مسلمون وأقباط يتزاحمون بالدقهلية لطرد الأرواح الشرير
للمسيحية شهداء ومارجرجس أميرهم، يقف بملابس الفارس، يمتطى حصانه الكبير، يشهر سيفه فى قلب التنين، يموت ماجرجس وتعيش بركته، مارجرجس هنا، يأتى ذراعه من فلسطين، يعبر به رجلًا من بحر إلى نهر، يظهر فى سماء «ميت دمسيس» بمحافظة الدقهلية، قرية صغيرة أراد لها بركة وشفاعة، وترك فيها ديرًا يحمل اسمه، ومعجزاته وبركته، تمر أعوام كثيرة، ومارجرجس حى لا يموت، فى الدير تذبح له النذور، يشفى بشفاعته المرضى، ويطرد الجن والشياطين، عن طريق الشمامسة فى قبو مظلم، أسفل كنيسة العذراء، وخلف باب خشبى، محاط بسياج من شباب الكشافة الكنسية، ترى غرفة المعذورين أو ضحايا الجن والشياطين، على الأبواب تشاهد شبابًا أعجزهم المرض، وعجائز زادهم الفزع عمرًا، سيدات محجبات، ورجال ملتحين عجزوا عن إيجاد علاج للجن عند الشيوخ، فقصدوا القساوسة. الطريق إلى مارجرجس على بعد 20 كيلو من مركز كفر شكر، فى طريق ضيق بين الزراعات يملأه رجال الشرطة الذين جاءوا لتأمين الدير، ودون أن تسأل يشير لك أحدهم فى اتجاه الدير الذى يسأل عنه كل العابرين، يغلق الطريق فى وجهك بحواجز مرورية، تمشى فى طريق من الباعة، تشم روائح الجبن القديم المش والفطير المشلتت، تعرف أن للدير طقوس تشبه الريف من حوله، تدخل المكان فترى المحبون يفترشون الأرض طلبًا للبركة والشفاعة، يقطعون المسافات سعيًا خلف ذراع تركها شهيد تنير لهم الطريق بعد أن يرحل. ذراع الشهيد تصل من فلسطين إلى مصر القمص مكارى غبريال وكيل الدير، قال لـ«اليوم السابع» إن المراجع التاريخية تروى أن أحد الأثرياء المصريين كان يزور القدس لأداء طقس التقديس، وزار ضريح القديس مارجرجس الذى دفن فى بلده «اللد» بفلسطين، ففكر فى إحضار رفات القديس مارجرجس ليؤسس عليها كنيسة فى مصر، حيث كانت الكنائس آنذاك تبنى على رفات القديسين، واستطاع بالفعل أن يحضر ذراعه. ويضيف وكيل الدير قائلا: فى طريق العودة تعطلت المركب القادمة من فلسطين إلى مصر وتوقفت قرب «ميت دمسيس»، ورأى الرجل صليبًا معلقًا فوق دير، فعلم أنه دير السيدة العذراء العامر، وقرر زيارته، وقتها ظهر القديس مارجرجس فى السماء لرئيس الدير بكامل هيئته وخرج لاستقبال الرجل، وتسلم ذراع القديس وأبلغ البابا اثناسيوس بالخبر، وقرروا تأسيس الكنيسة الأثرية هنا والتى يعود تاريخها إلى أكثر من 1500 عام، وتم تغيير اسم الدير ليحمل اسم القديس مارجرجس. القمص بطرس بطرس وكيل مطرانية دمياط التى تشرف على احتفالات الدير، يقول: إن الآلاف يزورون هذا الدير سنويًا من المسلمين والأقباط تبركًا به، وخاصة بعدما اشتهر بقدراته على إخراج الشياطين خاصة فى عيد تذكار مجىء الرفات، مؤكدًا أن قرية ميت دمسيس نموذج للوحدة الوطنية حيث يعيش المسلمون والأقباط معًا فى رحاب