منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 23 - 10 - 2023, 12:14 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,275,281

مَثَل وَليمة المَلِك ورفضُ الدَعْوة والتغيير




مَثَل وَليمة المَلِك ورفضُ الدَعْوة والتغيير
(متى 22: 1 -14)



النص الإنجيلي (متى 22: 1 -14)



1 وكَلَّمهُم يسوعُ بالأَمثالِ مَرَّةً أُخْرى قال: 2 ((مَثَل مَلكُوت السَّمَواتِ كَمَثَل مَلِكٍ أَقامَ وَليمةً في عُرْس ابنِه. 3 فأَرسَلَ خَدَمَه لِيُخبروا المَدعُوِّينَ إلى العُرْس فأَبَوا أَن يَأتوا. 4 فأَرسَلَ خَدَماً آخَرين وأَوعَزَ إِلَيهم أَن ((قولوا لِلمَدعُوِّين: ها قد أَعدَدتُ وَليمَتي فذُبِحَت ثِيراني والسِّمانُ مِن ماشِيَتي، وأُعِدَّ كُلُّ شَيء فتَعالَوا إلى العُرْس)). 5 ولكِنَّهم لم يُبالوا، فَمِنهُم مَن ذَهبَ إلى حَقلِه، ومِنهُم مَن ذَهبَ إلى تِجارتِه. 6 وأَمسَكَ الآخَرونَ خَدَمَه فَشَتَموهم وقَتَلوهم. 7 فَغَضِبَ الملِكُ وأَرسلَ جُنودَه، فأَهلَكَ هؤُلاءِ القَتَلَة، وأَحرَقَ مَدينَتَهم. 8 ثُمَّ قالَ لِخَدَمِه: ((الوَليمَةُ مُعَدّةٌ ولكِنَّ المَدعُوِّينَ غيرُ مُستَحِقِّين، 9 فَاذهَبوا إلى مَفارِقِ الطُّرق وَادعُوا إلى العُرْس كُلَّ مَن تَجِدونَه)). 10 فخرَجَ أُولَئِكَ الخَدَمُ إلى الطُّرُق، فجمَعوا كُلَّ مَن وجَدوا مِن أَشْرارٍ وأَخيار، فامتَلأَت رَدهَةُ العُرْس بِالجالِسينَ لِلطَّعام. 11 ودَخَلَ المَلِكُ لِيَنظُرَ الجالِسينَ لِلطَّعام، فرَأَى هُناكَ رَجُلاً لم يَكُنْ لابِساً لِباسَ العُرْس، 12 فقالَ له: ((يا صديقي، كَيفَ دخَلتَ إلى هُنا، ولَيسَ عليكَ لِباسُ العُرْس))؟ فلم يُجِبْ بِشَيء. 13 فقالَ المَلِكُ لِلخَدَم: ((شُدُّوا يَديَه ورِجلَيه، وأَلقوهُ في الظُّلمَة البَرَّانِيَّة. فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان)). 14 لأَنَّ جَماعَةَ النَّاسِ مَدْعُوُّون، ولكِنَّ القَليلينَ هُمُ المُخْتارون)).





المقدمة



يُسلط إنجيل هذا الأحد الأضواء على آخر أمثال يسوع في إنجيل متى، وهو مَثَل وَليمة مَلِكٍ في عُرْس ابنِه (متى 22: 1 -14). يروي يسوع هذه المَثَل في حواره مع رُؤساء الفِرِّيسيِّين. إذ يوضَّح هذا المَثَل دَعْوة الجميع إلى مَلكُوت المسيح ومتطلباته مُشدِّدًا لا على خطورة رفض الإنْسَان لهذه الدَعْوة الإلهية فحسب، إنَّما أيضًا على عدم لبس ثوب البِرّ والالتزام مع نعمة الدَعْوة. وهذا الأمر يمسُّ مصير المَدعو ومستقبله. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.





أولا: وقائع النص الإنجيلي



1 وكَلَّمهُم يسوعُ بالأَمثالِ مَرَّةً أُخْرى قال:



تشير عبارة "كَلَّمهُم يسوعُ بالأَمثالِ" إلى استعارة يسوع التكلم بالأمثال من معلمي زمانه وهم الكتبة. وقد روى يسوع ثلاثة وأربعين مَثَلا مختلفًا. أمَّا عبارة "الأَمثالِ" في الأصل اليوناني παραβολαῖς فتشير إلى صورة رمزية ينبغي التفتيش عن معناها خارجًا عنها، حيث يوجد فيها عنصرُ المفاجأة وتدعو إلى التفكير.



2 ((مَثَل مَلكُوت السَّمَواتِ كَمَثَل مَلِكٍ أَقامَ وَليمةً في عُرْس ابنِه.



تشير عبارة "مَلكُوت السَّمَواتِ" إلى بركات الإنجيل التي بشّر بها يسوع المسيح. أمَّا عبارة "مَلِكٍ" في الأصل اليُوناني ἀνθρώπῳ βασιλεῖ (معناها إنسان ملك) فتشير إلى الله، إذ اعتاد العهد القديم أن يتكلم غالبا على الله بصورة مَلِك (متى23:18)، ويدشّن هذا المَلِك العهد المسيحاني. ويعبّر عن هذا التَّدشين بصورة العُرْس. ويُشبه هذا المَثَل في بعض أموره المَثَل الذي ضربه يسوع في إنجيل لوقا مَثَل المَدعُوِّينَ المتخلِّفين عن الدَعْوة (لوقا 14: 15-24). مع أنه لا يُمثل شيئاً من هذا القَبيل، لأنَّ ذاك ضربه في بيريه في بيت فِرِّيسي، وهذا ضربه في هيكل أورشَليم. وقصد المسيح في ذاك دَعْوة النَّاس إليه. وقصد به إدانتهِ لهم نتيجة رفضهم له. والفرق بين المَثَلين: أن الله في المَثَل الأول طلب ثمار البر، وفي المَثَل الثاني عرض على النَّاس البركات، وفي الأول خاطب اليهود كأمَّة، وفي الثاني خاطبهم كأفرادٍ. وفي الأول رُمز للمسيح بابن رب الكرْم، وفي الثاني بمَلِك ابن مَلِك. أمَّا عبارة " أَقامَ وَليمةً " فتشير إلى العادة الشَّرقية لاحتفالات العُرْس أن تعقد في بيت العَريس وليس في بيت العَروس، وتمتد مدة الوليمة سبعة أيام. وهذه الوليمة تدلُّنا على سرِّ المَلكُوت وعلى متطلباته. أمَّا عبارة "وَليمةً" فتشير إلى صورة مُسبقة عن "المائدة السَّماوية" (متى 29:26؛ رؤية 7:19، 9) حيث يجتمع المُختارون حول الآباء والأنبياء في مَلكُوت الله (لوقا 16: 22). فالوليمة تعتبر علامة المُشاركة حيث الله يدعو الجميع إلى الأمل والرَّجاء، كما جاء في نبوءة أشعيا "سيَضَعُ رَبُّ القُوَّات لِجَميعِ الشُّعوبِ" (أشعيا 25: 6). يعلق القديس توما الأكويني " تركَ لنا جسدَه مأكلًا ودمَه مشربًا تحتَ صورةِ الخبزِ والخمر. يا لَلوليمةِ العجيبةِ والغاليةِ الثَّمن. لا تُقَدَّمُ فيها لحومُ العجولِ والتُّيوس، كما كانَ سابقًا في الشَّريعةِ القديمة، بل المسيحُ الإلهُ الحقُّ نفسُه. أيُّ شيءٍ أعجَبُ من هذا السِّرّ؟ لا سِرَّ يَمنَحُ الخلاصَ أكثرُ منه" (الكتاب 57، في عيد القربان الأقدس، القراءة 1-4). أمَّا عبارة " عُرْس" فتشير في الكتاب المُقدَّس إلى الاتحاد النهائي في الفرح بين الله وشعبه (متى 25: 1-12). وهكذا، العهد بين الله وشعبه يصوّر بشكل عُرْس، ويسوع هو العَريس. ويُعلق القديس غريغوريوس الكبير: "يمكننا القول إن الآب هيأ للمَلِك ابنه العُرْس من خلال سرّ التجسّد، حيث التصقت به الكنيسة المقدّسة"(عظات عن الإنجيل). وكثيرا ما يُشبّه الكتاب المقدس بركات العهد القديم بالعُرْس (أشعيا 15: 6، وهوشع 2: 19). أمَّا عبارة "عُرْس ابنِه " فتشير إلى الابن يسوع المسيح الذي شبّهه إنجيل متى بالعَريس قائلا: " أَيَسْتَطيعُ أَهْلُ العُرْس أَن يَحزَنوا ما دامَ العَريس بَيْنَهُم؟ ولكِن سَتَأتي أَيَّامٌ فيها يُرفَعْ العَريس مِن بَيْنِهم، فَحينَئذٍ يَصومون"(متى 15:9)؛ ويسوع يُقدّم نفسَه كالعَريس المُنتظر، ويربط عَالَم البشر بعَالَم الله، كما جاء في تعليم بولس الرَّسُول "أَحِبُّوا نِساءَكم كما أَحَبَّ المسيحُ الكَنيسة وجادَ بِنَفسِه مِن أَجْلِها"(أفسس5: 25). فعُرْس ابنِه صورة ترمز إلى اتِّحاد يسوع بالطَّبيعة البشرية، إنه العَروس الرُّوحي. لقد بدأ السيِّد المسيح خَدَمته بدخوله عُرْس قانا الجليل ليُقدّسه مُعلنًا أن رسالته تنطلق بدخوله إلينا ليُقيم عُرْسنا الدَّاخلي مُتقدّما كعَريس أبدي، قادر وحده أن يتّحد بنا ويُقدّسنا ويكشف لنا أسراره الإلهيّة الفائقة؛ ويعلق البابا فرنسيس "هذا العُرْس هو صورة للآب الذي أعدَّ للعائلة البشرية بأسرها وليمة رائعة من الحب والشركة حول ابنه الوحيد" (عظة البابا فرنسيس 11/10/2020). باختصار، تعبّر الآية عن الاشتراك في الوليمة المسيحانية، إلاَّ أنَّ المَثَل لا يُشدِّد على الابن، بقدر ما يُشدِّد على المَدعُوِّينَ الذين رفضوا دَعْوة المَلِك.



3 فأَرسَلَ خَدَمَه لِيُخبروا المَدعُوِّينَ إلى العُرْس فأَبَوا أَن يَأتوا.



