِكَ لأَن أُدْعى لَكَ ابناً" فتشير إلى تواضع الابن الضال من خلال إعلانه أنه مخطئ وغير مستحق للبنوَّة، عندئذ لم يدعه أباه أن يكمّل جملته " فاجعَلْني كأَحَدِ أُجَرائِكَ" (لوقا 15: 19).ويعلق القديس أمبروسيوس " يليق بالخاطئ ألاَّ يتكبَّر بل يرجع متضعًا". الأب ينصت لاعتراف ابنه المخطئ، لكنه لا يسمح له بالمَذلَّة، فلا يتركه يكمل كلامه " اجعَلْني كأَحَدِ أُجَرائِكَ" (لوقا 15: 19)، ويُعلق القديس أوغسطينوس "لم يقل الابن: "اجعَلْني كأَحَدِ أُجَرائِكَ"، لأنه عندما كان في عوز إلى خبز اشتاق أن يكون ولو عبدًا أجيرًا، لكنه إذ تقّبل القبلة من أبيه بنبلٍ كفّ عن ذلك". 22 فقالَ الأَبُ لِخَدَمِه: أَسرِعوا فأتوا بِأَفخَرِ حُلَّةٍ وأَلبِسوه، واجعَلوا في إِصبَعِه خاتَماً وفي قَدَمَيه حِذاءً، تشير عبارة "حُلَّةٍ" إلى إرجاعُ الكرامة لابنه وعلامة الرضى التام والإكرام (التكوين 41: 42)، ويُعلق القديس أوغسطينوس "الكرامة التي فقدها آدم". وبهذا الأمر يعطيه أبوه كامل حقوقه المفقودة ويُعيده إلى حضن العائلة. لم يقبل الأب أن يعود ابنه كعبد أو خادم بل كابن وارث من جديد. وأمَّا القديس أمبروسيوس فيرى في الحلة "ثوب الحكمة، والكساء الروحي وثوب العرس". وهكذا يرى آباء الكنيسة في الحلة " ثوب العماد "؛ أمَّا عبارة "واجعَلوا في إِصبَعِه خاتَماً" فتشير إلى وضع في إصبع الابن الأصغر خاتم الصّداقة، دلالة على التغيّر الدّاخلي، الّذي أظهره بالنّدم الصّادق لأبيه. أمَّا عبارة "اجعَلوا في إِصبَعِه" فتشير إلى توجيه كلام الأب لا إلى ابنه إنَّما إلى خَدمِه، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " أن الأب لا يوجه حديثه لابنه الراجع بل لخدمه، فإن كان التائب هو الذي جاء متوسلًا لكنه ينال الإجابة لا خلال كلمات موجهة إليه، وإنما خلال أعمال الرحمة التي تُقدَّم له". أمَّا عبارة "خاتَماً" فتشير إلى السلطة وعلامة عودته للبنوة والحصول على المواهب الإلهية ثانية (فالخاتم يستخدم في ختم أوراق صرف النقود)، كما حدث مع يوسف "إذ قالَ فِرعَونُ لِيُوسف: ((أُنظُرْ: قد أَقَمتُكَ على كُلِّ أَرضِ مِصْر)). ونَزَعَ فِرعَونُ خاتَمَه مِن يَدِه وجعَلَه في يَدِ يوسف، (التكوين 41: 41-42)؛ ويرى القديس أمبروسيوس أنَّ " الخاتم هو صك الإيمان الصادق وختم الحق ". أمَّا القديس أوغسطينوس "يرى في الخاتم الذي في اليد "عربون الروح القدس بسبب شركة النعمة". وأمَّا عبارة" حِذاءً" فتشير إلى لباس الإنسان الحر، الذي يميّزه عن العبَد وبه يُحفظ القدم من وعورة الطريق. إذ كان لبس الحذاء تمييزاً للبنين عن العبيد، لأنهم كانوا حفاة. فالحذاء علامة الحرية بعد عبودية الخطيئة. ويرى القديس أمبروسيوس "أنَّ الحذاء يشير إلى الكرازة بالإنجيل". ويفسِّر القديس أوغسطينوس "الحذاء في القدَّمين هما الاستعداد للبشارة بالإنجيل كي لا نمس الأرضيات". الحلة، والخاتم والحذاء والعجل المسمَّن لم يكن يقصد بهذه الأشياء أن تسد حاجة الابن وحسب، بل لإعطاء ابنه مركز الكرامة في البيت. وهذه الأمور الثلاثة قدَّمها السيِّد المسيح للبشريَّة الخاطئة، ليقيم منها أبناء الله الحيّ، الذين يرتدون حلة العرس اللائق بالوليمة السماويَّة، ويحملون خاتم البنوة، ويسترون أرجلهم ويحفظونها من أتربة هذا العالم ودنسه أثناء عبورهم خلال كلمة الكرازة. إنَّ الله يتعامل معنا، مثلما تعامل هذا الوالد مع ابنه المُتمرِّد. الله يريد خلاصنا. وهذا هو وقت رحمته وخلاصه. فلنقم ونعود إليه. 23 وأتوا بالعِجْلِ المُسَمَّن واذبَحوه فنأكُلَ ونَتَنَعَّم، تشير عبارة "وأتوا بالعِجْلِ المُسَمَّن" فتشير إلى عجل يُطعم في البيت إمَّا لوليمة أو تقدمة؛ وكان هنا للوليمة إشارة إلى فرح الولد برجوع ولده. أمَّا عبارة " العِجْلِ " فتشير إلى البقرة أو الثور في صغره. وهو من الحيوانات التي عرفها الإنسان القديم منذ أبعد العهود. وكان يستعمل للأكل وللذبيحة أو للتضحية. وبسبب نفعه وقيمته عبدتْه شعوب كثيرة من عبدة الأوثان. وكان ابيس، من آلهة مصر المقدسة، يتخذ صورة ثور صغير، وتنحت تماثيله من الذهب الخالص. ولذلك كان هارون متأثراً بعبادته. فصنع تمثالاً لعجل من ذهب ليعبدوه بنو إسرائيل بعد خروجهم من مصر (خروج 32: 4). كذلك فعل يارُبْعام بعد انقسام بني إسرائيل إلى مملكتين، فقد بنى تمثالين، واحداً في بيت إِيل والآخر في دان. أمَّا عبارة " المُسَمَّن" فتشير غنى العجل وتكلفته، وهو "إشارة إلى الرب يسوع المسيح الذي دعي هكذا مقدَّما جسده الذي بلا عيب ذبيحة لخلاص العالم كله" كما يُعلق القديس يوحنا الذهبي. أمَّا عبارة "اذبَحوه فنأكُلَ ونَتَنَعَّم" فتشير إلى مأدبة، والمأدبة علامة المشاركة. ودعوة الإنسان تتمثل في المشاركة في المأدبة التي أقامها الآب لجميع