القديس مارجرجس وتستقبل منازل المسلمين، آلاف المسيحيين من زوار الدير طوال أسبوع الاحتفال. فى كنيسته الأثرية.. الأقباط يرتلون مديح أمير الشهداء تتجاوز بوابة الدير، وتدخل إلى كنيستيه، إحداهما لمارجرجس والأخرى للقديسة العذراء مريم والكنيستان فى مكان واحد متلاصقتان وإحداهما أقدم من الأخرى، تأسست الثانية تأسست سنة 1875م وهى مربعة الشكل وبها ثلاث مذابح باسم مار جرجس والأنبا أنطونيوس ورئيس الملائكة ميخائيل حجابها مبنى بالطوب الأحمر، وتضم صورة يونانية رسمها فنان تأثر بالفن البيزنطى. فى الكنيسة الأثرية، تقف سيدة خمسينية بصحبة ابنها ونجلها، يرتلون مديح الشهيد مارجرجس أمام أيقونته بالألحان القبطية المعتادة، السلام لك يا جورجيوس ذو الاسم الأعظم، السلام لك يا بطل يا قائد كل الفرسان، يا من أجلك خزى عبدة الأوثان، السلام لك يا قديس يا ابن انسطاسيوس. تنهى السيدة فاتن بطرس، تراتيلها، وقالت لـ«اليوم السابع» إنها تأتى سنويًا من القاهرة إلى الدير تذبح خروفًا نذره زوجها لمارجرجس بعدما شفاه من ورم فى المثانة، وتتمتم «مارجرجس شفيعنا وحبيبنا، ونتحمل لأجله مشقة السفر كل عام». على الحوائط ترى صور القديس يتعذب يقف شاب، يوقد الشموع للشهيد، يرجوه أن يأخذ بيد ابنته التى تتعثر فى المدرسة، يضع رأسه على الأرض، يسجد لله حبًا وطمعًا فى شفاعة القديس. أما الكنيسة الأخرى، تحتفظ بذراع القديس، تضعه فى دولاب خشبى، تشعل أمامه شموع الأمنيات والرجاء، وتترك فوقها طلبات خطها العاشقون بأيديهم فيشهد الله عليهم، ويعدهم مارجرجس بتلبية النداء. يرفع الكهنة صلوات القداس أمام المذبح، يتلون الإنجيل، ويختتمون بطقس التناول، بعدما تنتهى صلوات استمرت ساعتين كاملين، يدخل الكاهن إلى مذبحه، يبدأ طقس التناول يمسك الكاهن بالقربان المقدس، ويمسك الآخر بشراب يمثل دم المسيح، يبدأ بتناول الرجال، يحملون فى أيديهم المناديل البيضاء، لأن سر «الافخارستيا» أو التناول أحد أسرار الكنيسة السبعة، لا يصح أن تؤديه ويدك عارية، يأخذ كل مصلى قطعة من القربان، ثم يشرب دم يسوع فى فمه بملعقة الكاهن الجالس على يسار المذبح. أما النساء، يرتدين إيشاربات صغيرة على شعورهن، لا يمكن أن يتم طقس التناول دون طهارة كاملة واحتشام أيضًا، تتناول النساء بيد الكاهن ويتناول الأطفال معهم، وتعم المكان روائح البخور الكنسية المعتادة. بعد انتهاء التناول يقف الكهنة، يمنحون شعبهم ما تبقى من قرابين صلوا عليه فى مذبح الكنيسة، وتتجه النساء لإشعال الشموع لمارجرجس مرة أخرى. غرفة المعذورين.. هنا تنتهى عذابات ضحايا الجن والشياطين فى قبو مظلم، أسفل كنيسة العذراء، وخلف باب خشبى محاط بسياج من شباب الكشافة الكنسية، ترى غرفة المعذورين أو ضحايا الجن والشياطين، على الأبواب تشاهد شبابًا أعجزهم المرض، وعجائز