تشير عبارة "فأَرسَلَ خَدَمَه لِيُخبروا المَدعُوِّينَ" إلى الدَعْوة على الطَّريقة الشَّرقية. فكانت التَّقاليد تقتضي عند إقامة الولائم صُدور دعوتين: الأولى دَعْوة الضيوف للحضور، وهذه العادة ما زالت متَّبعة حتى الآن في فلسطين؛ والدَعْوة الثَّانية هي إعلان أنَّ كل شيء مُعدٌّ. وهنا نجد أنَّ المَلِك دعا ضيوفه ثلاث مرات، وفي كلِّ مرَّة رفضوا دعوته. أمَّا عبارة "خَدَمَه" فتشير أولاً إلى الآباء الأوّلين: إبراهيم واسحق ويعقوب الذين نالوا الوعد، وهم خدّام الله الأوّلون، حتى قال السيِّد المسيح " إِبتَهجَ أَبوكُم إِبراهيم راجِياً أَن يَرى يَومي ورآهُ فَفَرِح" (يوحنا 8: 56). لكن اليهود لم يسمعوا لهم فوبّخهم السَّيد المسيح: "لَو كُنتُم أَبناءَ إِبراهيم، لَعَمِلتُم أَعمالَ إِبراهيم" (يوحنا 8: 39). وتشير ثانيًا إلى أنبياء العهد القديم وصولاً ليوحنَّا المَعْمَدان، الذين أرسلهم الله لإحياء الإيمان في وعوده لمجيء مَلكُوت المسيح المُخلِّص (متى 21: 34)؛ فيتضح من ذلك أنَّ دَعْوة يسوع ليست جديدة بل تكملة للدَعْوة الأولى. ويُعلق القدّيس غريغوريوس الكبير " أرسل إذًا خدّامه ليدعو أصدقاءه إلى العُرْس. أرسلهم مرّة أولى وثانية، أي الأنبياء أوّلاً ثمّ الرُّسُل ليعلنوا تجسّد الرَّبّ" (عظات عن الإنجيل). أمَّا عبارة "لِيُخبروا" في الأصل اليوناني καλέσαι (معناها يدعو) فيشير إلى دَعْوة رائعة للمشاركة في حياة آخر، وذلك بحضور مأدبة عُرْس. وقد تكرّر هذا الفعل في هذا النص ست مرات، دلالة على أهمية الدَعْوة. أمِّا عبارة "المَدعُوِّينَ" فتشير إلى البشر وأولهم الأمَة اليهودية. والمَدعُوِّونَ هم أبطال الرواية، وليس العروسان. إذ يتحدث المَثَل بأكمله عنهم، وعن الاهتمام بهم، وعن رفضهم أو قبولهم الدَعْوة. تكرَّرت لفظة المَدْعُوِّين في النص ست مرات مما يدل على أهميته الدعوة. في الواقع، ملكوت الله هو دعوة مجَّانية للمشاركة في حياة الله. أمَّا عبارة "أَبَوا أَن يَأتوا" فتشير إلى رفض المَدعُوِّينَ الأول الذي لا مبرِّر له. فكلمة "أبوا" في الأصل ليوناني οὐκ ἤθελον (معناها لم يريدوا)، وهي تشير إلى فعل إرادة مع النفي الذي يدلُّ على نيّة سيِّئة ورفض، لا على إهمال فقط. وفي هذا المَثَل، هناك تشديد على الرَّفض الذي أجاب به المدعوُّون الأوَّلون إلى الدَعْوة. ويُعلق القديس غريغوريوس الكبير أنّ "المَدعُوِّينَ الأوّلين" الّذين رفضوا الدَعْوة لحفلة مُلوكية مَجَّانية، ونكّلوا بمُرسلي المَلِك كانوا العِبَّرانيّين رافضي المسيح"(عظات عن الإنجيل). من الغريب أنَّ المَدعُوِّينَ يرفضون مَثَل هذه الدَعْوة الشَّريفة المُبهجة. فرفضهم دعوته إعلان بُغضهم وعِصْيانهم له وعدم قبول دعوته للخلاص، كما جاء في إنجيل لوقا " لا نُريدُ هذا مَلِكاً علَينا" (لوقا 19: 14). يعلق القدّيس مقاريوس " فإنهم بالتأكيد مسؤولون عن مصيرهم. هذا هو إذًا الشرف الكبير الذي يناله المسيحيّون. فها هو الربّ يعدّ لهم الملكوت ويدعوهم للدخول؛ إنّما هم يرفضون ذلك" (عظات روحيّة، العظة رقم 15). يدعونا الرَّبّ يسوع إلى الاتَّحاد به في مَلكُوته السماوي، حيث السَّلام والبِرّ. فهل نُلبِّي دعوته؟



4 فأَرسَلَ خَدَماً آخَرين وأَوعَزَ إِلَيهم أَن ((قولوا لِلمَدعُوِّين: ها قد أَعدَدتُ وَليمَتي فذُبِحَت ثِيراني والسِّمانُ مِن ماشِيَتي، وأُعِدَّ كُلُّ شَيء فتَعالَوا إلى العُرْس)).



تشير عبارة " خَدَماً آخَرين " إلى تجديد المَلِك دعوته عن طريق الرُّسُل الذين يُعلنون لليهود العُرْس الذي تحدّث عنه أنبياؤهم، لكنهم رفضوهم، وجاء تلاميذهم وغيرهم من المُبشِّرين الذين نادوا بالإنجيل بعد صلب يسوع وصعوده منذ يوم الخمسين (يوم العنصرة)، مَثَل إسطفانس وبرنابا وبولس الرَّسُول وأمثالهم، ممن نادوا بيسوع والقيامة. وتكرار الدَعْوة دلالة على طول أناة الرَّبّ ورغبته في خلاص البشر بالرغم من البعض يرفضون الدعوة. أمَّا عبارة " قولوا لِلمَدعُوِّين " فتشير إلى دَعْوة عامة شاملة لكل البَشر كقوله " مَن شاءَ فلْيَستَقِ ماءَ الحَياةِ مَجَّانًا" (رؤيا 22: 17). أمَّا عبارة "ها قد أَعدَدتُ وَليمَتي فذُبِحَت ثِيراني والسِّمانُ مِن ماشِيَتي" فتشير إلى البركات الرُّوحية من السَّلام والمَسرَّة بالمسيح مما يذكِّرنا بنبوءة أشعيا "وفي هذا الجَبَلِ سيَضَعُ رَبُّ القُوَّات لِجَميعِ الشُّعوبِ مَأدُبَةَ مُسَمَّنات مَأدُبَةَ خَمرَةٍ مُعَتَّقَة مُسَمِّناتٍ ذاتِ مُخٍّ ونَبيذٍ مُرَوَّق" (أشعيا 6: 6). أمَّا عبارة "أُعِدَّ كُلُّ شَيء " فتشير إلى المَدعُوِّينَ الذين سبق أن أُعْلموا بالأمر، لكن صاحب الدَعْوة أرسل إليهم بعض خَدَمِه ليَأتي بهم ويرافقونهم (استير 5: 8). وهذا يُمَثَل رسالة الإنجيل لشعب اليهود، كما نطق بها يوحنا المعمدان ويسوع ورسله (متى 3: 1-2, 4: 17، 10: 7). وأوضح بطرس الرَّسُول في خطابه يوم العنصرة (الخمسين) بقوله "أُعِدَّ كُلُّ شَيء" (أعمال الرُّسُل 2: 14-35). نحن هنا أمام دَعْوة إلى الفرح (أمثال 9: 2-3) حيث تكمن غاية حياة الإنْسَان في علاقته مع الله: أن نُحِبَّ الله وان نُحِبَّ. اللُه يُحبُّنا، وكل إنسان مدعو لكي يُجيب إلى هذا الحُبِّ بحبِّه. ابتدأ الاستعداد للوليمة الإنجيلية من خلال الشَّريعة وذبائحه وأعياده " ظِلِّ الخَيراتِ المُستَقبَلَة " (العبرانيين 10: 1). وأشار يوحنا الإنجيلي إلى ما في هذه الوليمة من قوت النَّفس "مَن يأكُلْ هذا الخُبْز يَحيَ لِلأَبَد" (يوحنا 6: 58). أمَّا عبارة "فتَعالَوا إلى العُرْس" فتشير إلى تجديد المَلِك لقبول الدَعْوة. ويذكر لوقا الإنجيلي هذه المَثَل ذاته ويضيف "قد أُجرِيَ ما أَمَرتَ به ولا يَزالُ هُناكَ مَكانٌ فارغ" (لوقا 14: 22). وهذا إشارة إلى المَدعُوِّينَ أنَّهم ليسوا يهود فقط بل تُعمَّم الدَعْوة إلى الأمم لقبول الإنجيل.



5 ولكِنَّهم لم يُبالوا، فَمِنهُم مَن ذَهبَ إلى حَقلِه، ومِنهُم مَن ذَهبَ إلى تِجارتِه.



تشير عبارة "لم يُبالوا" في الأصل اليوناني ἀμελήσαντες (معناها تهاونوا) إلى رفض المَدعُوِّينَ الذي يُعبّر عن الإهمال واللامبالاة. هل نتغيّب عن حفلة مُلوكية مجّانيّة يدعونا الله لها شخصيّا؟ أمَّا عبارة "فَمِنهُم مَن ذَهبَ إلى حَقلِه" فتشير إلى أهل الريف الذين فَضّلوا الاهتمام بحقولهم ومزارعهم على المشاركة في وليمة العيد، وقد ارتبط هؤلاء بالأرض وهم يظنُّون أنَّها باقية لهم إلى الأبد. ويُعلق القدّيس غريغوريوس الكبير "الخروج إلى الحقل يمَثَل التَّكرّس للأعمال الأرضيّة" (عظات عن الإنجيل). أمَّا عبارة "ومِنهُم مَن ذَهبَ إلى تِجارتِه" فتشير إلى أهل المدينة الذين فضّلوا الاهتمام بالبيع والشراء والتِّجارة على المُشاركة في وليمة العيد. فقد حُرم هؤلاء من الوليمة من أجل تجارتهم فتحوّلت العبادة لديهم إلى بيع وشراء. صدق من قال "لا يدخل التجّار والباعة إلى موضع (بيت) أبي" (نحميا 13: 20). ويُعلق القدّيس غريغوريوس الكبير "الانصراف إلى التِّجارة يمَثَل التفتيش بشراهة عن المصلحة الخاصّة في الأمور الأرضيّة" (عظات عن الإنجيل). إن انشغالنا بالأشياء المنظورة، تُنسينا الأشياء غير المنظورة، وتمنعنا عن الأمور الأفضل. في هذه الآية نجد قسم من العَالَم يتعاملون مع الإنجيل بهذه الصورة: إنَّهم لا يُبالون بالأمور الرُّوحية وينهمكون بالأمور الدُّنيوية، فإثمهم أنهم اكتفوا بها ولم يلتفتوا إلى الرُّوحيات، وأمثال هؤلاء ديماس الذي يترك بولس الرَّسُول كما شهد فيه بولس: "ديماسَ قد تَرَكَني لِحُبِّه هذِه الدُّنْيا" (2 طيموتاوس 4: 10). هؤلاء لم يقترفوا أيّ شر، وكل ما في الأمر أنّهم يواصلون القيام بما يقومون به دون أن يُدركوا بأن ساعة الوليمة قد حانت، ودون التعرف على الهبة الكبرى، والكرامة الخاصة التي تأتيهم من كونهم مَدعُوِّينَ. وتُصبح انشغالهم بأعمالهم اليوميَّة الدُّنيوية أولوية مطلقة لهم. لقد استخفّوا بطلب المَلِك، لأنّهم وضعوا مصالحهم الشَّخصيّة فوق مصلحته. وبهذا الأمر لم يكتفوا بإهانة المَلِك بل وريث العرش أيضاً. هل ننشغل كثيرًا بأمور هذا الزّمان حتّى ننسى أمور الأبديّة؟ هل نضع اهتماماتنا وأمورنا المادية أمام الرب الذي يدعونا؟ ويعلق الراهب الدومنيكاني جان تولير "إنّ هذا الانشغال المذهل وهذا الاهتياج الدائم اللذين يحرّكان العالم نصادفهما بكثرة في العالم بأكمله. "(العظة 74). يا تُرى من يرفض دعوة شرف ملوكيّة مجّانية كهذه؟



6 وأَمسَكَ الآخَرونَ خَدَمَه فَشَتَموهم وقَتَلوهم.



