فى طريق وعرة، منسابة كا لحية الرقطاء بين الصخور، مغطاة بالرمال ومفروشة بالأشواك.. كان يسير منفرداً بأفكاره، وهناك بين أشجار الوعر كان يقف مصغياً لهمس الأشباح، محدقاً إلى تمثاله، فقد كان يعبد الوثن الذهبي ويجد لذته فى مواكبة الأرواح النجسة أتباعه، لقد نظر زكا العشار إلى ممالك الأرض الواسعة، وتطلع إلى جمال مدن داود وسليمان، واشتهى أن يكون فى يوم ما ملكاً أو أميراً، يجلس ولو على عرش أمواله،
ولكنه لم يدرك أن العرش الذى ينتصب على عظام الموتى فانٍي، وكل الذين اشتهوا غير مملكة الروح انحدروا إلى مقابر موتاهم، وفى يوم من أيام الربيع المعطرة بأنفاس الحب وابتسامات الزهور، سمع زكا بقدوم يسوع إلى أريحا، فترك مكان الجباية ومشى ليرى تلك اللؤلؤة الفريدة التى لا تزن قيمتها كل أمواله.
لكنه قصير القامة كما كان قصيراً فى الفضيلة، ولكي يُبصر يسوع عليه أن يرجع إلى أيامه الأولى ويعود طفلاً، لا بد وأن يتخذ من الأطفال بساطتهم وسذاجتهم ، فصعد إلى الجميزة وهو فى الحقيقة: ارتفع عن الأرض بكل ما تحمل من أموال وشهوات، ليكون قريباً من عيون السماء، ومن فوق شعر بأن فاصلاً كبيراً، بينه وبين الأرض، وأنه قد اقترب من السماء، ليرى كواكب بنى إسرائيل المنيرة، التى أرسلها الله فى سماء إسرائيل، تشق له طريقاً وسط الظلمة، وتضئ فيه شعلة الروح والأمل.
وتتحقق أمنية زكا ويرى يسوع، وقد غمر النور وجهه وعنقه، فبان كتمثال من الذهب المشع نحتته أصابع الإله الأعظم ! وإلى زكا نظر يسوع نظرة إلهية، كانت كسهم من نوراخترق قلبه المظلم، وبحب فريد يطلب الأب من ابنه البسيط، أن ينزل من على الجميزة لأنه سيقيم فى بيته، فقد أرادت السماء أن يكون خلاص بيت العشارهذا اليوم، فكان كلام يسوع فى أُذني زكا، كصوت صارخ خارج من أحشاء الليل، وكضجة هائلة منبثقة من قلب النهار!
ويفتح زكا أبواب بيته للمسيح، ومعها فتح قلبه ليخرج منه البخل وكل ما سلبه ظلماً من الفقراء؟ وهكذا حطم قارورة المال عند قدميه، مثلما سكبت المرأة الخاطئة قارورة ماضيها، ليعطيه المسيح كنزاً أعظم فى السماء لا يفنى! وبهذا أعلن زكا إن الدرهم الذى تضعه فى اليد الفارغة الممدودة إليك هو الحلقة الذهبية التى تصل ما فيك من البشرية إلى ما فوق البشرية ! وتنتهي المعركة بين النور والظلمة، الكرم والبخل، العطاء والسلب، بتوزيع زكا نصف أمواله على الفقراء والمسـاكين، وكل من وشى به رد له أربعة أضعاف.. فالظلام ضعيف ولا يحتمل ظهور مجرد لهب صغير!