الفرادة مسار يقود إلى نضج أعمق وتوازنٍ في الشخصيّة واعتدال. فمثلاً، بينما كان مقتنعاً بأنّ ميوله علميّة، يبدأ بالاهتمام بالأدب أو التاريخ، لأنّ هذا يناسب أكثر شخصه العميق. وبالنتيجة:
1- يستمتع بالعلاقات الّتي تمتّعه لا بالعلاقات الّتي فيها مصلحته.
2- يمارس الرياضة ليستمتع بها من دون أن يشعر بالحاجة إلى تنمية مهاراتٍ وقدراتٍ فيها.
3- يقضي وقتاً أكثر مع الأسرة ويستمتع بالحياة مع الأطفال أو الأحفاد.
4- يبدأ بتقدير الناس بشكلٍ أفضل على الرغم من ضعف مهاراتهم أو ذكائهم.
إنّ أزمة منتصف الحياة لا تسير حصراً في هذا المسار مع كلّ شخص. فهذه المراحل تقدّم لنا إطار عمل لشرح التحوّل في منتصف العمر لا قوانين يجب اتّباعها. فمن أمثلة الاختلاف:
1- قد تتكرّر هذه المراحل مراراً في حياة الشخص.
2- قد يستغرق بعض الأشخاص سنواتٍ، بل عشرات السنوات، ليكتشفوا حقيقتهم، بينما تكون هذه المرحلة قصيرة جدّاً عند آخرين.
3- قد يكون هذا المسار مؤلماً لبعضهم بينما يراه آخرون اعتياديّاً في الحياة.
4- وقد يقاوم بعضهم مسار التغيّر، وقد لا يرغب آخرون في النظر إلى داخلهم.
المسار إذاً مرن، لكنّ تقسيمه إلى مراحل يساعد على معرفة سرّ هذه البلبلة وهذا الخواء. فقد تساعد معرفة التحوّل في منتصف الحياة بعض الأشخاص على التفكير «بأنّ فيَّ ما لا يسير على ما يرام»، أو أن يروا بأنّ المشاعر والتغيّرات المرتبطة بمنتصف العمر هي أمر طبيعيّ، وجميع الناس يمرّون بها.
1- مسار التفرّد
إذا أردنا فهم ملاحظات يونغ المرتبطة بمشكلات منتصف الحياة، علينا أن نفهم أوّلاً مفهومه لنموّ الكائن البشريّ، أي مسار التفرّد. فالتفرّد بحسب يونغ هو مسار رائع «يخلق فرداً نفسياً، أي كتلة مستقلة غير قابلة للتقسيم، كلٌّ شامل». ولهذا المسار مرحلتان: مرحلة الانشراح، وتتم في المنتصف الأول للحياة، ومرحلة الانطواء أو الدخول إلى الذات في المنتصف الثاني من الحياة.
في البداية، يعيش الطفل تماماً في اللاوعي. وغاية القسم الأول من الحياة هي التخلّص تدريجيّاً من هذا اللاوعي وبناء «أنا» واعية. ويشير يونغ بتعبير «أنا» إلى النواة الشخصيّة الواعية، مركز النشاط والحُكم في الأمور. في أثناء هذه المرحلة، يتوجّب على الكائن البشريّ أن يقوّي الـ أنا تدريجيّاً؛ عليه أن يوضح ذاته وأن يظل في هذا الوضوح. لهذا السبب، يُنّمي « شخصيةً»، وهي شكلٌ يتكيّف مع انتظارات الّذين يحيطون به، أو قناعٌ يجعله يتفادى الاحتكاك بالآخرين بدون دفاع، مع كل ما في هذا القناع من مشاعر وجرأة. ويترتّب على الشخصيّة إدارة العلاقات بين الـ أنا والعالم المحيط. ولمّا كان الكائن البشريّ يصبّ جهوده في أثناء هذه الفترة كي يقوّي الـ أنا ويبني شخصيّة متينة، يضطر إلى إهمال أبعاد أخرى من كيانه. فينتج عن هذا تشكّل ظل، أي صورة مرآوية للـ أنا مرّكبة من «أبعاد نفسيّة للكائن البشريّ كان قسم منها مكبوتاً، وقسم آخر لم يُعش، أو تمّ عيشه قليلاً جداً، وقد تمّ إبعاده منذ البداية عن الوجود الواقعيّ لأسباب أخلاقية أو اجتماعيّة أو تربويّة أو لأسباب أخرى، فتّم كبته أو إخضاعه للرقابة».
ولا ينحصر الظلّ في الناحية السلبيّة المظلمة فقط، بل يحتوي أيضاً أبعاداً ايجابيّة. فالطبيعة البشريّة مصنوعة من عدّة أزواج قطبيّة، لكلّ قطبٍ قطب نقيض. واحد يقبله الوعي والآخر يرفضه فيختفي في اللاوعي. وأمام كلّ صفة تنتصب الصفة المعاكسة. فكلّما طوّر الكائن البشريّ صفة خاصّة، تغوص في اللاوعي آثار الصفة المعاكسة. ولا ينطبق هذا الكلام على الفضائل وحسب، بل ينطبق أيضاً على الوظائف النفسيّة الأربع للوعي الّتي يميزها يونغ:
التفكير، الشعور، الحَدَس، الحس. فإذا نمّى كائن بشريّ وظائفه العقلانيّة في اتجاه واحد، سيجعل اللاوعي لديه يغرق بالظواهر الطفوليّة والغريزيّة لحساسيّته. مثلاً، يغوص بمشاعريّة مستاءة. وبوجه عام، يتم إسقاط صفات السلوكيّات وأنماطها المرميّة في الظلّ على الآخرين، وخصوصاً على أصحاب الطباع النفسيّة المعاكسة. وإذ يتم منع الظلّ من الظهور إلى الوعي، يؤدي هذا الإسقاط غالباً إلى التوتّرات في العلاقات بين الأشخاص.