تشير عبارة "أَمسَكَ الآخَرونَ" إلى رؤساء اليهود الذين رذلوا خَدَم الله ورفضوا علاقتهم مع المَلِك، وذلك برفضهم خَدَمه؛ أمَّا عبارة "خَدَمَه " فتشير إلى مُرسلي الله إلى شعبه في كل تاريخه. لكن الشَّعب اضطهد هؤلاء المُرْسَلين وذلُّوهم، كما صرّح يسوع المسيح بقوله: " أُورَشَليم أُورَشَليم، يا قاتِلَةَ الأَنبِياء وراجِمَةَ المُرسَلينَ إِليَها" (متى 23: 36-39). أمَّا عبارة "شَتَموهم وقَتَلوهم" فتشير إلى رفض آخرين لدعوة الملك مستخدما العنف. أنه تطبيق كلام يسوع على عمل اليهود تجاه المَدعُوِّينَ الأوائل للمَلكُوت، وهم الأنبياء في درجة أولى (متى 21: 35). دعا الله اليهود عن طريق الأنبياء فقتلوا الأنبياء. ودعاهم عن طريق يوحنا المعمدان فقطعوا رأسه، ودعاهم عن طريق ابنه الحبيب، فقتلوه على الصليب. ويُعلق القدّيس غريغوريوس الكبير " والأخطر من ذلك هو أنّ البعض لم يكتفوا باحتقار نعمة الذي يدعوهم، بل اضطهدوا... " (عظات عن الإنجيل). وهؤلاء القتلة هم الذين حُرموا من العُرْس بسبب حُبِّهم للشَّر، فقابلوا المُرْسَلين إليه للدخول إلى الوليمة ليس بالمَسبَّات والشَّتم فحسب أنما بالقتل أيضًا. وكان إسطفانس ويعقوب من الأوائل الذين شُتِموا وقُتِلوا. وفي هذه الآية نجد قسم من العَالَم يتعاملون مع الإنجيل بهذه الصورة: إنَّهم يقامون الإنجيل، لأنه يُقاوم كبرياءهم وبِرَّهم الذَّاتي وأرباحهم وتعصبهم، وأمثال هؤلاء "الكَهَنَةُ وقائدُ حَرَسِ الهَيكَلِ والصَّدُّوقِيُّون، الذين اقبلوا على بُطرُسُ وهُم مُغتاظونَ لأَنَّهما كانا يُعَلِّمانِ الشَّعْبَ ويُبَشِّرانِ في الكَلامِ على يَسوعَ بِقِيامَةِ الأَموات. فبَسَطوا أَيدِيَهم إِلَيهما ووَضعوهُما في السِّجنِ " (أعمال الرُّسُل 4: 3)، و "عَظيِمُ الكَهَنَةِ وجَميعُ حاشِيَتِه مِن مَذهَبِ الصَّدُّوقِيِّين، وقدِ اشتَدَّت نَقمَتُهُم، فبَسَطوا أَيدِيَهُم إلى الرُّسُل وَوَضَعوهم في السجنِ العامّ" (أعمال الرُّسُل 5: 18). ويُذكر هذا الأمر بنبوءة يسوع للكتبة والفِرِّيسيِّين عندما كان يُعنِّفهم قائلا: " هاءَنَذا أُرسِلُ إِلَيْكُم أَنبِياءَ وحُكَماءَ وكَتَبَة، فَبَعضَهم تَقتُلونَ وتصلِبون، وبَعضَهم في مَجامِعِكم تَجلِدون ومن مَدينَةٍ إلى مَدينَةٍ تُطارِدون، حتَّى يَقَعَ عَليكم كُلُّ دمٍ زَكِيٍّ سُفِكَ في الأَرض، مِن دَمِ هابيلَ الصِّدِّيق إلى دَمِ زَكَرِيَّا بْنِ بَرَكْيا الَّذي قَتَلتُموه بَينَ المَقدِسِ والمَذبَح. الحَقَّ أَقولُ لَكم: إِنَّ هذا كُلَّه سيَقَعُ على هذا الجيل (متى 23: 34 -36).



7 فَغَضِبَ الملِكُ وأَرسلَ جُنودَه، فأَهلَكَ هؤُلاءِ القَتَلَة، وأَحرَقَ مَدينَتَهم.



تشير عبارة "فَغَضِبَ" إلى سَخِطَ وعدم رضى واستياء. ويفرِّق الكتاب المقدس بين غضب الرَّبّ وغضب الإنْسَان. فغضب الرَّبّ يأتي لصالح الإنْسَان، حيث يتركَّز سخْطه على الشَّرِّ، كما ورد في نبوءة ارميا " صُبَّ غَضَبَكَ على الأُمَمِ الَّتي لم تَعرِفْكَ وعلى العَشائِرِ الَّتي لم تَدعُ بِآسمِكَ " (ارميا 10: 24)، وسخْط الرّبِّ على الخطيئة "فلَمَّا سَمِعت شَكْواهم وهذه الكَلِمات، غَضِبتُ غَضَباً شديداً" (نحميا 5: 6). إلا أن غضب الله مقرون بالعدل والشَّفقة والرَّحمة، وهي صفات إلهية تجعل من غضب الله رحمة للبشر، فالله "دّيَّانٌ بارّ كُلَّ يَومٍ يَتَوَعَّدُ " (مزمور 7: 12). أمَّا غضب الإنْسَان فهو خطيئة، لأنَّ الإنْسَان خاطئ، غير كامل، وهذا الغَضَب يستوجب الدَيْنُونَة، والله يكره الغَضَب في الإنْسَان " كُفَّ عنِ الغَضَبِ ودعَ السّخْطَ لا تَسْتَشِطْ، فما هذا إِلاَّ سوء " (مزمور 37: 8). أمَّا عبارة " جُنودَه" فتشير إلى عساكر الرُّومانيين. ولعلَّ المُراد بجنوده هم ملائكته غير المنظورين الذين يُجرون نقمته. أمَّا عبارة "أَحرَقَ مَدينَتَهم" فتشير إلى خراب اورشليم في السَّنة 70 على يد الرُّومانيين؛ كانت اورشليم أولاً مدينة المَلِك العظيم، لكن بعد ما رفض اليهود يسوع صارت مدينتهم (لوقا 13: 34-35)، وهذا يعني أنَّ الجماعة أعادت قراءة هذا المَثَل على ضوء الأحداث التي حصلت للمدينة المقدسة، حين حاصرها الرُّومان بقيادة القائد طيطس والإمبراطور الروماني تيتوس فلافيوس قيصر فسبازيانس أوغسطس المعروف باسم فسبازيان (9-79م). لكننا لا نجد هذا التمليح في رواية لوقا الموازية (لوقا 14: 21)، وذلك لسببين: فإمَّا أنَّ الآيتين 6 و7 في إنجيل متى أُضيفتا إلى المَثَل بعد خراب أورشليم، وإمَّا أن المَثَل كله أتَّخذ صيغته النِّهائية بعد السنة 70م. هذا هو الرّد على رفض الدَعْوة، وتحذير، ليس فقط للمسيحيين في ذلك الزَّمان، بل ولنا اليوم، لأنَّ دَعْوة الله سارية المفعول إلى الأبد.



8 ثُمَّ قالَ لِخَدَمِه: الوَليمَةُ مُعَدّةٌ ولكِنَّ المَدعُوِّينَ غيرُ مُستَحِقِّين،



تشير عبارة "الوَليمَةُ" إلى ضيافة حافلة يسودها الكيف والطَّرب (دانيال 5: 1)، الذي تُقام في مناسبات خاصة لتكريم الضَّيف (تكوين 18: 5-8). وفي الأفراح (الجامعة 10: 19) كان الأشراف يُقيمون ولائم فاخرة يدعون إليها بواسطة عبيدهم (متى 22: 3). وقضت واجبات الضِّيافة بغسل أرجل الضُّيوف (لوقا 7: 44)، ودهن شعر الرأس بالطِّيب (لوقا 7: 46)، وتقبيلهم (لوقا 7: 45)، وتخصيص كبار المَدعُوِّينَ في مقاعد الشَّرف (لو 14: 7-11). وكان للوليمة رئيس يدير أمورها (يوحنا 2: 8 -9). ويمتحن كل ما يُقدَّم للضُّيوف. وذكرت بعض الولائم في العهد الجديد مَثَل: وليمة هيرودس انتيباس في مناسبة عيد ميلاده (مرقس 6: 21). وليمة عُرْس قانا الجليل التي حضرها يسوع وتلاميذه (يوحنا 2: 1-11)، والوليمة التي أقامها لاوي تكريمًا ليسوع (لوقا 5: 29)، والوليمة التي حضرها يسوع في بيت سمعان الفِرِّيسي (لوقا 7: 36-48)، والوليمة التي أقيمت في بيت واحد من رؤساء الفَرِّيسيِّين وحضره يسوع (لوقا 14: 1). ثم حضر يسوع وليمة في بيت عنيا (يوحنا 12: 1-7). ويحتفل في وليمة عُرْس الحمل (رؤيا 19: 9). وكان المسيحيُّون الأوَّلون يقرنون ولائم المَحبَّة بالعَشاء الرَّبّاني (2 بطرس)، لكن مجمع لادوكية نهى عنها سنة 320 م. أمَّا عبارة "الوَليمَةُ مُعَدّةٌ" فتشير إلى الفرح والابتهاج وتمجيد الله، كما ورد في سفر الرؤية " لِنَفرَحْ ونَبتَهِجْ! ولْنُمَجِّدِ الله، فقَد حانَ عُرْس الحَمَل، وعَروسُه قد تَزَيَّنَت " (رؤيا 19: 7)؛ أمَّا عبارة "المَدعُوِّينَ غيرُ مُستَحِقِّين" فتشير إلى رفض متعمّدٍ، وليس عن خطأ وجهل. كل شيء مُعَدٌ ما عدا المَدعُوِّينَ. النَّاس دُعوا إلى الوليمة، ففضَّلوا أن يقولوا: كَلآّ. لقد دعا الله شعبه من البداية للخلاص، لكنهم لم يُقدِّروا قيمة هذه الدَعْوة، كما ورد في مقدمة إنجيل يوحنا " جاءَ إلى بَيتِه. فما قَبِلَه أَهْلُ بَيتِه" (يوحنا 1: 11). نعم لقد وضع المَدعوّون مصالحهم الشَّخصيّة فوق مصلحة صاحب الدَعْوة. فرفضوا أن يقدّموا للمَلِك الشَّرف الّذي يستحقّه في عُرْس ابنه. هم اثبتوا في أنفسهم انهم غير مستحقِّين، لأنَّهم لم يقبلوا الدَعْوة وبالتالي أصبح الباقون مستحقِّين، لأنهم قبلوها، كما صرح "بولُسُ وبَرْنابا بجُرأَة: ((إِلَيكمِ أَوَّلاً كانَ يَجِبُ أَن تُبَلَّغَ كَلِمَةُ الله. أَمَّا وأَنتُم ترفُضونَها ولا تَرَونَ أَنفُسَكم أَهلاً لِلحَياةِ الأَبَدِيَّة، فإِنَّنا نَتَوجَّهُ الآنَ إلى الوَثَنِيِّين" (أعمال الرُّسُل 13: 46). وظلت القاعة فارغة، ولكن لم يئس المَلِك من المدعوِّين.



