لحظات مُباركة.. ليست لحظات خلاص
1 في حياة كل إنسان، لا شك توجد لحظات مباركة:
قد تكون لحظات مباركة أو مقدسة.
أو لحظات مصيرية.
أو لحظات ممجدة.
أو لحظات زهد ونسك.
أو لحظات تغيير أو تحول في التفكير والقرارات.
أو لحظات اتفاق أو عهد مع الله.
أو لحظات توبة، أو مصالحة مع الله.
أو لحظات تأمل.
ولكن ولا واحدة من هذه، يمكن تسميتها لحظة خلاص.
وسنحاول أأن نضرب أمثلة لكل هذه أو بعضها:
2 اللحظة التي تأمل فيها القديس أنطونيوس جثة أبيه، وقال له: [أين عظمتك وقوتك وسلطانك؟! لقد خرجت من العالم بغير إرادتك. ولكنني سأترك العالم بإرادتي، قبل أن يخرجونني كارهًا].
كانت هي لحظة زهد ونسك، وكانت لحظة مصيرية. ولكنها لم تكن لحظة خلاص. لأننا لا نستطيع أن نقول عن القديس أنطونيوس انه خلص في تلك اللحظة.
ولكن يمكننا أن نقول إنها لحظة مباركة، لحظة تأمل، شعر فيها القديس أنطونيوس بفناء هذا العالم، في هذا، وخط لنا الطريق الملائكي الجميل..
3 - كذلك اللحظات التي جلس فيه الابن الضال إلى نفسه، وهو بين الخنازير في تلك الكورة البعيدة، وأدرك سوء حالته، وعزم على التوبة والرجوع إلى بيت أبيه..
كانت لحظات مصيرية، غيرت حياة الابن الضال، وأرجعته إلى بيت أبيه، ولكنها لم تكن لحظة خلاص، لأن الخلاص لا يمكن أن يتم في الكورة البعيدة!
4 كذلك كانت لحظة مباركة تلك التي جلس فيها القديس أوغسطينوس إلى نفسه، وأيضًا تلك الساعات التي تأثر فيها جدًا بقراءة سيرة الأنبا أنطونيوس ولكنها لم تكن مطلقًا لحظة خلاص.
إن القديس لم يخلص وهو يقرأ حياة الأنبا أنطونيوس!
5 كذلك قد تمر على الإنسان لحظات توبة، يشعر فيها بكراهية الخطية، أو يرى فيها أن محبة الخطية قد انتزعت تمامًا من قلبه ولم يعد يشتاق إليها، سواء الخطية عمومًا، أو خطية معينة.. ولكن كل لحظة من هذه، ليست لحظة خلاص.
إنها لحظة توبة، وليست لحظة خلاص. وما أسهل أن يعود إلى الخطية مرة أخرى، بعد شعوره أن محبتها قد انتزعت من قلبه.
6 وقد تمر على الإنسان مقدسة، يتمتع فيها بزيارة من زيارات النعمة، ويسمع بها صوت الله في قلبه، ويكون في حالة روحية يشعر به تماما أنه في الملكوت. ألم يقل الرب: (ملكوت الله داخلكم) (لو 17: 21).
زيارة النعمة لحظة مقدسة، ولكنها ليست لحظة خلاص.
إنها متعة بالله، وشعور بوجوده، وشعور بعمل الله داخل الإنسان. ولكنها لا تستمر. هي مجرد مذاقة للملكوت، ثم يعود الإنسان إلى حالته الأولى، أو إلى حالة أفضل قليلًا، ولكنه لا يستمر في هذا الملكوت طول حياته..
7 وقد تمر على الإنسان لحظات توبة أو لحظات تغير، ولكنها ليست لحظات خلاص كما شرحنا وقد يشعر الإنسان بضرورة التوبة الآن، وعدم تأجيلها مطلقًا، كما حدث لأوغسطينوس، وكما حدث للابن الضال.. ولكن التوبة وليست هي الخلاص. هي مجرد فرع منه، وتحتاج إلى خطوات بعدها. كما يمكن أن تحدث ردة أو نكسة للإنسان، فيرجع إلى الخطية مرة أخرى بعد توبته. والشيطان قد يترك الشخص (إلى حين) (لو 4: 13) ثم يعود إلى تجاربه مرة أخرى.
مزمور واحد قد يغير حياة الإنسان ويجذبه إلى الله. ثم تجربة بعد ذلك قد تقذف به بعيدًا. وهكذا يجتاز مراحل عديدة من التغير، حتى يستقر في حضن الله، ولكن ليس في لحظة!
8 كذلك قد تمر على الإنسان لحظات اتفاق أو عهد مع الله. يكون في حالة روحية يبرم فيها مع الله عهدًا. ثم يقول: (تعهدات فمى باركها يا رب) (مز 119) لأنه ما أكثر تعهدات الإنسان التي لا يثبت فيها، كما قيل:
كم وعدت الله وعدًا حانثًا ليتني من خوف ضعفي لم أعد.