أبنائه، والتي بها يُغذّينا من ذاته وحياته والحياة التي تجري داخل بيته. هناك الطعام الوفير والطيّب والمجاني الذي يرغب الآب في إعطائنا إياه؛ وتمَّ تصوير الحياة مع الله على صورة مأدبة كما ورد في نبوءة أشعيا "في هذا الجَبَلِ سيَضَعُ رَبُّ القُوَّات لِجَميعِ الشُّعوبِ مَأدُبَةَ مُسَمَّنات مَأدُبَةَ خَمرَةٍ مُعَتَّقَة مُسَمِّناتٍ ذاتِ مُخٍّ ونَبيذٍ مُرَوَّق"(أشعيا 25: 6). وقد وردت ذكرى المأدبة عدة مرات في هذا النص الإنجيلي لأهميتها (لوقا 15: 23، 27، 30). أمَّا عبارة " واذبَحوه " فتشير إلى تقديم المسيح نفسه ذبيحة على الصليب. أمَّا عبارة " فنأكُلَ " فتشير إلى علامة اتحادنا مع المسيح. أمَّا عبارة " ونَتَنَعَّم" فتشير إلى فرح في عودة الخاطئ واتحاده بأبيه بعد انفصال. وهنا إشارة إلى الفرح سيكون في السماء كلها (لوقا 15: 10). نجد في هذا المثل مقابلة حالة الابن في الغربة بحالته في بيت أبيه: فصار له بدل العري الحلة، وبدل الخدمة القاسية الخاتم والحذاء وبدل الخرنوب العجل المسمن. ومعنى ذلك إن الله يقبل التائب إليه بعلامات المحبة والرضى برفعه عن كل دينونة، ويغفر له، ويهب له كل حقوق الابن ويعامله كأنه لم يضلّ عنه إكراما ليسوع المسيح. 24 لِأَنَّ ابنِي هذا كانَ مَيتاً فعاش، وكانَ ضالاًّ فوُجِد. فأَخذوا يتَنَّعمون تشير عبارة " لِأَنَّ ابنِي " إلى اعتراف الأب بابنه أمام الحاضرين وصرّح بان له كل حقوق الابن. فكان قصده من ذلك كقصد الراعي من دعوة أصدقائه وجيرانه للفرح معه على وجدانه خروفه الضال (لوقا 15: 6) وكقصد المرأة من دعوة صديقاتها وجاراتها لتشاركها في فرحها على وجدان الدرهم المفقود (لوقا 15: 9). أمّا عبارة "مَيتاً فعاش" فتشير إلى الخطيئة التي هي الموت كما يؤكد ذلك بولس الرسول " وأَنتُم، وقَد كُنتُم أَمواتًا بِزَلاَّتِكم وخَطاياكُمُ " (أفسس 2: 1)؛ أمَّا عبارة " كانَ ضالاًّ فوُجِد " فتشير إلى خطيئة الإنسان تتمثل بالابتعاد عن البيت الذي كان فيه ابناً ويصل إلى مكان يصبح فيه أجيرا حيث يلقى معاملة أسوء من تلك التي يلقاها الحيوان، فيخسر كرامته ولا يهتم به أحد. وهي حالة عزلة وضياع وموت. أمَّا عبارة "يتَنَّعمون" فتشير إلى المشاركة في الفرح العظيم، وهي صورة لبساطة الحياة في القرية. ومن هذ المنطلق، لا يجوز الحكم على أحد ما دام لا يزال في طريق الجهاد. 25 وكانَ ابنُه الأَكبَرُ في الحَقْل، فلمَّا رَجَعَ واقترَبَ مِنَ الدَّار، سَمِعَ غِناءً ورَقْصاً. تشير عبارة "ابنُه الأَكبَرُ" إلى موقف الفِرِّيسِيين الوارد ذكرهم في المثل (لوقا 15: 2). وهو يمثّل أيضا الناس المُتديّنين، أي كلّ الذين بقوا مع الآب بدون أن يعصوا وصاياه. ويمثل الابن البِكر أخيرا شعب العهد القديم الذي يُحسب بكرًا في معرفة الله، إذ قبل المواعيد الإلهيَّة والناموس والنبوات قبل سائر الأمم، أمَّا الابن الضالّ فيمثل الجبأة والخاطئين وبالتالي الأمم الوثنية الذين عاشوا في عبادة الأصنام والرجاسات الوثنية. أمَّا عبارة " سَمِعَ غِناءً ورَقْصاً" فتشيرإلى صوت فرحة العودة الابن الأصغر وبالغفران الذي حصل عليه. 26 فدَعا أَحَدَ الخَدَمِ واستَخبَرَ ما عَسَى أَن يَكونَ ذلك. تشير هذا الآية على شراسة أخلاق الابن الأكبر، لأنه لم يدخل حالا كي يشارك أبيه وأخيه الأصغر والمدعوِّين في فرحهم، بل أرسل يستخبر عن علة ذلك الفرح، كأنه لا حق لأهل البيت أن يأتوا مثل ذلك في غيابه. 27 فقالَ له: قَدِمَ أَخوكَ فذَبَحَ أَبوكَ العِجْلَ المُسَمَّن لِأَنَّه لَقِيَه سالِماً. تشير هذه الآية أن اخوه الأكبر يفرح معهم متى عرف العِلَّة. 28فغَضِبَ وأَبى أَن يَدخُل. فَخَرَجَ إِلَيه أَبوهُ يَسأَلُه أَن يَدخُل تشير عبارة " غَضِبَ وأَبى أَن يَدخُل " إلى غيرة الأخ الأكبر وعدم محبته لأخيه وتذمره من أجل محبَّة الأب لأخيه الأصغر. لا يستطيع بسهولة أن يتقبل أخاه العائد إلى بيت الآب بل يقف موقف الناقد لأبيه على اتساع قلبه للابن. انه وقف موقف تذمر الفِرِّيسِيين والكَتَبَةُ على المسيح لقبوله الخاطئين. ويعلق القديس أمبروسيوس "أنه أحد الذين لا يبصرون الخشبة التي في أعينهم، بينما ينتقدون القذى التي في الآخرين. إنه يغضب، لأن الغير ينال غفرانًا ونعمة!". فهو لا يعيش حياته كعلاقة حب بنوية، ولا يُدرك أن مصدر كل ما يحصل عليه هو هذا الحب. إنه كمن لا يملك شيئاً. تكشف الغيرة أنّه لم يفهم حقيقةً جمال مسكنه الوالديّ، ولم يفهم السعادة الكامنة. ويلمِّح غضبه إلى مقاومة الشعب اليهودي لخلاص الأمم. إنهم إلى هذا اليوم في غيرة من الكنيسة التي يقاومونها. أمَّا عبارة " أَبى أَن يَدخُل " فتشير إلى وقوف الابن الأكبر على الباب ولم يردْ أن يدخل بيتاً اخوه فيه، بهذا صار الابن عبدًا، لِأَنَّ الخادِمَ لا يَعلَمُ ما يَعمَلُ سَيِّدُه " (يوحنا 15: 15). أمَّا عبارة " فَخَرَجَ إِلَيه أَبوهُ" فتشير إلى حلم الأب وتنازله، لأنه ترك الوليمة والضيوف وابنه الأصغر، وخرج ليطلب ابنه الأكبر أن يدخل كأن الفرح لا يكتمل وهناك واحد حزين. واظهر صبره وطول أناته ورغبته في إتيانهم إليه. هكذا يرغب الآب السماوي أن يدخل الكَتَبَةُ والفِرِّيسِيين ملكوت السماوي كما دخل الجُباة والخاطئون. 