منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 28 - 08 - 2023, 04:49 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,275,008

آرميا النبي | القحط ودعاء الشعب





القحط ودعاء الشعب:

"كلمة الرب التي صارت إلى إرميا من جهة القحط" [1].
يتحدث النبي عن قحط يحل بيهوذا كتأديبٍ إلهي، ويتكرر الأمر في الأصحاح 17، لذا يرى البعض أن النبي نطق بالنبوات الواردة في هذه الأصحاحات الأربع (14-17) أثناء فترة القحط الذي حلّ في أواخر أيام يهوياقيم وفي أيام خليفته. يظهر من صيغة الجمع في اللغة العبرية لكلمة "القحط" أن مدة القحط كانت طويلة الأمد كما حدث في أيام إيليا النبي (1 مل 17، يع 5: 17).
بعد فترة وجيزة من حكم يهوياقيم، عاد فرعون نخو إلى مصر، وكانت نينوى في طريقها إلى السقوط، بينما كانت بابل تتزايد عظمة لتقضي على نينوى وتنافس مصر، وتسبي يهوذا؛ كان السوس ينخر في عظام شعب يهوذا، إذ تدنس بشرورٍ لا حصر لها. اكتسحت البلاد حالة قحط شديدة للغاية كآخر إنذار إلهي بالخراب العاجل القادم قبل السبي.
حلَّت الكآبة بالبلاد، إذ فقد الشعب الأمطار الغزيرة التي تتدفق من الجبال خلال الأنهار وتملأ الينابيع، فاحترقت المراعي الخضراء وذبلت النباتات. أرسل الأغنياء عبيدهم يطلبون ماءً بلا جدوى، وكان يليق بالكل أن يلجأوا إلى الله بالتوبة ليفتح أمامهم أبواب مراحمه، حتى لا يفارق مجد الرب بيته كما تنبأ حزقيال.
جاء وصف القحط هنا يكشف عن حال النفس التي ترفض مياه الروح القدس التي أعلن عنها السيد المسيح: "إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب؛ من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ" (يو 7: 37-38). قيل هنا:
"ناحت (جفت) يهوذا،
وأبوابها ذبلت،
حزنت إلى الأرض (اسودت إلى الأرض)،
وصعد عويل أورشليم" [2].
جاء هذا النص في العبرية في تسع كلمات قدمت لنا القحط في أبشع صورة.
أ. الكلمة العبرية الأولى تحمل معنيين: "ناحت" و"جفت"، فتظهر مملكة يهوذا كسيدةٍ تنوح بسبب ما حلّ بها، وكحقلٍ جافٍ تشققت أرضه بسبب الحرمان من المياه. ناحت للأسف لا على خطاياها، بل على امتناع المطر وحلول القحط. إنها صورة للنفس التي تذلها الخطية، فتفقد فرحها الداخلي لحرمانها من مياه الروح، وتعيش في حالة كآبة داخلية وفقدان للسلام. تتحول جنتها إلى برية قاحلة، بلا ثمر روحي! يليق بمثل هذه النفس أن تنوح على خطاياها فتستدر حب الله وتتقبل عطية الروح المبكت واهب السلام، والذي يحولها إلى فردوسٍ مثمر.
ب. أبوابها ذبلت، أو صارت هزيلة تئن من الضعف الشديد، لأن شعبها خرج إلى بلاد أخرى يبحثون عن ماءٍ يشربونه أو عن خبزٍ يأكلونه. ُيقصد بالأبواب هنا مدن يهوذا، فقد انهارت أبواب أسوارها الحصينة، لأن شعبها صار في جوعٍ شديدٍ لا يقدر حتى على الحياة... فما الحاجة لأبواب حصينة تحميه وهو يموت جوعًا وظمًأ في الداخل.
هذا هو حال النفس وقد حُرمت من الشبع بكلمة الله، فهزلت جدًا، وفقدت تقديس حواسها "أبواب النفس والجسد"، فصارت مفتوحة لكل فكرٍ شرير، ونظرةٍ بطالة، وإحساسٍ فاسد.
