|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
بشارة مريم العذراء السلام عليكِ يا مريم، أيّتُها المُمتَلئةُ نعمةً، الرّبُّ معكِ "السلام عليكِ يا مريم، أيّتُها المُمتَلئةُ نعمةً، الرّبُّ معكِ.. لا تخافي! لقد نِلتِ حُظوةً عند الله" (لوقا ١: ٢٦-٣٨) في بشارة الملاك لمريم العذراء، إتَّخذَ الله، بفيضٍ من محبته، مبادرةَ الدخول في شركة إتحاد مع الجنس البشري بشخص مريم البتول المخطوبة ليوسف من الناصرة (متى ١: ١٨). فكان "سلامُ الملاك لها" تهنئةً بامتلائها من النعمة الإلهية. وقد كشفت الكنيسة هذا الإمتلاء ومعانيه بإعلانها عقيدة الحبل بلا دنس على لسان القديس البابا بيوس التاسع في ٨ كانون الأول ١٨٥٤. فكانت التهيئة لهذه الشركة بالإعلان العقائدي: "إنّ العذراء مريم الكلّية القداسة، في اللحظة الأولى من الحبل بها في حشا أمها، حُفظتْ معصومة من دنس الخطيئة الأصلية، بنعمةٍ خاصّة وامتيازٍ من الله الكلّي القدرة، إستباقًا لاستحقاقات يسوع المسيح، مخلِّص الجنس البشري" (الدستور الرسولي: Ineffabilis Deus، ٨ كانون الأول ١٨٥٤). "الحظوة التي وجدتها عند الله" (لوقا ١: ٣٠) هي أنّ ابن الله يدخل أحشاء العذراء مريـم جنينًا بقوة الروح القدس، فيصبح اتحادُها الروحيُّ بالله اتحادًا عضويًا. هكذا تصبح مريم لكلّ إنسان مؤمن ولكلّ مؤمنة النموذج والمثال لهذا الإتحاد. إنّ مبادرة الله الأولى بعصمة مريم من خطيئة آدم الأصلية، والثانية بدعوتها لتكونَ أمَّ ابنه المتجسِّد، فعلاً حبّ كبير، ومريم بدورها بادلت الحبّ بالحبّ عندما أجابت الملاك: "أنا أمة الرب، فليكُن لي بحسب قولِكَ" (لوقا ١: ٣٨). فتقبّلت بكلّ قلبها إرادة الله الخلاصية، وكرّست ذاتها بكلّيتها لشخص ابنها ورسالته. أضحت السيدة العذراء، بنعمة الله القدير، شريكة الفداء. ذلك أنّها حافظت على الإتحاد بابنها حتى الصليب، حيث وقفت منتصبة، متألّمة مع ابنها الوحيد آلامًا مبرّحة، مشتركة بذبيحته بقلبٍ والدي، حتى سلّمها مِن على الصليب الأمومة لكلّ إنسان، بل للكنيسة وللبشرية جمعاء بشخص يوحنا الرسول: "يا امرأة هذا ابنُكِ! ويا يوحنّا هذه أمك" (يوحنا ١٩: ٢٦-٢٧). هكذا اتّضح سرُّ الألم البشري الذي تُولد منه ثمارٌ جديدة، فيبقى على كلّ واحد منا، كما يقول القديس البابا يوحنا بولس الثاني: "أن يكتب صفحة خاصّة به في إنجيل الألم الخلاصي". من آلام المسيح وموته وُلدت الكنيسة كما تُولد السنبلة من حبّة القمح التي تقع في الأرض وتموت "إنَّ حبّة الحنطة التي تقع في الأرض إن لم تَمُتْ تَبقَ وحدها. وإذا ماتت أخرجت ثَمراً كثيراً" (يوحنا ١٢: ٢٤). هكذا وُلدتِ الكنيسة عندما جرى دمٌ وماء من صدر يسوع المطعون بالحربة، وهو ميتٌ على الصليب. فكان الماء رمز المعمودية التي بها نولد ونصبح أبناءً لله وأخوةً بعضنا لبعض، والخمر رمز دم المسيح الذي يشير إلى محبته العظمى. ففي ذبيحة القداس يغسل الربُّ يسوع بدمه خطايا التائبين، وفي وليمة جسده ودمه يعطي الحياة للعالم. الكنيسة هي أداة الشركة وعلامتها: فهي من جهة