9 فَاذهَبوا إلى مَفارِقِ الطُّرق وَادعُوا إلى العُرْس كُلَّ مَن تَجِدونَه



تشير عبارة "مَفارِقِ الطُّرق" في الأصل διεξόδους τῶν ὁδῶν (معناها حدود الطرق)، إلى تلك النقاط التي تنتهي فيها شوارع المدينة والمسارات المؤدية إلى منطقة الريف، خارج المدينة، إلى الأماكن الهامشيّة. هذا الأمر يدل على دعوة الملك إلى المنبوذين في إسرائيل، وهم العَشَّارون والخطأة؛ وهذا الأمر يُذكّرنا أن دَعْوة الرَّبّ هي دَعْوة مجانيّة، فالّذين كانوا في الطُّرقات والساحات لا حقوق لهم عند المَلِك على الإطلاق، ولم يكن يخطر ببالهم قط أن ينالوا هذا الشَّرف، ولم يكونوا يستحقّونه أبدًا. لكنّ كرَم الرَّبّ ورضاه ونعمته هي الّتي فتحت أمامهم هذا البَاب. فالنِّعْمة هي صاحبة الدَعْوة، والنِّعْمة هي الّتي جذبت النَّاس إلى المَلكُوت. يعلق جي. بي. بوسوي " لكن أين نجد المدعوّين؟ "اذهَبوا إلى مَفارِقِ الطُّرق وَادعُوا إلى العُرسِ كُلَّ مَن تَجِدونَه (متى22: 9)؛ "وَأتِ إِلى هُنا بِالفُقَراءِ والكُسْحانِ والعُمْيانِ والعُرْجان " (لوقا 14: 21) "فإِنِّي ما جِئتُ لأَدعُوَ الأَبْرارَ، بَلِ الخاطِئين "(متى9: 13)"(تأمّلات في الإنجيل). ليس على الإنسان أن يكون صالحًا ليدخل إلى ردهة العُرْس، أي إلى الملكوت، بل يكفي أن يلبِّي الدَّعوة. أمَّا عبارة "اذهَبوا إلى مَفارِقِ الطُّرق وَادعُوا إلى العُرْس كُلَّ مَن تَجِدونَه " فتشير إلى عدم إحباط الملك من الرفض المدعوِّين الأوائل ففتح دعوته للجميع. وهي دَعْوة من سلسلة ثانية من الذين يحلِّون محل المَدعُوِّينَ المُتخلِّفين حيث يأمر المَلِك الإتيان بهم من مفارق الطُّرق، أي من اليهود المنبوذين والخاطئين (الخراف الضالة في إسرائيل (متى 10: 6). لقد غيّر المَلِك برنامجه: "حَطَّ الأَقوِياءَ عنِ العُروش ورفَعَ الوُضَعاء" (لوقا 1: 52)، ولم يُلغِ المَلِك الحفلة التي كان هيّأها لابنه وولِيِّ عرشه. أمَّا لوقا الإنجيلي فأن المَلِك يأمر بالإتيان بهم من الطرق والأماكن المُسيَّجة أي من العَالَم الأممي الوثني ويُرغمهم على الدخول (لوقا 14: 23)، أي حثَّهم على الدخول، وذلك باستخدام وسيلة الإقناع، لا القهر والعنف، وسيلة التخجيل، كما يحدث في الضيافة الشرقية وليس الإكراه. ومن أمثال هؤلاء الخَدَم هم فيلبس وبطرس وبولس: "فنزَلَ فيليبُّسُ مَدينةً مِنَ السَّامِرَة وجعَلَ يُبَشِّرُ أَهلَها بِالمَسيح" (أعمال الرُّسُل 8: 5)، وبشّر بطرس قرنيليوس الرُّوماني أَقارِبَه وأَخَصَّ أَصدِقائِه وعمَّدوهم (أعما ل الرُّسُل 10: 24-31)؛ ونادى بولس الرَّسُول لأهل أثينا " يُعلِنُ الله الآنَ لِلنَّاسِ أَن يَتوبوا جَميعًا وفي كُلِّ مَكان" (أعمال الرُّسُل 17: 30). أمَّا عبارة "وَادعُوا إلى العُرْس كُلَّ مَن تَجِدونَه " إلى دَعْوة شاملة؛ بما أن اليهود رفضوا عمدًا دَعْوة الله، دعا الله الأممِّيين الوَثَنِيِّين، فآمنوا ولبّوا دَعْوة المسيح ودخلوا إلى الكنيسة. أمَّا عبارة "كُلَّ " فتشير إلى جميع النَّاس الذين هم مدعوين إلى وليمة العُرْس وقد هذه الدَعْوة مرتين في النَّص (متى 22: 10). وهكذا لم تعُد الوليمة مُخصّصًة لعدد قليل من المقرَّبين بل أصبحت مُتاحة ليس فقط لبعض النَّاس، بل للجميع. الله يدعو الكل للخلاص. يعلق البابا فرنسيس "يدعو الله حتى المُهمَّشين، وكذلك الذين يرفضهم المجتمع ويحتقرهم، يعتبرهم الله أهلًا لمحبته، وهو يعدّ وليمته للجميع: أبرار وخطأة، صالحون وأشرار، أذكياء وغير مثقّفين" (عظة البابا فرنسيس 11/10/2020).



10 فخرَجَ أُولَئِكَ الخَدَمُ إلى الطُّرُق، فجمَعوا كُلَّ مَن وجَدوا مِن أَشْرارٍ وأَخيار، فامتَلأَت رَدهَةُ العُرْس بِالجالِسينَ لِلطَّعام.



تشير عبارة "فجمَعوا كُلَّ مَن وجَدوا" إلى جمع النَّاس إلى وليمة العُرْس حول المَلِك. إنَّ الله يدعو إلى فرح المَلكُوت جميع النَّاس؛ الدَعْوة مفتوحة للجميع، لان الله "يُريدُ أَن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاس ويَبلُغوا إلى مَعرِفَةِ الحَقّ" (1طيموتاوس2: 4)، جمع خَدَم المَلِك الأبرار والأشرار مُختلطين في المَلكُوت قبل الدَيْنُونَة الأخيرة (متى 13: 49). وأمَّا في إنجيل لوقا فإن الخَدَم قد جمعوا " الفُقَراءِ والكُسْحانِ والعُمْيانِ والعُرْجان" (لوقا 14: 21)، وهم مساكين إسرائيل (لوقا 6: 20) كما جَمعَ النَّاس من " الطُّرُقِ والأَماكِنِ المُسَيَّجَة " أي الوَثَنِيِّين (لوقا 6: 23). وهذا ما أكَّده يسوع بقوله " أقولُ لَكم: سَوفَ يَأتي أُناسٌ كَثيرونَ مِنَ المَشرِقِ والمَغرِب، فَيُجالِسونَ إِبراهيمَ وَإِسحقَ ويَعقوب على المائِدةِ في مَلكُوت السَّمَوات " (متى 8: 11). أمَّا عبارة "أَشْرارٍ وأَخيار" فتشير إلى هوية المَدعُوِّينَ. وهؤلاء، بغض النَّظر عن حياتهم الأخلاقية، وبغض النَّظر عن إيمانهم، يُصبحون مُستحقِّين للمشاركة في وليمة العُرْس. فالمُستحق هو ذاك الّذي يقبل الدَعْوة، أي ذاك الذي يتخلَّى عن تحقيق أهدافه الشَّخصية وينفتح على وليمة الرَّبّ. فان خيار الله مجانيّ ورحمته ومحبّته لجميع البشر سواء كانوا أبرارًا أم أشرارًا، كما صرّح يسوع "لِتَصيروا بني أَبيكُمُ الَّذي في السَّمَوات، لأَنَّه يُطلِعُ شَمْسَه على الأَشرارِ والأَخيار، ويُنزِلُ المَطَرَ على الأَبرارِ والفُجَّار."(متى 5: 45)؛ الأبرار والأشرار هم حاضرون في الكنيسة قبل الدَيْنُونَة الأخيرة، كما في الشَّبكة التي جمعت من كل جنس (متى 13: 37-43). لعل الأشرار هنا هم الذين لهم رذائل ظاهرة للناس، كالمرأة الخاطئة التي غسلت قدمي يسوع بدموعها (لوقا 7: 38). وهو يُعلِنُ الآنَ لِلنَّاسِ أَن يَتوبوا جَميعًا وفي كُلِّ مَكان، والأخيار هم الفاضلون كنتنائيل وقرنيليوس. فقبل الأشرار الدَعْوة وأصبحوا من الأبرار، وقبلها الأبرار في عيون النَّاس كونهم أبرار في عيني الله. فالكنيسة المنظورة تتكوّن من كليهما. ودَعْوة المَلِك لا تستبعد أحداً بمن فيهم الخطأة أنفسهم "فإِنِّي ما جِئتُ لأَدعُوَ الأَبْرارَ، بَلِ الخاطِئين (متى 9: 13). الشَّرط الوحيد هو الإيمان بأنَّ يسوع هو المسيح. لكن ليس الكل يقبل نعمة الله التي تقدّسه، بل قليلون هم الذين يقبلونها ويتجاوبون معها. لا يدعونا الرَّبّ لكوننا صالحين، ولكن، بدعوته لنا يجعلنا صالحين. أمَّا عبارة "فامتَلأَت" فتشير إلى ما يَهمُّ المَلِك هو أن تملأ ردهة العُرْس. إن رفض اليهود للمسيح لم يبطل مقاصد الله من إظهار كثرة رحمته وبهاء مجده. ويُعلق القدّيس غريغوريوس الكبير "لأنّ كلمة الرَّبّ التي تبقى حتّى الآن غير معروفة من الكثيرين، ستجد يومًا ما مكانًا ترتاح فيه" (عظات عن الإنجيل). أمَّا عبارة "رَدهَةُ العُرْس" فتشير إلى البيت الكبير العظيم الذي تقام فيه الوليمة.