29 فأَجابَ أَباه: ها إِنِّي أَخدُمُكَ مُنذُ سِنينَ طِوال، وما عَصَيتُ لَكَ أَمراً قَطّ، فما أَعطَيتَني جَدْياً واحِداً لأَتَنعَّمَ به مع أَصدِقائي. تشير عبارة "ها إِنِّي أَخدُمُكَ مُنذُ سِنينَ طِوال" إلى الابن الأكبر الذي يعمل لصالح أبيه، ويطيع كل تعليماته. إنه لا يعيش إلا وفق عدالة القانون، لا يعيش إلا بحسب الشريعة لكنه لا يريد الرحمة؛ يُذكِّرنا هذا الجواب صلاة الفريسي في الهيكل (لوقا 18: 10 -12) وهو كلام إنسان مُدَّعٍ البِرِّ الذاتي. أمَّا عبارة "ما عَصَيتُ لَكَ أَمراً قَطّ" فتشير إلى طاعة ملتزمة. إنّه يُلبّي جميع رغبات الأب ولا يخالفه في أمرٍ واحدٍ. إنّه نموذج المؤمن الملتزم بشريعة الربّ، ويطبّق جميع وصاياه لكن لا كابن بل كعبد، ولا عن حب بل طلبًا للمكافأة عائشا بروح البِّر الذاتي. وهذا الأمر يطابق ما يقتنع به الفِرِّيسِيين بأنهم عملوا بجميع ما تطلبه الشريعة منهم كما ورد في إنجيل لوقا "كانوا مُتَيَقِّنينَ أّنَّهم أَبرار، ويَحتَقِرونَ سائرَ النَّاس" (لوقا 18: 9)؛ فقد عكس تذمر الابن الأكبر خاصّةً مشكلة علاقة إسرائيل بالوثنيّين عندما اكتشف إسرائيل (الابن الأكبر) أنّ الوثنيّين (الابن الأصغر) مدعوّون دون أن يخضعوا لإلزاميّة الشريعة، عبّر عن مرارته. بيد أنّ محنة أخوه الأصغر كانت بمثابة كشفٍ عن حقيقة إيمان الأخ الأكبر: إنه صالح ولكنّه يحتقر أخاه الضال. بهذا الأمر يذكرنا الابن الأكبر للفرِّيسي الذي برر ذاته في صلاته المملوءة غرورًا، هذا الذي حسب نفسه أنه لم يكسر وصيَّة الله مطلقًا، بممارسته لحرفية الشريعة "الَّلهُمَّ، شُكراً لَكَ لِأَنِّي لَستُ كَسائِرِ النَّاسِ السَّرَّاقينَ الظَّالمِينَ الفاسقِين، ولا مِثْلَ هذا الجابي" (لوقا 18: 11). وبقسوة اتَّهم أخاه أنه بدَّد ميراث أبيه مع الزناة، مع أنه كان يجب أن يحترس في كلماته لأن الرب يسوع جاء لأجل العَشَّارين والخاطئين. كما أعلن يسوع " ما جِئتُ لأُدعُوَ الأَبرار، بَلِ الخاطِئينَ إلى التَّوبَة " (لوقا 5: 32). أمَّا عبارة "ما أَعطَيتَني جَدْياً واحِداً" فتشير إلى تأكيد على ضمير المتكلم، وهو حريص على حقوقه وامتيازاته. فهو ابن له كل الميراث، ولكنه يتخاصم مع أبيه بسبب جِدْيْ. وأنكر فضل أبيه. يدل كلامه على أنّه ليس سعيدًا، فحتى الجَدْي الذي هو شيء هزيل بالنسبة لعجل مُسمَّن، لم يعط له ليستمتع مع أصدقائه. يتذمر الابن الأكبر بانه لم يأخذ جَدْياً ما هو الأرخص مع أنَّ أخاه نال ما هو الأغلى (العجل المُسمَّن)؛ أنه يشعر بأنّ العيش تحت كنف الأب نير. إنّه نموذج المؤمن الذي يلتزم بالشريعة مرغمًا، كما قال قاله داهية العرب عمرو بن العاص، "مكره أخوك لا بطل". هو المؤمن الذي لا يرتاح مع أبيه السماويّ بل يخشى بطشه أو عقابه؛ المؤمن الذي هو لا تزال شريعته مكتوبة على لوح حجر وليس في قلبه. إنّه يسبّح الربّ بشفتيه ولكنّ قلبه بعيد عنه. إنّه مؤمن ويتمّم جميع الوصايا والأوامر، ولكنّه يفعل هذا دون محبّة، ينتقد أباه على حبِّه، ويغلق قلبه نحو أخيه، فيفقد سلامه الداخلي وفرحه ليعيش بقلبٍ مناقضٍ لقلب أبيه. ومن هنا نتساءل: أيّ نفعٍ لإيمانٍ ليس فيه محبّة؟ ويعلق الأب قيصريوس "المسيح بالنسبة لنا هو حمل، وبالنسبة لليهود هو جدي. لأنهم يعتبرونه خاطئ وليس بارًا". 30 ولمَّا قَدِمَ ابنُكَ هذا الَّذي أَكَلَ مالَكَ مع البَغايا ذَبَحتَ له العِجْلَ المُسَمَّن! تشير عبارة " ابنُكَ هذا " إلى صيغة التحقير فلم يردْ أن يعترف به أخا له فاظهر بهذا أهانته لأبيه وتمرّده على إرادته وشدَّة محبته لذاته. أيّ نفعٍ لإيمانٍ يسمح للشخص بأن يقول: هذا ليس أخي، هذا ابنكَ، وأنا أتبرّأ منه. يُذكِّرنا ها الأمر باحتقار الفِرِّيسِيين للعشارين والخطأة. ويُعلق البابا بندكتس السادس عشر "مع صورة هذين الأخوَين، يندرج هذا النصّ في قلب سلسلة كتابيّة طويلة، تبدأ مع قصّة قايين وهابيل، والتي تتكرّر مع الأخوَين إسحَق وإسماعيل مرّةً، ومع يعقوب وعيسو مرّةً أخرى". أمَّا عبارة " أَكَلَ مالَكَ " فتشير إلى علة الخسارة العظمى لكنَّ الأب مع علمه بما أتاه ابنه الأصغر غفر له لأنه تاب، فكان على أخيه الأكبر أن يفعل كذلك. أمَّا عبارة " البَغايا" في الأصل اليونانيπόρνη (معناها الممارسة الإباحية) فتشير إلى الزنى وهنا يتكلم عن أخيه باحتقار ليجعل أخاه مكروهًا في