كان الشيوخ عادة يجتمعون عند أبواب أسوار المدن للفصل في قضايا الشعب والتشاور الجاد معًا فيما لحق بالشعب ككل، أما وقد تحولت إلى أماكن اجتماع الرجال للتسلية والترف، ذبلت هذه الأبواب. إنها تمثل حالة النفس المدللة التي ُيقال عنها: "وأما المتنعمة فقد ماتت وهي حية" (1 تي 5: 6).
ج."حزنت إلى الأرض"، أو بحسب الترجمة الحرفية "اسودت الأرض"، أي ارتدت ثياب الحداد السوداء الطويلة (مرا 2: 10)، فصارت أبواب المدينة أشبه بأشباح خارجة من الجحيم! صارت أبواب صهيون، ليست أبواب ملكوت الله المفرح، بل أبواب الجحيم، حيث العويل غير المنقطع، أو أبواب الموت التي يقول عنها المرتل: "يا رافعي من أبواب الموت، لكي أحدث بكل تسابيحك في أبواب ابنة صهيون مبتهجًا بخلاصك" (مز 9: 13-14). ما أخطر أن تتحول أبواب ابنة صهيون من مصدر بهجة بخلاص الرب إلى أبواب عويلٍ مستمرٍ وهلاكٍ وموتٍ!
هذا العويل هو مزيج من الصرخات المرّة بسبب الحرمان من الشراب والطعام، والصراخ إلى الله ليخلصهم من هذه الكارثة، لكنها صرخات صلاةٍ غير مقبولة، لأنهم لا يهتمون بخلاص أنفسهم إنما يطلبون المطر.
"وأشرافهم أرسلوا أصاغرهم للماء.
أتوا إلى الأجباب فلم يجدوا ماءً.
رجعوا بآنيتهم فارغة.
خزوا وخجلوا وغطوا رؤوسهم" [3].
إذ حلّ القحط لم يفكر حتى الأشراف - أصحاب السلطة - في الأكل، وإنما في ماءٍ للشرب. يُمكن للإنسان أن يحتمل الجوع أكثر من العطش. لقد أرسلوا أصاغرهم، هنا الكلمة العبرية تعبر عن الخدم الذين هم غالبًا ما يكونوا صغارًا في السن وأقل في المركز الاجتماعي ، فإنهم أسرع وأقدر على البحث عن الماء وحمله.
حملوا أواني سادتهم وانطلقوا إلى حيث مصادر المياه من أحواض أو برك، لكنهم رجعوا بها فارغة. لم يثر الأشراف عليهم، بل أُصيبوا بحالة إحباط إذ ملأهم العار والخزي، ربما لشعورهم بالضعف الشديد. لم يعد في سلطانهم أن يجدوا كأس ماء يشربونه بعد أن كانوا يعيشون في ترفٍ ولهوٍ، لا تفرغ مخازنهم من الخيرات وآنيتهم من الخمر... الآن لا يجدون كوب ماء!
يحل بهم العار، إذ يشعرون أن بركة الرب إلههم قد فارقتهم، وأنه قد بدأت سلسلة من الكوارث لا يُعرف نهايتها. ولعلهم صاروا في خزي لأنهم شعروا بضرورة الانسحاب من العالم الذي لم يعد يقدم لهم الحياة بل الموت جوعًا وعطشًا! أما تغطية الرأس [3-4] فعلامة على الرعب والحزن، كما فعل داود حين هرب من وجه ابنه أبشالوم (2 صم 15: 30).
"من أجل أن الأرض قد تشققت،
لأنه لم يكن مطر على الأرض.
خزي الفلاحون، غطوا رؤوسهم" [4].
صارت أرض الموعد التي تفيض عسلًا ولبنًا جافة ومشققة، تكشف عن رؤوس سكانها التي صارت جامدة كالنحاس والحديد، إذ قيل "وتكون سماؤك التي فوق رأسك نحاسًا، والأرض التي تحتك حديدًا" (تث 28: 23). هكذا يتحول الإنسان بكليته كما إلى أرض حديدية لا تقدم ثمرًا، وبلا حياة!