11 ودَخَلَ المَلِكُ لِيَنظُرَ الجالِسينَ لِلطَّعام، فرَأَى هُناكَ رَجُلاً لم يَكُنْ لابِساً لِباسَ العُرْس،



تشير عبارة "ودَخَلَ المَلِكُ لِيَنظُرَ الجالِسينَ لِلطَّعام" إلى المَلِك نفسه لا الخَادِم الذي يُميَّز بين المُستحق وغيره من الجالِسين للطعام، دلالة أنَّ الله وحده الذي يعرف قلوب النَّاس، ويُميِّز بين المُخلصين والمُرائين. لا شكَّ، أنَّ الوقت المُعيَّن للفحص العظيم هو نهاية العَالَم (متى 13: 39). أمَّا عبارة " رَجُلاً " إلى الإنْسَان الوحيد الذي وُجد غير أهل لان يكون من جملة الجالسين على الطعام، أمَّا عبارة "لِباسَ العُرْس" فتشير إلى ثوب خاص يدخل به المدعو إلى الوليمة. وهي عادة منتشرة منذ عهد حمورابي، وهو أول ملوك الإمبراطورية البابلية، حيث كان الملوك إذا دعوا إلى وليمة، يُقدِّمون للمدعويّن ثوباً خاصاً يدخلون به إلى الوليمة. وهي عادة بقيت قائمة عند سلاطين القسطنطينية لعهد قريب. وكان صاحب العُرْس يُجهّز اللِّباس اللائق لوليمة العُرْس لكل ضيفٍ. ولباس العُرْس يرمز إلى الإيمان وفرح الخلاص وإلى البِرِّ والأعمَال الصَّالِحَة والمحبَّة، باختصار التغيير (مزمور 132: 16و أشعيا 61" 10 ورؤيا 3: 4)، لانَّ دون القداسة لن يرى أحد الرَّبّ (العبرانيين 12: 14). يعلق جان تولير: "إنّ ثوب العرس الذي لم يكن هذا المدعو يرتديه يرمز إلى المحبّة الطاهرة والحقيقيّة والإلهيّة؛"(العظة 74). ورأى بعضهم أنَّ المُراد بلباس العُرْس بِرِّ المسيح، وآخرون رأوا تقديس الرُّوح القدس. لان الدَعْوة إلى العُرْس تتضمن أن يأتي المَدعو لابسًا الثوب اللائق بالعُرْس. وكان من عادة الملوك والأعيان أن يهبوا لأصدقائهم الثياب الفاخرة علامة مسرَّتهم بهم. وكان من لا يقبل تلك الهبة يُعدُّ من محتقري واهبها. والأرجح أنَّ المَلِك في المَثَل وهب لباس العُرْس لكل المَدعُوِّينَ (1صموئيل 18: 4) ولولا ذلك لم يسكت الذي ليس عليه لباس العُرْس (التكوين 41: 42، دانيال 5: 4). إن الله اعدّ لنا " ثيابًا بيضًا" (رؤيا 3: 5)، لأنَّ تلبية الدَعْوة ليست مجرد مسألة مشاركة في وليمة، بل هي مسألة الدَّخول في الحياة الحقيقية.



12 فقالَ له: ((يا صديقي، كَيفَ دخَلتَ إلى هُنا، ولَيسَ عليكَ لِباسُ العُرْس))؟ فلم يُجِبْ بِشَيء.



تشير عبارة "يا صديقي" في الأصل اليوناني Ἑταῖρε إلى كلمة لُطفٍ موجَّهة من شخص أعلى إلى أدنى، من مناداة المَلِك إلى ذاك "الإنْسَان" الذي لم يَكُنْ لابِسًا لِباسَ العُرْس. وتدلّ هذه اللفظة عند متى الإنجيلي على توبيخ يوجّه إلى شخص أخطأ، كما ورد في حدث العمّال في الكرم (متى 20: 13)، وخيانة يهوذا (متى 26: 50). وهنا تلمح أنَّه لا يستطيع أحد دخول مَلكُوت الله إلاّ بِحُلة من النِّعْمة، ورداء من البِرِّ. فلا يجوز الاستهتار بدَعْوة المسيح وفي هذا الصدد قال بولس الرَّسُول "لا تَضِلُّوا فإِنَّ اللّهَ لا يُسخَرُ مِنه" (غلاطية 6/7). لا يكفي على الإنْسَان أن يقبل الدَعْوة، بل عليه أيضاً ارتداء ثوب العُرْس، أي يتجدد من خلال أعماله الصَّالِحَة؛ أمَّا عبارة "لَيسَ عليكَ لِباسُ العُرْس" فتشير إلى اعتبار دخول أحد المَدعُوِّينَ إلى الوليمة بغير هذا الثوب مُخلا بآداب الولائم، ومُذنباً بحقِّ من دعاه، لعدم اكتراثه بأهمية الدَعْوة، وعدم تقديره لصَاحب الدَعْوة، وهذا لا يليق بكرامة صاحب الوليمة. الذي أكرمك فَدَعَاك. إذ كان يُرتدى ثوب العُرْس تَكريمًا للعروس والعَريس. فثوب العُرْس يرمز هنا إلى الأعمَال الصَّالِحَة، كما جاء في سفر الرؤية "عَروسُه قد تَزَيَّنَت وخُوِّلَت أَن تَلبَسَ كَتَّانًا بَرَّاقًا خالِصًا. فإِنَّ الكَتَّانَ النَّاعِمَ هو أَعْمالُ البِرِّ الَّتي يَقومُ بها القِدِّيسون" (رؤية 19: 8)؛ ويُشدِّد متى الإنجيلي دائمًا على أهمية الأعمَال الصَّالِحَة (متى 5: 16-20). فإنَّ الدَعْوة الله مجانية، لكن لها متطلباتها، حيث يوضح بولس الرَّسُول ذلك بقوله انه علينا أن "نلبس المسيح"، "إِنَّكم جَميعًا، وقَدِ اعتَمَدتُم في المسيح، قد لَبِستُمُ المسيح "(غلاطية 3: 27) وأن نُصبح الإنْسَان الجديد "الذي خُلق على صورة الله في البِرِّ وقداسة الحقِّ" (أفسس 4: 24). وإذا لم يتجاوب الإنْسَان مع دَعْوة الله ونعمه وعطاياه، يبقى خارج العُرْس، كما حدث مع العذارى الجاهلات اللواتي لم يكن معهن زيت رمز الأعمَال الصَّالِحَة فبقين خارج العُرْس وسمعن الحُكم القاسي "لا أعرفكن"؟ إنّ النِّعْمة هبة مَجَّانيّة، لكنّها مسؤوليَّة ومُتطلبة لتأقلم مع نعمة الدعوة. أمَّا عبارة "فلم يُجِبْ بِشَيء" فتشير إلى جواب الصَّمت الذي يدل على الرِّضى وعدم وجود عذر مقبول، الأمر الذي استثار غضب المَلِك. وفي هذا الصدد يقول صفنيا النبي: وقد أَعَدَّ الرَّبّ ذَبيحَةً وقَدَّسَ مَدعُوِّيه فيَكونَ في يَومِ ذَبيحَةِ الرَّبّ أَنِّي أُعاقِبُ الرُّؤَساء وبَني المَلِك وكُلَّ لابِسٍ لِباساً غَريباً" (صفنيا 1: 7-8). ويُعلق العلامة أوريجانوس "من يخطئ ولم يتجدّد، ولم يلبس الرَّبّ يسوع المسيح ليس له عذر، لذلك قيل "لم يُجِبْ بِشَيء". سؤال المَلِك وسكوت المسؤول يدلان على أن المَلِك اعدَّ لباسًا لكل مدعو. ولذلك لم يكن لذلك الإنْسَان عذر. إنَّ يسوع يدعونا كي نأتي إليه بما نحن عليه، ولكن إن أتينا إليه لا يمكن أن نبقى على ما نحن عليه بلا تغيير.



13 فقالَ المَلِكُ لِلخَدَم: ((شُدُّوا يَديَه ورِجلَيه، وأَلقوهُ في الظُّلمَة البَرَّانِيَّة. فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان)).



تشير عبارة" لِلخَدَم" إلى الملائكة الوارد ذكرهم سابقا (متى 13: 41، 49)، وهم غير الخَدَم الذين دعوا النَّاس إلى الوليمة، أي المُبشِّرون بالإنجيل. أمَّا عبارة "شُدُّوا يَديَه ورِجلَيه" في الأصل اليوناني Δήσαντες (معناها اربطوا) فتشير إلى ربطه مَثَل سجين في حبس؛ وأمَّا عبارة "أَلقوهُ في الظُّلمَة البَرَّانِيَّة" فتشير إلى طرده خارج وليمة المَلكُوت، وهو العقاب الأخير، عقاب الهالكين في جهنم. أمَّا عبارة "الظُّلمَة البَرَّانِيَّة" فتشير إلى خارج قصر المَلِك حيث لظُّلمَة والجُوع والحُزن، في حين داخل قصر المَلِك نورٌ وشبعٌ وفرحٌ. والظُّلمَة الخارجية يُقصد بها شقاء النفس وإلياس، وهي نتيجة منع الأثيم من مشاهدة حضرة الله. فالظُّلمَة هي المكان الذي سيُعاقب فيه الكُفَّار. وكان يعتقد أنه تحت الأرض، أمَّا هنا فهو خارج عَالَم الأحياء (متى 25: 30)، وهو رمز إلى الهلاك، المَوت الثَّاني. إنه "موت" كونه انفصال عن الله، مانح الحياة؛ ويُسمَّى "الثَّاني" لأنه يأتي بعد الموت الجَسدي. وشرح سفر الرؤيا الموت الثَّاني بكل بوضوح: "وَأَمَّا الْخَائِفُونَ وَغَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالرَّجِسُونَ وَالْقَاتِلُونَ وَالزُّنَاةُ وَالسَّحَرَةُ وَعَبَدَةُ الأَوْثَانِ وَجَمِيعُ الْكَذَبَةِ فَنَصِيبُهُمْ فِي الْبُحَيْرَةِ الْمُتَّقِدَةِ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ، الَّذِي هُوَ الْمَوْتُ الثَّانِي" (الرؤيا 21: 8). أمَّا السَّماء فهو نور. أن الله يدعو كل إنسان إلى مَلكُوته، ولكن الذين يرفضون دعوته فإنه يُعاقبهم نتيجة عصيانهم وعدم تلبيتهم الدَعْوة الإلهية. أمَّا عبارة "فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان" فتشير إلى صاحب المزامير "الشَريرُ يَرى فيَغضَب ويَصرِفُ أسْنانَه ويَذوب وبُغيَةُ الأشْرارِ في زَوال" (مزمور 112: 10). ويعُلق القديس ايرونيموس "أمَّا البكاء وصرير الأسنان فتشير إلى اشتراك الجَسد مع النَّفس في مرارة الظُّلمَة الخارجيّة لدى قيامة الجسد". أمَّا عبارة "فهُناكَ البُكاءُ" فتشير إلى استياء الكفار الأشرار وصرختهم اليائسة؛ أمَّا " صَريفُ الأَسنان " فتشير إلى حسدهم وغضبهم أمام سعادة الأبرار (أيوب 16: 9). فالظُّلمَة هي عكس النُّور، والنُّور هو والسَّماء. هنا نتذكر العذارى الجاهلات اللواتي لم يكن معهنَّ زيت (أي الأعمَال الصَّالِحَة) فبقينَ خارج وليمة العُرْس وسَمعن الحُكم القاسي" وجاءَت آخِرَ الأَمرِ سائرُ العذارى فقُلنَ: يا ربّ، يا ربّ، اِفتَحْ لَنا. فأَجاب: الحَقَّ أَقولُ لَكُنَّ: إِنِّي لا أَعرِفُكُنَّ! " (متى 25: 11).