حقًا إذا اقتنع القلب، تستطيع في لحظة أن تصل إلى اتفاق مع الله إن أردت..
ولكن الاتفاق شيء، وتنفيذ الاتفاق شيء آخر. ربما تتفق مع الله في لحظة، ثم تكسر اتفاقك في لحظات أخرى.
9 هناك أيضًا لحظات مقدسة قد تقود إلى الإيمان. فلا شك أنها مقدسة ومملوءة بركة تلك اللحظة التي جلس فيها مارمرقس إلى انيانوس الإسكافي ليصلح حذاءه ولكن لحظة إصلاح الحذاء، لم تكن هي لحظة الخلاص. إنما كانت بداية لحديث وشرح أدى إلى الإيمان وإلى المعمودية فيما بعد. ولم يتم كل ذلك في لحظة.
ومع ذلك فقد كانت مقدسة ولحظة مباركة، كبداية لطريق روحي اقتنع فيها ذلك الاسكافي بزيف الوثنية، كما أقتنع بالإيمان المسيحي. ولا يمكن أن يكون هذا الإيمان قد تم في لحظة.
10 وقد تمر على الإنسان لحظات في العمل الروحي الداخلى.
لحظات صلاة، أو مناجاة، أو صراع مع الله. يجلس فيها مع الله ويقول له: ,, يا رب قد رجعت إليك بعد زمان طويل من الغربة قضيته وأنا بعيد عنك. أنا أريد أن أكون معك دائمًا.. أريد أن أجلس إليك أصالحك، وأصالحك بأي شرط،،
صلاة جميلة، ورغبة في المصالحة، ولكنها ليست لحظة خلاص.
فقد تقف عوائق كثيرة ضد هذه المصالحة، ويتعرض الإنسان إلى مقاومات عملية، وحروب داخلية وخارجية، حتى يصل إلى هذا الصلح.. ويثبت فيه. لأنه ما أسهل أن يصطلح الإنسان مع الله، ويرجع فيغضبه مرة أخرى.
11 ومن اللحظات المقدسة، لحظة المغفرة.
في اللحظة التي أسلم فيها المسيح نفسه على الصليب، قدم مغفرة شاملة. هذا جهته هو. أما من جهة الناس فلم ينالوا هذه المغفرة في لحظة. إنما نالها كل شخص على حدة، أو كل مجموعة بعد خدمة الكلمة والكرازة، وبعد معجزات وآيات، وبعد شرح وإقناع، وبعد إيمان وتوبة ومعمودية. ولم ينلها أحد في لحظة.
فرق بين عمل الله الذي يتم في لحظة، وعمل الإنسان.
إن الله يقدر أن يغفر لك في لحظة. ولكنك لكي تصل إلى استحقاق هذه المغفرة قد تحتاج إلى جهاد طويل ووقت.
ومع ذلك قد غفر الله أحيانا، ثم عاقب بعدها.
ولعل من ابرز الأمثلة على ذلك قصة ذلك العبد المديون الذي ترك له السيد عشرة آلاف وزنة. ثم تقابل هذا مع رفيق له مديون بمائة دينار فأمسكه وألقاه في السجن. فما الذي حدث لهذا العبد المديون الذي ترك له سيده كل الدين؟ يقول الكتاب:
(فدعاه حينئذ سيده وقال له: أيها العبد الشرير، كل ذلك الدين تركته لك، لأنك طلبت إلى. أفما كان ينبغي أنك أنت أيضًا ترحم العبد رفيقتك، كما رحمتك أنا؟! وغضب سيده وسلمه إلى المعذبين، حتى يوفى كل ما كان عليه.. فهكذا أبى السماوي يفعل بكم، إن لم تتركوا من قلوبكم كل واحد لأخيه زلاته) (مت 18: 24-35).
وأخيرًا هناك لحظة مجيدة قد تساوى حياة..
مثل لحظة وقوف موسى وإيليا مع المسيح على جبل التجلي، ومثل لحظات من رؤيا يوحنا الحبيب التي رأى فيها عرش الله والقوات السمائية، ومثل اللحظة التي رأى فيها يعقوب أبو الآباء سلمًا بين السماء والأرض والملائكة صاعدة ونازلة عليه، ومثل لحظة وقوف موسى أمام العليقة، أو أمام البحر المنشق إلى نصفين..
كلها لحظات مجيدة، ولكنها ليست لحظات خلاص.
أخيرًا
لا نأخذ كل جملة وردت فيها عبارة (لحظة) لكي تكون دليلًا على (الخلاص في لحظة) !! إن كل عبارة لها معناها واستخدامها، الذي قد لا يكون له علاقة على الإطلاق بموضوع الخلاص.
كل كلمة في الموضوعات اللاهوتية تحتاج إلى عمق في فهمها، لأن لفظة قد تختلف تمامًا تمامًا عن لفظة أخرى.
ومن له أذنان للسمع فليسمع (لو 14: 35).