فوائد النسيان هنا وفي الأبدية
السبت 28 يوليو 2012
بقلم قداسة البابا شنودة الثالث
مأساة النسيان:
هناك موضوع تأثرت به جدا وهو مرض بعض الأحباء بفقدان الذاكرة.. يصاب أحدهم بجلطة في المخ تؤثر علي مركز الذاكرة..
أو يصاب بتصلب في الشرايين فلا يصل الدم طبيعيا إلي المخ.فتتأثر بعض مراكزه ومنها الذاكرة وتكون النتيجة أنه ينسي الماضي كله وكأن عقله صفحة بيضاء تماما من جهته.
وكان أول مثال أمامي جناب الأب الموقر القمص يوسف الديري كاهن كنيسة مارجرجس بشبرا البلد نيح الله نفسه.
وكان واعظا بليغا ورئيس تحرير لمجلة الحق ورئيس رابطة الكهنة في
إيبارشية الجيزة والقليوبية وكان أب اعترافي, من أواخر الأربعينيات جاء وقت حوالي سنة1956 فيما أذكر لاحظوا عليه أنه ينسي بعض كلمات ثم بعض جمل في صلاة القداس الإلهي ثم ينسي القداس كله وتدرج به النسيان حتي صار ينسي كل أسرته ينسي زوجته وأولاده ثم ينسي اسمه أتوا إليه ذات مرة بصورته وسألوه من هذا؟فأجاب:دا أبونا..أبوناولم يعرف من هو!!
وقلت لنفسي لماذا يسمح الله بالنسيان؟
طبعا هناك نواح من النسيان تعتبر مأساة ولكن لاشك أنه توجد فوائد للنسيان سواء علي الأرض أو في الأبدية سواء كان نسيانا جزئيا أو كليا وهذا ما أريد أن أحدثكم عنه اليوم..
فوائده علي الأرض:
يسمح الله بالنسيان في حياتنا الأرضية لأسباب كثيرة نافعة منها:
1- لكي ينسي الإنسان الإ ساءات التي توجه إليه.
وذلك حتي لايدخل الحقد والكراهية الي قلبه وما قد يتبع ذلك أحيانا من رغبة في رد الإساءة بمثلها فلو كنا لاننسي إساءات الناس إلينا لكانت نفوسنا وقلوبنا تتعقد من ناحيتهم وهكذا لايكفي فقط أن نغفر لهم بل بالأكثر أن ننسي لهم ما قد فعلوه ولذلك في المثل الانجليزي:
Not only to forgive but rather to forget. ولهذا سمح الله أن ننسي وأصبحت للنسيان فائدة وماذا أيضا؟
2-هناك فائدة أخري للنسيان وهي أن ننسي الأعمال الفاضلة التي فعلناها حتي لاندخل في خطية البر الذاتي.
حتي لايفتخر الإنسان بما فعله ويحب المديح والكرامة وينال مكافأة علي الأرض.أو علي الأقل لكي لاتكبر نفسه في عينيه ويصير بارا في عيني نفسه أي32:1أو يصبح حكيما في عيني نفسهأم3:7.
فياليت كل إنسان ينسي الفضائل التي عملها من أجل انشغاله بفضائل أخري يريد أن يعملها.
ينسي كل الخير الذي عمله مفكرا في خير أعظم يسعي إليه ولعل هذا ماعناه القديس بولس الرسول بقولهأنسي ماهو وراء وامتد إلي ماقدام أسعي نحو الغرضفي3:14,13.
بل ينسي أنه هو الذي فعل ذلك الخير.
ولايذكر إلا أن الله هو الذي تمم كل شيء كما قال الرسول أيضا ولكن لا أنا بل نعمة الله التي معيبنعمة الله:أنا ما أنا1كو15:10
3-من فوائد النسيان أيضا أن ينسي الشخص نقائص الآخرين وسقطاتهم.
وذلك حتي لايدينهم بلسانه أو بفكره أو بقلبه ولايصغر قدرهم في نظره فيحتقرهم أو علي الأقل لايحترمهم وحتي لايفارق بين مستواه العالي !!ومستواه السيء كما فعل الفريسي بالنسبة إلي العشارلو18:11
وإذ ينسي أخطاء الناس ونقائصهم لايلوك سمعتهم بلسانه ولايتخذهم مادة لنقذه وتشهيره ولاتكون أنفسهم رخيصة في عينيه.