إذ نشعر بالحاجة إلى المياه نتطلع إلى عمل الروح القدس خاصة في مياه المعمودية، لندرك كيف نخرج بها من حالة القفر إلى التمتع بالحياة الفردوسية
وكما خاطب القديس غريغوريوس أسقف نيصص طالبي العماد، قائلًا:
[إنكم خارج الفردوس أيها الموعوظون.
إنكم تشاركون آدم آباكم الأول في نفيه!
الآن يُفتح الباب وتعودون من حيث خرجتم].
يقارن القديس يوحنا الذهبي الفمبين الفردوس الذي عاش فيه الإنسان الأول والسماء التي يعيشها فيها المؤمن بالعماد بعد أن صار قفرًا فيجد أنه صار في حالة أعظم مما كان عليها آدم. جاء في مقارنته:
[لا ينطق الله هنا (ليخلق) في الفردوس، بل في السماء. فإن ما يحدث لا يتم على الأرض، بل ينقلك إلى السماء في حضرة الملائكة.
يرفع الله نفسك إلى فوق ويصلحها، ويقدمها بجوار عرشه الملوكي...
يقيمك الله لا لتحفظ الجنة، بل لتصير مواطنًا سماويًا.
لا تعود تبصر أودية أو أشجارًا أو ينبوعًا، بل تنال الرب نفسه، وتختلط بجسده العلوي الذي لا يقدر الشيطان أن يقترب إليه... فإنك ما دمت لا تنزل إليه لا يقدر هو على الصعود اليك، لأنك في السماء! إنه لا يقترب إلى السماء! ].
يُلاحظ أن كلمة "تشققت" في العبرية تعني "ارتعبت"، وكأن الإنسان سيد الخليقة الأرضية صار في خزيٍ، وفقدت الأرض التي يقف عليها اتزانها، إذ صارت مرتعبة.
أما كلمة "الفلاحون" هنا فمقتبسة عن اللغة الأكادية وهي لا تعني الفلاحين العاملين في أرضهم، إنما طبقة الفلاحين العاملين كأجراء في مستوى اجتماعي منحطٍ في ذلك الحين. هؤلاء اشتركوا مع العظماء في الخزي، وغطى الكل رؤوسهم في عارٍ. سرّ عارهم أنهم صاروا بلا عملٍ، إذ حُرموا من عطية الله التي قيل عنها: "سواقي الله ملآنة ماءً، تهيئ طعامهم، لأنك هكذا تعدها" (مز 65: 9).
يوضح النبي كيف صارت الخليقة كلها تئن وتتوجع بسبب فساد قلب الإنسان وكبرياء قلبه (رو 8: 22)، إذ يقول:
"حتى أن الإيلة أيضًا في الحقل ولدت وتركت،
لأنه لم يكن كلأ.
الفراء وقفت على الهضاب تستنشق الريح مثل بنات آوى.
كلت عيونها، لأنه ليس عشب" [5-6].
خرجت الحيوانات عن طبيعتها بسبب القحط، وما حلّ بها من آلام:
أ.تعيش الإيلة في الغابات بعيدًا عن الإنسان، أما وقد حلّ بها الجوع والظمأ تجاسرت وذهبت في حقل مفتوح، هناك تلد، لكنها لا تستطيع أن تقدم لبنًا لصغيرها، لأنها لا تجد ما تأكله أو تشربه، هناك تترك صغيرها في غير مبالاة لتبحث عن طعامٍ أو شرابٍ... لقد خرجت عن حنان الأمومة الغريزي.
ب. الفراء أو الحمار الوحشي أيضًا لا يعيش إلا في البراري، لكنه تحت ضغط الجفاف الشديد والحر القاتل انطلق إلى الهضاب العالية لعله يجد هواءً رطبًا على المرتفعات. صار يلهث (يستنشق الريح) كما تفعل بنت آوى أثناء حر النهار الشديد. هنا الكلمة العبرية لاستنشاق الريح تعني أن يلهث الكائن وهو يلد أثناء تعب المخاض، أو يلهث وهو يموت. هكذا صارت الحيوانات تلهث كأنها تموت!