14 لأَنَّ جَماعَةَ النَّاس مَدْعُوُّون، ولكِنَّ القَليلينَ هُمُ المُخْتارون)).



تشير عبارة "جَماعَةَ النَّاسِ مَدْعُوُّون، ولكِنَّ القَليلينَ هُمُ المُخْتارون " في الأصل اليوناني πολλοὶ γάρ εἰσιν κλητοὶ ὀλίγοι δὲ ἐκλεκτοί إلى حكم يمّيز بين المَدعُوِّين والمُخْتارين. فتقارب بين كلمة المَدْعُوُّون κλητοὶ والمُخْتارون ἐκλεκτοί. إذ أن الدعوة للجميع لكن المختارون هم الذين يلبُّون الدعوة ويتأقلمون معها في تغيير حياتهم وأعمالهم. أمَّا عبارة "مَدْعُوُّون" فتشير إلى الذين لبَّوا الدَعْوة ودخلوا الكنيسة لكنَّ غالبيتهم رفضوا نعمة الله، أمَّا عبارة "المُخْتارون" فتشير إلى الذين لم يلبُّوا الدَعْوة فحسب، إنَّما استحقُّوا أيضا النِّعْمة وأصبحوا أبرارًا في المَلكُوت، لأنَّهم قبلوا نعمة الدَعْوة وافسحوا المَجال لهذه النِّعْمة أن تغيّر حياتهم. وتكرَّرت هذه اللفظة 16 مرة. ليست هذه الآية تلميحًا إلى اليهود الذين دُعوا إلى الخلاص، فأبعدوا الآن بعد أن رفضوا المسيح، بقدر ما قد تكون موجّهة إنذارا للذين يسيئون استعمال دَعْوة الله المَجّانية، فيُطرحون في آخر الآمر خارج المَلكُوت. ويعلق العلامة أوريجانوس "كثيرون هم الذين يأتون إلى العُرْس، وقليلون هم الذين يجلسون على المائدة". فالمراد بذلك أنَّ كثيرين يتبعون المسيح، ولكن قليلون يخدمونه بالتَّواضع حبَّا له. هذه الآية هي خلاصة المَثَل كله.





ثانياً: تطبيقات النَّص الإنجيلي (متى 22: 1 -14)



بعد دراسة موجزة عن وقائع النَّص الإنجيلي وتحليله (متى 22: 1 -14)، نستنتج انه يتمحور حول دَعْوة الله لجميع النَّاس لحضور وليمة عُرْس المَلكُوت، والجواب الشخصي المطلوب من كل واحد. ومن هنا نتساءل ما هي هذه الدَعْوة وماهي تطبيقاتها؟



1) ما هي الدَعْوة الإلهية؟



الدَعْوة في المَثَل تمَثَل دَعْوة إلهيّة: " تَعالَوا إلى العُرْس " (متى 22: 4)، وهذه الدَعْوة تحمل قوّة تقدر أن تجتذب القلب إلى العَريس ليتَّحد معه ويكون معه واحدًا، لكن دون إلزام أو إجبار. وقد دفع العَريس ثمن الدَعْوة بقوله: "ها قد أَعدَدتُ وَليمَتي فذُبِحَت ثِيراني والسِّمانُ مِن ماشِيَتي، وأُعِدَّ كُلُّ شَيء" (متى 22: 4). فتكلفة الدَعْوة هي حياته التي بذلها لمصالحتنا مع أبيه السَّماوي صاحب الدَعْوة، مُقدّمًا لنا جسده ودمه المُقدّسين طعامًا وشرابًا روحيًا لوليمة المَلكُوت الجديد. لقد صار كل شيء مُعَّدًا لدخولنا إلى الوليمة المقدّسة التي هي في جوهرها ارتفاع إلى الحياة السماويّة.



أرسل الله لنا روحه القدّوس في كنيسته، لكي ينطلق بكل نفس خلال التَّوبة إلى الحضرة الإلهيّة، لمشاركة الملائكة تسابيحهم لله وتتقبّل كل نفس عَريسها في داخلها. ويُعلق العلامة أوريجانوس" أن هذه المائدة الإلهيّة هي كلمة الله، فالثيران المذبوحة إنّما هي كلمات الله العظيمة المُعدة لنا كطعامٍ روحيٍ، والمُسمَّنات هي كلماته العذبة الشهيَّة. كأنَّه بمجيء الكلمة المُتجسّد وارتفاعه على الصَّليب دخل بنا إلى سرّ الكلمة لنكتشف عظمتها ودسمها". هكذا ينشغل الثالوث القدّوس بهذا العُرْس، فالآب هو صاحب الدَعْوة، والابن هو العَريس الذي يدفع تكلفة العُرْس، والرُّوح القدس هو الذي يعمل فينا ليُهيئنا للعُرْس. وأمَّا ثوب العُرْس فكما يقول القديس هيلاري أسقف بواتييه" هو نعمة الرَّوح القدس والبهاء الذي يُضيء المؤمن فيصير بلا دنس ولا عيب إلى اجتماع مَلكُوت السَّمَوات".



للدَعْوة دورٌ خاص في وحي الله وخلاص الإنْسَان، إنَّها حوار بين الله في عظمته وسِرِّه من ناحية، وبين الإنْسَان الذي يظهر على حقيقته بما فيه من ضعف وقدرته على الرفض والتقبل، من ناحية أخرى. الدَعْوة نداء يوجّهه الله للإنسان الذي اختاره لذاته، والذي يَخصّه لعمل معيَّن في تدبير خلاصه وفي مصير شعبه. وهذا النداء هو نداء شخصي مُوجّه إلى أعماق ضمير الإنْسَان، وينتظر الله جوابًا، أي موافقة واعية تُعبّر عن الإيمان والطَّاعة، فإذا لبَّى الإنْسَان الدَعْوة، فهذه الدَعْوة تقلب أوضاع كيانه، لا في ظروفه الخارجية فقط، ولكن حتى في عمق قلبه، فتغيِّره وتجعل منه شخصًا آخرًا.



إنها دَعْوة للعِطاش إلى الحكمة، تقدَّم لا للحكماء المُتَّكلين على فهمهم، وإنما للذين هم في الشوارع والطرقات كما جاء في سفر الأمثال "الحِكمَةُ بَنَت بَيتَها ونَحَتَت أَعمِدَتَها السَّبعَة. ذَبَحَت ذَبائِحَها ومَزَجَت خَمرَها وأَعَدَّت أَيضًا مائِدَتَها. أَرسَلَت جَوارِيَها تُنادي على مُتونِ مشَارِفِ المَدينَة: مـن كانَ ساذِجًا فليَملْ إلى هُنا)) وتَقولُ لِكُلِّ فاقِدِ الرُّشْد: هَلُمُّوا كُلوا من خبْزي واْشرَبوا من الخَمْرِ الَّتي مزَجتُ. اترُكوا السَّذاجَةَ فتَحيَوا اسلُكوا طَريقَ الفِطنَة" (أمثال 9: 1-6).



إنها دَعْوة للخطأة التَّائبين الراجعين، الذين ينعمون بها أكثر من هؤلاء الذين يظنّون في أنفسهم أنهم أبرار، كما حدث مع وَلِيمة للابن الضَّال " فقالَ الأَبُ لِخَدَمِه: أَسرِعوا فأتوا بِأَفخَرِ حُلَّةٍ وأَلبِسوه، واجعَلوا في إِصبَعِه خاتَماً وفي قَدَمَيه حِذاءً، وأتوا بالعِجْلِ المُسَمَّن واذبَحوه فنأكُلَ ونَتَنَعَّم، لِأَنَّ ابنِي هذا كانَ مَيتاً فعاش، وكانَ ضالاًّ فوُجِد" (لوقا 15: 22-24)، ويعلق القديس هيلاري أسقف بواتييه "إنَّها دَعْوة لغفران كل الخطايا الماضية التي سقطت فيها البشريّة. إنها دَعْوة للجميع ولمغفرة كل الماضي!". ولا يزال الرَّبّ يسوع الّذي قدّم حياته كضحية كفَّارة عن خطايانا، والّذي يمَلِك الآن كمَلِك الملوك وربّ الأرباب يدعونا إلى الاشتراك معه في وليمته الأبديّة، ولهذا فهو يُرسل لنا الدَعْوة تلو الدَعْوة " يقولُ الرُّوحُ والعَروس: ((تَعالَ!)) " (رؤيا 22: 17).



ومختصر القول إنَّ حياة المسيحية دَعْوةٌ، لانَّ الكنيسة هي جماعة المَدعُوِّينَ، هي نفسها المَدَعْوة، كما تشير لفظة كنيسة في اليونانية (ἐκκλησία ) (أي المدَعْوة) مَثَلما هي المُختارة " ( 2 يوحنا 1 :1)، فكل الذي من خلالها ، يسمع نداء الله ،ويًجيب ، كلٌّ في مكانه، على دَعْوة الكنيسة الواحدة التي تسمع صوت العَريس وتجيبه " تَعالَ، أَيُّها الرَّبُّ يَسوع" (رؤيا 22: 20).





2) ما هي تطبيقات الدَعْوة الإلهية؟



للدَعْوة بحسب ما وردت في مَثَل وَليمة المَلِك ثلاثة تطبيقات تاريخي ولاهوتي وروحي.