جماعة المؤمنين المتّحدين بالله، ومن جهة ثانية جماعة المتّحدين بعضهم ببعض وبكلّ الناس. إلى هذه الكنيسة ننتمي، لنكون جماعة المحبة. مريم الأمّ البتول ليسوع التاريخي، أصبحت بآلامها على أقدام الصليب، أمّاً بتولاً للمسيح الكلّي الذي هو الكنيسة، وأصبحت صورتها ومثالها. فالكنيسة أمّ وبتول تلدنا بالكلمة والمعمودية أبناءً لله، بالإبن الوحيد وإخوة بعضنا لبعض. الكلّ بفيضٍ من محبة الله لنا بالمسيح، وبجوابِ الحبّ منّا الذي نعيشه مع الله وجميع الناس. البشارة مسيرةُ وعد بالإنتصار على الخطيئة ويُعلِّمنا حدثُ البشارة لمريم "فلمّا تمَّ الزمان، أُرسلُ الله ابنَهُ مَولوداً لإمرأةٍ، مَولوداً في حُكمْمِ الشريعة، ليفتدي الذين هم في حُكْمِ الشريعة" (غلاطية ٤: ٤-٥) أنّ الله هو سيدُ تاريخ البشر، يسهرُ عليه ويقودُه بحبِّه وحكمته، لكي يكونَ تاريخَ خلاصٍ للبشرية جمعاء. البشارة لمريم تُشكّل فيه نقطة وصول وإنطلاق. أما نقطة الوصول فهي بعد مسيرة الوعد بالإنتصار على الخطيئة والشرّ، طيلة العهدِ القديم. وهو وعدٌ قطعه الله لحواء المرأة الأولى بعد سقطتها وإغواء الحيّة "الشيطان" لها، إذ قال للحيّة: "أجعل عداوة بينكِ وبين المرأة، وبين نسلكِ ونسلها، فهو يسحق رأسكِ، وأنت ترصدين عقبه" (تكوين ٣: ١٥). فتحقَّق الوعدُ بالبشارة لمريم التي هي المرأة الجديدة البريئة من خطيئة آدم وحواء، ومن أي خطيئة شخصية. ونسلها هو يسوع المسيح فادي الإنسان والمفتدون به. والحيّة هي الشيطان "ابو الكذب"، "أنتم أولادُ أَبِيكُم إبليس، تُرِيدُون إتمامَ أَبِيكُم إبليس" (يوحنا ٨: ٤٤) وكلّ الذين أغواهم وساروا في طريق الخطيئة والشرّ، وينهجون نهجه باعتماد الكذب والتضليل. أما نقطة الإنطلاق فهي العهد المسيحاني الجديد، عهد النعمة والإنتصار على الخطيئة والموت الذي بدأه يسوع المسيح، ابن مريم بالجسد وابن الله منذ الأزل، مذ تَكوَّن في أحشاءِ مريم يوم البشارة. وهكذا دخل الله، بالمسيح وعمل الروح القدس، في قلب الأسرة البشرية وتاريخها، جاعلاً من هذا التاريخ تحقيقاً لتصميمه الخلاصي، بالتعاون مع كلِّ إنسان، ولاسيما الذين أصبحوا بالمعمودية أعضاءً في جسده السرّيِّ الذي هو الكنيسة. إنّ الكنيسة، بعنصرَيها الإلهي والبشري، كما يُسمّيها القديس أغسطينوس "المسيح الكلّي"، مؤتمنة على تحقيقِ تصميمِ الخلاص بواسطة كلِّ واحدٍ من أعضائها، لخيرِ جميع الشعوبِ والأمم، مُدركةً أنّ طريقَها شاقٌ إذ "تسيرُ على حدِّ قول القديس أوغسطينوس: بين اضطهاداتِ العالم وتعزياتِ الله". من كلِّ ذلك أنَّ نُدرِكُ أن حدثَ البشارة لا ينتهي في الماضي، بل يستمرُّ كتحقيقٍ متواصلٍ لتصميم الله الخلاصي، عِبرَ كلِّ إنسان، ولاسيما المسيحيين أعضاءِ جسدِ المسيح. فيتغيَّر فقط الزمانُ والمكانُ والأشخاص. ويبقى على كلِّ إنسان أن يكتشفَ، بالصلاة والتأمّل وإلهامات الروح القدس، دورَه في تصميم الخلاص الذي ينتظرُه اللهُ منه. + المطران كريكور اوغسطينوس كوسا، اسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك |
|