عيني أبيه. وفي المعنى الرمزي، يُعتبر الزنى خيانة الله وابتعاد عنه تعالى مما يدلُّ على أنَّ الابن الأصغر صار في العالم الوثني. أمّا عبارة " ذَبَحتَ له العِجْلَ المُسَمَّن " فتشير إلى كل الذبيحة كأنها مجرد بهجة أخيه. والحق انه ذُبح العجل لكل أهل البيت وكانت الوليمة تعبيرا للفرح العام. ونتيجة كلامه اتَّهم أبيه بالمحاباة بدعوى انه شحَّ عليه (لوقا 15: 29) وجاد على أخيه. 31 فقالَ له: يا بُنَيَّ، أَنتَ مَعي دائماً أبداً، وجَميعُ ما هو لي فهُو لَك تشير عبارة "بُنَيَّ" إلى صيغة التصغير الدالة على التحبُّب والرقة؛ اظهر الأب لطفه وحلمه لكي يطفئ نار غيظه وحسده ولم يلمْهُ على خشونته وقساوته، بل دعاه ابنه مع أن الابن لم يدْعه أبا. أمَّا عبارة " أَنتَ" فتشير إلى ضمير توكيد. أمَّا عبارة "مَعي دائماً أبداً" فتشير إلى عدم عمل وليمة للابن الأكبر لأنه لن يغب عن البيت قطٌ ولم يقترب من الهلاك حتى نحتاج إلى فرح خاص ووليمة لرجوعه سالما. هذا يمصل وضع الشعب اليهودي تجاه الله؛ أمَّا الشعب الوثني فيُعتبر بعيدا عن الله، فهو في الأصل من البيت لهذا عاد الابن الأصغر إلى بيته فصالح الأب الابن الأكبر والأصغر، البعيد والقريب كما جاء في تعليم بولس الرسول "جاءَ وبَشَّرَكم بِالسَّلام أَنتُمُ الَّذينَ كُنتُم أَباعِد، وبَشَّرَ بِالسَّلامِ الَّذينَ كانوا أَقارِب" (أفسس 2: 17)، وهي دعوة للمصالحة التي تتجاوز الأخطاء وتنفتح على الحب والغفران. أمَّا عبارة "جَميعُ ما هو لي فهُو لَك" فتشير إلى كل شيء مشترك بين الأب وابنه، وانه ابن مالك وبصورة مجانية. فهو ليس ثمرة أعمال الابن ولكن مكافأة يجب استحقاقها. إن العلاقة مع الله الآب تجعلنا ننفتح على أخينا الذي معه نتشارك في الذبيحة الإلهية؛ ومن هذا المنطلق، يدعو ألاب إلى مغفرةُ للابن الأصغر للدخول في فرح عودته، يُذكِّر الأب ابنه انه يجب ألاّ يخاف برجوع أخيه الأصغر، لانَّ المال له وليس بعد ذلك قسمة أخرى. وبالمثل لا يحق للفريسيين والكَتَبَةُ في أن يتذمروا، فالله لم يظلمهم بقبول الجُباة والخاطئين، وهم لم يخسروا بذلك شيئا، لان عهود الله باقية لهم كاملة، فلهم الشريعة والأنبياء والمراسيم الدينية الموسوية. وكل وسائط النعمة مباحة لهم إذا شاءوا استعمالها. ويُعلق الأب ويعلق الأب قيصريوس "إن عبادة الله الواحد وكتابات العهد القديم والأنبياء الأمور التي بالتأكيد تخص الله قد بقيت مع اليهود على الدوام". 32 ولكِن قد وَجَبَ أَن نَتَنعَّمَ ونَفرَح، لِأَنَّ أَخاكَ هذا كانَ مَيتاً فعاش، وكانَ ضالاًّ فوُجِد. تشير عبارة "أَخاكَ" إلى توبيخ لطيف من الأب لابنه الأكبر الذي احتقر أخاه الأصغر حيث أنَّ العلاقة الأخوية باقية ببقاء العلاقة الأبوية؛ في حين أنّ الابن الأكبر لا يعترف بأخيه الأصغر، لكن الأب، وبطريقةٍ في غاية الوداعة، يذكّره ويقول: أخوك. وبالتالي وجب عليه أن يشترك في فرحة الوليمة. وهذا ما أنكره الابن الأكبر بقوله لأبيه " ابنك" (لوقا 15: 30). الجُباة والخاطئون هم أخوة للفريسيين والكَتَبَةُ، لأنهم كلهم أولاد آدم وزادهم قرابة انهم جميعا أولاد يعقوب فكان يجب عليهم أن يفرحوا بخيرهم ويحزنوا على خطاياهم. أمَّا عبارة "هذا كانَ مَيتاً فعاش، وكانَ ضالاًّ فوُجِد" فتشير إلى إعادة للآية السابقة (لوقا 15: 24)، وتدل على خاتمة المشهد الثاني، وهي بمثابة جواب يسوع على تذمر الفِرِّيسِيين الذين شاهدوا يسوع يستقبل الخاطئين. نلاحظ أن المَثل لا يُخبر بماذا فعل الابن الأكبر بل ترك الجواب مفتوحا. يدعو يسوع الآخرين إلى حبِّ الآخرين كما هم. وهذا يتطلب قبول الآخر من ناحية، واكتشاف "الأب" كي نصبح "الابن"، وفهم "الآخر" كي نصبح "أخا " في نفس الوقت من ناحية أخرى. ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (لوقا 15: 1-3، 11-32) بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي (لوقا 15: 1-3، 11-32) نستنتج انه يتمحور حول رحمة الله للخاطئين. الأب يمثل الله، الآب السماوي؛ أمَّا ابناه فيمثل الأصغر العشارين والخاطئين وشعوب الأمم، والابن الأكبر يمثل الفِرِّيسِيين والكَتَبَةُ واليهود. ويُقسم المثل إلى قسمين: القسم الأول يصف رحمة الله للابن الأصغر (لوقا 15: 11-23أ)؛ وأمَّا القسم الثاني فيصف رحمة الله للابن الأكبر (لوقا 15:24ب-32) والقسمان مرتبطان ارتباطا وثيقا بشخص " الآب "، وهو الشخص الرئيسي، بموقفه الرحيم وبدعوته إلى مُقاسمة فرحه بعودة أبنائه الخاطئين. 