4- من فوائد النسيان أيضا أن ينسي الإنسان ذاته كهدف.
بل في كل ما يفعل يكون الله هو هدفه ولايضع أمامه مجد ذاته وسمعته وكرامته وهذا ما أمرنا الله به من حيث إنكار الذاتمت16:24وهذا مافعله القديس يوحنا المعمدان حينما قال عن الرب ينبغي أن ذاك يزيد وأني أنا أنقصيو3:30.
ولعل هذا أيضا ما قصده بولس الرسول بقولهخسرت كل الأشياء وأنا أحسبهما نفاية لكي أربح المسيح وأوجد فيهفي3:9,8فما كانت نفسه ثمينة عنده.
5- من فوائد النسيان أيضا:أن ينسي الإنسان التافهات ليشغل نفسه بما هو أهم.
في مجري حياتنا اليومي تقابلنا أمور كثيرة تافهة لاتستحق منا أن نشغل ذهننا بها ولاتستحق أن ننشغل بها في أحاديثنا ونعطيها اهتمامنا يضيع فيه وقتنا الذي يمكننا أن نستغله فيما هو أهم فيما يبني أنفسنا وأنفس الآخرين أيضا.
لأن ذهننا له طاقة معينة من حيث ذاكرته فلا يجوز أن نشغل ذاكرتنا أو نجهد ذاكرتنا فيما يعود علينا بنفع بل قد يستقر في عقلنا الباطن وقد نسرح به في صلواتنا.
لذلك من نفعنا أن ننسي تلك الأمور التافهة لكي نستبقي في عقلنا ماهو مفيد مثل إنسان عنده كمبيوتر له طاقة معينة فلا يسجل فيه إلا ماهو مفيد أو معه كاسيت يمحو منه ماسبق أن تسجل فيه من أشياء لكي يسجل بدلها أمورا أكثر أهمية.
6-كذلك هناك أمور ضارة يحسن بنا أن ننساها لفائدتنا.
كأمور سجلتها الحواس من سمع ونظر وقد تكون معثرة أو, أمور تسجلت في الذاكرة من قراءات قد تكون ضارة في ذاتها ومصدرا لضرر, عبارة عن معارف متعبة كالتي قال عنها الحكيم الذي يزيد علما يزيد حزناجا1:18أو صور رسخت في العقل الباطن يصلي الإنسان أن تمحي منه..أو أخبار مزعجة أو مؤلمة كل ذلك يذكرنا بفوائد النسيان.
هنا أذكر ذلك القديس الذي رآه تلميذه يدور حول قلايته ثلاث دورات قبل أن يدخلها فسأله عن سبب ذلك فأجابه:سمعت مناقشة وكان صوت المناقشة لايزال في أذني.
فرأيت أن أصرفها قبل أن أدخل.. ومثال ذلك أيضا ما قاله الأنبا أور لتلميذه أنظر يا ابني لاتدخل هذه القلاية كلمة غريبة
ننتقل إلي فوائد النسيان في الأبدية:
النسيان في الأبدية:
أمور كثيرة ينبغي أن ينساها الأبرار حفاظا علي طهارتهم وحفاظا علي فرحهم في النعيم الأبدي مثال ذلك:
0هل في السماء سنتذكر كل الخطايا التي حدثت علي الأرض؟
سواء الخطايا التي حدثت من غيرنا بكل صورها البشعة أو الخطايا التي ارتكبناها نحن وتبنا عنها وغفرت لنا؟!والتي تنطبق عليها عبارة القداس الإلهي تذكار الشر الملبس الموتوكيف نحتفظ بنقاوة ذهننا في الأبدية إذا استمرت فيه صور الخطايا الأرضية؟!
لاشك أننا سننسي في الأبدية معرفة الخطية.
لقد دخلت معرفة الخطية إلي عقل البشرية حينما أكل أبوانا الأولان آدم وحواء من شجرة معرفة الخير والشر ففقدا بساطتهما الأولي ونقاوتهما وعرفا أنهما عريانانتك3:7وبدءا يخجلان من عريهما ويصنعان لأنفسهما مآزر.. ولكننا في الأبدية سننسي معرفة الشر تماما, وقبل دخولنا إلي الملكوت سوف نتقيأ ما أكلناه من شجرة معرفة الخير والشر,الشجرة التي كانت محرمة علينا لأجل منفعتنا..