أصاب عيونها الضعف الشديد، إذ "كلت عيونها" [6]، وقد اُستخدم هذا التعبير في (مز 69: 82؛ 119: 82، 128؛ أي 11: 20؛ 17: 5، مرا 2: 11؛ 4: 17) ليشير إلى ضعف العين الشديد وهي تترقب معونة تبدو مستحيلة. هنا في هذا العبارة تعني أن علامة الموت قد ظهرت حتى على العينين اللتين كلتا جدًا لتفقدا البصيرة بغير رجعة!
إذ اشتد التأديب بالشعب جدًا ولم يسمعوا لصوت الله، تحدث معهم خلال الطبيعة المحيطة بهم:
الأرض المرتعبة المشققة،
والحيوانات الفاقدة لنواميس الطبيعة حتى الأمومة،
واللهث في انتظار لحظات الموت،
وفقدان البصيرة تدريجيًا!
ما أبشع الخطية في حياة الإنسان المعتزل إلهه مصدر صلاحه وحياته واستنارته!
هذه هي حالة النفس التي أصابها القحط، المحرومة من مياه الروح القدس، فإنها تصير أرضًا مرتعبة ومشققة، لا تحمل سلامًا داخليًا ولا ثمر الروح! تصير كالإيلة التي تحت ضغط الظمأ الشديد والجوع القاتل تفقد حتى غرائزها الطبيعية، فتقدم صغيرها للهلاك بغير مبالاة. تصير كالحمار الوحشي الذي تحت قسوة الجفاف الشديد ينطلق نحو الهضاب العالية لعله يستنشق هواء رطبًا، تذبل عيناه جدًا إذ يستسلم للموت وهو يفقد بصيرته!
هكذا يفعل القحط الروحي بالنفس، أما في مياه المعمودية فتنعم النفس بعمل الروح القدس القادر أن يهب النفس حياة جديدة مُقامة، وسلامًا فائقًا وثمرًا متكاثرًا وعذوبة لتتميم ناموس المسيح الفائق واستنارة داخلية.
في هذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:
[يُدعى (العماد) "استنارة". هكذا دعاه القديس بولس قائلًا: "لكن تذكروا الأيام السالفة التي فيها بعدما أُنرتم صبرتم على مجاهدة آلام كثيرة" (عب 10: 32) ].
[بالمعمودية لم يجعلنا ملائكة ولا رؤساء ملائكة، بل أبناء الله المحبوبين لديه...!
إذ تذكر هذا اظهر حياتك مستحقة لحب ذاك الذي دعاك.
اظهر مواطنتك لذاك العالم (السماوي)، والكرامة التي أُعطيت لك.
أعلن بوضوح أنك مواطن في المدينة السماوية.
لا تهتم بالأرضيات، فإن كان جسدك لم ينتقل بعد إلى السماء إلا أن رأسك ماكث هناك في الأعالي].
بعد أن وصف النبي القحط القادم كتأديب أولي لكي يكتشف الشعب ما بلغ إليه قدم النبي باسم الشعب كله صلاة قصيرة أشبه بمرثاة، من أجل كارثة خاصة بالأمة كلها، قدمها كشفيعٍ ونائبٍ عن الشعب، فيها يعترف بخطايا الشعب، طالبًا مراحم الله، نصها الآتي:
ان تكن آثامنا تشهد علينا يا رب،
فأعمل لأجل اسمك.
لأن معاصينا كثرت.
إليك أخطأنا.
يا رجاء إسرائيل مخلصه في زمان الضيق.
لماذا تكون كغريبٍ في الأرض؟!
وكمسافرٍ يميل ليبيت؟!
لماذا تكون كإنسانٍ قد تحيّر؟!
كجبارٍ لا يستطيع أن يخلص؟!
وأنت في وسطنا يا رب،
وقد دُعينا باسمك.
لا تتركنا" [7-9].