1) رحمة الآب للابن الأصغر (لوقا 15: 11، 24). يتناول القسم الأول الابن الضال وموقف الأب منه. قسّم الأب ميراثه بين ابنيه على طلب الابن الأصغر، فاحترم استقلالية ابنه الأصغر وحريته، وسمح له بالسفر، على أمل أن يقدّر حب أبيه حتّى ولو أنّ ذلك يُؤلمه. موقف الابن الأصغر من أبيه ترك الابن الأصغر بيت أبيه وسافر إلى بلدٍ بعيدٍ ونغمسَ في جميع أنواع الفجور، وعاش عيشة التحرُّر من كل رباط ومن كل المحرّمات، فأطلق العنان لأهوائه واستباح كل لذة حرام في غربة قاتلة، إذ بدت الخطيئة مُغرية مستحبَّة وجذَّابه. فضاع بدافع من الأنانية (لوقا 15: 12) وبدّد كلّ ميراثه وأنفق أمواله وانقطعت موارده بعيداً عن أبيه. وبلغ الحالة القصوى من الذل والشقاء والفقر والحرمان، ولم يبق له معها إلاَّ الهلاك. إنّ المشكلة تكمن في أنّ المسرّات الشرّيرة لا تدوم طويلاً، فهي نعيم اصطناعيّ. ويبقى الفم مرّاً. وهذه هي الخطيئة الكبرى الّتي تخدعه. بينما كان يظنّ الابن الأصغر أنّه سعيد، وجد نفسه في الواقع وحيداً وحزيناً، متروكا من قِبل الجميع، وعوضاً أن يكون ابنا أصبح عبداً، واكتشف الشرور المحيطة به: جوعه، وفقره، وعزلته حينئذ يُذكِّر نفسه بالأب، وطيبته، وكرمه. ولكنّ الخطيئة جعلته ينظر إلى الأب كسيّد، وهو كأجير فقال له "لَستُ أَهْلاً بَعدَ ذلك لِأَن أُدْعى لَكَ ابناً، فاجعَلْني كأَحَدِ أُجَرائِكَ" (لوقا 15: 19). الرجوع إلى النفس هي نقطة التحوَّل حيث بدأ الإنسان يفكر في حالته أيام كان فيها مع الله، وحالته وهو بعيدٌ عن الله. وندم قبل أن يتخذ القرار الحاسم الصادق للتخلص من الشرور والعودة إلى أبيه. وكان أول طريق الرجوع انه رأى ضلاله، وعرف أخطاءه، واقرّ لأبيه انه أخطأ. وكل رجوع عن الخطيئة هو رجوع إلى الحياة. رد فعل الأب من ابنه الأصغر: بعد أن عاش الابن الضال في بيت أبيه مستمتعًا بمحبته وأبوته وطيِّباته، والشبع في بيته، اختار أن يترك حضن أبيه وبيته. لم يحاوره أبوه بسيرته. فما الجديد الذي سيقوله الابن لأبيه فهو يعرف كل شيء: التجارب والضيقات: المجاعة والأكل مع الخنازير. إنه يقارن بين حاله بعيدًا عن أبيه وبين حاله في بيت أبيه فيشتاق للرجوع. وإن ما "أحزن " الأب هو سفر ابنه ورغبته في ألا َّ يكون ابناً بعيدا، وفي ألاَّ يتيح بعد لأبيه أن يُحبه حباً إيجابيا: لقد "أهان " أباه بحرمانه من وجوده كابن، فكيف يمكن أن "يعوض" هذه الإهانة، إن لم يكن بعودته، وقبوله من جديد في أن يعامله كالابن؟ ولذا يبرز المثل خاصة فرح الأب. الفرح يرتبط بالخلاص وحضور الله؛ فالفرح هو ثمرة الخلاص (مزمور 51: 14)، بعكس الحزن الذي يُعد ثمرة الخطيئة التي تفصل الله عن الإنسان. وخارج هذا الرجوع، لا يمكن أن يتصور أي صفح من قبل الأب. لم يجبر الأب ابنه على الرجوع إليه، إنما انتظره بصبر، لحين عودته لرشده. لان أعادته بشيء من القوة لم تكن تُجدي خيرا إذا ظلَّ القلب بعيداّ. أن الابن الذي اختار أن يَضلّ، يجب أن يختار هو نفسه أن يعود. لم يُلزم الأب ابنه بالرجوع إليه، بل عامله كانسان له إرادته المستقلة، وأعطى له فرصة للعودة. وإذ راه من بعيد أنطلق نحوه يركض مُسرعًا لا ليعاتبه أو يوبِّخه وإنما ليضمَّه إلى عنقه ويقّبِّله. إنه ينصت لاعتراف ابنه الخاطئ، لكنه لا يسمح له أن يصبح عبداً، فلا يتركه يقول: " اجعَلْني كأَحَدِ أُجَرائِكَ"، إنما يطلب له ثوب الابن وخاتمه، مُكرِّمًا إيَّاه في بيته! إذا كان الابن الأصغر نسي أباه في الغربة، وفترت محبته له، لكنه لم يستطعْ أن يقتلَ محبة أبيه له. الأب لم يحكم عل على ابنه ولم يلمْه ولم يُعنّفه ولم يذكر أخطاءه كي لا يحطّ من شرف ابنه، ولم يذكر أيّ شيء من الماضي بل عامله بمحبة مهما كان سبب ضياعه، وأراد له أن يبدأ حياة جديدة. وأخيرا عبّر ألاب عن فرحه بالعثور على ابنه المفقود، وأقام وليمة، لأنّ الابن الذي كان ضالاً قد وُجد، والّذي كان ميّتاً قد عاد إلى الحياة. هل هناك عيداً أجمل من اختبار رحمة الآب غير المحدودة؟ العبرة الأولى: يكشف المثل أبوة الله ألاب وقلبه الأبوي وعاطفته نحو عالم الخاطئين. ويُبيِّن يسوع رحمة الله الذي يصفح عن الخطأة التي لا تدرك. فلكل منهم منزلٌة، هو يحبهم، لا عن جدارة واستحقاق منهم، بل يحبهم لذواتهم. ومحبته "تَعذِرُ كُلَّ شيَء وتُصَدِّقُ كُلَّ شَيء وتَرْجو كُلَّ شيَء وتَتَحمَّلُ كُلَّ شيَء"(1 قورنتس 13: 7). ويُعلمنا يسوع من خلال هذا المثل أن الله هو أب (مزمور 103: 13). أب يصفح ويرحم (أشعيا 55: 7، دانيال 9: 9). والرحمة هي صفة خاصة بلله (مزمور 78: 38): "الله رحيم ورؤوف"، هو اللقب الأول الذي يتمسك به الله (الخروج 64: 6)، والذي سيعترف له به الأنبياء خاصة النبي يوئيل (2: 13). يُعلن الرب لموسى هذه الحقيقة، أنه هو "إِلهٌ رَحيمٌ ورَؤُوف، طَويلُ الأَناةِ كَثيرُ الَرَّحمَة والوَفاء، يَحفَظُ الَرَّحمةَ لأُلوَف، وَيحتَمِلُ الإثمَ والمَعصِيَةَ والخَطيئَة" (خروج 34: 6 -7). وسوف تلجّ النبوات التالية أكثر فأكثر في تأكيد أناة الآب ومحبته الرحيمة، فهو "الرَّبُّ رؤوفٌ رَحيم طَويلُ الأَناة كَثيرُ الرَّحمَة ...