ا) التَّطبيق التَّاريخي للنَّص الإنجيلي:



لمَثَل وَليمة المَلِكٍ تطبيق تاريخي حيث أنَّ يسوع يدعو الشعب اليهوديّ في شخص ممَثَليه الرَّسميين إلى وليمة العُرْس، إلى عيد الخلاص وما سيحمل معه من فرح. فرفض، فجرّ عليه رفضُه الكارثة. إذ يروي هذا المَثَل رداً على الشُّكوك التي أثارتها مخالطته للخَطأة والعَشَّارين لدى الفِرِّيسيِّين (الأتقياء) والكتبة (اللاهوتيون) ورؤساء الشعب الدينيّون (الكهنة)، فهؤلاء لم يدركوا أهمية دَعْوة الله فلم يلبُّوا الدَعْوة.



كشف المَثَل أنَّ الرَّفض يمنع النِّعْمة عن الأبرار. عندئذ قبل الله، بدلاً منهم، العَشَّارين والخطأة والزناة والوَثَنِيِّين، لأنهم انفتحوا على نداء يسوع وتبعوه طوعًا (لوقا 15: 1-2). ومن هنا تتعدّى دَعْوة الله كل الحدود الاجتماعية والدِّينية. كُلُّنا مدعوُّون إلى وليمة الرَّبّ، كل الذين على ملتقى الديانات والحضارات، كل الأشرار والأخيار، كما جاء في نبوءة أشعيا: " وفي هذا الجَبَلِ سيَضَعُ رَبُّ القُوَّات لِجَميعِ الشُّعوبِ مَأدُبَةَ مُسَمَّنات مَأدُبَةَ خَمرَةٍ مُعَتَّقَة مُسَمِّناتٍ ذاتِ مُخٍّ ونَبيذٍ مُرَوَّق" (أشعيا 25: 6).



امتدت الدَعْوة إلى العابرين الذين لم يكن شيء يهيّئهم لمَثَل هذا الامتياز. يمَثَل هؤلاء العابرون صغار القوم داخل الشعب اليهوديّ (الخطأة، العشّارون). كما يمَثَلون المَسيحيِّين الذين دُعوا كلهم لكي يدخلوا إلى المَلكُوت. في هذا النصّ سخاء الرَّبّ وبِرّه وتأكيدًا مُطلقًا لمجانيّة عطائه تجاه تفكير الخصوم الذين يستندون إلى استحقاق أعمالهم.



التَّضاد بين المَدعُوِّينَ المتوقَّع أن يأتوا ويرفضوا تلبية الدَعْوة، وبين المَدعُوِّينَ غير متوقع أن يأتوا ويلبُّون الدَعْوة؛ وهذا الأمر ينطبق على كل تاريخ بني إسرائيل. وهذا التَّضاد لا يقوم في داخل فئات شعب بني إسرائيل فقط، بل أيضا بين إسرائيل والشعوب الأخرى. ويحكم هذا المَثَل بشكل ضمني على رؤساء الشعب وأحبار اليهود، لأنهم رفضوا دَعْوة المسيح فتوجهت البِشَارة إلى الوَثَنِيِّين.



يُوجّه يسوع تعليمه ليس لليهود فقط إنما أيضًا إلى تلاميذه: يحذرّهم أنه لا يكفي أن يكونوا مدعوّين ويقولوا "نعم" (على مستوى الكلام لا العمل) لكي يتأمّن لهم الخلاص والمُشاركة في وليمة العُرْس. أجل، لا يكفي أن نعترف باسم المسيح كي نكون جزءًا من جماعته (ندخل بالمعموديّة إلى قاعة العُرْس)، بل يجب أيضًا أن نلبس حُلّة العُرْس، أي أن نقوم بالأعمَال التي يفرضها البّرّ الجديد (متى 7: 21)، وأن نحبّ بالعمل والحقّ. وإلاّ، قد نطرح خارجًا، ونستبعد عن المَلكُوت إلى الأبد، حتى لو دخلناه كما دخله عابرو الطريق. لأنه يقال لنا في تلك الساعة: " يا صديقي، كَيفَ دخَلتَ إلى هُنا، ولَيسَ عليكَ لِباسُ العُرْس "؟ (متى 22 13).



ب) التَّطبيق اللاهوتي للنَّص الإنجيلي:



للمَثَل أيضا بُعد لاهوتي، إذ يشرح المَثَل موضوع الدَعْوة والدَيْنُونَة. لا يقف المَثَل عند رفضُ السُّلطات اليهودية والشَّعب اليهودي ليسوع، بل إنه دَعْوة عامة أيضًا بأن السَّاعة قد أتت وكلُّ شيء مُعدّ "وأُعِدَّ كُلُّ شَيء فتَعالَوا إلى العُرْس" (متى 22: 4). دَعْوة سخية، ومَجَّانية ومبهجة حيث الفرح، الأكل، الشُّرب، ولقاء الأحباء. وهنا لم تكن دَعْوة إلى وليمة عُرْس عادي، لكن وليمة عُرْس ملكي. فهي وليمة المَلِك. ويعلق القدّيس برونو دي سيغني "كلّنا مدعوّون إلى هذا العرس. لقد أُعدّت لنا مائدة قال عنها الكتاب المقدّس: "تُعِدُّ مائِدةً أَمامي تُجاهَ مُضايِقيَّ" (مزمور 23: 5). نجد عليها خبز التَّقدمة، والعجل المُسمّن، والحمل الذي يحمل خطايا العالم (يوحنا 1: 29). هنا، يُقدَّم لنا الخبز الحيّ النازل من السماء (يوحنا 6: 51؛ وكأس العهد الجديد (1قورنتس 11: 25). هنا، تُقدَّم لنا الأناجيل والرسائل، وكتب موسى والأنبياء التي تُشبه الأطباق المليئة بكلّ ما لذّ وطاب" (شرح لإنجيل القدّيس لوقا). ويتسأل القدّيس يعقوب السروجيّ، راهب وأسقف سريانيّ "في أية وليمة أخرى وُزِّعَ على المدعوّين جسد العريس على شكل خبز؟" (عظة عن حجاب موسى).



نجد رغم كل هذا في هذا المَثَل رفض من قبل المَدعُوِّينَ! ويتحدث الإنجيل عن ثلاثة أنواع من الرفض. البعض، ببساطة، " فأَبَوا أَن يَأتوا " (متى 22: 3). والبعض الآخر "لم يُبالوا" (متى 22: 5) وذهب إلى أعمالهم. والبعض الآخر، كان رفضهم بعنف " فَشَتَموهم وقَتَلوهم (متى 22: 6).



كل واحد منا مدعو إلى جواب شخصي على دَعْوة الرَّبّ المَجَّانية، مدعوٌ للانفتاح على كلمة الله، على نداءات ضميره، فما هو ردُّ فعلنا؟ فهل هناك مجال للتردّد تجاه دَعْوة الإنجيل؟ وهل هناك ما هو أهم من تلبيتها؟ فلا بدَّ من اتخاذ القرار. يا رب من هو الإنْسَان حتى ينال هذا الشرف الرفيع!



ليس المَثَل هو بمثابة دَعْوة بل هو أيضاً بمثابة إعلان دَيْنُونَة الله. إنها دَيْنُونَة قاسية لا يفلت منها أحد: لا تَخصُّ الدَيْنُونَة فقط مدعوي الدفعة الأولى، بل تمتدُّ إلى مدعوي الدفعة الثانية أيضاً، الذين قد يعتقدون أنهم بتلبيتهم للدَعْوة أصبحوا في مأمنٍ من الدَيْنُونَة. فقد قال المَلِك واضحًا "إنَّ المَدعُوِّينَ غيرُ مُستَحِقِّين" (متى 22: 8).



تطال دَيْنُونَة الله كلَّ إنسان، لان الجميع مَدعوًّون، ولكن ليس الجميع مُختارون. لآنَّ دخول رَدْهَة تتطلب أن يتغيّر الإنْسَان ويكون في موقف طاعة دائمة. إنّ باب الرَّدْهَة مفتوحٌ، لكنّه ليس مفتوحًا ليدخل فيه الخاطئ ويظلّ على خطيئته، بل ليدخل الخاطئ فيصير قدّيسًا. لذلك طالت الدَيْنُونَة على بني إسرائيل وتطال أيضاً المسيحيين. هذا ما يعنيه الإنجيل لباس ثوب العُرْس.



ج) التَّطبيق الرُّوحي للنَّص الإنجيلي:



يتناول المَثَل أيضًا البُعد الروحي على صعيد الدَعْوة وثوب العُرْس. أمَّا على صعيد الدَعْوة فهي دَعْوة خلاص فالله يريد خلاص جميع النَّاس، كما قال المَلِك لخدامه "َاذهَبوا إلى مَفارِقِ الطُّرق وَادعُوا إلى العُرْس كُلَّ مَن تَجِدونَه (متى 22: 9) وقد أكَّد ذلك بولس الرَّسُول بقوله "الله يُريدُ أَن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاس ويَبلُغوا إلى مَعرِفَةِ الحَقّ " (1 طيموتاوس 2: 4)، والله يدعو الجميع إليه من جميع الأجناس والطبقات، الأبرار والأشرار، القِدِّيسين والخاطئين. فإن دَعْوة المَلِك لا تستبعد أحداً بمن فيهم الخطأة أنفسهم (متى 9: 9-13). ومن هذا المنطلق، الله لا يُهمل شعبه، بل الشعب هو الذي يرفض إلهَه. الجميع مدعوُّون إلى الكنيسة، كما في الشبكة التي جمعت من كل جنس (متى 13: 37-43).



كما دعا يسوع اليهود كذلك دعانا جميعًا، فإنه لا يملُّ من إرسال عبيد يدعوننا لهذا العُرْس بكل طريقة لكي نقبَّله عاملًا فينا. وهو يدعونا من خلال خدّامه وإنجيله والأحداث المُحيطة بنا، ويتّكلم بروحه فينا. إنه "واقف على الباب يقرع"، كما ورد في سفر الرؤية "هاءَنَذَا واقِفٌ على البابِ أَقرَعُه، فإِن سَمِعَ أَحَدٌ صَوتي وفَتَحَ الباب، دَخَلتُ إِلَيه وتَعَشَّيتُ معه وتَعَشَّى معي" (رؤية 3: 20)، ينتظر أن ندخل به إلى قلبنا، وننعم بالاتّحاد معه! يعلق القدّيس مقاريوس، راهب مصريّ "أنت ترى أنّ الذي وجّه الدعوة كان حاضرًا، ولكنّ المدعوّين تواروا؛ لذا، فإنهم بالتأكيد مسؤولون عن مصيرهم. هذا هو إذًا الشرف الكبير الذي يناله المسيحيّون. فها هو الربّ يعدّ لهم الملكوت ويدعوهم للدخول؛ إنّما هم يرفضون ذلك" (عظات روحيّة، العظة رقم 15)



