الروح القدس والتدرُّج من حياة الخطية إلى حياة القداسة
للأب متى المسكين :::
الروح القدس لا يعمل في السطح ولا من الظاهر، إنه يعمل في الداخل وفي الخفاء جداً. لذلك إذا أردنا أن نتتبَّع عمل الروح في حياتنا، يلزمنا أن نتعمق كل شيء: نتعمق فكرنا، نتعمق ضميرنا، نتعمق دوافع سلوكنا، نتعمق رغباتنا وشهواتنا، الطيب منها والرديء، نتعمق صلواتنا وصومنا ودموعنا، نتعمق خدمتنا، وأخيراً نتعمق حب الله والناس. لأنه من هذا العمق نتواجه مع فكر الروح القدس ومطالبه وأهدافه فينا.
والتعمُّق دائماً يتطلَّب جهداً، فإذا أهملنا التعمُّق بسبب صعوبة الجهد المبذول، فإننا ننطرح على السطح ونعيش في مظاهر الأقوال والأعمال، فلا نتواجه مع الروح القدس.
أما لماذا لا يعمل الروح القدس إلاَّ في الأعماق، فذلك راجعٌ إلي طبيعة الإنسان، لأن الدوافع والأسباب والغايات الحقيقية التي تُحرِّك الإنسان والتي يتحرَّك الإنسان بمقتضاها لا تعمل ولا توجد إلاَّ في أعماقه؛ أما على السطح فلا توجد ولا تعمل إلاَّ الدوافع المزيفة التي تُحرِّكها وتتحكَّم فيها التقاليد الاجتماعية والتأثيرات البيئية والتربوية وإيحاءات الغير.
حينما يبدأ الروح القدس عمله في أعماق الإنسان، يبدأ الإنسان يكتشف مفاعيل الروح القدس الأولية على هيئة صراع داخل الفكر والضمير والأعضاء، صراع بين «روح الحياة في المسيح يسوع» (رو 8: 2) - أي روح الحق والقداسة والبر والتعفُّف - ضد روح الباطل والنجاسة والخداع والشهوة.
هنا الصراع يبدو مُرّاً وغير محتمَل على ضمير الإنسان وفكره، بسبب إمكانية السقوط في الشر مع وجود روح القداسة في ذات الوقت، حيث يبلغ التأنيب أَوَجَه: «لأني لستُ أعرف ما أنا أفعله، إذ لستُ أفعل ما أريده بل ما أبغضه فإياه أفعل ... فالآن لستُ بعد أفعل أنا بل الخطية الساكنة فيَّ، فإني أعلم أنه ليس ساكنٌ فيَّ - أي في جسدي - شيء صالح. لأن الإرادة حاضرة عندي، وأما أن أفعل الحُسْنَي فلستُ أجد. لأني لستُ أفعل الصالح الذي أريده، بل الشر الذي لستُ أريده فإياه أفعل» (رو 7: 11-20).
أما النتيجة الحتمية التي يبتغيها الروح القدس في هذه المرحلة، فهي بُغضة الخطيئة جداً. وبقدر ما يـزداد وجود الروح القدس يـزداد تبكيته لسلوك الإنسان، فيزداد الإنسان بُغضة لحياة الشر والخطيئة جداً.
هنا يكون الإنسان منحازاً إلى الروح القدس بضميره أو قلبه، الذي أسماه بولس الرسول «فكر» أو «عقل» أو «ذهن». (وهذا الالتباس ناتج من تغيُّر حدث على مدى العصور في معنى الكلمة noàj)، حيث التوبة في عُرف لغة الإنجيل هي تغيير يتم في العقل ”met£-noia“، كذلك أيضاً فـإنَّ عمل الروح القدس لتجديـد الإنسان يتم في الذهـن أيضاً: «تغيَّروا عـن شكلكم بتجديـد أذهانكم». ”تغيروا عن شكلكم = meta-morfwsij“، أي تغيُّر من طور إلى طور، أي تغيُّر ذهن = noàj.
ولكن لشدة الأسف بينما يكون الإنسان منحازاً للروح القدس بقلبه يكون جسده منحازاً للخطيئة: «لأن الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد، وهذان يُقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون» (غل 5: 17)، وذلك بسبب امتداد غير سويٍّ لسلطان الغريزة والعادة الذي يحتاج إلى بعض الوقت ليخضع وينضبط لسلطان الضمير والقلب بالروح القدس. علماً بأن الخطيئة تستغل دائماً الغريزة الطبيعية في الإنسان لتنحرف بها دون المطالب الطبيعية.
فإن كانت الخطيئة تجد لها في غرائز وشهوات جسد الإنسان قاعدة تختبئ فيها وتعمل من خلالها، فـإن الروح القدس يجـد له في قلب الإنسان (أو عقله وضميره) قاعـدة يسكن فيها ليبدأ عمله ضد عنصر الشر المتسلِّط على جسد الإنسان: «اسلكوا بـالروح فلا تُكمِّلوا شهوة الجسد» (غل 5: 16)، حيث يبدأ التغيير والتجديد في الذهن، وهذا أسهل نوعاً ما.
وهذا يوضِّحه بولس الرسول عندما يشرح حالة الإنسان وهو تحت فاعلية الروح القدس في بداية صراعه ضد الخطية:
+ «فإني أُسَرُّ بناموس الله بحسب الإنسان الباطن، ولكني أري ناموساً آخر في أعضائي يُحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطيئة الكائن في أعضائي. وَيْحي أنا الإنسان الشقي، مَن يُنقذني من جسد هذا الموت. أشكر الله بيسوع المسيح ربنا. إذاً أنا نفسي بذهني أخدم ناموس الله، ولكن بالجسد ناموس الخطية» (رو 7: 22-25).