زادهم الفزع عمرًا، ترى سيدة على كرسى متحرك، يحملها أبناؤها بعد أن شلت قدماها، وترى شابًا على الكرسى نفسه يطلب شفاعة مارجرجس لكى يشفيه. تنزل سردابًا صغيرًا، يقابلك سياج خشبى، أمامه طوابير المنتظرين، سيدات محجبات، ورجال ملتحون عجزوا عن إيجاد علاج للجن عند الشيوخ، فقصدوا القساوسة، ومسيحيون آخرون يطلبون خروج المس من أجسادهم. عم فنجرى الشماس، يمسك بيديه صليبًا خشبيًا، يرشم الصليب على وجه فتاة محجبة، يدعك وجهها ورأسها بصليبه حتى تصير شبه نائمة، يقرأ فوق رأسها المزامير، تنتفض فجأة، تبدأ فى تكسير المكان والتعدى عليه، يشير لشباب الكشافة، يعرفون ما عليهم فعله، يمسكون يديها ورجليها، تنام نومة المريض على الأرض، تخرج من جوفها صوتًا ذكوريًا وهى تجيب عن أسئلة الشماس، يقول الحاضرون إنه الجن، أو ملك الجن، أو جيش من الجان. تنتفض الفتاة، ويواصل الشماس عمله، وصلواته، وتحاول أسرتها أن تلتف حولها فى هذا الطقس المرعب، تصرخ الفتاة صرخة طويلة تهتز لها أرجاء الغرفة كلها، يقوم الشماس وهو مطمئن أن الجن خرج من أظافرها. سيدة أخرى مصابة، تجلس أمام عم ميخائيل الشماس، يخرج صليبه الخشبى، ويمسكها أبواها من اليمين واليسار، يحاور جيشًا من الجان، يرفض الخروج من جسدها، تصرخ الفتاة فى لحظة معينة يصل فيها الشماس إلى الحديث مع جنى عاشق، أو عمل سفلى أراد أن يفكه. وعلى اليمين واليسار عشرات ينتظرون مصيرًا مماثلًا، يبدأ بألم وصراخ وينتهى بالشفاء من عذابات المس وكوابيسه المرعبة. يؤكد عم ميخائيل الشماس، المتخصص فى إخراج الأرواح الشريرة أن الإيمان الضعيف يوقع الإنسان فى براثن الأرواح الشريرة، كما أن الدجالين يصعبون من مهمته التى تتراوح كل جلسة منها بين عشرة دقائق، وربما ست ساعات، يخرج فيها جنًا أو جيشًا من الشياطين، أو ملكًا عليهم. عم ميخائيل، لا يتقاضى أى أموال نظير خدماته التى يؤديها محبة فى مارجرجس والمسيح الذى يسهل اسمه كل شىء، ويرفع صليبه المعاناة من البشر، على حد قوله. ويروى بيتر مجدى، قائد فريق الشمامسة، الذى يؤدى خدمته منذ ما يقرب من عشرة أعوام فى هذا الدير، حكايات خروج المس والجن والأرواح الشريرة من أجساد زوار الدير، قائلا إن مريضًا جاء إلى الدير مقيدًا بالسلاسل الحديدية التى وضعه أهله فيها خوفًا مما يفعله، حيث يكسر محتويات وأثاث المنزل فى لحظات عصيبة ومفاجئة، وحين وصل المريض إلى غرفة المعاذير ضرب «عم فنجرى» الشماس فى وجهه وأصابه، وانفجر وجهه بالدم، حيث كان يواجه بالصليب جيشًا كاملًا من الجن، وقال لـ«عم فنجرى»: «لست خائفًا منك»، وظلت محاولات إخراج الأرواح من جسده ست ساعات كاملة، تمكن فيها الشماس من إخراج الجنى من ظفره بعد أن حاول أن يخرج من عينيه ليصيبه بالعمى، أو يخرج من أذنيه ليصيبه بالصمم. ويواصل بيتر: جاءت إلينا سيدة