سوف يزول من عقلنا الباطن ومن عقلنا الواعي كل ما تسجل فيهما من صور الخطية وأخبارها:
ليس فقط يزول منا الانفعال بالخطية ولذتها إنما تزول منا معرفة الخطية ونصبح في نسيان كامل من جهتها كالنسيان التي تذكرنا بها أمراض الجلطة في المخ أو تصلب شرايين المخ ونشكر الله الذي أنسانا كل مايتعلق بالخطية.
لقد دخلت الخطية إلي العالمرو5:12ولكن العالم سوف يزول وشهوته معه1يو2:17
وفي الأبدية-حيث يعيش الأبرار في طهر كامل-سوف لاتوجد خطية لا بالعمل ولا بالفكر ولا بمجرد المعرفة فقد قيل عن أورشليم السمائية أنهلن يدخلها شيء دنسرؤ21:27.
إنك علي الأرض في حياة التوبة-تقول في المزمور الخمسينخطيتي أمامي كل حينأما في الأبدية السعيدة فلا تكون خطاياك أمامك كل حين هنا نقف أمام قول الرب:
أنا هو الماحي ذنوبك ..وخطاياك لا أذكرهاأش43:25.
مادامت قد محيت إذن أنت سوف لاتذكرها ولا الله يذكرها لك.وهذا الذي تصلي من أجله في المزمور الخمسين وتقول ومثل كثرة رأفاتك تمحو ''إثميفيجيب الوحي الإلهي ويقولتوبوا وتراعوا فتمحي كخطاياكمأع3:19وهكذا يقول الرب في سفر أرميا النبيلأني أصفح عن خطاياهم ولا أذكر إثمهم بعدأر31:34
هذه الخطايا التي محيت سوف لاتمحي فقط من سفر أعمالنا إنما ستمحي أيضا من ذاكرتنا والله نفسه سوف لايذكرها.
إن الانتقال النهائي من عالم إلي عالم آخر يستدعي نسيان العلم الأول وكل مافيه مثلما يحاول الراهب الجديد أن يعمله.
إنه يدخل إلي حياة الرهبنة ويود أن ينسي العالم وكل مافيه وينسي الأمور العلمانية التي عاش فيها من قبل ويصلي أن يمحو الله من عقله الباطن كل ما ترسب فيه من قصص العالم وأخباره وأحداثه وأفكاره وصوره وعلاقاته وكأنه يقول للرب في صلواته أعطني يارب أن أنسي كل شيء وأفتكرك وتكون أنت لي كل شيء أعطني أن أنسي كل أمور العالم لكي أحيا في حياة الصلاة الدائمة وحياة التسبيح والتأمل فيك..ولايصير في ذهني إلا أنت وبمرور الوقت إن كان الراهب مخلصا لحياته الجديدة سوف ينسي كل شيء ويقول للرب:
قد نسيت الأهل والأصحاب بل قد نسيت النفس أيضا في هواك
قد نسيت الكل في حبك يا متعة القلب فلا تنسي فتاك
هي ذي العين وقد أغمضتها عن رؤي الأشياء علي أن أراك
فإن كل الراهب -وهو علي الأرض-يجاهد أن ينسي كل شيء لكي لايكون في ذهنه سوي الله وحده فماذا نقول إذن عن الأبرار في السماء.
هذه هي احدي فوائد النسيان أن يمحو الله من ذاكرتنا كل ما يتعلق بالعالم الحاضر لكي نكون ناظرين إلي الأشياء التي لاتري2كو4:18إليمالم تره عين ولم تسمع به إذن ولم يخطر علي بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه1كو2:9.
هناك نقطة أخري حساسة جدا من جهة النسيان في الأبدية وهي:
0نسيان الأقارب والأحباء الذين لم يدخلوا الملكوت.
ليست كل أسرة بصفة عامة سيدخل كل أفرادها إلي الملكوت فهل إذا دخل بار إلي هناك ولم يجد بعض أقربائه كأب أو أم أو ابن أو زوجة أو زوج أو لم يكن هناك بعض أصدقائه أو زملائه ومحبيه هل سيحزن بسبب فقدهم أو بسبب هلاكهم؟!