لا على حَسَبِ خَطايانا عامَلَنا ولا على حَسَبِ آثامِنا كافَأنا" (مزمور 103: 8-10. لكن لا يجوز التفكير في أن صفح من قِبل الله لا يتطلب رجوعاً من قِبل الخاطئ كما ورد في مثل الابن الضال (لوقا 15: 11-13) وكل خاطئ يستطيع أن يعتمد على رحمة الله المذهلة وغير المحدودة كما جاء في سفر المزامير "رحَمْني يا أَللهُ بِحَسَبِ رَحمَتِكَ وبِكَثرَةِ رأفَتِكَ اَمْحُ مَعاصِيّ"(مزمور 51: 3)؛ وهذه الرحمة ليس ليخطئ الإنسان أكثر كما جاء في تعليم يشوع بن سيراخ "لا تَكُنْ واثِقًا مِن نَيلِ الغُفْران حَتَّى تَزيدَ خَطيئَةً على خَطيئَة. ولا تَقُلْ: ((رَحمَتُه عَظيمة فيَغفِرُ كَثرَةَ خَطايايَ فإِنَّ عِندَه الشَّفَقةَ والغَضَب وسُخطُه يَحِلّ على الخاطِئين. لاُ تؤَخِّر التَّوبَةَ إلى الرَّبّ"(سيراخ 5: 4-7)، بل ليعود الخاطئ للآب الذي ينتظره (لوقا 15: 20). يقدم لنا الكتاب المقدس الإنسان الخاطئ كشخص مديون يُبرُّئه الله من دينه بالصفح عنه كما جاء في تشفع موسى لشعبه "اغفِرْ إِثْمَ هذا الشَّعبِ بِحَسَبِ عَظيمِ رَحمَتِكَ" (عدد 14: 19). وهذا الغفران فعَّال لدرجة أن الله لا يعود ينظر بعد إلى الخطيئة، وكأنه قد نبذها وراء ظهره كما جاء في سفر أشعيا "نَبَذتَ جَميعَ خَطايايَ وَراءَ ظَهرِكَ"(أشعيا 38: 17). وهنا صدق قول شكسبير المأثور " الله ينسى والإنسان يغفر". ولكنّ هذه الرحمة الإلهية ليست ضعفاً، بل دعوة إلى التوبة: "توبوا عن طُرُقكُمُ السًّيئة " (2 ملوك 13: 17) فان "الرَّبُّ رؤوفٌ رَحيم طَويلُ الأَناة كَثيرُ الرَّحمَة" (مزمور 103: 8). ويفهم إسرائيل تدريجياً أنه ليس هو وحده الذي يجني ثمار هذه الرحمة: فالأمم أيضاً هم موضع محبة الله، وتذكّرنا قصة يونان أنَّ باب الرحمة الإلهية مفتوحٌ أمام كل أمَّة تتّقي الله وتتوب إليه. وليس مستغربا أن يدعو بولس الرسول المسيحيين لكي "يلبسوا الأحشاء الرحيمة"، أحشاء الله وأحشاء ابنه "وأَنتُمُ الَّذينَ اختارَهمُ اللهُ فقَدَّسَهم وأَحبَّهم، اِلبَسوا عَواطِفَ الحَنانِ واللُّطْفِ والتَّواضُع والوَداعةِ والصَّبْر"(قولسي 3: 12). فإن على أبناء الله جميعهم أن يقتدوا بأبيهم السماوي "كونوا رُحَماءَ كما أَنَّ أَباكُم رَحيم"(لوقا 6: 36)، وبأن يكون لهم قلب مثل قلبه، كله شفقة وحنان نحو القريب "قد وَجَبَ أَن نَتَنعَّمَ ونَفرَح، لِأَنَّ أَخاكَ هذا كانَ مَيتاً فعاش، وكانَ ضالاًّ فوُجِد"(لوقا 15: 31)، أي نحو جميع بني البشر، دون استثناء، على نحو محبة السامري الصالح المثالية؛ ولم تكن هذه المحبة عاطفية فحسب، بل إيجابية (لوقا 10: 33). إنهم على هذا النحو فقط يندمجون في حركة الرحمة الإلهية، التي تأتيهم من عند الله الآب، وابنه يسوع المسيح، بفضل روح المحبة (فيلبي 2: 1)، وهو يرفعهم نحو السعادة التي لا نهاية لها، بالتفوق على الخطيئة والموت. إن محبة الله تنتظرنا على الدوام، ويبحث الله عنا، ويعطينا فرصا للاستجابة له والعودة إليه مهما كان سبب ضياعنا. 2) رحمة الآب للابن الأكبر (لوقا 15: 25-32) يتناول القسم الثاني موقف الأخ الأكبر وموقف الأب منه. ليست شخصيّة الابن الأكبر أقلّ أهميّة من شخصيّة الابن الأصغر، لدرجة أنّه ربّما كان بإمكاننا تسمية هذا المثل "مثل الأخوَين" كما اقترح الكاردينال جوزف راتزنغر (بِندِكتُس السادس عشر، رياضة روحيّة في الفاتيكان، سنة 1983). ويمثل الأخ الأكبر روح الفِرِّيسِيين والكَتَبَةُ في تذمرهم على يسوع كاشفا موقف الله الرحيم منهم أيضا. موقف الابن الأكبر من أبيه كان هذا الابن (الأكبر) مطيعًا ملتزمًا. إنّه يُلبّي جميع رغبات الأب «ولا يعصيه» في أمرٍ واحدٍ. إنّه نموذج الملتزم بشريعة الربّ، ويطبّق جميع وصاياه. بيد أنّ محنة أخوه الأصغر كانت بمثابة كشفٍ عن حقيقة إيمانه وطبيعته. إنّه المؤمن الذي يلتزم بالشريعة مُرغمًا؛ المؤمن الذي لا يرتاح مع أبيه السماويّ، بل يخشى بطشه أو عقابه؛ هو المؤمن الذي لا تزال شريعته مكتوبة على لوح حجر وليس في قلبه. إنّه يسبّح الربّ بشفتيه ولكنّ قلبه بعيدٌ عنه. كما وَرَدَ في الكِتاب: ((هذا الشَّعبُ يُكَرِمُني بِشَفَتَيه وأَمَّا قَلبُه فبَعيدٌ مِنِّي" (مرقس 7: 6)؛ انه يُتمّم جميع الوصايا والأوامر: يصوم ويصلّي، ويمتنع عن المحرّمات، ويلتزم بالواجبات، ولكنّه يفعل هذا بدون محبّة. كان في بيت أبيه بالجسد ولكن ليس بالروح ولا بالقلب. ويبيّن حواره مع أبيه أنّه ليس سعيدًا: " فما أَعطَيتَني جَدْياً واحِداً لأَتَنعَّمَ به مع أَصدِقائي" (لوقا 15: 29). فأنه يحس بالبر الذاتي والخضوع لأبيه، ولكن في أنانية واستغلال. وقام بواجبه لكن منتظرا جزاء وشكرا، إنّه مثل أخيه الصغير تمامًا ليس سعيدًا، ليس مرتاحًا، يشعر بأنّ العيش تحت كنف الأب نير؛ والفارق