من الصعيد، وبمجرد دخولها الغرفة انقطعت أنوار الكنيسة بالكامل، حاولنا إيقاد الشموع، كانت تنطفئ بأوامر من صوت داخلى يخرج منها، ولكن الشمامسة تمكنوا من إخراج الروح الساحرة من جسدها بعد الصلاة عليها وقراءة المزامير والإنجيل، وأطلق أهلها الزغاريد. يؤكد القمص مكارى غبريال أن كرامات مارجرجس تشفى مرضى الأمراض العضوية، وحالات المس الشيطانى والعذابات النفسية، مشددًا على أن قلة الصلاة والبعد عن الله وضعف الإيمان تتسبب فى وقوع الإنسان ضحية للأعمال الشيطانية والأرواح الشريرة. فى المذبح.. زغاريد النذور ومحبة الفقراء أمام غرفة المعذورين المرعبة، يقف جزار الدير، تلف من حوله الماشية، أغنام وماعز أحضرها أصحابها، كل له طلبه، وكل له رجاؤه، يقول الجزار إن ما يقرب من ثلاثة آلاف رأس ماشية تذبح فى أسبوع الاحتفال بمارجرجس سنويًا، مؤكدًا أنه يعمل جزارًا للنذور منذ 15 عامًا، حيث يأتى إليه بعض الزوار بشكل سنوى بعدما تمكن القديس من شفائهم، ونذروا له أضحية تقدم فداء له كل عام. تخرج إليه من غرفة المعذروين سيدة أراد الله لها الشفاء، يسأل أهلها عن طرق ذبح النذر، فيعرض عليهم الجزار شراء الأضحية من الخارج، أو من داخل الدير، وتذبح داخله على حديد معلق فى منتصف الطريق. لا تخرج من المولد بلا حمص خلف الدير، وفى الساحة المحيطة به، تظهر عادات الموالد المصرية، مراجيح الأطفال، ومراكب تشبه مراكب الشمس الفرعونية، وباعة التذكارات القبطية، والحلوى والحمص، رجال ونساء يأتون سنويًا إلى مارجرجس فى عيده، يطلبون رزقًا وبركة. طقوس الموالد المصرية تتكرر كلها، ولكن وجود الدير وسط الأراضى الزراعية على عكس كل الأديرة التى تنام فى الجبال، يجعل له طابعًا خاصًا من طبيعة الحياة الريفية. المقدس رمزى، القادم من الصعيد بلهجته التى ينطق فيها الجيم دالًا، يجلس أمام بحر من الحمص، يحذر المارة من الخروج من المولد بلا حمص، ينادى على بضاعته، يلتف حوله العابرون، يقول إنه يقطع كل هذه المسافات من الصعيد إلى الدلتا لأجل القديس، يفضل دير دمسيس على غيره من الموالد لأنه يشبه حياته فى قريته بأسيوط، فلا يشعر بالغربة بين أحضان القديس الشجاع. المولد ينفض بتطييب ذراع القديس فى الليلة الختامية للدير، يجتمع ثلاثة من كبار الأساقفة، الأنبا بيشوى، مطران دمياط، رئيس دير الشهيدة دميانة الذى يقع الدير ضمن نطاق خدمته، والأنبا داود أسقف الدقهلية، والأنبا صليب أسقف ميت غمر، يؤدون صلوات العشية، يخرجون ذراع مارجرجس من مكمنها يصلون عليها، يقرأون الإنجيل والتراتيل، يمسكون بطين بنى يطيبون به ذراع الشهيد، يرتفع البخور فى السماء، يملؤها عطرًا وبركة، يترنم الناس بمدائح مارجرجس، وينتهى المولد بالعبارة: «إننا لا نعبد القديسين بل نكرمهم لأنهم أولاد الله المجاهدون».
نقلا عن اليوم السابع