المَثَل يدعونا إلى الاستجابة إلى نداء الله في حياتنا، كما إلى يدعونا إلى وليمة، أي سرّ القربان الأقدس وضعه المسيح كي يبقى معنا ويقدّس نفوسنا. وكي يزيّن قلوبنا بثوب نعمته التي تملأ قلوبنا بالفرح والبهجة! فلا نتذرع بأعذار مختلفة من مشاغل الحياة (العمل، المصالح، العائلة) لرفض الدَعْوة المَلِكية. وما هي هذه الأعذار إلاَّ مزاعم تخفي تحتها عدم رغبتنا لقبول الدَعْوة؛ وكأن الدِّين شيء حسن لمن ليس لهم شيء أفضل يُشغلهم عنه؛ والواقع ترفض النفس الفرح لتعيش في غمٍ نابع لا عن ظروف خارجيّة، وإنما عن قلب مغلق لا يريد أن ينفتح للرَّبِّ الذي يهب السَّلام والفرح. ولنسأل نفوسنا: ما الذي يأخذ مكان الله في حياتنا؟ هل نحن نفضل "العمل" على "العيد"؟ كيف يمكن لنا أن نشارك في "وليمة الله بدل أن نهتم أولاً بشؤوننا وعملنا اليومية؟ هل نستجيب لهذه الدعوة، أم نبدأ بعرض التبريرات الأعذار؟



على صعيد لِبَاس العُرْس ليس الكل يقبل نعمة الله التي تُقدّسه، بل قليلون هم الذين يقبلونها ويتجاوبون معها ويلبسون ثوب العُرْس، كما ورد في الكتاب المقدس "لأَنَّ جَماعَةَ النَّاس مَدْعُوُّون، ولكِنَّ القَليلينَ هُمُ المُخْتارون" (متى 22: 14)؛ ولباس العُرْس الذي يُطلب من الجميع هو البِرّ الذي يتحدّث عنه متى الإنجيلي " إِن لم يَزِدْ بِرُّكُم على بِرِّ الكَتَبَةِ والفِرِّيسيِّين، لا تَدخُلوا مَلكُوت السَّموات" ( متى 5: 20)، فلباس العُرْس هو أن نعمل إرادة الآب لكي نُشارك في العيد، وهو بمثابة نداء إلى الإيمان والعمل، ويُعلق القديس يوحنا الذهب الفم " ثوب العُرْس هو الحياة الداخليّة المقدّسة والمُعلنة خلال التصرّفات العَمَليّة". لا يمكننا دخول إلى الوليمة ونبقى كما كنا، كما لو لم يحدث شيء؛ فإن الشَّخص الذي يدخل إلى الوليمة ولا "يتكيف" مع الحياة، هو في الواقع مساو لمن يرفضون الدَعْوة. ليس لديه لباس التوبة المتواضعة، ولباس الإيمان، ولباس الاحترام – كلّها ضروريّة لنلبسها ونحن نقترب من الرَّبّ. إنّ نعمة دخول إلى ردهة العُرْس هبة مَجَّانيّة، لكنّها مسؤولية تتطلب التغيير. ويعلق البابا فرنسيس "إنَّ ثوب العرس يرمز إلى الرحمة التي يمنحنا الله إياها مجانًا. لا يكفي أن نقبل الدعوة لكي نتبع الرَّبَّ، وإنَّما من الضروري أن نكون مستعدّين للقيام بمسيرة ارتداد تغيِّر القلب"(عظة البابا فرنسيس 11/10/2020). الشيء الوحيد الذي يمكن أن ينقذنا هو أن نجعل وصايا الله لباسنا المطلوب الظهور به أمام العَرش السَّماوي.



لا يكفي أن نكون مدعوّين ونقول "نعم" على مستوى الكلام لكي يتأمّن لنا الخلاص والمشاركة في وليمة العُرْس، بل لا بدَّ من العمل والعيش بحسب المتطلّبات التي تفرضها هذه الدَعْوة. فلا يكفي أن نكون معمّدين لكي نكون جزءًا من الجماعة التي تلتئم يوم الأحد: بل يجب أن نعمل إرادة الآب لكي نُشارك في العيد الأخير، عيد الخلاص. نحن لا نشتاق إلى وليمة العرس، بل رغبة بالعَريس أي بالرَّبّ. يسوع. يعلق القدّيس أوغسطينوس (430-354)، " إذًا، ما عسى أن يكون لباس العرس المشار إليه؟ قال بولس الرسول: "ما غايَةُ هذِه الوَصيَّةِ إِلاَّ المَحبَّةُ الصَّادِرةُ عن قَلْبٍ طاهِرٍ وضَميرٍ سليمٍ وإيمانٍ لا رِياءَ" (1طيموتاوس1: 5) هذا هو ثوب العرس. افحصوا أنفسكم جيّدًا. إذا كنتم تملكونه، اقتربوا عندئذ بثقة من وليمة الربّ" (العظة رقم 90).



لا يجوز لنا أن نكون في داخل ردهة العُرْس، وقلبَنا في الخارج. لهذا يقول القديس ايرونيموس "ثوب العُرْس هي وصايا الرَّبّ والأعمَال التي تتمِّم الناموس والإنجيل"؛ فالمطلوب أن نجعل وصايا الله معطفنا المطلوب الظهور به أمام العرش السَّماوي. ويُعلق القديس أوغسطينوس "من يأتي إلى وليمة العُرْس دون ثوب العُرْس إنّما هو ذاك الذي له إيمان بدون حُبٍّ "، فلا عجب أن يوصينا بولس الرَّسُول انه علينا أن نلبس المسيح: " فإِنَّكم جَميعًا، وقَدِ اعتَمَدتُم في المسيح، قد لَبِستُمُ المسيح" (غلاطية 3: 27)، ويضيف بولس الرَّسُول أن نلبس الإنْسَان الجديد: "فَتَلبَسوا الإنْسَان الجَديدَ الَّذي خُلِقَ على صُورةِ اللهِ في البِرِّ وقَداسةِ الحَقّ"(أفسس 4: 24). فالخلاص ليس عملية تلقائية قائمة بذاتها، إنَّما تتطلب لبس ثوب العُرْس أي التَّجاوب مع نِعّم الله وعطاياه. وهذا الأمر أوصاه بولس الرَّسُول بقوله: " البَسوا فَوقَ ذلِك كُلِّه ثَوبَ المَحبَّة فإنَّها رِباطُ الكَمال" (قولسي 3: 14).



نستنتج مما سبق انه لا يكفي أن نعترف باسم المسيح، كي نكون جزءًا من جماعته (ندخل بالمعموديّة إلى قاعة العُرْس)، بل يجب أيضًا أن نلبس حلّة العُرْس، أي أن نتمّم الأعمَال التي يفرضها البِرُّ الجديد (متى7: 21)، وأن نحبّ بالعمل والحقّ ونسلك بالوصيّة المَحبَّة الإنجيليّة، ونعمل بإرادة الآب فنكون من هؤلاء المُطوَّبين الذين قال فيهم سفر الرؤيا: "طوبى لِلمَدعُوِّينَ إلى وَليمَةِ عُرْس الحَمَل " (رؤيا 19: 9). وعكس ذلك نُطرح خارجًا، ونُستبعَد عن المَلكُوت إلى الأبد، حتى لو دخلناه كما دخله عابرو الطريق، فسيُقال لنا في تلك الساعة: " يا صديقي، كَيفَ دخَلتَ إلى هُنا؟ (متى 22: 11).





الخلاصة



ضرب يسوع مَثَل وليمة المَلِك في وسط مدينة اورشليم وقبل موته بأسابيع. أمَّا شخصيات المَثَل فهي: المَلِك الذي أقام عُرْسا هو الله، الذي دعا ضيوفه ثلاث مرات، والابن الذي أُقيمت وليمة عُرْسه هو المسيح، والوليمة هي المَلكُوت، وخَدَم المَلِك هم الأنبياء والرُّسُل والتلاميذ، والمَدعُووّن إلى الوليمة هم النَّاس من كل أمة تحت السَّماء، والمُجرمون القتلة هم اليهود الذين رفضوا دخول مَلكُوت الله على يد الأنبياء بل قتلوهم، والقَادمون إلى الوليمة من مفارق الطرق هم الوثنُّيون، والمدينة التي احرقها المَلِك هي اورشليم التي دمَّرها الرُّومان. فالذين انتظرهم المَلِك تهرّبوا، والذين لم ينتظرهم في الوليمة جاؤوا. أمَّا الرجل الذي دخل إلى ردهة العُرْس بغير ثوب العُرْس هو كل من لا يحترم كرامته وكرامة من يدعوه.



دَعْوة وليمة العُرْس هي دَعْوة مَجَّانية لدخول مَلكُوت الله، وهي مُتاحة للجميع، للأبرار والأشرار، ومطلوب الجواب الشخصي لكل واحد؛ ومع هذا فهناك من يرفض ويستثني نفسه. هي دَعْوة إلى الخلاص تفوق كل توقع، ومن يرفضها يحرم نفسه هذا الخلاص، هي دَعْوة إلى الفرح، ومن يرفضها يحرم نفسه هذا الفرح.



يقدّم يسوع في هذا المَثَل مهمته داخل تاريخ الخلاص، وهي نداءات متكرِّرة من جيل إلى جيل، نداءات الأنبياء والمُرْسَلين ما زالوا يهتفون " فتَعالَوا إلى العُرْس" (متى 22: 4) تعالوا إلى مأدبة الحياة، إلى مأدبة الحُب، فالله يُهيِّئ أعظم شيء من اجل الإنْسَان. ويتعدّى النداء كل الحدود الاجتماعية والدينية. كل واحد مدعو إلى الجواب شخصيًا على هذه الدَعْوة المَجَّانية، على نعمة الله لينفتح على كلمة الله وعلى مائدة جسده ودمه الأقدسين. الله يعطي نعمته للجميع، طوب لمن يُلبِّي الدَعْوة.





دعاء



أيها الآب السَّماوي، يا من تدعو عن طريق خدّامك وكنيستك الجميع للمشاركة في وليمتك السَّماوية ،والعيش في حضرتك، اجعلنا دومًا أن نكون مستعدِّين لقبول أية دَعْوة منك، وان لا تعوقنا "أعمالنا" اليومية عن روح الخدمة، بل أن نشارك في وليمة الرَّبّ ونحن لابسون ثوب المسيح، ثوب الإنْسَان الجديد "الذي خُلق على صورة الله في البِرِّ وقداسة الحقِّ" (أفسس 4: 24) فنكون من هؤلاء المُطوَّبين الذين قال فيهم سفر الرؤيا: "طوبى لِلمَدعُوِّينَ إلى وَليمَةِ عُرْس الحَمَل" (رؤيا 19: 9) والذين ينعمون رؤيتك وجهًا لوجه في مَلكُوتك الأبديّ.

آمين
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
مَثَل وَليمة المَلِك | التَّطبيق التَّاريخي
مَثَل وَليمة المَلِك | ما هي تطبيقات الدَعْوة الإلهية؟
مَثَل وَليمة المَلِك | فلم يُجِبْ بِشَيء
مَثَل وَليمة المَلِك | الوَليمَةُ مُعَدّةٌ
مَثَل وَليمة المَلِك ورفضُ الدَعوة والتغيير


الساعة الآن 11:42 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024