يعترف إرميا النبي عن خطايا الشعب كأنها خطاياه الشخصية. بهذا حمل نبوة عن السيد المسيح الذي حمل خطايا العالم على الصليب، حيث يقول: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟!" (مت 27: 46).
هذه مشاعر الحب الحقيقي التي يليق بكل مؤمن أن يتمتع بها، حيث يتألم مع آلام كل عضو، مصليًا لأجل الآخرين كما لأجل نفسه، حاسبًا سقوط الغير كأنه سقوط له. وكما يقول القديس بولس: "اذكروا المقيدين كأنكم مقيدون معهم" (عب 13: 3).
مرثاة رائعة، لو أنها قدمت من الشعب لتغير التاريخ كله. قدمها إرميا عن الشعب، لكن لم تخرج من أعماق قلب الشعب. ربما حفظها البعض وكرروها بلسانهم دون قلبهم... لهذا لم يستجب الرب!
ما نفعها إذن؟ انتفع بها إرميا نفسه، وتزكَّى هو وَمَنْ حوله، كما قدمها مثالًا حيًا للتوبة عبر الأجيال ينتفع بها الكثيرون.
يبدأ المرثاة بالاعتراف بالخطية، فإنه إذا ما تمت محاكمة لا حاجة إلى شهودٍ، فإن آثامنا تشهد ضدنا: أفكارنا وكلماتنا وتصرفاتنا تقف كخصمٍ ضدنا.
مقابل هذا الشاهد نجد "اسم الله" مدافعًا عنا، فهو رجاء الشعب. يقصد بقوله "من أجل اسمك" أي لأجل كرامتك ومجدك (يش 7: 9؛ إش 48: 9-11). بالنسبة للعبرانيين "الاسم" غالبًا ما يُعنَى به سمة الشخص الأساسية].
هنا الكلمة العبرية المترجمة "رجاءً" تعني "رجاءً" في (عز 10: 2)؛ و"آمانًا" في (1 أي 29: 15)، وأيضًا بمعنى "بركة ماء" كما في (حز 7: 19). كأن الله يصير بالنسبة لهم ينبوع مياه ينزع عنهم حالة الجفاف. ُيقدم ذاته لنا شبعًا حسب احتياجاتنا.
أما دعوة الله كمخلص لشعبه [8] فهو أمر تقليدي وشائع (هو 13: 4):
"لأني أنا الرب إلهك، قدوس إسرائيل مخلصك" (إش 43: 3)،
"أنا أنا الرب وليس غيري مخلص" (إش 43: 11).
ويرى البعض أن الكلمة هنا تحمل معنى "الشفيع" عن شعبه، و"المدافع" أو "المحرر".
أما قوله "في زمن الضيق" فتُفهم أيضًا بمعنى "في زمن القحط"! حينما تشتد التجربة ويدخل الإنسان كما في مجاعة، لا يجد من يشفع فيه إلا الله مخلصه، الذي لا يقدم له حلولًا خارجية بل يقدم نفسه ينبوع مياه حيَّة وغنى وشبعًا وراحة للنفس، فتتغنى قائلة: " الرب راعي فلا يعوزني شيء" (مز 23: 1).
يقول: "لماذا تكون كغريبٍ في الأرض؟
وكمسافرٍ يميل ليبيت؟" [8].
يُشبه الله بمسافر يطلب ملجأ ليقضي ليلة أثناء تجواله. وكأن إرميا وهو يقدم المرثاة يعاتب الله مخلص شعبه قائلًا: أليس شعبك هذا هو نصيبك، وأرضك، وبيتك المقدس؟ فلماذا تسير كمن هو غريبٍ عنهم، تطلب ملجأ لك خارج بيتك؟ هل تحّول بيتك إلى جحيم لا تطيقه، فتهرب منه كمن هو في وسط برية يطلب مكان راحة لمدة ليلة؟!
إننا لسنا غرباء عنك، ولا أنت بغريبٍ عنا، لا تنقصك الحكمة فتكون كإنسانٍ في حيرة، ولا القوة فتكون كمن لا يقدر أن يخلص. حضرتك وسط شعبك أكيدة، وقد دُعي اسمك علينا فلا تتركنا. إننا نتمسك بك يا مخلصنا!