كلا,لن يحزن بسبب فقدهم لأنه في الموضع الذي هرب منه الحزن والكآبة والتنهد..
ذلك لأن الله سيمحو من ذاكرته تلك القربات والعلاقات الذكريات والأشخاص ينساهم جميعا ولاتبقي في الذاكرة وسوي أسماء محبي الله الذين يعيش معهم في الملكوت وسوي المعارف الجدد الذين سيلقاهم هناك ولم يكن يعرفهم في حياته الأرضية.
إن داود قد بكي علي أبشالوم حينما كان علي الأرض2صم18:33ولكنه سوف لايبكي عليه في السماء, سينساه وينسي بنوته له وينسي أيضا حروب أبشالوم ضده ولايبقي في ذاكرته من هذه الناحية سوي أسماء بني الملكوت ينسي أسماء أحبائه المفقودة لأن ذهنه سوف لاينشغل إلا بأحباء الله وأحباء الملكوت في الحياة الجديدة في الأبدية.
من الجائز في فترة الانتظار سيفتكر لأن الملكوت لايكون قد بدأ بعد.
تماما مثلما فكر غني لعازر في إخوته وطلب تحذيرهم حتي لايأتوا إلي موضع العذابلو16:28,27أما في الملكوت فلا يحدث مثل هذا أيضا فإن الموتي في مكان الانتظار ستتبعهم أعمالهم وكذلك تكون أعمالهم أمامهم بعد القيامة في وقت الدينونة العامة أما في الملكوت في أورشليم السمائية في النعيم الأبدي فسوف يتغير الحال.
سوف لايقول زوج أين زوجتي؟ولا تقول زوجة أين زوجي؟وهكذا الأبناء والآباء والأصدقاء والمعارف سيدخل الجميع في علاقات جديدة وينسون كل ما يسبب حزنا.
في الأبدية سوف ينسي الأبرار أيضا المادة والجنس وكل الشهوات العالمية.
يقول الرسول كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة والعالم يمضي وشهوته معه1يو2:17,16ولذلك سوف ينسي سكان السماء كل هذا..
في الأبدية سيكونون مثل ملائكة الله في السماءمت22:30إن كان آدم وحواء-قبل الخطية- ما كانا يعرفان أي شيء يتعلق بالجنس وكانا عريانين وهما لايخجلان فكم بالأولي في الملكوت-سوف تنزع من الأذهان كل معرفة بالجنس..وليست فقط تأثراته وانفعالاته وإنما أيضا معرفته لاشك سوف تنسي كل الخبرات القديمة التي عرفها البشر في العالم.
وسوف ينسي الناس كل الملاذ العالمية.
سوف ينسون ملاذ الطعام مثلا لأن طعام العالم المادي سوف لايكون في الأبدية فمن غير المعقول أن يتذكروا ملاذ أطعمة ويشعروا في نفس الوقت أنهم محرومون منها!!
ستكون لهم في الأبدية أجساد روحانية سماوية1كو15:49,44وهذه لا علاقة لها بالمادة إذن في الأبدية سوف ينسون المادة وكل الشهوات المادية.
إنسان مثلا كان في العالم يجاهد للتغلب علي شهوات معينة حتي انتصر وتخلص منها, هذا في الملكوت سينسي هذه الشهوات تماما فالمدخن الذي انتصر في العالم علي التدخين سوف لايذكر لذة التدخين في الرياضة أو في الأفلام أو في فنون معينة أو في دراسة لغات أو في هوايات خاصة أو في دراسة علمية كل ذلك سوف ينسي.
وعموما كل ما سوف لانستعمله في الأبدية من أمور العالم الحاضر سننساه هناك.
وسيكون هذا لخيرنا لأنه كيف سنتذكر أمورا كانت هوايتنا ثم زالت.
الحل هو أنها تزول من ذاكرتنا بنسيانها, وهوايتنا سوف تزول بسبب تمتعنا بما هو أعمق وأفضل وبالنسيان لايكون في قلوبنا تعب لفقدها...نسياننا لها هو إحدي فوائد النسيان.