الوحيد بين الاثنين هو أنّ هذا لم يترك البيت مثل ذاك بل بقي مع أبيه. وفي حوار الابن الأكبر مع أبيه لا يقول أبدًا "أخي"، بل " ابنُكَ". وكأنَّ يقول "هذا ليس أخي، هذا ابنكَ، وأنا أتبرّأ منه " وألحَّ على ذكر ذنوب أخيه القبيحة، ورفض أن يدخل البيت ويسلِّم عليه تحت تأثير حقده وكبريائِه ورغبته في الانتقام منه. في حين أنّ الأب، وبطريقةٍ في غاية الوداعة، يذكّره ويقول: انه أخوك. إن رحمة الأب لأخيه الأصغر والفرح لعودته كان له سبب عثار، لأنه عاجزٌ عن إدراك هذه الرحمة (لوقا 15: 28). فلا عجب أن صفة "رحيم " لم تطبق على الإنسان إلا مرّة واحدة (مزمور 112: 4). وهنا يحثُّ يسوع على المحبة الأخوية التي على المسيحي أن يمارسها نحو الجميع كما جاء في تعليم بولس الرسول " كُونوا لِلقِدِّيسينَ في حاجاتِهِم مُشارِكين" (رومة 12: 13). وأخيرا منع كبرياء الابن الأكبر من مصالحة أبيه. فيعتبر الأب سيّداً، ولا يعتبر نفسه الابن، بل خادماً، خدم سيّده دائماً. ويتذمّر، لأنّه لم يبتعد عن البيت أبداً، ولكنّ قلبه خالً من المحبّة. فهو مرتبط بعطايا ألاب، وليس بالأب نفسه. ولهذا صَعب عليه العودة إلى البيت. والإنجيل في الواقع لا يذكر إن كان الابن قد سمع كلمة الأب، ربّما يكون هذا الصمت مُبرّراً بسبب أنّ الجواب ينبغي أن يكون موجّهاً إلينا أيضاً! رد فعل الأب من ابنه الأكبر نجد تناقضاً بين رد فعل الأب وموقف ابنه الأكبر. كان الأب فرحا وغفر للابن الأصغر فعلته، أمَّا الابن الأكبر فكان يحسُّ بمرارة، وامتعاض، بل غضب لقبول أخيه الخاطئ في البيت. ولم يرض الابن الأكبر أن يسامح بل كان حزين، في حين غفر الأب لابنه الأصغر وكان فرحا لعودته؛ والفرق بين الفرح والحزن هو القدرة على الغفران. ولذلك لمَّا رفض الأخ الأكبر الغفران لأخيه الأصغر فقد أضاع فرصة لاختبار الفرح ومشاركة الآخرين فيه. يختم المثل بالجواب على المشكلة التي يبتدئ بها الفصل "هذا الرَّجُلُ يَستَقبِلُ الخاطِئينَ ويَأكُلُ مَعَهم!" (لوقا 15: 1-2)، ويلقي ضوء على عبرة المثل الأساسية، وهي دعوة إلى الفِرِّيسِيين للدخول إلى فرح الله ولتوسيع قلوبهم على سعة قلب الله في استقبال الخاطئين العائدين إليه، وهناك دعوة أيضا للمسيحيين الآتين من العالم اليهودي والذي يُمثلهم الأخ الأكبر إلى تقبل المسيحيين الآتين من العالم الوثني والذي يمثلهم الأخ الأصغر. العبرة الثانية أظهر يسوع من خلال مثل الابن الضال وجه ومن وجوه الرحمة الإلهية، فكشف أن الله الآب هو إله الغفران "الرَّبّ رَحيمٌ ورَؤُوف، طَويلُ الأَناةِ كَثيرُ الَرَّحمَة والوَفاء ولكنَّه لا يَتُركُ دونَ عِقابٍ شَيئاً، فيُعاتِبُ إِثْمَ الآباءِ في البَنينَ وفي بَني البَنينَ إلى الجيلِ الثَّالِثِ والرَّابِع" (خروج34: 6-9). لكن قلب الله ليس كقلب الإنسان، والقدوس لا يحب أن يهلك (هوشع 11: 8-9). إن الله لا يريد موت المنافق بل توبته كما جاء في نبوءة حزقيال "لعَلَّ هَوايَ في مَوتِ الشِّرَّير؟ يَقولُ السَّيِّدُ الرَّبّ. أَلَيسَ في أَن يَتوبَ عن طرقِه فيَحْيا؟ "(حزقيال 18: 23)، ولكي يغدق عليه غفرانه كما جاء في نبوءة أشعيا " إِنَّ أَفكاري لَيسَت أَفْكارَكم ولا طرقُكم طُرُقي، يَقولُ الرَّبّ. كما تَعْلو السَّمواتُ عنِ الأَرض كذلك طُرُقي تَعْلو عن طُرُقِكم وأَفْكاري عن أَفْكارِكم " (أشعيا 55: 7-9). وما يغمر صلاة المزامير بالثقة هو أن الله يصفح عن الخاطئ الذي يعترف بخطاياه كما جاء في قول صاحب المزامير " ْأَبَحتُكَ خَطيئَتي وما كَتَمت إِثْمي قُلتُ: أَعْتَرِفُ لِلرَّبِّ بِمَعاصِيَّ وأنتَ رَفَعتَ وِزْرَ خطيئَتي"(مزمور 32: 5)، ولا يرغب الله موت الخاطئ "هو رَحيمٌ يَغفِرُ الإِثمَ ولا يُهلِك" (مزمور 78: 38)، فإنه يخلقه خلقاً جديداً، مطهّراً إياه، وغامراً بالبهجة قلبه المنسحق والمتواضع (مزمور 51: 10-14). والله هو الآب الذي يرأف بجميع أبنائه (مزمور 103: 3). إنه إله الرحمة (دانيال 9: 9)، ويقدم غفرانه لجميع الناس (يونان 3: 10). ويتغاضى عن خطايا الناس لكي يتوبوا كما جاء في سفر الحكمة " تَرحَمُ جَميعَ النَّاس لأنّكَ على كُلِّ شَيءٍ قَدير وتَتَغاضَى عن خَطايا النَّاسِ لِكَي يَتوبوا" (حكمة 11: 23). وأعلن يسوع إلى الخطأة الذين حرمهم الفريسيون المُتزمِّتون من الملكوت بشارة الرحمة الإلهية. ويُسرّ قلب الله، لا لهؤلاء الأبرار في أعين أنفسهم، بل للخطأة التائبين الذين شبّههم بالخروف الضال (لوقا 15: 1-7) أو الدرهم الضائع (لوقا 15: 8-10) اللذين عثر عليهما بعد ضياعهما. يترقّب الأب بشوق جزيل عودة ابنه الضال، وإذ يراه من بعيد تتحرك عواطفه ويركض ليحتضنه (لوقا 15: 20) لقد انتظر الله طويلاً، ولا زال ينتظر بصبر بني إسرائيل الذين لا يرجعون عن ضلالهم، وهم أشبه بشجرة التين التي