لعل إرميا النبي يشارك موسى النبي الذي وقف يشفع في الشعب حين طلبوا رجمه مع هرون، فأراد الله أن يبيدهم ويقيم من موسى شعبًا أكبر وأعظم (عد 14: 12)، إذ قال للرب: "فإن قتلت هذا الشعب كرجلٍ واحدٍ يتكلم الشعوب الذين سمعوا بخبرك قائلين: لأن الرب لم يقدر أن يُدخل هذا الشعب إلى الأرض التي حلف لهم قتلهم في القفر" (عد 14: 15). كأن إرميا النبي يقول للرب: إن كنت اعترف باستحقاق الشعب للتأديب القاسي، لكن إذلالهم بواسطة أمة غريبة كالبابليين حيث يصيرون كمسافرٍ بلا مبيت يُنسب إليك، فتحسب أنت هكذا، لأن ما يحدث لشعبك ينسبه الأمم إليك شخصيًا، فيظنون أنك عاجز عن إنقاذهم وحمايتهم وإشباع احتياجاتهم.
جاءت إجابة الرب على المرثاة التي قُدمت باسم الشعب:
"هكذا أحبوا أن يجولوا.
لم يمنعوا أرجلهم، فالرب لم يقبلهم.
الآن يذكر إثمهم ويعاقب خطاياهم.
وقال الرب لي: لا ُتصلِ لأجل هذا الشعب للخير" [10-11].
نجد حوارًا مشابهًا بين الله والشعب في الرؤيتين اللتين سجلهما عاموس النبي (عا 7: 1-6)، غير أننا نجد في عاموس الله يستجيب للصلاة ويُنزع التأديب، أما هنا فالتأديب يحل بالشعب والحيوانات، مع تأكيد حتمية التأديب على المعاصي المرتكبة [10].
يتحدث الله مع شعبه في صيغة الغائب، قائلًا: "هذا الشعب"، وليس "شعبي"، إذ ينسحب الله من الانتساب إليهم، لأنهم خانوا العهد، بهذا فقدوا سمتهم كشعبٍ دخل مع الله في ميثاق، أي فقدوا حقهم في الحوار المباشر معهم كطرفٍ في العهد الإلهي.
أحبوا أن يجولوا... هنا كلمة "يجولوا" تشير إلى الأشجار التي تحركها الرياح يمينًا ويسارًا، أو إلى ترنح الإنسان المخمور الذي فقد اتزانه (إش 29: 9). هكذا صاروا يتحركون من هنا وهناك بلا هدف ولا اتزان، يجولون بعيدًا عن الله الطريق الحق. ليس لهم ضابط ولا التزام، فيسلكون طريق الإثم، لهذا استحقوا التأديب.
لقد أحبوا التجوال لا الاستقرار في حضن الله، ظانين أن حريتهم وسعادتهم خارج الحب الإلهي. هؤلاء يتطلعون إلى الاتحاد مع الله حرمانًا من الحرية وكبتًا وفقدانًا للملذات! يسلكون طريق الابن الضال الذي ترك بيت أبيه، لكن بقى قلب الأب ينتظر عودته ليرد له كرامته ويشبعه!
هنا يعود فيكرر الله طلبته لإرميا للمرة الثالثة ألاّ يُصلي لأجل الشعب كي يرفع الله عنهم التأديب. تكرار الطلب يؤكد أن إرميا لم يكف عن الصلاة من أجل الشعب، وكأن ما سأله الله إياه لم يكن أمرًا عصاه النبي، إنما هو إعلان عن عدم استجابة الصلاة في هذا الأمر (رفع التأديب) بالذات.
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
آرميا النبي | سبي الشعب
آرميا النبي | القحط والتطلع إلى العصر المسياني
آرميا النبي | نقض الشعب العهد
آرميا النبي | لا يقف إرميا النبي وحده يُرثى هذا الشعب
آرميا النبي | استمع الشعب لصوت موسى النبي


الساعة الآن 12:04 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024