ولكن إذا انحاز العقل والضمير للشر نهائياً ورفض بإصرار قبول الروح القدس أو الوقوف بجانب مشورته؛ يتوقف إيحاء الخير، وينعدم بذلك الصراع بين الخير والشر، ويقف بالتالي التبكيت، ويتخلَّى الله عن الإنسان ويُسلِّمه للعدو: «وكما لم يستحسنوا أن يُبقوا الله في معرفتهم، أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق» (رو 1: 28).
وهنا يصبح الذهن ذهناً مرفوضاً يفعل كل ما لا يليق بلا مانع وبلا أقل تأنيب!!
بل ويُسرُّ الذهن المرفوض بالذين يفعلون الشر (رو 1: 32)، حيث يصبح الذهن هنا فاقداً للنور الإلهي، تابعاً للجسد متوافقاً معه، ويُسمِّيه بولس الرسول ”ذهناً جسدياً“: «متداخلاً في ما لم ينظره منتفخاً باطلاً من قبل ذهنه الجسدي» (كو 2: 18).
وهذا الانقلاب الخطير الشامل إنما يبدأ بهجمات الشيطان المتعددة لتشكيك الذهن في ما هو خيِّر وصالح، ويضغط على الإرادة حتى يكسر حاجز المقاومة حيث يبتدئ الإنسان يستسلم إلى ما لا نهاية.
أما إذا ساد الروح القدس على الذهن وقَبِلَ الإنسان تبكيت الروح القدس واستجاب له بالفعل، فإن ذهنه يصبح شيئاً فشيئاً ”ذهناً روحياً“. ويمتدُّ أَثَر الروح القدس من العقل النشيط المتجمِّد ليشمل كل مَلَكَات الإنسان العُليا، فيُسمَّى ”إنساناً روحياً“، حيث يصبح ناموس الذهن - أي القانون الذي يسلك بمقتضاه - هو نفسه ناموس الروح القدس!! ويُعبِّر عن ذلك بولس الرسول هكذا: «أُسرُّ بناموس الله بحسب الإنسان الباطن ... وبذهني أخدم ناموس الله» (رو 7: 25،22).
ونُلخِّص درجات عمل الروح القدس هكذا:
(أ) بدون عمل الروح القدس يشرب الإنسان الخطيئة كالماء دون أي صراع أو نزاع أو إحساس باللوم أو الندم، إذ يكون مقياس الصلاح (الوصية) والهاتف الداعي إليه غير موجود.
(ب) يبدأ الروح القدس عمله بطرح الوصية أمام ذهن الإنسان كمقياس إلهي وكرسول يُطالِب بحقِّ الله!! فيبدأ في الحال الصراع بين الذهن القابل لهتاف الصلاح وبين الخطيئة الرابضة في الأعضاء كالحية يُحرِّكها الشيطان ويتحرَّك بها. حيث الصراع هنا يتم داخل الإنسان بين الذهن (أو العقل أو القلب أو الضمير) وبين الجسد؛ حيث يستريح في الذهن ناموس «روح الحياة في المسيح يسوع»، كما يستريح في الجسد ناموس «الخطيئة والموت».
(ج) يزداد عمل الروح القدس بمقدار قبول الذهن له وطاعته لمشورته حيث تزداد حِدَّة الصراع، ولكن كلما ازداد الصراع كان ذلك برهاناً أو مقياساً لفاعلية الروح القدس المتزايدة، حيث يكون هدف الروح هو الوصول إلى القناعة الأكيدة بشناعة الخطية.
(د) إذا بلغ الذهن إلى القناعة الكلِّية بشناعة الخطية وخطرها الأكيد، يكون هذا معناه أن الذهن انحاز لناموس الروح القدس، وهذا بذاته هو حالة تقديس للذهن.
(هـ) تقديس الذهن لا يبقى بدون عمل؛ إذ بمجرد أن يتحرَّر الذهن من ناموس الخطية ويتقدس بالروح القدس، ترتفع القدرة القتالية للإرادة، بيقين المعرفة الصالحة للذهن، لمواجهة الخطية الرابضة في الجسد والمتحرِّكة بفعل الشهوة التي يُلهبها الشيطان بنوع من الخداع والتهويل الكاذب.
(و) بدء غلبة الإرادة على حركة الخطية وإيحاءاتها الشهوانية المخادعة، هو هو بدء حياة البر أو التقوى أو القداسة.
(ز) هذا الصراع القائم في أساسه بين ناموس الروح القدس في الذهن وبين ناموس الخطية والموت في الجسد، لا يكفُّ ولا ينتهي قط طالما الجسد ينبض بالحياة، بل يصير دائماً أبداً على أعلى مستوى من الاستعداد للتأجُّج في الإنسان الذي يُجاهد في السيرة المقدسة، تارة يرتفع إلى أقصى درجة من الحرارة حيث يرتفع الذهن إلى أعلى درجة من القداسة، وتارة يهدأ عندما تسود النعمة وتملك فتحل محل الصراع إلى حين.
(ح) ولكن مجرد القناعة الذهنية بشناعة الخطية وضررها المُفسِد والمُهلِك لا يُبرِّر الإنسان، ولكن يُبرِّره الله وحده. حيث يتضح أن الله هو وحده القدوس! ولكن معلوم أن برَّ المسيح نضح علينا، فالمسيح برَّر الخطاة بسفك دمه الكفَّاري!
إذن، فالوصول إلى قناعة الذهن بشناعة الخطية والإيقان ببرِّ المسيح وتبريره، هو بحدِّ ذاته منفذ عملي للدخول في حياة البرِّ أو حياة القداسة.