لا تثمر (13: 6-9). الله حقاً هو "أبو المراحم" كما يلقبه بولس الرسول " أَبو الرَّأفَةِ (2 قورنتس 1: 3) “إِنَّه " رَحمانٌ رَحيم" كما ورد في رسالة يعقوب الرسول (يعقوب 5: 11). تجاهل اليهود الرحمة الإلهية، معتبرين أنهم ينالون البِر، بفضل أعمالهم، وحفظهم الشريعة، لكن بولس الرسول يذكّرهم بأنهم هم أيضاً خطأة، يحتاجون إلى الرحمة عن طريق التبرير بالإيمان. ومقابل هؤلاء اليهود، فإن الوثنيين الذين لم يحظوا بمواعيد من الله، بدأوا بدورهم يُجتَذبون نحو مجال الرحمة الإلهية. فينبغي أن يعترف الجميع أنهم خطأة حتى ينعموا كلهم برحمته. "لأَنَّ اللهَ أَغلَقَ على جَميعِ النَّاسِ في العِصْيانِ لِيَرحَمَهم جَميعًا " (رومة 11: 32). وكم من المسيحيّين تثور ثائرته حين يسمع أحدهم يقول إنّ خلاص المسيح سيُعطى للجميع، مسيحيّين وغير مسيحيّين؟ من السهل أن نغتاظ حين يغفر الله برحمته للآخرين الذين نعتبرهم خطأة وانهم أسوة معنا. الخلاصة كتب البشير لوقا إنجيله للأمم الوثنية وأنفرد بذكر ثلاثة أمثال قالها السيد المسيح ليؤكد أنه جاء من أجل الخطأة، وأنه يحبهم: مثل الخروف الضال (لوقا: 15-4-7)، والدرهم المفقود (لوقا 15: 8-10)، والابن الضال (لوقا 15: 11-32)، بينما أكتفي القديس متى بذكر مثل الخروف الضال فقط (متى 18: 12-14) في إنجيل اليوم حول الابن الضال يطلب الله الخطأة ويبحث عن المفقودين ويفتح أحضانه لكل ضال يرتد إليه، ويقدَّم لنا خلال المثل أبوته وشوقه الإلهي نحو الإنسان وبحثه عن كل نفس ويكشف فرحه بعودته إلى الشركة معه. ويتمحور المثل على ثلاث شخصيات وهم الأب وابنيه. الرجل يمثل الله الآب. والأبوة هي أقرب وصف لصفات الله. والمأساة الأليمة ليست آلام الابن الضال ووخز ضميره فحسب، بل حزن أبيه لفقدان ابنه. ندم الابن الأصغر على ماضيه واعترف أمام والده وقصد البقاء في المستقبل في بيت أبيه؛ وهو يمثل أولا العَشَّارين والخاطئين ثم يشير الابن الأصغر للأمم الذين تركوا الله في البداية وعاشوا في نجاسة، بل بدَّدوا عطايا الله: كرامتهم ومواهبهم، في عبادة الأوثان وفي شهواتهم. ولكنهم عادوا في نهاية الأيام. وأمَّا الابن الأكبر فيُمثّل أولا الفِرِّيسِيين والكَتَبَةُ المتكبِّرين الرافضين لدخول بيوت الخطأة وقبوله لهم؛ ثم يشير لليهود، فهم كانوا بكراً في معرفة الله، قبلوا المواعيد الإلهية وكان لهم الشريعة والنبوءات. لكنهم بسبب حسدهم وقفوا خارج البيت، خارج الإيمان ونقدوا محبة الله للأمم. ويشير الابن الأكبر أيضا للفريسيين ولكل من عاش مع الله في بيته طالما كانت مادياته جيدة لكنه يغضب على الله إذا تأثرت مادياته فيترك الله وبيته. فهذا الإنسان مرتبط بالله شكلاً دون حب، أو مرتبط بعطايا الله وليس بالله نفسه. وهكذا تدفعنا شخصيّة الابن البكر إلى إجراء فحص للضمير حيث بإمكاننا البقاء في البيت وفي الوقت نفسه الخروج منه بسبب تتمسكنا الخارجي بوصايا الله وبالغيرة والحسد من الآخرين وعدم عيش الرحمة الإلهيّة. ويُعلمنا إنجيل اليوم ألاَّ نحكم على إنسان في منتصف الطريق.فالابن الضال لم تكن نهايته المعيشة مع الخنازير، لكنه عاد إلى بيت أبيه. بينما الابن الأكبر تذمر بعد أن كان يظهر أنه في طاعة كاملة لأبيه. لذلك يقول بولس الرسول "اعتَبِروا بما انتَهَت إِلَيه سيرَتُهم" (العبرانيين 7:13) فالعبرة بالنهاية. لذلك علينا ألاَّ ندين أحد، فالله وحده يعلم ما في القلوب، ومدى استعداد كل واحد، ونهاية طريق كل واحد. وأخيراً إنّ قصّة الابن الضال هي قصّة كل واحد منّا. إنّ كلّ إنسان أمام الربّ الإله هو ابن ضال، والربّ يتصرّف كأب مع الجميع. وجميعنا يجد نفسه، في هذه القصّة، أحياناً مكان الابن الأصغر، نُطالب باستقلالنا عن الله الآب، ونريد أن نتصرّف بحسب أهوائنا، ونريد أن نعيش بعيدين عن عنه تعالى. الربّ لا يوقف الإنسان لأنّ المحبّة لا يمكنها أن تفرض أي شيء؛ لا ينتهك الربّ الحرّية؛ ولا ينتقم الربّ أبداً. نحن هم الّذين يهربون، نحن هم الّذين يرفضون، نحن هم الّذين يُغلقون الباب. لنعيد قراءة المثل بضمير المتكلّم فنكتشف رحمة الله الواسعة. دعاء نسألك، أيَّها الآب السّماوي، أن تُرحّب برحمتك الإلهية بكل الأبناء الّذين يعودون إليك بروح التوبة؛ صارخين "أبتِ، إنّي خطئتُ إلى السماء وإليك: ولستُ أهلاً لأنْ أُدْعى لكَ ابنًا!" وأن تُلبسهم ثياب الخلاص، كي يتمكّنوا من تذوّق الفرح في عشاء الحمل الفصحى. آمين الأب لويس حزبون - فلسطين |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
في مثل الابن الضال والابن الأكبر |
بين السامرية والابن الضال |
الخروف الضال، والدرهم المفقود، والابن الضال |
المفتش كرومبو والابن الضال |
شطشط والابن الضال - حوار مع الابن الضال لاطفال حضانة بمدارس الاحد |